هيكل والافتراء على التاريخ – السلاح الأمريكي لإسرائيل قبل 1967 – الحلقة الثالثة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

حديث السيد محمد حسنين هيكل عن الدور الأمريكي في حرب يونيو 1967 متشعب ومتناقض في الوقت نفسه، ويتطرق إلى عدة نواحي ويشير إلى صور مختلفة لهذا الدور:

  • فهو يتحدث عن قيام أمريكا بتسليح إسرائيل بمختلف أنواع السلاح، التي عزا إليها أسباب الانتصار الإسرائيلي.
  • ويتحدث عن إمداد الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل بمعلومات استخباراتية من النوع الذي لم يكن في إمكان إسرائيل الحصول عليه لولا أمريكا.
  •  وعن قيام طائرات التجسس الأمريكية بالطيران فوق جبهات القتال وتصوير مواقع القطعات وتحركاتها، وإعطاء هذه المعلومات لإسرائيل.
  • ويشير أيضا إلى تقديم أمريكا لأعداد كبيرة من المتطوعين، الذين  قال بأنهم وصلوا بالفعل إلى إسرائيل –بطريقة أو بأخرى، وبعضهم عبر “قاعدة الملاحة- ويلاس”- وساهموا في المعارك منذ بداياتها.
  • ويتحدث عن الدعم السياسي والدبلوماسي غير المحدود الذي قدمته أمريكا لإسرائيل في المحافل الدولية، خاصة في مجلس الأمن.
  • وكل ما سبق يعتبره السيد هيكل في كفة لا ترجح كفة ما أسماه “البصمة الأمريكية”، وهو ما يزعمه من استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدة “الملاحة/ويلاس” أثناء هذه الحرب، وخاصة في الضربة الجوية الإسرائيلية، ويعتبر –تلميحا وتصريحا- أن ذلك كان السبب الرئيسي في نجاح الضربة الجوية الإسرائيلية، وإن كان يعترف أيضا بأن القوات الجوية الإسرائيلية قد قضت سنوات طويلة وهي تتدرب على خطط هذه الضربة الجوية، وعلى تنفيذها.

إن المتابع لأحاديث السيد هيكل لا يستطيع أن يتخلص من الشعور بأن كل الصور التي أشار إليها من تسليح، وتعاون استخباراتي، ودعم سياسي، ومتطوعين، ومن استقطاع لأجزاء من محاضر لقاءات مسؤولين أمريكان مع نظرائهم الإسرائيليين مع تعمد تغييب مقاطع أخرى، وغيرها مما حفلت به أحاديث هيكل، إنما يسوقها ويبالغ في وصفها وتقييمها من أجل إثبات المشاركة الأمريكية في الضربة الجوية انطلاقا من قاعدة “الملاحة/ويلاس”، أو “البصمة” التي احتاجت إلى خبير بصمات –مثل هيكل- لاكتشافها ثم لفك “طلاسمها”.

بيت القصيد في مقالاتنا هذه هو الرد على مزاعم السيد هيكل حول استخدام قاعدة “الملاحة/ ويلاس”، لأن هذا ما يهمنا كأكذوبة رددها السيد هيكل طويلا، ولا نظن أنه صدقها ولكنه يريد منا –ومن غيرنا- أن نصدقها. ما يهمنا هو هذه المزاعم التي يرددها السيد هيكل، والتي يدعي أن هناك “وثائق” تسندها وتؤكدها.  ولكن من الواجب قبل أن نخوض في هذا الأمر، وفي وثائقه التي يلّوح بها، أن نستبين بقية الصور الأخرى “للدور الأمريكي” التي أوردها السيد هيكل، خاصة وأنه –كما قلنا- يحاول حشد هذه الصور كقرائن تؤكد التدخل الأمريكي الذي يزعم أنه انطلق من ليبيا. وهذا يدعونا أن نستوضح بقية الصور ونقدم حولها ما هو معروف من الحقائق، ثم ندع للقارئ أن يقارنها مع ما أورده هيكل أو أغفله وغيَّبه منها، ثم نتساءل –بعد تبيين الحقائق- من ينبغي أن نلوم: إسرائيل أم أمريكا أم سياسات عبدالناصر؟

لا بد أن نتبين الحقائق خاصة حول أمرين اثنين يتعلقان بالدور الأمريكي، ومدى علاقتهما بانتصار إسرائيل في الحرب، وهما:

  1. قيام أمريكا بتسليح إسرائيل قبل حرب يونيو، خاصة في مجال السلاح الجوي. بمعنى آخر هل زودت أمريكا السلاح الجوي الإسرائيلي بما مكن إسرائيل من تنفيذ ضربتها الجوية بهذا النجاح المذهل؟
  2. تقديم أمريكا معلومات استخباراتية إلى إسرائيل. بمعنى آخر هل كانت المخابرات الإسرائيلية قاصرة وعاجزة في الحصول على المعلومات الحيوية عن القوات المسلحة المصرية، خاصة الطيران والدفاع الجوي، اللازمة لتنفيذ ضربتها بحيث نقول بأنه لولا المعلومات الأمريكية ما نجحت الضربة؟

وقبل أن نخوض في هذين الأمرين لا بد أن نشير إلى معيار آخر من المعايير التي أراد السيد هيكل أن يفرضها من خلال أحاديثه، فهو يحاول أن يسرد أحاديثه قفزا على الأوضاع السائدة يومذاك، وتجاهلا للاختلافات الجوهرية بينها وبين الأوضاع الدولية في الوقت الراهن، وعلى الأخص أوضاع العلاقات الإسرائيلية- الأمريكية. دور “اللوبي” الإسرائيلي يومئذ –على قوته- كان يواجه محددات، ولا يمكن أن يقارن  بما بلغه هذا “اللوبي” من تغول في الوقت الراهن، ودوره الذي أصبح مركزيا في التأثير على القرار الأمريكي. وفي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي لم تكن الحالة العربية قد وصلت إلى ما بلغته حاليا من وهن وهوان، فلم يعد العرب –اليوم-ذلك الصديق الذي يُسعى إليه ويُحتفى به، ولا ذلك العدو الذي يُهاب ويُخشى، ولا ذلك الند الذي يُحترم. هذا كله لم يكن عشية حرب يونيو، بل نجده اليوم كنتاج لتلك الحرب وما تبعها من انتكاسات متتالية.

لهذا ينبغي أن نتذكر بأننا نتحدث عن مرحلة كانت فيها الأوضاع الدولية تختلف بصورة كلية عما هي عليه الآن. هذا يسري على العلاقات العربية-الأمريكية، وعلى موازين القوى الدولية، وعلى حقائق الصراع العربي– الإسرائيلي، بل حتى على درجات وقوة التأثير الإسرائيلية على الإدارات الأمريكية. لم تكن إسرائيل آنذاك تسيطر على القرار الأمريكي بالطريقة والدرجة التي نراها الآن، وكان للعرب أصدقاء في مختلف الإدارات الأمريكية يتعاطفون مع قضايا العرب من منطلق حرصهم على مصالح الولايات المتحدة المرتبطة بالمنطقة العربية.

لكن التغيرات التي جاءت بين الأمس واليوم لم تحدث فجأة، وإنما كانت نتاجا لسنوات طويلة من السياسات العابثة التي لم تقدر المصلحة العربية العليا حق قدرها، ولم تفرد للقضية الفلسطينية ما تستحقه من مكانة في أولويات الصراع والسياسة، ولا ما تستحقه من مكانة في إطار العلاقات والتعاون العربي، ولا إلى ما تتطلبه من بناء علاقات دولية بناءة على الأخص مع الأطراف الدولية المؤثرة. بدلا من ذلك، كانت المهاترات والتخوين والتآمر أساليب معتمدة في السياسة المصرية تجاه الدول العربية المختلفة، لم تنج من هذه السياسات دولة عربية واحدة. وكان التعامل مع البعد الدولي والقوى الدولية مؤسسا على افتراضات لا تمت إلى الواقع بصلة وتفتقر إلى التقييم الموضوعي السليم –الخالي من الأهواء- للمعطيات والعوامل المؤثرة، بل كانت شؤون وشجون العلاقات الدولية تقفز إلى صفحات الجرائد وميكروفونات الإذاعات قبل أن يتمكن الدبلوماسيون من التعامل معها. في تلك الحقبة كانت إسرائيل تضع أمامها أهدافا واضحة تتوحد وراءها الغالبية العظمى من يهود العالم، وتسعى لجلب التعاطف الدولي مع هذه الأهداف. وكانت إسرائيل تضع كل القدرات والإمكانيات في خدمة هذه الأهداف ، وتسخر أركان الدولة وعلاقاتها الدولية وأصدقاءها وعملاءها من أجل الحصول على كل إمكانية غائبة تعين على تحقيق الأهداف. وعلى الطرف الآخر كانت أهداف العرب قد تحولت إلى شعارات جوفاء فارغة ليس ما يساندها من عمل جماعي مشترك، فكانت الأهداف ضبابية، وكانت السبل إلى بلوغها تفتقر إلى العزيمة والوضوح والمداومة، فتشتت هذه الجهود إلى معارك جانبية ومفتعلة كانت خاسرة في معظمها. كان الأداء العربي في مضمار العلاقات الدولية فاشلا وكارثيا، أخضع بالكامل للأهواء والنزعات، وغابت عنه العقلانية، وتوخِي المصالح العليا، والبحث عن قواسم مشتركة مع مختلف الدول، والبحث عن مساحات الاتفاق لتنميتها، وجوانب الخلافات لتضييقها، بل غابت حتى سياسات التكامل وتبادل الأدوار بين الدول العربة في مضمار العلاقات مع مختلف الدول.

هكذا كانت هذه السياسات سببا في الفشل في تقييم حرب السويس 1956 بطريقة موضوعية تحدد الأطراف التي كان دورها مؤثرا في حل الأزمة وإجبار الدول المعتدية على الانسحاب، ومن ثم تحديد مناهج صحيحة للتعامل مع هذه الأطراف. جرى عمدا تجاهل الدور الأمريكي وإبراز الدور السوفياتي بالرغم من البون الشاسع بين دور كل من الطرفين، وسرى هذا التجاهل والإبراز إلى السياسات والخطب والإعلام، وتعالت حدة الحملات الإعلامية ضد أمريكا، وتم تصوير كل قصور في العلاقات بين مصر الناصرية وأمريكا –بالذات- إلى خطيئة في حق القضية العربية.  وكان هذا أحد أسباب التمهيد لمزيد من إزاحة الدور والتأثير العربي في أمريكا وإلى نماء العلاقات الإسرائيلية الأمريكية في الفترة الواقعة بين حرب السويس وحرب يونيو 1967، وكانت هناك أسباب كثيرة أخرى منها ما هو خارج عن الإرادة، وكان يمكن تداركه، ولكن معظمها كان من صنع السياسات والممارسات الناصرية قي تلك المرحلة .

قد يكون في ما أورده هيكل حول إمداد أمريكا لإسرائيل بالسلاح والمعلومات شيئ قليل من الصحة، ولكن حتما فإن فيه كثير من المبالغة. حتى وإن افترضنا –جدلا- صحة ما يقوله هيكل إلا أن أمورا كثيرة ينبغي بحثها وهو ما يتطلب تحليلا هادئا وتساؤلات من قبيل لم وكيف تم هذا؟ ومن المسؤول؟.

لا ينبغي التباكي على أن إسرائيل وقادتها –منذ قيام دولتهم وحتى يومنا هذا- قد فعلوا كل ما كان بوسعهم لتكوين وتعزيز وإدامة علاقة استرتيجية من طراز فريد مع الولايات المتحدة، وأنهم عبر هذه العلاقة عززوا مكانة إسرائيل داخل أمريكا حتى أصبحت أدوات ولجان الضغط الإسرائيلية تخيف الرؤساء والإدارات الأمريكية وتعشعش في أوساط الكونغرس ومختلف الإدارات الأخرى. لا نستطيع أن نتباكى لأن قادة إسرائيل قد حددوا بكل دقة مكمن المصلحة الإسرائيلية، ثم ركزوا جهودهم وحشدوا إمكاناتهم وأصدقاءهم لتعزيز وتحقيق هذه المصلحة. أليس الأولى أن نصب جام غضبنا على السياسة الناصرية التي لم تترك وسيلة ولا سبيلا إلا سلكته لتخريب العلاقات العربية- الأمريكية، ولم يقتصر هذا التخريب على علاقات مصر بأمريكا فقط؟.

إذا ما استعدنا أجواء الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فإننا سنعيش فترة الخطب الحماسية الرنانة، واتهام الزعماء العرب الذين سعوا لإقامة علاقات متوازنة مع أمريكا بالعمالة للإمبريالية، وسنستمع إلى إذاعة “صوت العرب” والإعلام المصري عموما تحرض الشعوب على هؤلاء الزعماء الذين أصبحوا يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى فبدوا مترددين في علاقاتهم والتزاماتهم الدولية، ووجدوا أنفسهم في دوامة البحث عن سبل الدفاع عن أنفسهم أو الانخراط في خدمة التوجهات الناصرية. وإذا ما كنا صرحاء أكثر لوجدنا أن مصر الناصرية سعت، ونجحت -إلى حد كبير- في تسخير الجماهير العربية وتحشيدها ضد حكامها وضد أية سياسات إيجابية مع الغرب خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية. لم يستطع حتى بعض الزعماء الذين يعتد بهم –مثل الملك فيصل بن عبدالعزيز- من أن يقنعوا عبدالناصر بسياسة تكامل الأدوار العربية، وكان عليهم إما أن يكونوا مع التوجهات الناصرية أو يواجهوا  تهم العمالة والخيانة. وفي هذا الصدد نستعير من السيد هيكل حديثا نسبه إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز:

“أنا فاكر أن الملك فيصل -وأنا سمعها منه كذا مرة وآخر مرة سمعتها منه كنا في فندق فلسطين في الإسكندرية والملك كان ضيفا هنا- لكن الملك بيقول إيه؟ بيقول لي يا أخي طال عمرك الرئيس عبد الناصر استفز الأميركان بأكثر من اللازم، هم ما عندهمش صداقة مع إسرائيل بهذه الدرجة وهم ما عندهمش عداء معنا إلى هذه الدرجة لكن نحن رحنا إلى جانب الاتحاد السوفياتي، أنتم يعني المصريون ذهبتم متحيزين إلى الجانب السوفياتي وهذا أغضبهم، ولو أوقفنا هذه العلاقة وهذه الصداقة الزائدة مع الاتحاد السوفياتي فالأميركان موقفهم مختلف لأن مصالحهم معنا وبالتالي إذا اختلف موقفهم معنا فسوف يقل تحيزهم لإسرائيل”

وإذا كان الملك يتحدث بمثل هذه الصراحة ويكرر هذا الحديث على مسامع هيكل فلا بد أنه كان وغيره من الرؤساء والملوك العرب أكثر صراحة ونصحا -وربما مناشدة- في الجلسات المغلقة أو في المشاورات  الجانبية. ولكن تبقى الحقيقة المرة أن سياسات عبدالناصر لم تترك فقط لإسرائيل الساحة الأمريكية تلعب فيها كما تريد، بل إنها أعطت كل المبررات لأمريكا كي تدير لنا ظهرها وتنحاز بالكامل لإسرائيل عبر سنوات تراكمت فيها المواقف، وعززت فيها إسرائيل مركزها، حتى وصل بها الأمر ليس فقط بالمراهنة على الحصان الأمريكي، بل إلى امتطائه والإمساك بلجامه وتوجيهه الوجهة التي تريدها.

لا بد لكي يكون المرء صادقا في تحليلاته واستنتاجاته، أن يستند على الوقائع والحقائق، وأن يراعي الدقة ويتجنب المبالغة، وأن لا يسمح لنفسه بالجنوح إلى الخيال والأوهام. لا بد لنا من أن نتعرف على الأسباب التي أدت إلى تطور العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية إلى ما صارت عليه عشية حرب يونيو 1967. وقد نستطيع الاستطراد فنبحث القفزة الرهيبة للعلاقات الأمريكية-الإسرائيلية التي ترتبت عن نتائج حرب يونيو، وترتبت أيضا عن تصرفات العرب حيال أمريكا بحجة هذه النتائج.

ربما من المهم الإشارة إلى حقيقة منسية أو مهملة ومغيَّبة عن عمد، وهي حقيقة موقف الدولتين الكبريين (الاتحاد السوفيتي وأمريكا) من إسرائيل. ذكر هذه الحقيقة والتذكير بها مهم جدا لأنها ضاعت في خضم الدعاية الناصرية، وهو مهم كي يكون معيارنا مستندا على قاعدة راسخة ومتوازنة، ثم حتى نزن المواقف والسياسات التي رسمت وصاغت العلاقات العربية مع الدولتين.

سنجد أن موقف الدولتين من قيام إسرائيل متشابها إن لم يكن متطابقا، فاعتراف الاتحاد السوفيتي بقيام دولة إسرائيل جاء بعد أربعة دقائق من اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية. وحتى في أوج التحالف الناصري-السوفيتي فإن إنهاء دولة إسرائيل والقضاء عليها كان خطا أحمرا لدى السوفيت كما هو لدى أمريكا ولدى كثير من دول العالم الأخرى. ليس هناك فارق كبير بين الدولتين في مسألة وجود إسرائيل وبقائها.

بقي أن نتعرف على حقيقتين أخريين:

أولاهما: أن الاتحاد السوفيتي لم يتوقف –حتى أثناء تحالفه مع عبدالناصر- أن يكون المخزون الاستراتيجي والمزود الرئيسي لإسرائيل بالعقول والخبرات المدربة التي كانت هجرتها تتم بترتيبات مع حكومة الحليف السوفيتي. ولا نريد الاستطراد هنا لتوضيح ما أحدثته هذه الهجرة المدربة من تطورات على الصناعة والزراعة والإنتاج في إسرائيل، وبالأخص على الجيش الإسرائيلي، وعلى القدرة العسكرية الإسرائيلية. إزاء هذا الإمداد لم يرفع النظام الناصري عقيرته بالاحتجاج لدى الحليف السوفيتيى، وخلت كل خطبه –وما أكثرها- من أية إشارات إلى هذه المسألة. كما أن الإعلام الناصري وقطب رحاه هيكل لم يثيرا هذه المسألة لا من قريب ولا من بعيد. وقد نتساءل هل كانت المصالح المصرية وعلاقاتها مع الاتحاد السوفيتي ستكون في خطر إذا ما قامت مصر بإثارة هذه المسألة؟

أما الحقيقة الثانية: فإن الإدارات الأمريكية المتعاقبة استمرت في اتباع سياستين أرساهما الرئيس “هاري ترومان” تقضيان بمتابعة تأييد إسرائيل ودعمها في كل المجالات، وفي نفس الوقت بمتابعة الامتناع عن تصدير السلاح إلى دول منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك إسرائيل. استمر ذلك إلى ما بعد حرب السويس. قبل ذلك كان مصدر التسلح الإسرائيلي من بريطانيا ومن فرنسا، وهذه الأخيرة هي التي زودتها بمنظوماتها الجوية بما فيها طائرات الميسيتير وسوبر مايستير والميراج وقنابل Durendal المخصصة لتدمير مدارج المطارات،  وهي –مع غيرها- شكلت القوة الضاربة التي استخدمتها إسرائيل في ضربتها الجوية.

وإذا ما استطردنا –في هذا الصدد- لوجدنا أن أول صفقة لتزويد السلاح الجوى الإسرائيلي بأسلحة أمريكية الصنع كانت عام 1962 في عهد الرئيس “جون كندي”، حين جرى التوقيع على تزويد إسرائيل بمنظومة صواريخ “هوك” للدفاع الجوي، وكان التبرير الذي قدمته إدارة الرئيس “كندي” آنذاك أن الاتحاد السوفيتي قد زود مصر بقاذفات للقنابل ذات مدى طويل وبمنظومة الصواريخ SAM التي ضخم الإعلام المصري في وصف قدراتها وسميت “القاهر” و “الظافر”. ومع هذا لم يتم حصول إسرائيل على صواريخ “هوك” بسهولة –كما يحدث الآن، بل كان على إسرائيل آنذاك أن تبذل الجهود وتختلق الظروف وتحشد أصدقاءها مرة تلو الأخرى للحصول على أسلحة، وكان معظمها يرفض بسبب السياسة المعتمدة من ناحية وكذلك بسبب الوجود القوي لأصدقاء العرب في الإدارة الأمريكية. وقد بذلت إسرائيل مساع متكررة وحشدت أصدقاءها للحصول على طائرات مقاتلة وقاذفة أمريكية الصنع، وفي كل مرة كان أصدقاء العرب في الإدارة الأمريكية وخاصة في وزارة الخارجية يحولون دون تبلور هذه الطلبات إلى عقود، ويستطيع أي باحث محايد أن يقرر أن وزارة الخارجية –بالذات- كانت مليئة بالمسؤولين الذين كانوا يعرفون باسم “آرابيست” بسبب مواقفهم المؤيدة لسياسة أمريكية أكثر توازنا تميل إلى تقدير المصالح الأمريكية- العربية المشتركة وتغليبها. كان الأولى أن نقدم دعما –بالقول والفعل- لهؤلاء الأصدقاء حتى يمكنهم من تعزيز دورهم في السعي لتحقيق سياسة أمريكية متوازنة ، لكن السياسة الناصرية لم تعط لهؤلاء أية مساندة، ولم تعمل على تعزيز منطقهم وموقفهم، بل ما حدث هو العكس، فقد أعطت السياسات الناصرية “ذخيرة” لأصدقاء إسرائيل تاركة أصدقاء العرب يواجهون مدا إسرائيليا متناميا أوصلهم إلى التقلص والتقوقع، بل أوصلهم إلى الدفاع عن أنفسهم بكل ما تعنيه الكلمة.

نجح “الآرابيست” في الحيلولة دون حصول إسرائيل على مقاتلات أو قاذفات أمريكية عدة مرات، إلى ان كان عام 1966، في إدارة الرئيس “ليندون جونسون”، حين كررت إسرائيل مطالبها بالحصول على مقاتلات وقاذفات، وتحصلت على موافقة مبدأية من البيت الأبيض، لكن هذه الموافقة كان عليها أن تمر بسلسلة من الإجراءات التي تمر على وزارتي الدفاع والخارجية علاوة على موافقة الكونغرس. وهكذا شرعت إدارة الرئيس جونسون في الإجراءات اللازمة لاستخراج التراخيص لتزويد إسرائيل بطائرات “سكاي هوك” القاذفة. لكن  إسرائيل لم تستلم أي من هذه الطائرات إلا في أواخر عام 1967، أي بعد حرب يونيو، وشاركت هذه الطائرات في “حرب الاستنزاف”. أما في حرب يونيو 1967 فلم يكن في حوزة إسرائيل أية مقاتلات أو قاذفات أمريكية الصنع. ومعر وف أن نتائج حرب يونيو وقيام مصر بقطع علاقاتها مع أمريكا سرَّعا في الموافقة على تنفيذ صفقة طائرات سكاي هوك ثم تلتها طائرات الفانتوم …. ثم توالت الصفقات.

هذا ما تقوله حقائق التسليح الأمريكي لإسرائيل -في مجال القوات الجوية- قبل حرب 1967. فلم تشارك أية طائرة من صنع أمريكي في تلك الحرب لأن إسرائيل ببساطة لم تكن –في تلك الفترة- تملك طائرات أمريكية الصنع. وهذا في الواقع كان من شأنه أن يسهل اكتشاف أية طائرات أمريكية الصنع تكون قد شاركت في الضربة الجوية، لأن الطيارين وأطقم الدفاع الجوي كانوا سيتعرفون عليها بكل بساطة حتى ولو كانت مطلية بعلامات السلاح الجوي الإسرائيلي كما يقول السيد هيكل .

كافة الإحصاءات المنشورة عن حرب يونيو تدل أن السلاح الجوي الإسرائيلي، كان يتكون آنذاك من الآتي:

65 ميراج (3) الاعتراضية           35 سوبر مايستير القاذفة

33  مايستير المقاتلة                      18 فوتور (2) المقاتلة

48 أوراغان القاذفة                       45 فوغا ماجيستير للتدريب

جميع هذه الطائرات فرنسية الصنع، ولم يكن بينها طائرة أمريكية واحدة.

أما بعد 1967 فقد أثبتت إسرائيل لأمريكا أنها حليف استراتيجي يعتد به، واستمر وقوفها بكل قوة وراء أصدقائها في أمريكا، وازداد تنامي وترسخ علاقاتها مع أمريكا، فيما باتت علاقات مصر وسوريا ودول عربية أخرى مع أمريكا مقطوعة لعدة سنوات، وشبه مجمدة مع دول أخرى، وتنامت الحملات الإعلامية والاتهامات في الصحافة العربية ضد أمريكا، وتركت الساحة بالكامل لإسرائيل، فكانت تلك هي السنوات الذهبية التي تنامت فيها مؤسسات الضغط الإسرائيلية، وتمكن الأخطبوط الإسرائيلي من الإمساك بمفاصل القرار الأمريكي، كما تمكن هذا الأخطبوط من استغلال كل الأزمات العربية-الأمريكية والضعف والهوان العربيين للتمكين لسيطرته إلى أن وصل الأمر إلى ما هو عليه الآن.

هذا عن تسليح أمريكا لإسرائيل -في مجال السلاح الجوي- قبل حرب يونيو، وعن دور هذا التسليح في نتائج تلك الحرب، وعلى الأخص في نتائج الضربة الجوية.

وسنتناول –بإذن الله- مسألة الإمداد بالمعلومات في حديث قادم إن شاء الله.

 

هيكل والافتراء على التاريخ – نظية التدخل الأمريكي (الحلقة الثانية)

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم” هيكل

نظرية التدخل الأمريكي: حقيقتها وكيف نشأت

نظرية الدور الأمريكي في حرب 1967 تعود إلى الساعات الأولى من الحرب، بل ربما سبقت اندلاع الحرب نفسها.

قبل الحرب كان الإعداد النفسي للجماهير العربية لتقبل نظرية الاعتداء الأمريكي. نجد ذلك في الإعلام المصري، خاصة فيما كانت إذاعة صوت العرب تبثه من تحريض للجماهير الليبية بمهاجمة قاعدة “الملاحة/ويلاس”، ونجده أيضا في كثير مما نشرته الأهرام والصحف المصرية الأخرى، بل وفي ما كتبه السيد هيكل نفسه.

لنأخذ على سبيل المثال ما أشار إليه السيد هيكل في مقال سبق اندلاع الحرب:

“كلمة الأهرام بتقول “سمعة ليبيا هي الموضوع!” وهنا ده موضوع مهم قوي لأن إحنا كنا قلنا خبر قبلها بيوم إنه في حركة عسكرية كبيرة جدا في مطار ويلاس في قاعدة ويلاس في طرابلس في ليبيا، وبنقول إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار، …………”

“فإحنا كتبنا وبمنتهى الأدب تعقيبا على وزير خارجية ليبيا السيد بشتي بنقول له إن الموضوع مش موضوع أنكم تقولوا إن سمعتكم في الميزان، مش موضوع أن تقولوا لا حصل ما حصلش، هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها.”

وبغض النظر عن أن السيد هيكل لم يقدم يومها أي إثبات لما كتبه في الأهرام لأنه تعود أن يكتب فُيصدق دونما حاجة لأن يقول لنا كيف عرف بأن “هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها.” في الوقت الذي لم يعرف الليبيون بهذه ال “حركة عسكرية كبيرة جدا في مطار ويلاس في قاعدة ويلاس في طرابلس في ليبيا، ……. إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار،”  لكنها لم تلفت إليها ليس فقط أنظار الليبيين ولكن يبدو أيضا أن هذه الحركة (الكبيرة الملفتة للأنظار) لم تلتفت إليها حتى أنظارسفارات الدول المنتشرة في طرابلس بالقرب من قاعدة “الملاحة/ويلاس” بما فيها سفارة الاتحاد السوفيتي وسفارات دول حلف “وارسو”، لأن هذه الدول ببساطة شديدة لم تقل بأن سفاراتها في طرابلس قد لاحظت هذه الحركة (الكبيرة الملفتة للأنظار)، ولم تقل أي من هذه الدول بأن قاعدة “الملاحة/ويلاس” قد استعملت.

نعم .. هذا الحديث عن نظرية التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس” كان يتم حتى قبل اندلاع المعارك، والغاية منه هو إعداد الجماهير العربية، وخاصة الليبية، نفسيا لتقبل نظرية التدخل الأمريكي.

أما بمجرد حدوث الضربة الجوية الإسرائيلية فقد ابتدأت القيادات المصرية على مختلف مستوياتها تتحدث –حتى فيما بينها- عن نظرية التدخل الأمريكي، وتبحث عن أية شوارد يمكن استخدامها، بل وربما اختراع الشواهد والشوارد التي قد تعزز هذه النظرية. وفي هذا يخبرنا السيد هيكل بروايته للأحداث عن تلعثم المشير عبدالحكيم عامر في ردوده على أسئلة عبدالناصر حول الموقف، وكيف بدت المسألة وكأنها استجواب من عبدالناصر لنائبه عبدالحكيم عامر. وهو –على فكرة- موقف لم يحضره هيكل ولم يكن شاهدا على الحوار بين الرجلين ولكنه يسوق هذا الحوار بحرفية المسجلات الالكترونية زاعما أن الرجلين قد قالاه له هو دون غيره.  لنستمع للسيد هيكل:

” لكن جمال عبد الناصر أظنه أنه بدأ يقلق لكن إلحاحه في ذلك الوقت على عبد الحكيم أنه تقريبا، الاثنان اتفقوا في روايتهم لي في الحوادث أن جمال عبد الناصر كان دائم التكرار بيقول لعبد الحكيم أنا عايز أعرف إيه هي الحقيقة، إيه التقارير، إيه الصورة الحقيقية لما جرى في الطائرات، كم حجم الخسائر؟ لأنهم بدؤوا يقولون كلاما، بدأ عبد الحكيم يقول، وأظن هنا في نقطة من النقط المهمة جدا أن عبد الحكيم بدأ يقول إن حجم الضربة الجوية أكثر مما تتحمله طاقة إسرائيل، هذه مش إسرائيل هذا حد ثاني، وبعدين حصلت حدة في الموقف، جمال عبد الناصر بيقول له الحد الثاني مين؟ بيقول له الأميركان. بيقول له الأميركان شوف أنا -وهذا ثابت من كل الروايات- قال له أنا لا أصدق في المعلومات اللي عندي -وأظن هنا كان  غلطان جمال عبد الناصر- في المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي وعلى أي حال أنا مستعد أصدقك أن الأميركان دخلوا لكن أطلب منك حاجتين -ده كان قدام كل الناس اللي موجودين- أطلب منك إما أن تأتي لي بحطام طائرة أميركية ضربتوها وإما أن تأتي لي بطيار أميركي أسير وأما دون هذا فأنا مش مستعد أصدق حكاية الأميركان موجودين، وأنا لا أستطيع أن أطلع قدام الناس وأقول لهم والله الأميركان موجودين بدون أن يكون لدي دليل…”

حوار بين عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر يبين مستوى الارتباك والرغبة في البحث عن معاذير، كما يبين ما وصلت إليه العلاقة بين القائد الأعلى ونائبه من توتر. هذا الحوار يحدث بعد فترة وجيزة من الضربة الإسرائيلية، حين كان الوقت أثمن من أن يضيع في هذه المماحكات، لكن البحث عن قشة تدعم نظرية التدخل الأمريكي يستمر دون توقف، ودون حساب للوقت المطلوب لتدارك المعركة البرية في سيناء التي باتت القوات المصرية تواجهها وهي تفتقر إلى كل شيء وليس فقط الغطاء الجوي، بل وإلى القيادة المتفرغة لإدارة معركة يتعلق عليها مصير أمة بأكملها. لنستمع لما يقوله هيكل:

“التضارب في هذه النقطة عمل حاجة غريبة جدا، يحكي بغدادي على سبيل المثال يقول إنه اتصل له، في صدقي محمود بيقول إنه عنده ضابط في طيار قديم في الجنوب في الصعيد في قاعدة من قواعد الصعيد اسمه حسني مبارك شاف طيارة أميركية، بيقوم عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر بيقولوا الكلام ده مش معقول، فعبد الحكيم عامر يقوم يكلم هذا الضابط حسني مبارك في المطار بيكلمه بنفسه في وجود جمال عبد الناصر فهذا الضابط بيقول لا، أنا اللي شفتهم كانت طائرات إسرائيلية. الارتباك كان كده إلى هذا الحد كان كبيرا جدا إلى درجة أنه في وقت بيفوت وعمليات القوات البرية على وشك أنها ستبتدي،”

لم يتوقف السيد هيكل .. ولم يستطرد كما -عودنا- ويتساءل عن هذه الرواية .. هل كان العضو السابق لمجلس قيادة الثورة السيد “عبد اللطيف البغدادي” –المعروف بدقته- مخطئا في نقله عن صدقي محمود؟ .. أم أن صدقي محمود قد ذكر له هذه الحادثة فعلا نقلا عن أحد طياريه؟، وأن هذا الطيار قد تراجع عن زعمه لسبب ما .. أم أن الأمر كله كان مختلقا من أساسه؟، ولذلك فإن الطيار “حسني مبارك” قد أنكر علمه بالرواية وأنكر رؤيته لطائرات أمريكية حين قام كل من عبدالحكيم عامر وعبدالناصر بالاستفسار منه حول هذه المسألة. في وقت مصيري كهذا تحسب فيه الثواني قبل الدقائق، تتحول القيادات المصرية كلها (الرئيس ونائبه وكل قيادات القوات المسلحة … وربما سرت العدوى إلى بقية اركان الدولة بما فيها السفارات) تتحول لمتابعة أية شاردة قد تثبت نظرية التدخل الأمريكي. ولعل سؤالا استنكاريا منطقيا يفرض نفسه على هذه الأجواء –التي وضعنا فيها السيد هيكل-، ألم يكن طبيعيا أن يقدم صدقي محمود قائد الطيران تقاريره إلى القائد العام المشير عامر بدلا من أن يسمع هذا القائد العام تقارير قائد طيرانه عن طريق عضو سابق مبعد عن مجلس قيادة الثورة؟. وللأسف فإن هيكل لم يتوقف أيضا ويسأل -باستنكار- لماذا تحولت غرفة العمليات في تلك اللحظات المأساوية المصيرية الحرجة إلى مساحة ازدحمت بكل من هب ودب، ولماذا لم يعد لقائد الطيران من مهمة إلا الاتصال أو تلقي الاتصالات من أشخاص ليس لهم أي دور في سير المعركة لا على صعيدها السياسي ولا على الصعيد العسكري.

من الضروري جدا أن نعود إلى الحوار الذي دار بين عبدالناصر وعبدالحكيم عامر. في هذه المحادثة يقول الرئيس عبدالناصر بأنه لا يصدق المعلومات -أو ربما نقول الافتراضات- التي يقدمها المشير، ويقول صراحة:  ” المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي”  إذن فالرئيس عبدالناصر لديه معلومات تنفي التدخل الأمريكي، ويبدو واثقا جدا من هذه المعلومات … فيبدي عدم استعداده لإعلان تدخل أمريكا بدون أن يكون هناك دليل.

كان عبدالناصر يطلب أحد أمرين عجزت القيادة العامة أن تقدمهما: طائرة أمريكية أسقطت، أو طيارا أمريكيا أسر. وإذا ما صدقنا رواية هيكل فإن الرئيس عبدالناصر  لم يصر على هذا المطلب طويلا، بل سرعان ما طرح ثقته في معلوماته التي تنفي التدخل الأمريكي وتنازل عن مطلب الطائرة المسقطة أو الطيار الأسير. تنازل عن كل ذلك واكتفى لتأكيد التدخل الأمريكي ببعض التقارير التي يقول هيكل بأنها قد جاءت من السفير المصري في باريس، والملحق العسكري المصري في طرابلس (وسنتحدث في الوقت المناسب عن هذه “التقارير” التي ذكرها هيكل، والتي يعلق عليها مرافعته لإثبات الدور المزعوم لقاعدة ويلاس). لكننا إذا ما استقرأنا الأحداث وراجعنا خطب عبدالناصر وتصرفاته بعدئذ لوجدنا أنه لم يستطع أن يقول صراحة –ولو مرة واحدة- بحدوث التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس”، وأن أقصى ما قاله عبد الناصر هو الإشارة التي وردت في خطاب التنحي الشهير:

“أن العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب؛ الأمر الذي يقطع بأن هناك تسهيلات تفوق مقدرته، وتتعدى المدى المحسوب لقوته، قد أعطيت له”.

معروف أن هذه العبارة المطاطة من صياغة السيد هيكل ضمن صياغته لخطاب التنحي الذي يقول السيد هيكل أنه استغرق منه بضع ساعات لإتمامه. ولا أحسب أن عبدالناصر كان سيكتفي بمثل هذه العبارة ويتوقف عندها لو كان مقتنعا فعلا ومتأكدا من التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس”.

وبدون شك فإن الأمر كان وقتها في غاية الخطورة والحساسية: الرئيس عبدالناصر يُلقي خطابا يعترف فيه بالهزيمة “النكسة”، في وقت حطمت فيه إسرائيل القوة العسكرية المصرية وقوات دول عربية أخرى، وباتت قواتها تحتل الضفة والقطاع والجولان وسيناء وتسيطر على الضفة الشرقية لقناة السويس، في ذلك الوقت لم يعد من القوات المسلحة المصرية أية قوة قادرة على إنجاز مهمات قتالية ذات معنى، اللهم إلا فرقة الحرس الجمهوري التي عُهد إليها بتأمين النظام الحاكم في القاهرة، وبات قادة هذه الفرقة يتلقون تعليماتهم مباشرة من الرئيس عبدالناصر –المتنحي عن الرئاسة-، أما الطريق الذي يربط بين مدن قناة السويس والقاهرة فلم تجد القيادة المصرية إلا طلبة الكلية الحربية لاستنفارهم لمراقبته والدفاع عنه!!!. في هذه الظروف الحرجة، لنا أن نتصور أن عبدالناصر لديه معلومات ووثائق حقيقية يُعتد بها تدين أمريكا وتفضح استخدامها لقاعدة “الملاحة/ويلاس” منطلقا لعدوانها على مصر ولا يكشف –في تلك الظروف المصيرية- هذه الوثائق!! .. ولا يقول صراحة أن مصر تلقت ضربة شاركت فيها أمريكا بقوتها الجوية المنطلقة من قاعدة “الملاحة/ويلاس”!!. أم أنه وقتها -وهو يبحث حتى عن القشة- كان يعرف أن الوثائق المزعومة التي لوح بها هيكل –إن كان هناك وجود لهذه الوثائق أصلا- لا تستطيع أن تصمد أمام أي اختبار.

كما أن العلاقات اللاحقة بين مصر وليبيا –حتى فيما تبقى من حكم عبدالناصر- لا تدل بأي شكل من الأشكال على مزاعم التدخل الأمريكي باستخدام الأراضي الليبية، وليس هناك أي دليل واحد أن مصر أثارت –بصورة رسمية- مع الحكومة الليبية هذه المسألة، أو أثارتها في أي محفل رسمي دولي.

بل ماذا يقول هيكل في أن الرئيس عبدالناصر والملك حسين كليهما قد أنكرا وجود أي تدخل عسكري أجنبي في الحرب وذلك أثناء مؤتمر القمة العربية الذي انعقد بعيد الحرب في الخرطوم. بل إن مصادر متعددة أشارت إلى أن عبدالناصر قد قدم شرحا تفصيليا في إحدى جلسات القمة قال فيه بأن الاتهام الوارد في بيان وزارة الخارجية المصرية الصادر يوم 6 يونيو لكل من بريطانيا وأمريكا بالمشاركة الفعلية في الهجوم الجوي الإسرائيلي كان بسبب خطأ في معلومات الرادار المصري وكذلك لأن الطائرات الإسرائيلية جاءت من البحر من اتجاه الأسطول السادس . واضح أن عبدالناصر -خلال هذا الشرح والتبرير- لم يشر إلى ليبيا أو إلى قاعدة “الملاحة/ويلاس” لا من قريب ولا من بعيد، لم يشر حتى إلى أنهم ظنوا أن الهجوم قادم من ناحية القاعدة،  بل أشار إلى أن القيادة المصرية توهمت أن الطائرات أمريكية كونها قادمة من البحر من جهة الأسطول السادس.

وماذا يقول السيد هيكل في أن السفير السوفياتي بالقاهرة بادر يوم 6 يونيو وبعد صدور تصريح وزارة الخارجية المصرية المشار إليه بإعلام السلطات المصرية أن معلومات الاتحاد السوفياتي تنفي حدوث مشاركة أجنبية (لا بريطانية ولا أمريكية) .

وماذا يقول السيد هيكل في الرجاء الحار –خلال مؤتمر القمة في الخرطوم- الذي طالب به الرئيس عبدالناصر الدول العربية (التي لديها علاقات مع أمريكا) أن تتوسط لرتق علاقات مصر المقطوعة مع أمريكا، معترفا باستعجاله في قرار قطع العلاقات، هل هذا تصرف رئيس يعلم أن أمريكا قد اعتدت على بلده ولم تجف دماء الضحايا بعد.. وما زال العدو يرسخ احتلاله لسيناء والضفة والقطاع والجولان ؟…

وماذا يقول السيد هيكل في التصريح الذي أدلى به الملك حسين لوكالة “آسوشييتد بريس” في نيويورك بتاريخ 30 يونيو 1967 وقال فيه صراحة بأنه متأكد من أن الطائرات الأمريكية والبريطانية لم تشارك في المعارك. وهذا نص التصريح:

“On 30 June, King Hussein announced in New York that he was “perfectly satisfied” that “no American planes took part, or any British planes either”.

وترجمة التصريح: ” بتاريخ 30 يونيو أعلن الملك حسين في نيويورك أنه كان مقتنعا تماما أنه لا الطائرات الأمريكية ولا البريطانية قد شاركت”

إذن كانت نظرية التدخل الأمريكي موجودة ومثارة في الإعلام المصري قبل الحرب وأثناءها، وكانت الشغل الشاغل لدى القيادات المصرية السياسية والعسكرية، لدرجة أن الرئيس عبدالناصر أجرى اتصالا هاتفيا عمل فيه على إقناع الملك حسين بالادعاء بتدخل كل من بريطانيا وأمريكا. المكالمة اشتهرت وافتضحت لأن المخابرات الإسرائيلية التقطتها وأذاعتها في حينها بصوت الرجلين. وفي تلك المكالمة كان عبدالناصر يسأل الملك حسين عما إذا كانت بريطانيا تمتلك حاملة طائرات!!!. ويسأله هل “نقول أمريكا وبريطانيا وإلا أمريكا بس” ، ليس في المكالمة أي حديث عن الأراضي الليبية أو قاعدة “الملاحة/ويلاس” لا من قريب ولا من بعيد، بل إن الادعاء كان منصبا على حاملات الطائرات !!!.

أما بعد الحرب فقد سقطت بالكامل نظرية التدخل البريطاني، ولكن استمر الحديث عن نظرية الدور الأمريكي في الإعلام المصري، ولكن بدرجة من الخفوت التدريجي بعدما لم يوجد من المعطيات ما يثبت هذا التدخل.

وحده السيد هيكل الذي استمر –منذئذ وإلى يومنا هذا- يثير هذا الموضوع ويصر على أن الولايات المتحدة الأمريكية قد شاركت إسرائيل في توجيه الضربة الجوية مؤكدا بأن قاعدة “الملاحة/ويلاس” في طرابلس قد جرى استخدامها لانطلاق الطائرات الأمريكية المغيرة. ولعل أي متابع لأحاديث وكتابات السيد هيكل منذ حرب يونيو سيجد تكريرا لهذا الزعم، وسيلمس في نفس الوقت تناقضات في روايات هيكل المتعددة، كما سيجد أن هيكل قد فشل في تقديم أية قرائن حول مزاعمه بالخصوص، إلى أن طالعنا في برنامج “مع هيكل” بحديث –لم يخل هو أيضا من التناقضات – عن وثائق يدعي أنها تثبت وتسند زعمه باستخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدة “الملاحة/ويلاس” خلال حرب يونيو 1967.

وهذه المزاعم هي محور هذه المقالات، وسيكون لنا إن شاء الله حديث عن وثائق هيكل المزعومة.

 

هيكل و الافتراء على التاريخ – الحلقة الأولى

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

“مع هيكل”: معضلة تَجَاوز كذبة

عاد الصحافي المصري المشهور السيد محمد حسنين هيكل إلى الحديث عن حرب يونيو/حزيران 1967 عبر برنامج “مع هيكل” الذي يبث من قناة الجزيرة الفضائية. وهي ليست المرة الأولى التي يتطرق فيها هيكل لمجريات هذه الحرب ويضمنها رؤاه الخاصة حولها، فقد سبق له أن تطرق إلى هذه الحرب من خلال المقالات والكتب المتعددة التي كتبها أو من خلال المقابلات الإذاعية والمرئية العديدة التي أجراها.

وقد يكون من الضروري أن أوضح منذ البداية أنني لست بصدد التعليق على كل ما أورده السيد هيكل في أحاديثه المتشعبة حول هذه الحرب، ذلك لأن هذا يتطلب جهدا ووقتا لا أدعي أنني احوز عليهما. إن تشعب المواضيع والأحداث التي طرحها السيد هيكل مع عدم وجود منهجية واضحة لهذا الطرح، تجعل مهمة من يقوم بالمتابعة والتعليق عسيرة ومضنية، خاصة مع قيام هيكل بتكرار طرح المواضيع والأحداث حسبما يروق له. ولهذا فقد لا نجد مندوحة من التكرار أيضا حسبما تمليه المواضيع المطروحة، ومقدما أستميح القراء عذرا إذا ما اضطررت إلى ذلك.

كما أنه من المناسب أن أعترف بصعوبة التعامل مع ما يقوله السيد هيكل أو يكتبه، فالرجل –كما هو معروف وذائع- يعد من أساطين تطويع الكلمة وتحميلها من المضامين ما لا يجرؤ عليه غيره، وهو أكثر من عرفنا -في عالم الصحافة العربية- براعة وحرفية في اختلاق واصطناع المصطلحات التي تسمي الأشياء بغير مسمياتها ويحتكر وحده تحديد ما تعنيه. وحتى أكون أكثر وضوحا أشير -على سبيل المثال لا الحصر- إلى مصطلحين صاحبهما السيد هيكل أحدهما انتشر وأصبح اسما على غير مسمى وهو مصطلح “النكسة” الذي أصبح اسما لأكبر هزيمة في تاريخ الحروب الحديثة سواء من ناحية حجم الأطراف التي خاضتها، أو من ناحية سرعة الحسم، أو من ناحية نتائجها الكارثية وآثارها بعيدة المدى على كافة المستويات والأصعدة. أما المصطلح الثاني، فهو “البصمة الأمريكية”  الذي أورده وكرره في حلقات “مع هيكل”. وهذا المصطلح الأخير صاغه هيكل ليكون غامض الدلالة وزئبقي الخاصية، بحيث يجد المتعامل معه صعوبة في إدراك حدوده أو الوقوف على مضامينه، ويمكن للسيد هيكل أن يتملص في أي وقت مما عناه به، خاصة مع ما حفلت به النصوص المحيطة بهذا المصطلح من جرأة السيد هيكل –المعروفة- على الكلمات يطوعها كيف شاء.

وبدون شك فإن هيكل يشكل ظاهرة غير مسبوقة من ناحية ما يتاح له من منابر إعلامية لا تعرف حدودا ولا نضوبا، فربما هو الوحيد الذي يُعطى من الوقت دون حدود، ودون أن يتاح لأي كان أن يناقشه أو يسأله أو يعلق عليه. إذا ما نظرنا إلى كل البرامج في كل القنوات، فهذا هو البرنامج الوحيد الذي يمتد ساعة من الزمن ويتكرر أسبوعيا على مدى زمني غير محدد، يشاهد المتلقي ويستمع لشخص واحد: يقول ما يشاء .. وبالكيفية التي يريد دون أن يقاطعه أحد أو يتاح لأحد أن يناقشه أو يحاججه أو يناقضه وينتقده.. يتاح له بذلك مزيد من الانتشار ومن نشر آرائه وأفكاره ودعاواه. لهذا فإن أي رد على هيكل –إن أمكنه أن يخترق السدود- لن يحظى إلا بالحد الأدنى من البروز الإعلامي ما يجعله في عداد المهمل إعلاميا، ولا يحظى حتى بفرصة ضئيلة من الانتشار. هذه إحدى المعضلات التي يواجهها كل من يحاول التعامل مع كتابات وأحاديث  السيد هيكل، وهذا هو أحد مظاهر فقدان التوازن المنشود في البحث عن الحقيقة وإذاعتها بين الناس.

ثمة أمر آخر أحسب أن علي إيضاحه منذ البداية، وهو أن السيد هيكل حرص في بداية أحاديثه المذكورة أن يحدد المعايير التي يريد من المشاهد أن يتقيد بها. سأتطرق إلى هذه المعايير كل في حينه، ولكن أحد هذه المعايير –الذي بدأ به هيكل أحاديثه- أنه أراد منا أن نحتكم إلى خمسة أعداد فقط من “الأهرام” للحكم على أداء الإعلام المصري عامة والأهرام خاصة، وبالأخص أداءه هو أثناء مشوار حياته في مهنة الصحافة، خاصة دوره إبان الحقبة الناصرية والتي تجاوز فيها دور الصحفي إلى دور المشارك في صنع القرار، وربما ما يمليه ذلك من ضرورة تحمل المسؤولية عن القرارات التي كان مشاركا فيها (استشارة أو دعما أو صياغة أو إيحاء ….).

خمسة أعداد فقط من الأهرام اختار هو من عناوينها ما شاء وترك ما لا يريد، وتغاضى وتجاهل عن المتن والمضمون المندرج تحت هذه العناوين. كما يريد منا –نحن المشاهدين- أن ننسى سنوات من الردح الإعلامي الدعائي الذي واكب الحقبة الناصرية كلها والذي قلب الحقائق وصاغ هالات من التبجيل والتأليه على شخصيات بعينها، كما وصم بالخيانة والعار كل من خالف أو كان له رأي آخر. يريد منا أن ننسى الدور غير البناء –إن لم نقل الهدام- الذي مارسته الماكنة الإعلامية الناصرية التي كان هيكل يلعب دور القطب والمحرك فيها. إعلام روج لسياسات فاشلة خرقاء، وأسقط دعوات التريث والتوازن، بحث عن المعاذير لهذه السياسات يوم ثبت فشلها، ولم يرحم من خالفها حتى يوم انهزمت هذه السياسات. إنه الإعلام الذي قسم العالم العربي إلى معسكر تقدمي وآخر رجعي، وهو الإعلام الذي جعل العالم العربي في غيبوبة كاملة عن معطيات مصيرية مثل نتائج  حرب السويس عام 1956، التي غلفت في قالب انتصار مزعوم حتى اصطدم العالم العربي بهذه النتائج في عام 1967، وهو الإعلام الرسمي الذي نفذ -بحرفية تفوق بها حتى على نفسه- سياسات الحقبة الناصرية التي أوصلت العرب إلى ما كانوا عليه من تفرق وضعف عشية حرب يونيو، والتي أعطت إسرائيل الفرصة الذهبية لتحقيق انتصار ما زالت آثاره تتبدى، وما زالت الأمة تدفع أثمانه باهضة، وهو الإعلام الذي اختصر الهزيمة أو النصر في تنحي الرئيس أو عودته عن التنحي غاضا الطرف عن أشلاء الجيوش العربية المتنائرة وكرامة الأمة المهدرة.

نعم يريد هيكل أن ننسى كل ما حفل به الإعلام المصري ولا نتذكر إلا ما كان في أيام خمسة، بل وفي أعداد خمسة من الأهرام. لنقرأ ما قاله هيكل وهو يضع هذا المعيار ويحدده بخمسة أعداد من الأهرام لا غير:

“اعتقدت أن هذا الحديث ينبغي أن يكون توضيحا لهذا الموقف موقف الصحافة إزاء 5 يونيو وفي 5 يونيو سنة 1967 وأين كانت وماذا فعلت بالضبط في هذه المعركة؟ لأن هناك جدلا كثيرا جدا. قيل إنه في ذلك الوقت كانت الصحافة بتبشر الناس بأنهم ذاهبون غدا إلى تل أبيب وإنه جاء الوقت لإلقاء إسرائيل في البحر وإن نهاية إسرائيل قد اقتربت وقيلت أشياء كثيرة جدا …………

ولذلك أنا كل اللي جايبه معي النهارده هو أعداد الأهرام السابقة على يوم 5 يونيو الخمسة أيام من أول شهر يونيو”

ليس هذا فقط، بل إن هيكل يريد أن تكون هذه الأعداد  الخمسة مقياسا وإثباتا لما يريد قوله ولما يهدف إليه من إخبار “جيل جديد من الشباب” بما “غاب أو غُيِّب” عنه من دور الصحافة المصرية:

“أريد أن أوضح لجيل جديد خصوصا جيل جديد من الشباب لم يكن معنا في تلك الأيام حقيقة لا بد له أن يكون على اطلاع عليها لأنها أظنها غابت أو غيبت عنه، غيبت عنه قصدا في اعتقادي”

لقد مر زمن تغيرت خلاله التيارات والعوامل المؤثرة، وخرج الوعي العربي من دائرة التنويم التي أخضع لها والتي لم يكن خلالها يسمع ويصدق إلا صوتا واحدا وينكر ما عداه . ومع تغير الزمن وتنامي الوعي استجدت مصادر للمعلومات، لم تكن متاحة أمام المواطن العربي، وهذا ما أزعج السيد هيكل، فعاد من جديد ليكرر الصياغة التي سبق أن قدمها –بدل المرة مرات- عن حرب يونيو/ حزيران 1967، ونظريته عن التدخل العسكري الأمريكي مدعيا –من جديد- أن أمريكا استخدمت قاعدة “الملاحة/ويلاس” الواقعة بملاصقة مدينة طرابلس والتي تبعد عن المدن الرئيسة المصرية بالمسافات التالية:

  • القاهرة:               1747 كم          1080 ميل         943 ميل جوي
  • الإسكندرية:          1588 كم          987 ميل           858 ميل جوي

وسنتحدث عن سبب إيرادنا هذه المسافات في وقت لاحق.

بمجرد انتهاء حرب يونيو 1967، تهاوت أكذوبة استخدام قاعدة “الملاحة/ويلاس”، ولم تزد المعلومات التي تم كشفها منذئذ إلا التأكيد على أنها لم تكن سوى أكذوبة تخلى عنها جميع من شارك في إطلاقها. وحده السيد هيكل الذي ظل واقعا في معضلة عدم القدرة على تجاوز هذه الكذبة.

على ضوء ما ورد من ادعاءات في أحاديث السيد هيكل حول هذه المسألة وغيرها من المسائل التي يهمنا إبراز الحقائق حولها وإيضاحها، وإزالة ما علق بها من أكاذيب وأوهام، وما ران عليها من غبن نتيجة للصمت الرسمي الليبي إبان العهد الملكي، ونتيجة للادعاءات الباطلة التي وجد فيها انقلابيو سبتمبر ما يمكنهم أن يبرروا بها انقلابهم وأن يجدوا من خلالها الدعم من خارج الحدود.

من أجل ذلك كله تأتي هذه المقالة وما يتبعها إن شاء الله.

 

صفحة 2 من 212