هيكل و الافتراء على التاريخ – الحلقة الأولى

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

“مع هيكل”: معضلة تَجَاوز كذبة

عاد الصحافي المصري المشهور السيد محمد حسنين هيكل إلى الحديث عن حرب يونيو/حزيران 1967 عبر برنامج “مع هيكل” الذي يبث من قناة الجزيرة الفضائية. وهي ليست المرة الأولى التي يتطرق فيها هيكل لمجريات هذه الحرب ويضمنها رؤاه الخاصة حولها، فقد سبق له أن تطرق إلى هذه الحرب من خلال المقالات والكتب المتعددة التي كتبها أو من خلال المقابلات الإذاعية والمرئية العديدة التي أجراها.

وقد يكون من الضروري أن أوضح منذ البداية أنني لست بصدد التعليق على كل ما أورده السيد هيكل في أحاديثه المتشعبة حول هذه الحرب، ذلك لأن هذا يتطلب جهدا ووقتا لا أدعي أنني احوز عليهما. إن تشعب المواضيع والأحداث التي طرحها السيد هيكل مع عدم وجود منهجية واضحة لهذا الطرح، تجعل مهمة من يقوم بالمتابعة والتعليق عسيرة ومضنية، خاصة مع قيام هيكل بتكرار طرح المواضيع والأحداث حسبما يروق له. ولهذا فقد لا نجد مندوحة من التكرار أيضا حسبما تمليه المواضيع المطروحة، ومقدما أستميح القراء عذرا إذا ما اضطررت إلى ذلك.

كما أنه من المناسب أن أعترف بصعوبة التعامل مع ما يقوله السيد هيكل أو يكتبه، فالرجل –كما هو معروف وذائع- يعد من أساطين تطويع الكلمة وتحميلها من المضامين ما لا يجرؤ عليه غيره، وهو أكثر من عرفنا -في عالم الصحافة العربية- براعة وحرفية في اختلاق واصطناع المصطلحات التي تسمي الأشياء بغير مسمياتها ويحتكر وحده تحديد ما تعنيه. وحتى أكون أكثر وضوحا أشير -على سبيل المثال لا الحصر- إلى مصطلحين صاحبهما السيد هيكل أحدهما انتشر وأصبح اسما على غير مسمى وهو مصطلح “النكسة” الذي أصبح اسما لأكبر هزيمة في تاريخ الحروب الحديثة سواء من ناحية حجم الأطراف التي خاضتها، أو من ناحية سرعة الحسم، أو من ناحية نتائجها الكارثية وآثارها بعيدة المدى على كافة المستويات والأصعدة. أما المصطلح الثاني، فهو “البصمة الأمريكية”  الذي أورده وكرره في حلقات “مع هيكل”. وهذا المصطلح الأخير صاغه هيكل ليكون غامض الدلالة وزئبقي الخاصية، بحيث يجد المتعامل معه صعوبة في إدراك حدوده أو الوقوف على مضامينه، ويمكن للسيد هيكل أن يتملص في أي وقت مما عناه به، خاصة مع ما حفلت به النصوص المحيطة بهذا المصطلح من جرأة السيد هيكل –المعروفة- على الكلمات يطوعها كيف شاء.

وبدون شك فإن هيكل يشكل ظاهرة غير مسبوقة من ناحية ما يتاح له من منابر إعلامية لا تعرف حدودا ولا نضوبا، فربما هو الوحيد الذي يُعطى من الوقت دون حدود، ودون أن يتاح لأي كان أن يناقشه أو يسأله أو يعلق عليه. إذا ما نظرنا إلى كل البرامج في كل القنوات، فهذا هو البرنامج الوحيد الذي يمتد ساعة من الزمن ويتكرر أسبوعيا على مدى زمني غير محدد، يشاهد المتلقي ويستمع لشخص واحد: يقول ما يشاء .. وبالكيفية التي يريد دون أن يقاطعه أحد أو يتاح لأحد أن يناقشه أو يحاججه أو يناقضه وينتقده.. يتاح له بذلك مزيد من الانتشار ومن نشر آرائه وأفكاره ودعاواه. لهذا فإن أي رد على هيكل –إن أمكنه أن يخترق السدود- لن يحظى إلا بالحد الأدنى من البروز الإعلامي ما يجعله في عداد المهمل إعلاميا، ولا يحظى حتى بفرصة ضئيلة من الانتشار. هذه إحدى المعضلات التي يواجهها كل من يحاول التعامل مع كتابات وأحاديث  السيد هيكل، وهذا هو أحد مظاهر فقدان التوازن المنشود في البحث عن الحقيقة وإذاعتها بين الناس.

ثمة أمر آخر أحسب أن علي إيضاحه منذ البداية، وهو أن السيد هيكل حرص في بداية أحاديثه المذكورة أن يحدد المعايير التي يريد من المشاهد أن يتقيد بها. سأتطرق إلى هذه المعايير كل في حينه، ولكن أحد هذه المعايير –الذي بدأ به هيكل أحاديثه- أنه أراد منا أن نحتكم إلى خمسة أعداد فقط من “الأهرام” للحكم على أداء الإعلام المصري عامة والأهرام خاصة، وبالأخص أداءه هو أثناء مشوار حياته في مهنة الصحافة، خاصة دوره إبان الحقبة الناصرية والتي تجاوز فيها دور الصحفي إلى دور المشارك في صنع القرار، وربما ما يمليه ذلك من ضرورة تحمل المسؤولية عن القرارات التي كان مشاركا فيها (استشارة أو دعما أو صياغة أو إيحاء ….).

خمسة أعداد فقط من الأهرام اختار هو من عناوينها ما شاء وترك ما لا يريد، وتغاضى وتجاهل عن المتن والمضمون المندرج تحت هذه العناوين. كما يريد منا –نحن المشاهدين- أن ننسى سنوات من الردح الإعلامي الدعائي الذي واكب الحقبة الناصرية كلها والذي قلب الحقائق وصاغ هالات من التبجيل والتأليه على شخصيات بعينها، كما وصم بالخيانة والعار كل من خالف أو كان له رأي آخر. يريد منا أن ننسى الدور غير البناء –إن لم نقل الهدام- الذي مارسته الماكنة الإعلامية الناصرية التي كان هيكل يلعب دور القطب والمحرك فيها. إعلام روج لسياسات فاشلة خرقاء، وأسقط دعوات التريث والتوازن، بحث عن المعاذير لهذه السياسات يوم ثبت فشلها، ولم يرحم من خالفها حتى يوم انهزمت هذه السياسات. إنه الإعلام الذي قسم العالم العربي إلى معسكر تقدمي وآخر رجعي، وهو الإعلام الذي جعل العالم العربي في غيبوبة كاملة عن معطيات مصيرية مثل نتائج  حرب السويس عام 1956، التي غلفت في قالب انتصار مزعوم حتى اصطدم العالم العربي بهذه النتائج في عام 1967، وهو الإعلام الرسمي الذي نفذ -بحرفية تفوق بها حتى على نفسه- سياسات الحقبة الناصرية التي أوصلت العرب إلى ما كانوا عليه من تفرق وضعف عشية حرب يونيو، والتي أعطت إسرائيل الفرصة الذهبية لتحقيق انتصار ما زالت آثاره تتبدى، وما زالت الأمة تدفع أثمانه باهضة، وهو الإعلام الذي اختصر الهزيمة أو النصر في تنحي الرئيس أو عودته عن التنحي غاضا الطرف عن أشلاء الجيوش العربية المتنائرة وكرامة الأمة المهدرة.

نعم يريد هيكل أن ننسى كل ما حفل به الإعلام المصري ولا نتذكر إلا ما كان في أيام خمسة، بل وفي أعداد خمسة من الأهرام. لنقرأ ما قاله هيكل وهو يضع هذا المعيار ويحدده بخمسة أعداد من الأهرام لا غير:

“اعتقدت أن هذا الحديث ينبغي أن يكون توضيحا لهذا الموقف موقف الصحافة إزاء 5 يونيو وفي 5 يونيو سنة 1967 وأين كانت وماذا فعلت بالضبط في هذه المعركة؟ لأن هناك جدلا كثيرا جدا. قيل إنه في ذلك الوقت كانت الصحافة بتبشر الناس بأنهم ذاهبون غدا إلى تل أبيب وإنه جاء الوقت لإلقاء إسرائيل في البحر وإن نهاية إسرائيل قد اقتربت وقيلت أشياء كثيرة جدا …………

ولذلك أنا كل اللي جايبه معي النهارده هو أعداد الأهرام السابقة على يوم 5 يونيو الخمسة أيام من أول شهر يونيو”

ليس هذا فقط، بل إن هيكل يريد أن تكون هذه الأعداد  الخمسة مقياسا وإثباتا لما يريد قوله ولما يهدف إليه من إخبار “جيل جديد من الشباب” بما “غاب أو غُيِّب” عنه من دور الصحافة المصرية:

“أريد أن أوضح لجيل جديد خصوصا جيل جديد من الشباب لم يكن معنا في تلك الأيام حقيقة لا بد له أن يكون على اطلاع عليها لأنها أظنها غابت أو غيبت عنه، غيبت عنه قصدا في اعتقادي”

لقد مر زمن تغيرت خلاله التيارات والعوامل المؤثرة، وخرج الوعي العربي من دائرة التنويم التي أخضع لها والتي لم يكن خلالها يسمع ويصدق إلا صوتا واحدا وينكر ما عداه . ومع تغير الزمن وتنامي الوعي استجدت مصادر للمعلومات، لم تكن متاحة أمام المواطن العربي، وهذا ما أزعج السيد هيكل، فعاد من جديد ليكرر الصياغة التي سبق أن قدمها –بدل المرة مرات- عن حرب يونيو/ حزيران 1967، ونظريته عن التدخل العسكري الأمريكي مدعيا –من جديد- أن أمريكا استخدمت قاعدة “الملاحة/ويلاس” الواقعة بملاصقة مدينة طرابلس والتي تبعد عن المدن الرئيسة المصرية بالمسافات التالية:

  • القاهرة:               1747 كم          1080 ميل         943 ميل جوي
  • الإسكندرية:          1588 كم          987 ميل           858 ميل جوي

وسنتحدث عن سبب إيرادنا هذه المسافات في وقت لاحق.

بمجرد انتهاء حرب يونيو 1967، تهاوت أكذوبة استخدام قاعدة “الملاحة/ويلاس”، ولم تزد المعلومات التي تم كشفها منذئذ إلا التأكيد على أنها لم تكن سوى أكذوبة تخلى عنها جميع من شارك في إطلاقها. وحده السيد هيكل الذي ظل واقعا في معضلة عدم القدرة على تجاوز هذه الكذبة.

على ضوء ما ورد من ادعاءات في أحاديث السيد هيكل حول هذه المسألة وغيرها من المسائل التي يهمنا إبراز الحقائق حولها وإيضاحها، وإزالة ما علق بها من أكاذيب وأوهام، وما ران عليها من غبن نتيجة للصمت الرسمي الليبي إبان العهد الملكي، ونتيجة للادعاءات الباطلة التي وجد فيها انقلابيو سبتمبر ما يمكنهم أن يبرروا بها انقلابهم وأن يجدوا من خلالها الدعم من خارج الحدود.

من أجل ذلك كله تأتي هذه المقالة وما يتبعها إن شاء الله.

 

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.