هيكل والافتراء على التاريخ –”الأدلة” التي استخدمها هيكل– الحلقة الحادية عشرة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

جـ) برقية السفير المصري في باريس

لا بد أن نعيد التذكير بأن نظرية التدخل الأجنبي في حرب يونيو 1967 كانت موجودة حتى قبل اندلاع الحرب، وكانت أجهزة الدعاية الناصرية تروج لهذه النظرية، وكان هيكل في مركز هذا الترويج وفي صدارته. ولقد رأينا ما ذكره هيكل في أحاديثه عما نشرته الأهرام قبل الحرب بهذا الخصوص، ورأينا أيضا مقدار الشراسة التي واجهت بها الأهرام تصريحات وتوضيحات وزير خارجية ليبيا الدكتور أحمد البشتي.  أما بمجرد حدوث الضربة الجوية الإسرائيلية فقد ابتدأت القيادات المصرية على مختلف مستوياتها تتحدث –حتى فيما بينها- عن نظرية التدخل الأمريكي، وتبحث عن أية شوارد يمكن استخدامها، بل وربما اختراع الشواهد والشوارد التي قد تعزز هذه النظرية. وفي هذا فقد  قام السيد هيكل بنقلنا إلى الأجواء التي سادت غرفة عمليات القيادة العامة وما كان يدور فيها من بحث محموم عما من شأنه أن يؤكد التدخل الأجنبي وعلى وجه التحديد التدخل الأمريكي انطلاقا من أن الضربة الجوية كانت أكبر مما هو متوقعا، وأن الخسائر كانت كارثية بمعنى الكلمة الأمر الذي سيصعب تبريره دون إقحام التدخل الخارجي وبوجه خاص التدخل الأمريكي.

وقتها لم يتوقف أحد للحديث عن الأسباب التي مكنت إسرائيل من توجيه هذه الضربة ومن ثم إحداث هذه الخسائر الكارثية التي حسمت المعركة منذ لحظاتها الأولى، بل إن جميع أولئك القادة بمن فيهم الرئيس عبدالناصر لم يستطيعوا –آنذاك- أن يدركوا أن تلك الضربة قد مكنت إسرائيل من حسم معركتها مع العرب لأجيال ولعقود ستلحق. لم يتوقف أحد ليتساءل كيف أمكن لإسرائيل أن تقوم بتلك الضربة لأن هذا من شأنه أن يضع كل أركان الحكم الناصري في دائرة المسؤولية التي ترتبت عن سنوات طويلة من الإهمال والتسيب والاستخفاف الذي اقترب من الخيانة. سيكون عبد الناصر أول المسؤولين بفشله في إعداد مصر لمعركة كانت متوقعة، ولسياساته التي حالت دون توافر إمكانات الاستفادة من الطاقات العربية وتوجيهها للمعركة، وعن سنوات من المعارك (الدانكشوتية) طالت على وجه الخصوص الأشقاء العرب، وعن قرارته التي اتخذها بالوقوع في شراك معلومات زرعتها أجهزة العدو؛ هذا إذا أحسنا النية بأنه وقع في شرك، وعلى أساس تلك القرارات اختلق الأزمة وألحقها بالتحشد الاستعراضي للقوات المسلحة المصرية والإداراة الاستعراضية الإعلامية لمعركة حربية، ولقراره الكارثي بحرمان مصر من المبادأة ومن فرص توجيه الضربة الأولى أو على الأقل توقي الضربة الإسرائيلية، والأدهى السماح لهيكل أن ينشر هذا القرار على صفحات الأهرام. أجل إن الأسباب التي مكنت إسرائيل من جعل تلك الضربة الجوية بتلك الضخامة كانت واضحة ومعروفة للقيادات المصرية سواء في رئاسة الجمهورية أو التي كانت موجودة في غرفة العمليات وقتها، لكن الاعتراف بذلك كان يعني الاعتراف بالسجل الطويل من الخطايا التي ارتكبها الحكم الناصري بدءا من ترك عملاء وجواسيس إسرائيل يمرحون في مصر في أوساط القوات المسلحة ذاتها وعلى الأخص في داخل قيادات القوات الجوية، مرورا بنشر أسرار تحركات القوات المصرية وتشكيلاتها وقياداتها على صفحات الأهرام، ومرورا بإلغاء حالة الطوارئ المعلنة، وعلى وجه الخصوص قرار وقف عمل الدفاع الجوي المصري في تلك الساعات الحرجة وذلك تأمينا للطائرة التي كانت تقل المشير عبدالحكيم عامر الذي كان في طريقه لزيارة إحدى القواعد الجوية في سيناء والتي كان من المفترض أن يتم تحويلها إلى مركز القيادة الأمامية.

لم يكن سهلا على أحد الاعتراف بذلك، فقد كانت كل أطراف القيادة المصرية مشغولة –في تلك الساعات الحرجة- بإبعاد التهمة، كل عن نفسه، بل إننا نرى -مما أورده السيد هيكل- أن عبدالناصر قد بدأ منذ الساعات الأولى للمعركة في تصفية حساباته مع المشير عبدالحكيم عامر؛ وكأن المعركة قد نشبت خصيصا لهذا الأمر!!  لنقرأ ما قاله السيد هيكل:

” لكن جمال عبد الناصر أظنه أنه بدأ يقلق لكن إلحاحه في ذلك الوقت على عبد الحكيم  أنه تقريبا، الاثنان اتفقوا في روايتهم لي في الحوادث أن جمال عبد الناصر كان دائم التكرار بيقول لعبد الحكيم أنا عايز أعرف إيه هي الحقيقة، إيه التقارير، إيه الصورة الحقيقية لما جرى في الطائرات، كم حجم الخسائر؟ لأنهم بدؤوا يقولون كلاما، بدأ عبد الحكيم يقول، وأظن هنا في نقطة من النقط المهمة جدا أن عبد الحكيم بدأ يقول إن حجم الضربة الجوية أكثر مما تتحمله طاقة إسرائيل، هذه مش إسرائيل هذا حد ثاني، وبعدين حصلت حدة في الموقف، جمال عبد الناصر بيقول له الحد الثاني مين؟ بيقول له الأميركان. بيقول له الأميركان شوف أنا -وهذا ثابت من كل الروايات- قال له أنا لا أصدق في المعلومات اللي عندي -وأظن هنا كان  غلطان جمال عبد الناصر- في المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي وعلى أي حال أنا مستعد أصدقك أن الأميركان دخلوا لكن أطلب منك حاجتين -ده كان قدام كل الناس اللي موجودين- أطلب منك إما أن تأتي لي بحطام طائرة أميركية ضربتوها وإما أن تأتي لي بطيار أميركي أسير وأما دون هذا فأنا مش مستعد أصدق حكاية الأميركان موجودين، وأنا لا أستطيع أن أطلع قدام الناس وأقول لهم والله الأميركان موجودين بدون أن يكون لدي دليل…”

عبدالناصر الذي يصوره هيكل بأنه كان يبحث عن الحقيقة ويستبعد التدخل الأمريكي، والذي كان يؤكد في حديثه الموجه إلى المشير عامر بأن الأمريكان لا يمكن أن يكونوا مشتركين وفقا للمعلومات التي لديه: “معلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي”  ومن حقنا أن نسأل لماذا لم تكن هذه المعلومات متوافرة أيضا عند القائد العام الذي كان عليه أن يقود المعركة؟! .. ونتساءل أيضا من أين هذه المعلومات .. ثم نلاحظ أن عبدالناصر يبدو واثقا من صحة معلوماته بأن الأمريكان “لا يمكن يكونوا داخلين في العملية دي” ويشدد على هذا في محاورته مع المشير عامر.. ثم يغير رأيه بعد فترة لا تتجاوز ساعات قليلة!!

عبد الناصر الواثق من عدم التدخل الأمريكي هو نفسه الذي قام –بعد ساعات قليلة- بالاتصال بالملك الحسين ليقنعه بتلفيق أكذوبة مشاركة بريطانيا وأمريكا في المعارك الجوية. الفارق بين الموقفين واضح: في الأولى كان المهم وضع المشير في موقف المساءلة؛ وهي –على ما يبدو- فرصة لم يسبق أن سنحت لعبد الناصر قبل هذا، أما في الثانية فهي محاولة لضرب عصفورين بحجر واحد: إشراك الملك الحسين في كذبة التخل الأمريكي-البريطاني، والقيام بعملية حفظ ماء الوجه لإنقاذ الهالة التي أحيط بها عبدالناصر وللتمهيد لإنقاذ حكمه من الانهيار بسبب هزيمة مروعة وكارثية في معركة طبل لها كثيرا واستخدمها لإذلال كل من حوله من حكام وشعوب ولكنه لم يفعل شيئا حقيقيا من أجلها. نقول هذا لنؤكد أن عبدالناصر في تلك اللحظات كان مشتركا بصورة فعلية للترويج لأكذوبة المشاركة الأجنبية.  لكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن موقف الرئيس عبدالناصر قد تذبذب بين المطالب بإثباتات حقيقية ملموسة لتأكيد المشاركة الأمريكية، والمصدق لكل ما ورد إليه دون أي تمحيص، ثم قام بنفسه بفبركة الخبر الذي حاول أن يشرك الملك الحسبن في نشره، وقد كان خطاب التنحي قد شهد آخر مرة أشار فيها عبدالناصر بطريقة غامضة إلى موضوع مشاركة أطراف أخرى في المعركة. بعد ذلك تراجع الرئيس عبدالناصر عن هذه الادعاءات، ولم يعد يذكرها أبدا. وما ينبغي أن نكرر ذكره هو أنه لا الرئيس عبدالناصر ولا أي زعيم آخر قد أشار من قريب أو بعيد إلى استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدتها في ليبيا منطلقا للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية. وحده السيد هيكل الذي أطلق تلك الفرية ولم يستطع أن يتجاوزها أو يتراجع عنها، وهذا بيت قصيدنا وسبب مقالاتنا هذه.

ما نقله لنا هيكل عما كان يجري حينها في غرفة عمليات القيادة المصرية، يوضح أن هذه القيادة لم تكن منشغلة بتدارك المعركة البرية في سيناء التي باتت القوات المصرية تواجهها وهي لا تفتقر إلى الغطاء الجوي فحسب، بل وإلى القيادة المتفرغة لإدارة معركة يتعلق عليها مصير أمة بأكملها، لأن القيادة كانت منشغلة عن المعركة بإجراء اتصالات شارك فيها الرئيس عبدالناص والمشير عامر والفريق صدقي محمود بحثا عن قشة تدعم نظرية التدخل الأمريكي. فمن بقي لمواجهة الكارثة الحقيقية؟!!

لكن كل هذه الاتصالات باءت بالفشل في العثور على القشة المطلوبة: فلم يستطع أحد أن يفي بمطالب عبدالناصر بإثبات التدخل الأمريكي عن طريق حطام طائرة أمريكية أو طيار أمريكي أسير، كما عجزت الاتصالات عن الحصول على إفادة أي طيار مصري بأنه شاهد طائرة أمريكية في الأجواء المصرية في ذلك اليوم.

لكن، وبحسب رواية السيد هيكل، لم يمض ذلك اليوم .. بل لم تمض سوى ساعات حتى تحصلت القيادة المصرية على ما اعتبره السيد هيكل إثباتا للمشاركة الأمريكية في الضربة الجوية الإسرائيلية.  لم يكن هذا الإثبات طائرة أمريكية أسقطتها الدفاعات الجوية المصرية .. ولا طيارا أميركيا أسيرا .. ولكن هذا “الإثبات”  كان رسالة من السفير المصري في باريس، وأن الرئيس عبدالناصر بنفسه قد أخبر هيكل عن وصولها. هكذا قدم السيد هيكل هذه الرسالة “الإثبات” ضمن مرافعته البائسة:

“وبعدين الساعة السابعة، ستة ونصف سبعة كده كلمني بالتلفون، كلمني بالتلفون وقال لي على رسالة جاءت من باريس، السفير عبد المنعم النجار في ذلك الوقت هو سفيرنا في باريس، سفير الجزائر صديقه في باريس، سفير الجزائر قابل الجنرال ديغول رئيس الجمهورية الفرنسية في ذلك الوقت، والجنرال شارل ديغول هو من هو، فالجنرال ديغول بيقول للسفير، بيسأل سفير الجزائر عن آخر التطورات أو سفير الجزائر بيسأل الرئيس الفرنسي عن آخر التطورات، فالرئيس الفرنسي يقول لسفير الجزائر بيقول له.. وقف ديغول شوية كده وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”

“عبد المنعم النجار يبدو أنه وجد أن هذه المعلومات لا تستطيع أن تنتظر برقية فعمل حاجتين، الحاجة الأولانية أنه كلم في التلفون السفير محمد رياض وكيل وزارة الخارجية والمساعد الأول في ذلك الوقت لوزير الخارجية محمود رياض وقال له إنه حصل كذا وكذا وكذا، وقال له إنه تكلم في التلفون لكنه حيبعث البرقية، قدامي برقية عبد المنعم النجار، بيقول، قابل سفير الجزائر الرئيس ديغول، أبلغه بوجهة نظر الجزائر في قضية فلسطين واشتراك الجزائر في قواتها المسلحة في الحرب الدائرة وذلك بناء على تكليف من الرئيس بومدين، أشار ديغول بضرورة حل المشكلة جذريا مع مراعاة حقوق اللاجئين، يعتبر أن إسرائيل هي المعتدية وسوف يمتنع عن تقديم أي معونة تماشيا مع ما أعلنته فرنسا من قبل، كان هو ديغول قال إن فرنسا سوف تحدد موقفها من أي حرب مقبلة على أساس من يطلق الرصاصة الأولى، فهو هنا بيقول عارف الإسرائيليين أنه.. وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (كلمة أجنبية)، موقف فرنسا على الحياد وسوف تظل بعيدا في الوقت الحاضر حتى لا تزج في المشكلة، في مشكلة جاية في العالم العربي ولكنها سوف تكون إيجابية في الاشتراك في حل جذري عادل مستقبلا. الرئيس بيحكي لي هنا بيقول لي، الرئيس عبد الناصر بقى بيكلمني هنا وبيقول لي إنه هو بيشك، أنا بحقيقي أنا شفت الحيرة اللي أو بلاش أقول شفتها لأني ما شفتهاش لكن سمعت على التلفون، الحيرة عند رجل يجد موقفا لا تفسير له في رأيه، لا هو قابل أن ده جهد إسرائيل لوحدها مش قادر يخش فيه يدخل رأسه ولا يعقله لأنه ببساطة أكبر لكنه وبعدين عنده وزير الدفاع ونائب القائد الأعلى بيقول نفس الكلام بيقول إنه حاجة أكثر أنه لا، دول كانوا موجودين ومشتركين وعنده قائد الطيران مصر على أنه في جهد أميركي، أنه في جهد أميركي مباشر، وهنا أنا أظن أنه -ودي مسألة نقطة مهمة جدا- أنه هنا صدقي محمود كان في ذهنه أيضا موضوع سنة 1956، وهذه البرقية قدام جمال عبد الناصر ما كانتش كافية تغير رأيه لكن أقصد هذه البرقية ما كانتش عنده لما كلمني لكن كان عنده الرسالة اللي عبد المنعم النجار أبلغها لمحمد رياض علشان يديها لمحمود رياض واتصال محمود رياض لكي يبلغ بهذه المعلومات أن أميركا في اللعبة، موجودة في اللعبة نقلا عن الجنرال ديغول

قبل أن نشرع في مناقشة المحتويات التي يزعمها هيكل لبرقية السفير المصري في باريس السيد عبدالمنعم النجار، ومحاولته -من خلال هذه البرقية- إقحام الجنرال شارل ديغول والزعم أن ما قاله ديغول إلى السفير الجزائري في باريس هو إثبات آخر لما يدعيه هيكل حول استخدام قاعدة “ويلاس/ الملاحة” في طرابلس في الضربة الجوية الإسرائيلية يوم الخامس من يونيو 1967، قبل أن نناقش محتويات هذه البرقية لا بد أن نوضح النقاط المنهجية والموضوعية التالية:

  • أننا لا نستطيع التسليم بأن ما قاله هيكل عن تلك البرقية يعكس بدقة محتوياتها؛ ذلك لأن السيد هيكل لم يتكرم بعرض نص البرقية على المشاهدين، بل اكتفى بالقول بأن الوثيقة أمامه. لكننا –مع هذه العلة البينة- سنناقش محتوى البرقية والرتوش التي بثها السيد هيكل في جوانبها.
  •  أننا لا نقبل أن نعتبر الكلام الذي وضعه هيكل على فم الرئيس ديغول هو حقيقة ما قاله ديغول؛ فهيكل كان بنقل عن السفير المصري الذي كان هو الآخر ينقل عن السفير الجزائري وهو بدوره الذي نقل عن ديجول، هذا إذا صحت الرواية كلها.

إن هناك تناقضا واضحا في وصف هيكل لمجريات مقابلة السفير الجزائري للرئيس ديجول، على سبيل المثال يقول هيكل: ” فالجنرال ديغول بيقول للسفير، بيسأل سفير الجزائر عن آخر التطورات أو سفير الجزائر بيسأل الرئيس الفرنسي عن آخر التطورات،”  فمن سأل من؟ هذه العبارة تعني أحد أمرين: فإذا كانت هذه العبارة واردة في برفية السفير المصري فهو غير متأكد مما ينقله ما يخل بدقة النقل، أو ان هذه المجريات لم ترد في برقية السفير المصري وإنما هي من عنديات هيكل، فعلى هذه الحالة يمكننا قياس مصداقية رواية هيكل ودقتها. لكن هيكل يعود فيناقض نفسه ويحزم أمره فيجزم أن سفير الجزائر كان مكلفا لإبلاغ رسالة من الرئيس بومدين إلى ديغول، هكذا ورد نص هيكل  “أبلغه بوجهة نظر الجزائر في قضية فلسطين واشتراك الجزائر في قواتها المسلحة في الحرب الدائرة وذلك بناء على تكليف من الرئيس بومدين” هذا التناقض يدلنا على أحد أمرين: إما أن هيكل لم تكن أمامه برقية مكتوبة من السفير المصرى، أو أن هيكل يتصرف على هواه بمحتويات البرقية ويطوعها كي تخدم أغراضه ومزاعمه. ويصدق هذا أيضا على النقطة التالية.

  •  الأمر الآخر الذي ينبغي ألا يفوتنا، أن هيكل بدا في بعض ما يقوله أنه لا ينقل فقط عن برقية مكتوبة من السفير المصري، بل جاءت روايته وكأنه هو شخصيا كان حاضرا مع السفير الجزائري ويصف لنا مشاهد من ذلك اللقاء. مثال على ذلك هذه العبارة التي أوردها هيكل: “، فالرئيس الفرنسي يقول لسفير الجزائر بيقول له.. وقف ديغول شوية كده وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم” عبارة ” وقف ديغول شوية كده”  لا يمكن أن تكون واردة في برقية السفير المصري الذي كان ينقل –سماعا- عن سفير الجزائر، فلماذا يضيفها هيكل؟ هل لمحاولة إضفاء مصداقية على ما يقول؟ أم لتتبيل ما يقوله بشيء من اللمسات الدرامية؟ .. فهو في الحالتين يكذب ويخدع المشاهدين.
  • إذا كانت محتويات مقابلة السفير الجزائري هي حقيقة كما أوردها هيكل، وإذا كان الاستنتاج الخطير الذي استنتجه هيكل من ذلك النص هو استنتاج صحيح (أن ديغول يقر بالتدخل العسكري الأمريكي)، فلماذا لم نسمع بأية محاولة من السفير المصري في باريس لاستجلاء الأمر بمقابلة الرئيس ديجول أو عن طريق الخارجية الفرنسية؟، ولماذا لم يورد هيكل ما تحصل عليه السفير المصري من ردود؟. إن عدم قيام السفير المصري بذلك يكشف بجلاء أن الأمر لم يؤخذ – يومها- بما يزعمه هيكل على أنه إقرار من ديجول بتدخل أمريكي. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فلم نسمع من الرئيس ديجول –طيلة حكمه- ولا من الحكومة الفرنسية ما يؤيد مزاعم هيكل.
  • للعلم فإن ديجول قد اشتهر بأمرين اولهما: مناصبته العداء للنفوذ والهيمنة الأمريكية ومقاومته لها لدرجة اتخاذ إجراءات فيما يتعلق بعضوية فرنسا في الحلف الأطلسي تحديا لسيطرة أمريكا على الحلف، ولدرجة قيام السياسة الفرنسية (الديجولية) إلى السعي لاستقلال أوروبا عن النفوذ الأمريكي؛ ولذلك فقد كانت أمام ديغول فرصة نادرة –إذا كان ما ينسبه له هيكل صحيحا- لم يستغلها للنيل من أمريكا، وهذا ما لا يعرف عن ديجول، وثانيهما: أن ديغول كان مشهورا بصراحته في التعبير عن آرائه ومواقفه لدرجة أخرجته –في بعض الأحوال- عن اللياقة الدبلوماسية، وجرّت عليه بعض المتاعب . فكيف لم نسمع من ديجول انتقادا لأمريكا لتدخلها العسكري في حرب 1967، وهو الذي اتخذ مواقف محموده بوقف تصدير السلاح الفرنسي إلى إسرائيل، واتخاذ مواقف تدعو إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة.
  • معروف أن السفراء المصريون يكتبون تقاريرهم إلى الخارجية المصرية باللغة العربية، لكن هيكل استخدم عبارة باللغة الفرنسية على أنها من محتويات برقية السفير المصري وعلى أن هذه العبارة منسوبة للرئيس ديغول، وهذه العبارة هي التي استند عليها هيكل واعتبرها بمثابة إقرار من ديغول بالتدخل الأمريكي؛ ومن ثم قرر إقحام الجنرال ديغول في مرافعته البائسة. ولا ندري حقيقة –إذا صحت رواية هيكل حول هذه البرقية وأن ما ورد بها هو كما ذكره- لماذا يستخدم السفير المصري هذه العبارة الفرنسية في برقية باللغة العربية، أما إذا كان استخدام هذه الكلمة من عند هيكل فهذا إخلال واضح بدقة النقل، لا يشفع فيه أن هيكل يريد ان بستعرض بعضا من التعبيرات الفرنسية ربما ليضفي شيئا من المصداقية على روايته.
  • يبدو أننا لسنا الوحيدين الذين استشكلت عليهم العبارة الفرنسية الواردة في كلام هيكل: ذلك لأن أعضاء فريق الجزيرة الذين فرّغوا تسجيلات هيكل وقاموا بطباعتها قد وجدوا أنفسهم في حيرة من هذه العبارة فأشاروا لها بين قوسين على أنها (كلمة أجنبية)، وعمل هيكل كل جهده لإعطاء الانطباع أن هذه العبارة وردت حرفيا على لسان ديغول، وقد أوردها هيكل مرتين … هكذا:

“وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”

” وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (كلمة أجنبية)”

وينبغي أن نلاحظ ان هيكل قد أضاف إلى هذه الكلمة عبارة “الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم” في محاولة منه لإيهام القارئ بأن هذه العبارة قد وردت على لسان الرئيس ديغول أيضا، أو أنها تفسير للكلمة الأجنبية التي كرر هيكل نسبتها إلى الرئيس الفرنسي.

  • العبارة التي أوردها هيكل هي (dans le jour)  وترجمتها الحرفية (في اليوم) . وإذا ما عدنا إلى النص الذي أورد فيه هذه العبارة فسنجد الآتي:

“وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (في اليوم) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”

” وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (في اليوم)”

من  الواضح أن هيكل هنا يريد أن يقحم شهادة من الرئيس ديغول بأن أمريكا قد شاركت في القتال إلى جانب إسرائيل. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن هيكل لم يقل إطلاقا بأن أمريكا قد استخدمت قواعدها في أوروبا، كما لم يقل بأن أمريكا استخدمت حاملات الطائرات المنتشرة في البحرين المتوسط والأحمر، بل إن مرافعته كلها كانت مبنية على استخدام القاعدة الأمريكية “ويلاس/ الملاحة” في طرابلس، إذا ما أخذنا هذا في الاعتبار فإن هيكل يريد من محاولة إقحام ديغول أن يوهم المشاهدين بأن ديغول يؤكد ويدعم ادعاءات هيكل بخصوص استخدام امريكا للقاعدة في طرابلس للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية.

لكن حتى إذا سلمنا -من قبيل الجدل- بصحة ما أورده هيكل حول برقية السفير المصري في باريس، وبأمانة ودقة نقل هذا السفير عن زميله السفير الجزائري، وبأمانة ودقة نقل السفير الجزائري لما ورد على لسان الرئيس ديغول، إذا ما سلمنا جدلا بكل ذلك، فهل يمكن حتى أن نستشف من نصوص هيكل أن الرئيس شارل ديغول قد أقر أو قال بأمرين:

  • أولهما: أن هناك تدخلا فعليا قامت به الولايات المتحدة مستخدمة قواتها المسلحة في الضربة الإسرائيلية الجوية.
  • ثانيهما: أن أمريكا قد استخدمت لذلك الغرض قاعدتها الجوية “ويلاس/ الملاحة” منطلقا لطائراتها التي أغارت على الأراضي المصرية.

بخصوص الأمر الأول، فلا نجد ما يدل على أن ديجول يشير من قريب أو بعيد إلى أن أمريكا تدخلت عسكريا في الحرب وأن قوات أمريكية تشارك بعمليات في تلك الحرب. إذا صحت الكلمة المنسوبة إلى ديجول (أن أمريكا “في اليوم”) فإنها لا تفيد ذلك، حتى ولو حاولنا تطويعها وإعطاءها مدلولا مجازيا وتعسفنا في تفسيرها لتقريبها من مراد السيد هيكل؛ فديجول بمواقفه وطبيعته كان سيقول للسفير الجزائري صراحة، وكان سيصرح بهذا في أوقات لاحقة. المدلول المجازي للكلمة قد يعني –في أقرب التفسيرات- أن أمريكا على علم واطلاع وربما موافقة على ما تقوم به إسرائيل. وهذه حقيقة فإسرائيل تصرفت يوم الخامس من يونيو وهي متأكدة أن أمريكا لن تمانع، وربما أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك أن إسرائيل كانت على ثقة بأن أمريكا في نهاية المطاف لن تسمح بإلحاق هزيمة بها.

أما بخصوص الأمر الثاني، فلم يرد في نصوص هيكل ما يمكن أن يستشف منه أن ديغول قد قال للسفير الجزائري بأن الولايات المتحدة قد استخدمت قاعدتها الجوية “ويلاس/ الملاحة” منطلقا للمشاركة الفعلية في الحرب. هذا ما يدعيه السيد هيكل ويحاول أن يوهم المشاهدين بأنه يمتلك  الأدلة والبراهين التي تؤيده. وهذا ما يهمنا تفنيده وإظهار الحقيقة في أن مزاعم هيكل لا تستند على أية معطيات أو ادلة أو براهين، وأن كل ما يقدمه ليس سوى تلفيقات وأوهام وتطويع للكلمات ولي لأعناق المعاني.

وللحديث بقية إن شاء الله

……………………….

  1. مثال على ذلك: عندما كان الرئيس شارل ديجول في زيارة رسمية لكندا، وألقى كلمة فيها تشجيع لاستقلال مقاطعة “كيبك” وانفصالها عن كندا، ثم أنهى كلمته بالهتاف (عاشت كيبك حرة مستقلة)، مما أدى غلى احتجاج كندي واضطرار ديجول لقطع زيارته والعودة غلى فرنسا.
  2. استفسرت من بعض الإخوة الذين يجيدون الفرنسية عن معنى الكلمة، وأجمعوا على ترجمتها الواردة أعلاه، وعرضت عليهم النص الذي أورد هيكل هذه الكلمة في سياقه للبحث عن أي  مغزى مجازي يمكن استقاؤه من النص فأفادوا بأنهم يستبعدون أن يستخدم الرئيس ديجول هذهالعبارة لأنها تنطوي على “سوقية واضحة” علاوة على عدم دقتها.  الذين استشرتهم في هذا الصدد منهم جزائريين ومغاربة ويعملون في وسائل إعلامية مرموقة وأحدهم أستاذا لآداب اللغة الفرنسية في إحدى الجامعات الأمريكية.