هيكل والافتراء على التاريخ –”الأدلة” التي استخدمها هيكل– الحلقة الحادية عشرة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

جـ) برقية السفير المصري في باريس

لا بد أن نعيد التذكير بأن نظرية التدخل الأجنبي في حرب يونيو 1967 كانت موجودة حتى قبل اندلاع الحرب، وكانت أجهزة الدعاية الناصرية تروج لهذه النظرية، وكان هيكل في مركز هذا الترويج وفي صدارته. ولقد رأينا ما ذكره هيكل في أحاديثه عما نشرته الأهرام قبل الحرب بهذا الخصوص، ورأينا أيضا مقدار الشراسة التي واجهت بها الأهرام تصريحات وتوضيحات وزير خارجية ليبيا الدكتور أحمد البشتي.  أما بمجرد حدوث الضربة الجوية الإسرائيلية فقد ابتدأت القيادات المصرية على مختلف مستوياتها تتحدث –حتى فيما بينها- عن نظرية التدخل الأمريكي، وتبحث عن أية شوارد يمكن استخدامها، بل وربما اختراع الشواهد والشوارد التي قد تعزز هذه النظرية. وفي هذا فقد  قام السيد هيكل بنقلنا إلى الأجواء التي سادت غرفة عمليات القيادة العامة وما كان يدور فيها من بحث محموم عما من شأنه أن يؤكد التدخل الأجنبي وعلى وجه التحديد التدخل الأمريكي انطلاقا من أن الضربة الجوية كانت أكبر مما هو متوقعا، وأن الخسائر كانت كارثية بمعنى الكلمة الأمر الذي سيصعب تبريره دون إقحام التدخل الخارجي وبوجه خاص التدخل الأمريكي.

وقتها لم يتوقف أحد للحديث عن الأسباب التي مكنت إسرائيل من توجيه هذه الضربة ومن ثم إحداث هذه الخسائر الكارثية التي حسمت المعركة منذ لحظاتها الأولى، بل إن جميع أولئك القادة بمن فيهم الرئيس عبدالناصر لم يستطيعوا –آنذاك- أن يدركوا أن تلك الضربة قد مكنت إسرائيل من حسم معركتها مع العرب لأجيال ولعقود ستلحق. لم يتوقف أحد ليتساءل كيف أمكن لإسرائيل أن تقوم بتلك الضربة لأن هذا من شأنه أن يضع كل أركان الحكم الناصري في دائرة المسؤولية التي ترتبت عن سنوات طويلة من الإهمال والتسيب والاستخفاف الذي اقترب من الخيانة. سيكون عبد الناصر أول المسؤولين بفشله في إعداد مصر لمعركة كانت متوقعة، ولسياساته التي حالت دون توافر إمكانات الاستفادة من الطاقات العربية وتوجيهها للمعركة، وعن سنوات من المعارك (الدانكشوتية) طالت على وجه الخصوص الأشقاء العرب، وعن قرارته التي اتخذها بالوقوع في شراك معلومات زرعتها أجهزة العدو؛ هذا إذا أحسنا النية بأنه وقع في شرك، وعلى أساس تلك القرارات اختلق الأزمة وألحقها بالتحشد الاستعراضي للقوات المسلحة المصرية والإداراة الاستعراضية الإعلامية لمعركة حربية، ولقراره الكارثي بحرمان مصر من المبادأة ومن فرص توجيه الضربة الأولى أو على الأقل توقي الضربة الإسرائيلية، والأدهى السماح لهيكل أن ينشر هذا القرار على صفحات الأهرام. أجل إن الأسباب التي مكنت إسرائيل من جعل تلك الضربة الجوية بتلك الضخامة كانت واضحة ومعروفة للقيادات المصرية سواء في رئاسة الجمهورية أو التي كانت موجودة في غرفة العمليات وقتها، لكن الاعتراف بذلك كان يعني الاعتراف بالسجل الطويل من الخطايا التي ارتكبها الحكم الناصري بدءا من ترك عملاء وجواسيس إسرائيل يمرحون في مصر في أوساط القوات المسلحة ذاتها وعلى الأخص في داخل قيادات القوات الجوية، مرورا بنشر أسرار تحركات القوات المصرية وتشكيلاتها وقياداتها على صفحات الأهرام، ومرورا بإلغاء حالة الطوارئ المعلنة، وعلى وجه الخصوص قرار وقف عمل الدفاع الجوي المصري في تلك الساعات الحرجة وذلك تأمينا للطائرة التي كانت تقل المشير عبدالحكيم عامر الذي كان في طريقه لزيارة إحدى القواعد الجوية في سيناء والتي كان من المفترض أن يتم تحويلها إلى مركز القيادة الأمامية.

لم يكن سهلا على أحد الاعتراف بذلك، فقد كانت كل أطراف القيادة المصرية مشغولة –في تلك الساعات الحرجة- بإبعاد التهمة، كل عن نفسه، بل إننا نرى -مما أورده السيد هيكل- أن عبدالناصر قد بدأ منذ الساعات الأولى للمعركة في تصفية حساباته مع المشير عبدالحكيم عامر؛ وكأن المعركة قد نشبت خصيصا لهذا الأمر!!  لنقرأ ما قاله السيد هيكل:

” لكن جمال عبد الناصر أظنه أنه بدأ يقلق لكن إلحاحه في ذلك الوقت على عبد الحكيم  أنه تقريبا، الاثنان اتفقوا في روايتهم لي في الحوادث أن جمال عبد الناصر كان دائم التكرار بيقول لعبد الحكيم أنا عايز أعرف إيه هي الحقيقة، إيه التقارير، إيه الصورة الحقيقية لما جرى في الطائرات، كم حجم الخسائر؟ لأنهم بدؤوا يقولون كلاما، بدأ عبد الحكيم يقول، وأظن هنا في نقطة من النقط المهمة جدا أن عبد الحكيم بدأ يقول إن حجم الضربة الجوية أكثر مما تتحمله طاقة إسرائيل، هذه مش إسرائيل هذا حد ثاني، وبعدين حصلت حدة في الموقف، جمال عبد الناصر بيقول له الحد الثاني مين؟ بيقول له الأميركان. بيقول له الأميركان شوف أنا -وهذا ثابت من كل الروايات- قال له أنا لا أصدق في المعلومات اللي عندي -وأظن هنا كان  غلطان جمال عبد الناصر- في المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي وعلى أي حال أنا مستعد أصدقك أن الأميركان دخلوا لكن أطلب منك حاجتين -ده كان قدام كل الناس اللي موجودين- أطلب منك إما أن تأتي لي بحطام طائرة أميركية ضربتوها وإما أن تأتي لي بطيار أميركي أسير وأما دون هذا فأنا مش مستعد أصدق حكاية الأميركان موجودين، وأنا لا أستطيع أن أطلع قدام الناس وأقول لهم والله الأميركان موجودين بدون أن يكون لدي دليل…”

عبدالناصر الذي يصوره هيكل بأنه كان يبحث عن الحقيقة ويستبعد التدخل الأمريكي، والذي كان يؤكد في حديثه الموجه إلى المشير عامر بأن الأمريكان لا يمكن أن يكونوا مشتركين وفقا للمعلومات التي لديه: “معلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي”  ومن حقنا أن نسأل لماذا لم تكن هذه المعلومات متوافرة أيضا عند القائد العام الذي كان عليه أن يقود المعركة؟! .. ونتساءل أيضا من أين هذه المعلومات .. ثم نلاحظ أن عبدالناصر يبدو واثقا من صحة معلوماته بأن الأمريكان “لا يمكن يكونوا داخلين في العملية دي” ويشدد على هذا في محاورته مع المشير عامر.. ثم يغير رأيه بعد فترة لا تتجاوز ساعات قليلة!!

عبد الناصر الواثق من عدم التدخل الأمريكي هو نفسه الذي قام –بعد ساعات قليلة- بالاتصال بالملك الحسين ليقنعه بتلفيق أكذوبة مشاركة بريطانيا وأمريكا في المعارك الجوية. الفارق بين الموقفين واضح: في الأولى كان المهم وضع المشير في موقف المساءلة؛ وهي –على ما يبدو- فرصة لم يسبق أن سنحت لعبد الناصر قبل هذا، أما في الثانية فهي محاولة لضرب عصفورين بحجر واحد: إشراك الملك الحسين في كذبة التخل الأمريكي-البريطاني، والقيام بعملية حفظ ماء الوجه لإنقاذ الهالة التي أحيط بها عبدالناصر وللتمهيد لإنقاذ حكمه من الانهيار بسبب هزيمة مروعة وكارثية في معركة طبل لها كثيرا واستخدمها لإذلال كل من حوله من حكام وشعوب ولكنه لم يفعل شيئا حقيقيا من أجلها. نقول هذا لنؤكد أن عبدالناصر في تلك اللحظات كان مشتركا بصورة فعلية للترويج لأكذوبة المشاركة الأجنبية.  لكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن موقف الرئيس عبدالناصر قد تذبذب بين المطالب بإثباتات حقيقية ملموسة لتأكيد المشاركة الأمريكية، والمصدق لكل ما ورد إليه دون أي تمحيص، ثم قام بنفسه بفبركة الخبر الذي حاول أن يشرك الملك الحسبن في نشره، وقد كان خطاب التنحي قد شهد آخر مرة أشار فيها عبدالناصر بطريقة غامضة إلى موضوع مشاركة أطراف أخرى في المعركة. بعد ذلك تراجع الرئيس عبدالناصر عن هذه الادعاءات، ولم يعد يذكرها أبدا. وما ينبغي أن نكرر ذكره هو أنه لا الرئيس عبدالناصر ولا أي زعيم آخر قد أشار من قريب أو بعيد إلى استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدتها في ليبيا منطلقا للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية. وحده السيد هيكل الذي أطلق تلك الفرية ولم يستطع أن يتجاوزها أو يتراجع عنها، وهذا بيت قصيدنا وسبب مقالاتنا هذه.

ما نقله لنا هيكل عما كان يجري حينها في غرفة عمليات القيادة المصرية، يوضح أن هذه القيادة لم تكن منشغلة بتدارك المعركة البرية في سيناء التي باتت القوات المصرية تواجهها وهي لا تفتقر إلى الغطاء الجوي فحسب، بل وإلى القيادة المتفرغة لإدارة معركة يتعلق عليها مصير أمة بأكملها، لأن القيادة كانت منشغلة عن المعركة بإجراء اتصالات شارك فيها الرئيس عبدالناص والمشير عامر والفريق صدقي محمود بحثا عن قشة تدعم نظرية التدخل الأمريكي. فمن بقي لمواجهة الكارثة الحقيقية؟!!

لكن كل هذه الاتصالات باءت بالفشل في العثور على القشة المطلوبة: فلم يستطع أحد أن يفي بمطالب عبدالناصر بإثبات التدخل الأمريكي عن طريق حطام طائرة أمريكية أو طيار أمريكي أسير، كما عجزت الاتصالات عن الحصول على إفادة أي طيار مصري بأنه شاهد طائرة أمريكية في الأجواء المصرية في ذلك اليوم.

لكن، وبحسب رواية السيد هيكل، لم يمض ذلك اليوم .. بل لم تمض سوى ساعات حتى تحصلت القيادة المصرية على ما اعتبره السيد هيكل إثباتا للمشاركة الأمريكية في الضربة الجوية الإسرائيلية.  لم يكن هذا الإثبات طائرة أمريكية أسقطتها الدفاعات الجوية المصرية .. ولا طيارا أميركيا أسيرا .. ولكن هذا “الإثبات”  كان رسالة من السفير المصري في باريس، وأن الرئيس عبدالناصر بنفسه قد أخبر هيكل عن وصولها. هكذا قدم السيد هيكل هذه الرسالة “الإثبات” ضمن مرافعته البائسة:

“وبعدين الساعة السابعة، ستة ونصف سبعة كده كلمني بالتلفون، كلمني بالتلفون وقال لي على رسالة جاءت من باريس، السفير عبد المنعم النجار في ذلك الوقت هو سفيرنا في باريس، سفير الجزائر صديقه في باريس، سفير الجزائر قابل الجنرال ديغول رئيس الجمهورية الفرنسية في ذلك الوقت، والجنرال شارل ديغول هو من هو، فالجنرال ديغول بيقول للسفير، بيسأل سفير الجزائر عن آخر التطورات أو سفير الجزائر بيسأل الرئيس الفرنسي عن آخر التطورات، فالرئيس الفرنسي يقول لسفير الجزائر بيقول له.. وقف ديغول شوية كده وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”

“عبد المنعم النجار يبدو أنه وجد أن هذه المعلومات لا تستطيع أن تنتظر برقية فعمل حاجتين، الحاجة الأولانية أنه كلم في التلفون السفير محمد رياض وكيل وزارة الخارجية والمساعد الأول في ذلك الوقت لوزير الخارجية محمود رياض وقال له إنه حصل كذا وكذا وكذا، وقال له إنه تكلم في التلفون لكنه حيبعث البرقية، قدامي برقية عبد المنعم النجار، بيقول، قابل سفير الجزائر الرئيس ديغول، أبلغه بوجهة نظر الجزائر في قضية فلسطين واشتراك الجزائر في قواتها المسلحة في الحرب الدائرة وذلك بناء على تكليف من الرئيس بومدين، أشار ديغول بضرورة حل المشكلة جذريا مع مراعاة حقوق اللاجئين، يعتبر أن إسرائيل هي المعتدية وسوف يمتنع عن تقديم أي معونة تماشيا مع ما أعلنته فرنسا من قبل، كان هو ديغول قال إن فرنسا سوف تحدد موقفها من أي حرب مقبلة على أساس من يطلق الرصاصة الأولى، فهو هنا بيقول عارف الإسرائيليين أنه.. وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (كلمة أجنبية)، موقف فرنسا على الحياد وسوف تظل بعيدا في الوقت الحاضر حتى لا تزج في المشكلة، في مشكلة جاية في العالم العربي ولكنها سوف تكون إيجابية في الاشتراك في حل جذري عادل مستقبلا. الرئيس بيحكي لي هنا بيقول لي، الرئيس عبد الناصر بقى بيكلمني هنا وبيقول لي إنه هو بيشك، أنا بحقيقي أنا شفت الحيرة اللي أو بلاش أقول شفتها لأني ما شفتهاش لكن سمعت على التلفون، الحيرة عند رجل يجد موقفا لا تفسير له في رأيه، لا هو قابل أن ده جهد إسرائيل لوحدها مش قادر يخش فيه يدخل رأسه ولا يعقله لأنه ببساطة أكبر لكنه وبعدين عنده وزير الدفاع ونائب القائد الأعلى بيقول نفس الكلام بيقول إنه حاجة أكثر أنه لا، دول كانوا موجودين ومشتركين وعنده قائد الطيران مصر على أنه في جهد أميركي، أنه في جهد أميركي مباشر، وهنا أنا أظن أنه -ودي مسألة نقطة مهمة جدا- أنه هنا صدقي محمود كان في ذهنه أيضا موضوع سنة 1956، وهذه البرقية قدام جمال عبد الناصر ما كانتش كافية تغير رأيه لكن أقصد هذه البرقية ما كانتش عنده لما كلمني لكن كان عنده الرسالة اللي عبد المنعم النجار أبلغها لمحمد رياض علشان يديها لمحمود رياض واتصال محمود رياض لكي يبلغ بهذه المعلومات أن أميركا في اللعبة، موجودة في اللعبة نقلا عن الجنرال ديغول

قبل أن نشرع في مناقشة المحتويات التي يزعمها هيكل لبرقية السفير المصري في باريس السيد عبدالمنعم النجار، ومحاولته -من خلال هذه البرقية- إقحام الجنرال شارل ديغول والزعم أن ما قاله ديغول إلى السفير الجزائري في باريس هو إثبات آخر لما يدعيه هيكل حول استخدام قاعدة “ويلاس/ الملاحة” في طرابلس في الضربة الجوية الإسرائيلية يوم الخامس من يونيو 1967، قبل أن نناقش محتويات هذه البرقية لا بد أن نوضح النقاط المنهجية والموضوعية التالية:

  • أننا لا نستطيع التسليم بأن ما قاله هيكل عن تلك البرقية يعكس بدقة محتوياتها؛ ذلك لأن السيد هيكل لم يتكرم بعرض نص البرقية على المشاهدين، بل اكتفى بالقول بأن الوثيقة أمامه. لكننا –مع هذه العلة البينة- سنناقش محتوى البرقية والرتوش التي بثها السيد هيكل في جوانبها.
  •  أننا لا نقبل أن نعتبر الكلام الذي وضعه هيكل على فم الرئيس ديغول هو حقيقة ما قاله ديغول؛ فهيكل كان بنقل عن السفير المصري الذي كان هو الآخر ينقل عن السفير الجزائري وهو بدوره الذي نقل عن ديجول، هذا إذا صحت الرواية كلها.

إن هناك تناقضا واضحا في وصف هيكل لمجريات مقابلة السفير الجزائري للرئيس ديجول، على سبيل المثال يقول هيكل: ” فالجنرال ديغول بيقول للسفير، بيسأل سفير الجزائر عن آخر التطورات أو سفير الجزائر بيسأل الرئيس الفرنسي عن آخر التطورات،”  فمن سأل من؟ هذه العبارة تعني أحد أمرين: فإذا كانت هذه العبارة واردة في برفية السفير المصري فهو غير متأكد مما ينقله ما يخل بدقة النقل، أو ان هذه المجريات لم ترد في برقية السفير المصري وإنما هي من عنديات هيكل، فعلى هذه الحالة يمكننا قياس مصداقية رواية هيكل ودقتها. لكن هيكل يعود فيناقض نفسه ويحزم أمره فيجزم أن سفير الجزائر كان مكلفا لإبلاغ رسالة من الرئيس بومدين إلى ديغول، هكذا ورد نص هيكل  “أبلغه بوجهة نظر الجزائر في قضية فلسطين واشتراك الجزائر في قواتها المسلحة في الحرب الدائرة وذلك بناء على تكليف من الرئيس بومدين” هذا التناقض يدلنا على أحد أمرين: إما أن هيكل لم تكن أمامه برقية مكتوبة من السفير المصرى، أو أن هيكل يتصرف على هواه بمحتويات البرقية ويطوعها كي تخدم أغراضه ومزاعمه. ويصدق هذا أيضا على النقطة التالية.

  •  الأمر الآخر الذي ينبغي ألا يفوتنا، أن هيكل بدا في بعض ما يقوله أنه لا ينقل فقط عن برقية مكتوبة من السفير المصري، بل جاءت روايته وكأنه هو شخصيا كان حاضرا مع السفير الجزائري ويصف لنا مشاهد من ذلك اللقاء. مثال على ذلك هذه العبارة التي أوردها هيكل: “، فالرئيس الفرنسي يقول لسفير الجزائر بيقول له.. وقف ديغول شوية كده وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم” عبارة ” وقف ديغول شوية كده”  لا يمكن أن تكون واردة في برقية السفير المصري الذي كان ينقل –سماعا- عن سفير الجزائر، فلماذا يضيفها هيكل؟ هل لمحاولة إضفاء مصداقية على ما يقول؟ أم لتتبيل ما يقوله بشيء من اللمسات الدرامية؟ .. فهو في الحالتين يكذب ويخدع المشاهدين.
  • إذا كانت محتويات مقابلة السفير الجزائري هي حقيقة كما أوردها هيكل، وإذا كان الاستنتاج الخطير الذي استنتجه هيكل من ذلك النص هو استنتاج صحيح (أن ديغول يقر بالتدخل العسكري الأمريكي)، فلماذا لم نسمع بأية محاولة من السفير المصري في باريس لاستجلاء الأمر بمقابلة الرئيس ديجول أو عن طريق الخارجية الفرنسية؟، ولماذا لم يورد هيكل ما تحصل عليه السفير المصري من ردود؟. إن عدم قيام السفير المصري بذلك يكشف بجلاء أن الأمر لم يؤخذ – يومها- بما يزعمه هيكل على أنه إقرار من ديجول بتدخل أمريكي. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فلم نسمع من الرئيس ديجول –طيلة حكمه- ولا من الحكومة الفرنسية ما يؤيد مزاعم هيكل.
  • للعلم فإن ديجول قد اشتهر بأمرين اولهما: مناصبته العداء للنفوذ والهيمنة الأمريكية ومقاومته لها لدرجة اتخاذ إجراءات فيما يتعلق بعضوية فرنسا في الحلف الأطلسي تحديا لسيطرة أمريكا على الحلف، ولدرجة قيام السياسة الفرنسية (الديجولية) إلى السعي لاستقلال أوروبا عن النفوذ الأمريكي؛ ولذلك فقد كانت أمام ديغول فرصة نادرة –إذا كان ما ينسبه له هيكل صحيحا- لم يستغلها للنيل من أمريكا، وهذا ما لا يعرف عن ديجول، وثانيهما: أن ديغول كان مشهورا بصراحته في التعبير عن آرائه ومواقفه لدرجة أخرجته –في بعض الأحوال- عن اللياقة الدبلوماسية، وجرّت عليه بعض المتاعب . فكيف لم نسمع من ديجول انتقادا لأمريكا لتدخلها العسكري في حرب 1967، وهو الذي اتخذ مواقف محموده بوقف تصدير السلاح الفرنسي إلى إسرائيل، واتخاذ مواقف تدعو إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة.
  • معروف أن السفراء المصريون يكتبون تقاريرهم إلى الخارجية المصرية باللغة العربية، لكن هيكل استخدم عبارة باللغة الفرنسية على أنها من محتويات برقية السفير المصري وعلى أن هذه العبارة منسوبة للرئيس ديغول، وهذه العبارة هي التي استند عليها هيكل واعتبرها بمثابة إقرار من ديغول بالتدخل الأمريكي؛ ومن ثم قرر إقحام الجنرال ديغول في مرافعته البائسة. ولا ندري حقيقة –إذا صحت رواية هيكل حول هذه البرقية وأن ما ورد بها هو كما ذكره- لماذا يستخدم السفير المصري هذه العبارة الفرنسية في برقية باللغة العربية، أما إذا كان استخدام هذه الكلمة من عند هيكل فهذا إخلال واضح بدقة النقل، لا يشفع فيه أن هيكل يريد ان بستعرض بعضا من التعبيرات الفرنسية ربما ليضفي شيئا من المصداقية على روايته.
  • يبدو أننا لسنا الوحيدين الذين استشكلت عليهم العبارة الفرنسية الواردة في كلام هيكل: ذلك لأن أعضاء فريق الجزيرة الذين فرّغوا تسجيلات هيكل وقاموا بطباعتها قد وجدوا أنفسهم في حيرة من هذه العبارة فأشاروا لها بين قوسين على أنها (كلمة أجنبية)، وعمل هيكل كل جهده لإعطاء الانطباع أن هذه العبارة وردت حرفيا على لسان ديغول، وقد أوردها هيكل مرتين … هكذا:

“وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”

” وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (كلمة أجنبية)”

وينبغي أن نلاحظ ان هيكل قد أضاف إلى هذه الكلمة عبارة “الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم” في محاولة منه لإيهام القارئ بأن هذه العبارة قد وردت على لسان الرئيس ديغول أيضا، أو أنها تفسير للكلمة الأجنبية التي كرر هيكل نسبتها إلى الرئيس الفرنسي.

  • العبارة التي أوردها هيكل هي (dans le jour)  وترجمتها الحرفية (في اليوم) . وإذا ما عدنا إلى النص الذي أورد فيه هذه العبارة فسنجد الآتي:

“وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (في اليوم) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”

” وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (في اليوم)”

من  الواضح أن هيكل هنا يريد أن يقحم شهادة من الرئيس ديغول بأن أمريكا قد شاركت في القتال إلى جانب إسرائيل. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن هيكل لم يقل إطلاقا بأن أمريكا قد استخدمت قواعدها في أوروبا، كما لم يقل بأن أمريكا استخدمت حاملات الطائرات المنتشرة في البحرين المتوسط والأحمر، بل إن مرافعته كلها كانت مبنية على استخدام القاعدة الأمريكية “ويلاس/ الملاحة” في طرابلس، إذا ما أخذنا هذا في الاعتبار فإن هيكل يريد من محاولة إقحام ديغول أن يوهم المشاهدين بأن ديغول يؤكد ويدعم ادعاءات هيكل بخصوص استخدام امريكا للقاعدة في طرابلس للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية.

لكن حتى إذا سلمنا -من قبيل الجدل- بصحة ما أورده هيكل حول برقية السفير المصري في باريس، وبأمانة ودقة نقل هذا السفير عن زميله السفير الجزائري، وبأمانة ودقة نقل السفير الجزائري لما ورد على لسان الرئيس ديغول، إذا ما سلمنا جدلا بكل ذلك، فهل يمكن حتى أن نستشف من نصوص هيكل أن الرئيس شارل ديغول قد أقر أو قال بأمرين:

  • أولهما: أن هناك تدخلا فعليا قامت به الولايات المتحدة مستخدمة قواتها المسلحة في الضربة الإسرائيلية الجوية.
  • ثانيهما: أن أمريكا قد استخدمت لذلك الغرض قاعدتها الجوية “ويلاس/ الملاحة” منطلقا لطائراتها التي أغارت على الأراضي المصرية.

بخصوص الأمر الأول، فلا نجد ما يدل على أن ديجول يشير من قريب أو بعيد إلى أن أمريكا تدخلت عسكريا في الحرب وأن قوات أمريكية تشارك بعمليات في تلك الحرب. إذا صحت الكلمة المنسوبة إلى ديجول (أن أمريكا “في اليوم”) فإنها لا تفيد ذلك، حتى ولو حاولنا تطويعها وإعطاءها مدلولا مجازيا وتعسفنا في تفسيرها لتقريبها من مراد السيد هيكل؛ فديجول بمواقفه وطبيعته كان سيقول للسفير الجزائري صراحة، وكان سيصرح بهذا في أوقات لاحقة. المدلول المجازي للكلمة قد يعني –في أقرب التفسيرات- أن أمريكا على علم واطلاع وربما موافقة على ما تقوم به إسرائيل. وهذه حقيقة فإسرائيل تصرفت يوم الخامس من يونيو وهي متأكدة أن أمريكا لن تمانع، وربما أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك أن إسرائيل كانت على ثقة بأن أمريكا في نهاية المطاف لن تسمح بإلحاق هزيمة بها.

أما بخصوص الأمر الثاني، فلم يرد في نصوص هيكل ما يمكن أن يستشف منه أن ديغول قد قال للسفير الجزائري بأن الولايات المتحدة قد استخدمت قاعدتها الجوية “ويلاس/ الملاحة” منطلقا للمشاركة الفعلية في الحرب. هذا ما يدعيه السيد هيكل ويحاول أن يوهم المشاهدين بأنه يمتلك  الأدلة والبراهين التي تؤيده. وهذا ما يهمنا تفنيده وإظهار الحقيقة في أن مزاعم هيكل لا تستند على أية معطيات أو ادلة أو براهين، وأن كل ما يقدمه ليس سوى تلفيقات وأوهام وتطويع للكلمات ولي لأعناق المعاني.

وللحديث بقية إن شاء الله

……………………….

  1. مثال على ذلك: عندما كان الرئيس شارل ديجول في زيارة رسمية لكندا، وألقى كلمة فيها تشجيع لاستقلال مقاطعة “كيبك” وانفصالها عن كندا، ثم أنهى كلمته بالهتاف (عاشت كيبك حرة مستقلة)، مما أدى غلى احتجاج كندي واضطرار ديجول لقطع زيارته والعودة غلى فرنسا.
  2. استفسرت من بعض الإخوة الذين يجيدون الفرنسية عن معنى الكلمة، وأجمعوا على ترجمتها الواردة أعلاه، وعرضت عليهم النص الذي أورد هيكل هذه الكلمة في سياقه للبحث عن أي  مغزى مجازي يمكن استقاؤه من النص فأفادوا بأنهم يستبعدون أن يستخدم الرئيس ديجول هذهالعبارة لأنها تنطوي على “سوقية واضحة” علاوة على عدم دقتها.  الذين استشرتهم في هذا الصدد منهم جزائريين ومغاربة ويعملون في وسائل إعلامية مرموقة وأحدهم أستاذا لآداب اللغة الفرنسية في إحدى الجامعات الأمريكية.

 

 

هيكل والافتراء على التاريخ – كيف تعامل هيكل مع الوثائق– الحلقة الثامنة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

المتابع لأحاديث هيكل يلاحظ حرصه الشديد على ذكر الأسماء وإثباتها في الأحداث التي كان يرويها، ولا يستثني حتى تلك التي غيبها النسيان، وحتى تلك التي لم يكن لها دور يستحق الذكر. كما يلاحظ حرصه الشديد على إبراز الأوراق والوثائق ذات العلاقة بالحدث الوارد في السياق.

وقد تفنن الفريق الفني في برنامج “مع هيكل” في إبراز الوثائق وإضاءة السطور وتظليلها في جهد يشكرون عليه. لم يتوقف الأمر عند حد “الوثائق” والأوراق المكتوبة فحسب، لكن السيد هيكل أتحفنا –أيضا- بتحويل بعض المحادثات الشفهية التي يقول بأنها جرت بينه وبين الرئيس عبدالناصر إلى نصوص مكتوبة، قام فنيو البرنامج بإبرازها وإضاءة سطورها هي الأخرى. وبالرغم من أن وضع هذه المحادثات الشفهية بهذه الكيفية، يخل -بطريقة مفضوحة- بالدقة في النقل؛ إذ لا يمكن لهيكل أو لغيره أن يزعم بأن هذه النصوص مأخوذة من محضر حرفي، ولكنه جعلها تبدو وكأنها مأخوذة من محضر مكتوب. كان يكفي السيد هيكل سرد مثل هذه المحادثات لطبيعتها الشفهية، وكان يمكنه أن يعمد –كعادته- إلى تكرار مايريد تأكيده من هذه المقاطع، لكن حرصه على إبرازها للمشاهد بصورة مكتوبة يظهر رغبته  الشديدة في أن يسبغ عليها مصداقية قد لا تتوافر عليها فعلا، أو في أحسن الاحتمالات أن تسبغ هذه الطريقة شيئا من المصداقية على ما يقول، أو تبرز بعض الأمور التي يريد ترسيخها في ذهن المشاهد. بالرغم من محذور الإخلال بالدقة وإيهام المشاهد والمتابع بحرفية النصوص المنقولة من محادثات شفوية، إلا ان ذلك قد يحسب للسيد هيكل إذا ما مارس الاستمرارية وتجنب الانتقائية غير المبررة.

المتابع للأحاديث المذكورة يلاحظ أيضا أن حرص السيد هيكل على إبراز الوثائق والأوراق وتقديمها للمشاهد قد اختفى وتلاشى تماما عندما كان يتحدث عن ادعاءاته بقيام أمريكا بالمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية مستخدمة قاعدتها الجوية “الملاحة / ويلاس”، أو ما أسماه السيد هيكل “البصمة الأمريكية” والتي يسعى جاهدا لفك “طلاسمها”. ولا نريد أن نتوقف طويلا أمام مصطلحات السيد هيكل “البصمة” و “الطلاسم”، فهو صاحب المصطلحات غامضة الدلالة والمضمون، لكننا قد نفهم من هيكل أن المصطلحين يستوجبان جهدا غير عادي لإثباتهما خاصة أن الحديث يتم عن مصطلح لا نسمعه يتردد إلا في القصص البوليسية أو في تحقيقات المباحث العامة، وآخر لا نسمعه يتردد بكثرة إلا عند السحرة والمشعوذين.

كنا نتوقع من السيد هيكل أن يتعامل مع الوثائق التي يسوقها حججا وقرائن ويدعي أنها تؤكد على ما يقول وتساعد في فك الطلسم وحل أحجية البصمة، بنفس الأسلوب والطريقة التي حرص عليها في التعامل مع غير ها من الوثائق: أن يبرزها على الشاشة، وينير السطور والكلمات، حتى يمكننا نحن المشاهدين من متابعة تفكيك رموز البصمة وفك أحجية الطلسم، أو على الأقل أن يضعها أمام المشاهدين ليشاركوا في الحكم على هذه الوثائق. لكن السيد هيكل –خلافا لعادته- لم يفعل شيئا من هذا، وبدلا من ذلك اكتفى إما بالقول بوجود وثيقة أمامه، أو بالتلويح بورقة لا ندري ما فيها؛ إذ لا يمكن لأي أحد مهما كانت قوة نظره أن يرى ما فيها أو أن يتأكد بأن مضمونها يتفق مع السياقات التي يطرحها هيكل، بل لا يمكن لأي أحد أن يجزم ما إذا كانت هذه الأوراق الملوح بها ذات علاقة بالموضوع أصلا، فضلا عن أن يكون في مقدور المشاهد أن يكون مع السيد هيكل في نفس دهاليز وأحجيات هذا الطلسم الذي يدعيه ويدعي القدرة على اكتشاف بصماته وتفكيكها. لكن بدلا من ذلك نجده يتملص من ضرورة طرح هذه الوثائق على المشاهدين والمتابعين؛ فيقول:

“قدامي عدد كبير قوي من الوثائق المصرية فيما يتعلق بهذا وقد أفتح قوسا وأقول إن هذه الوثائق أيضا ليست احتكارا لي، هذه الوثائق صورت منها مئات النسخ لكي يقرأها كل الذين كان عليهم أن يحاربوا، حرب تصحيح ما جرى في 5 يونيو وهي حرب أكتوبر

وبعد محاولة الهروب –غير الناجحة- من استحقاق تقديم الوثائق وإبرازها، بعد ذلك يصور لنا السيد هيكل مهمة فك الطلاسم بأنها من الأهمية بمكان، لأنها تخلص الإنسان المصري والعربي من عقدة الفشل والهزيمة:

“لكن المسألة الأهم أنه أنا بأعتقد أن هذا لا يزال يستغل إلى أغراض سياسية حتى هذه اللحظة، وأنا في عملية فك الطلاسم حول 67، بأعتقد أنها مش بس مهمة لتخليص الإنسان المصري والعربي من عقدة فشل وعقدة هزيمة لا مبرر لها في اعتقادي”

“ما أريد أن أفعله بالدرجة الأولى مش أنه أقعد أحكي تاريخ الحرب، لأن تاريخ الحرب قضية سهلة، لكن ما أريده بالدرجة الأولى أن أفك الطلاسم التي لحقت بسنة 1967 واللي أنا أعتقد أنها أثرت قوي على الوجدان المصري والعربي بصفة عامة لأني أعتقد أنه إلى جانب الأخطاء والخطايا التي وقع فيها كل الناس -وأنا حأتكلم على هذا فيما بعد- لكن المسألة الأهم أنه أنا بأعتقد أن هذا لا يزال يستغل إلى أغراض سياسية حتى هذه اللحظة، وأنا في عملية فك الطلاسم حول 67، بأعتقد أنها مش بس مهمة لتخليص الإنسان المصري والعربي من عقدة فشل وعقدة هزيمة لا مبرر لها في اعتقادي، آه حصل، حصل، حصل حاجة كبيرة جدا وينبغي أن يحاسب كل حد عنها ولا يعفى أحد مهما كان مقامه”

أمام هذه الأهمية التي يصورها هيكل لعملية فك “الطلاسم”، ألا يحق لنا أن نتساءل، وألا يحق لكل من شاهد واستمع إلى هيكل وهو يترافع لإثبات التدخل الجوي الأمريكي انطلاقا من قاعدة “الملاحة / ويلاس”، بل ألا يحق لكل المصريين والعرب الذين ستخلصهم عملية فك الطلاسم من عقدتي الفشل والهزيمة، ألا يحق لهم جميعا أن يتساءلوا:

لماذا خرج السيد هيكل عن عادته ولم يضع على الشاشة هذه “الوثائق” والأوراق التي يزعم أنها في حوزته، وأنها ئؤكد ما يعدُّه –هو نفسه-  أحد الأسباب، بل السبب الرئيس في هزيمة يونيو 1967؟

لماذا لم يقم بعرض هذه الأوراق حتى تطمئن النفوس وتزول عقدتا الفشل والهزيمة؟

ألا يستحق الإنسان المصري والعربي، وألا يستحق الوجدان المصري والعربي، وألا يستحق مشاهدو “قناة الجزيرة” أن يحترم السيد هيكل ذكاءهم وأن يمتنع عن التعامل معهم بنفس الاستخفاف الذي مارسه طيلة “مشوار حباته”؟

لا يمكن للسيد هيكل أن يدعي أن هذا الموضوع ليس مهما، ولا يستدعي بالتالي التوقف وإبراز الوثائق التي يدعيها ، فهو قد جعل منه الموضوع الذي تدور حوله أحاديثه عن هزيمة يونيو 1967، بل جعله -كما قال- السبب الرئيس لهذه الهزيمة التي “لا مبرر لها”.

كما لا يمكن للسيد هيكل أن يدعي بأن الموضوع بديهي، وأن تدخل أمريكا من قاعدة “الملاحة / ويلاس” أمر محسوم ولا يحتاج إلى إثبات، ولا حاجة إذن لإبراز الوثائق؟. لا يستطيع إقناع أحدا بهذا؛ لأنه هو نفسه جعل الموضوع أحجية وبصمة وطلاسم لابد من فكها، أي أنها –من وجهة نظره- في حاجة إلى إثبات. بل إنه قد اتخذ من هذه الأوراق “الوثائق” حججا وأدلة تثبت مزاعمه بالخصوص.

كان من الضروري على السيد هيكل أن يرينا نصوص هذه الوثائق، لكنه لم يفعل، وبدلا من ذلك أخضعنا لمنهج ركيك هذه بعض ملامحه:

  • فهو يدعي بوجود هذه الوثائق، وأنه يستقي حديثه منها.
  • ويدعي أن مجرد وجود هذه الوثائق –إن وجدت أصلا- كفيل بأن يثبت ما يقوله؛ بغض النظر عما إذا كانت محتويات الوثيقة صحيحة أم لا.
  • وهو يفرض قراءته الخاصة لهذه الوثيقة أو تلك على المشاهد، فلا ندري هل عرض الوثيقة كلها، أم أغفل بعض جوانبها، وماذا أغفل  .. ولماذا؟ وماذا ذكر .. ولماذا؟
  • وهو يفرض تفسيراته وتأويلاته لما يزعمه من محتويات الوثيقة.
  • وبعد أن تصور -ثم صور لنا- أن هذه الوثائق حجة بالغة، قام بالخروج على ما زعم أنه منصوص عليه في الوثيقة، ونسج أحداثا ومعطيات غير واردة فيها، في محاولة مفضوحة لإيهام المتابع بأن هذا النسج امتداد لما في الوثيقة المدعاة وبالتالي يمكن تصنيفه ضمن دائرة التوثيق المستند على معلومات تحويها الوثائق المزعومة. هذا لم يقنع أحدا: فما يدعيه هيكل من نصوص في وثائق هو في حد ذاته في حاجة إلى تمحيص فضلا عن أنه غير مقنع لافتقاده المصداقية، ولذلك جاء نسيج هيكل أقرب ما يكون من إنتاج كُتّاب “سيناريوهات الدراما”. وفي هذا الجانب تفنن هيكل في خلط أحداث ومعطيات مع خيال جامح معبرا عنه بعبارات غامضة مع شيء كثير من الكذب والمغالطات، فجاء “السيناريو” متضاربا ومتناقضا لا يصلح إلا لبعض الأفلام الهابطة، ولا يمكن أن يحل أحجية أو يفسر بصمة أو يفك طلسما، فضلا أن يزيل عقدتي الفشل والهزيمة.

 

إزاء هذا كله نجد من الصعوبة بمكان أن نقر بوجود ما أشار إليه السيد هيكل على أنه وثائق ولم يبرزها لنا، خاصة ما يزعم أنها “وثائق “مصرية”، لأن الحصول عليها غير ممكن؛ فهي لم تنشر، ولم يسمح بتداولها. كما لا نستطيع –إذا كانت هذه الوثائق موجودة بالفعل- أن نقر قراءة السيد هيكل وتفسيراته لها أو أن نعترف بصحة هذه القراءة، ومع هذا فلا نجد مناصا من أن نُخضع وثائق السيد هيكل المزعومة للفحص، ونطرح قراءاته وتفسيراته لها لتمحيص موضوعي خال من خيال هيكل وأكاذيبه التي بلغت حد التدليس. كما لا بد من تحليل ما يدعيه هيكل من “أدلة” وتبيان كيف اختلق بعضها ثم دسها في ثنايا أحاديثه.

وفي الواقع فإنني اعترف أنني وجدت صعوبة كبيرة في متابعة ما كان السيد هيكل يقوله، واضطررت إلى إعادة قراءة النصوص أكثر من مرة لأتأكد أنني لم أخطئ، وللتفريق بين ما يدعي هيكل أنه منصوص عليه في وثيقة لم يبرزها، وبين ما هو نتاج خيال خصب مؤسس على أكذوبة روج لها منذ ستينيات القرن الماضي،  وساهم هيكل نفسه في اختلاقها والترويج لها، وهو إلى يومنا هذا يلهث جاهدا بحثا عن قشة يتعلق بها ليوهمنا بأنها إثبات لما يقول.

وللحديث بقية إن شاء الله

 

هيكل والافتراء على التاريخ – دور هيكل في إفشاء المعلومات إلى العدو– الحلقة الخامسة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

أسهب السيد هيكل في الحديث عن الأهمية البالغة التي تلعبها الاستخبارات في مجريات الحروب ونتائجها. وهو في هذا لم يقدم جديدا، فقد عرف المتحاربون الأهمية القصوى للمعلومات، وكان التجسس من أقدم المهن التي احترفها الإنسان منذ أن عرف الصراع والحرب.

وقد أوضح السيد هيكل حقائق في هذا الصدد –نتفق معه حولها- تتعلق بالدور الذي لعبته الاستخبارات في حرب يونيو 1967، ولكنه غيَّب حقائق أخرى هي بنفس المستوى أو ربما تفوقها في الأهمية:

  •       “فهو قد اعترف بأن مصر لم تستطع أن تزرع ” ما بين 1956 لفترة 1967 عميلا واحدا له قيمة داخل إسرائيل”.
  •        واعترف بأن ” المخطط المصري وهو يضع خطته كان يضع خطته وهو في ظلام كامل”.
  •       واعترف بأنه ” كان لإسرائيل عندنا عشرات العملاء” ، “إحنا تعرضنا لاختراقات لم تتعرض لها إسرائيل”
  •        وذكر أسماء بعض الجواسيس الإسرائيليين ممن يتصفون بدرجة عالية من الخطورة، وأغفل –عن عمد- ذكر أخطرهم على الإطلاق وأقربهم مما  جرى في الخامس من يونيو “باروخ نادل”، وعلى الأخص لأن عمله قد انصب بصورة مركزة على السلاح الجوي المصري.
  •       واعترف بأن مصر فشلت في إيجاد علاقات عمل مستقرة –في مجال الاستخبارات- مع الدول العربية قبل حرب يونيو.

ورغم تسليم السيد هيكل بالفشل المصري الذريع في الحصول على معلومات عن العدو، والفشل في تقديم الحماية اللازمة للتراب والمعلومات المصرية من عبث الجواسيس الإسرائيليين، الذي يقابله نجاح إسرائيل في زرع “عشرات” العملاء والجواسيس في مختلف مرافق الدولة المصرية. رغم ذلك نجد السيد هيكل يقفز على السطوة الإسرائيلية في مجال المخابرات، في محاولة للزعم بأن الفضل في الانتصار الإسرائيلي راجع إلى المعلومات الاستخباراتية التي قدمتها لها أمريكا. والسيد هيكل، وهو يقفز على السطوة الإسرائيلية في مجال معركة المعلومات، إنما يناور في إطار حشد الحجج التي تكون بمستوى التمهيد والإطار لما أسماه “بالبصمة الأمريكية”.

ولقد قلنا في مقال سابق بأن الجواسيس الإسرائيليين على الأرض هم من قاموا بعملية اختراق كبيرة داخل مصر، وهم من جعل الطائرات الإسرائيلية تقوم بمهامها في الخامس من يونيو بأقل الخسائر وبأكبر درجات الدقة والنجاح. أما ما لم يتمكن هؤلاء الجواسيس من نقله إلى إسرائيل فقد تكفلت بالكشف عنه الصحافة والإعلام الناصري، ذلك أننا نعلم أن القيادة المصرية كانت تعد للمعركة وتخوضها من على صفحات الجرائد المصرية، خاصة الأهرام. بل إن السيد محمد حسنين هيكل شخصيا قد شارك في إعطاء العدو الإسرائيلي معلومات حيوية عن مواقع تمركز القوات في سيناء وعن قياداتها والأسلوب الذي تم اعتماده في تسلسل قيادة المعارك، بل أكثر من ذلك فإن السيد هيكل قد قدم للعدو الإسرائيلي –على طبق من صفحات الأهرام- شيئا أغلى من الذهب نفسه وهو الكشف عن نوايا القيادة المصرية.

وقد يظن أحد أن السيد هيكل يجهل خطورة تقديم معلومات عن النوايا التي كانت تعتزمها القيادة المصرية، وقد يخطئ أحد ويظن بالسيد هيكل الجهل بالخطورة القصوى لتزويد العدو بمعلومات عن تشكيلات القوات المصرية، وعن قياداتها، وعن تسلسل القيادة، وعن بعض المشاكل التي تدور في أوساط القيادات المصرية، بل وعن نوايا هذه القيادة. لكن السيد هيكل لم يترك مجالا لهذا الظن أو الخطأ، فقد أوضح –بكل جلاء- إدراكه وفهمه التام لما تشكله مسألة معرفة النوايا من معضلة أمام أجهزة المخابرات، وما يشكله تسربها إلى العدو من مخاطر. لنستمع لما يقوله السيد هيكل:

“المعلومات هنا في قضية الحرب المعلومات ليست قضية بسيطة المعلومات باستمرار قدامنا كل حاجة في أي حرب موجودة قدام الأطراف بمعنى أنه في أزمة موجودة تحذر وفي حشد جيوش ممكن يؤكد لي أنه نحن مقبلون على المعركة وممكن جدا أن تتسرب إلي أشياء حتى في الصحف عن الأهداف المطلوب تحقيقها لكن أستنى باستمرار عنصرا أساسيا جدا بيسميه العسكريون النوايا، أنا بأعرف قوة العدو اللي قدامي وبأعرف حشده وشايف قدامي أنصاره وشايف قدامي تصرفاته والصحف تعطيني معلومات كثيرة قوي ولكن ما حدث بيديني قدرا معينا عما ينوي هذا العدو أن يفعله بهذه القوى التي حشدها، بالضبط عاوز يعمل إيه؟ بالضبط عاوز ينفذ من أين؟ عاوز يضرب من أين؟ عاوز يتصرف إزاي في هذه اللحظة؟ وهنا اللي بيسموه باستمرار كل عسكريين أنه ممكن كل حاجة في الحرب ممكنة ومعروفة إلا حاجة واحدة بس يبقى فيها السر وهي نوايا العدو، ما الذي يريد هذا العدو أن يفعله بالتحديد؟ كيف؟

نعم …  السيد هيكل لا يجهل الخطورة المطلقة التي ينطوي عليها الكشف عن النوايا للعدو:

يعلم أن الجواسيس قد ينجحون في الحصول على شتى أنواع المعلومات، لكن تبقى النوايا لغزا محيرا،

وأن طائرات الاستطلاع حتى نوع U2 –الذي أكثر الإشارة إليها- قد تستطيع تصوير مواقع كثيرة وغيرها، لكنها لا تستطيع أن تصور النوايا،

حتى التجسس الالكتروني يعجز عن التقاط ما لا يتم في فلكه أو عن طريقه.

هكذا تظل النوايا والمقاصد هاجسا دائما أمام المخططين، قد يمكنهم -في أحسن الأحوال- التخمين ووضع الاحتمالات المختلفة، وما يعنيه ذلك من الدخول في دائرة التغليب والموازنة بينها، والاضطرار لإعداد خطط متعددة لمواجهة هذه الاحتمالات. أما إذا عرف العدو النوايا، فسيقتصر همه على مواجهة هذه النوايا والاستعداد لها بما يعنيه ذلك من تركيز لكل القدرات والإمكانات والقوات اللازمة للتعامل مع هذه النوايا دون التفات إلى غيرها. يكتسب هذا أهمية قصوى مطلقة عند كل الدول لا سيما إسرائيل وما تمليه عليها جغرافيتها وعدد سكانها وإمكاناتها من محددات.

لكن حالة السيد هيكل لا تتوقف عند حالة صحافي أخطأ وهو يسعى للحصول على السبق الصحفي فقدَّم للعدو معلومات جوهرية وحيوية وحساسة وفي الوقت المناسب عن أمور هي بخطورة النوايا، فالسيد هيكل ليس صحافيا عاديا، وليس فقط رئيسا لمجلس إدارة الأهرام “الحكومية”، وليس فقط لأنه ماهر في تصيد المعلومات وتلقيها بإمكاناته الذاتية، ليس هذا فقط .. بل لأنه من أقرب المقربين للرئيس عبدالناصر، وبسبب ذلك فإن لديه حظوة، وقد نقول سطوة –ربما لم تتوافر لأحد غيره، وقد لا تتوافر في يوم من الأيام- لدى كل فروع الدولة المصرية، بما فيها شخصيات بوزن المشير عبدالحكيم عامر النائب الأول للرئيس والقائد العام للقوات المسلحة.

حتى ندرك هذه الحظوة أو السطوة لنقرأ ما قاله هيكل (ليسمح لي القراء على إيراد هذا الاقتباس الطويل والذي يحتوي على تكرار كثير، لكن مقتضيات الدقة تتطلب ذلك):

“وفي في ذلك الوقت وأظنه لازم يكون موجودا لغاية النهارده في ثلاث درجات من التلفونات للدولة، في التلفونات العادية ما كناش نستعملها في ذلك الوقت في واقع الأمر في الاتصالات يعني لكن في نوعين من التلفونات، في التلفون اللي بيسموه الـ BBX وهو التلفون اللي عليه كل المسؤولين وكل الوزراء بما فيهم الوزراء يعني وهذا في منه أظن حوالي مائتي خط أو حاجة أو 180، 200 خط، لكن في خط آخر وهو الخط المغلق كان عليه 12 عدة، 12 ماكينة وهو موجود عند رئيس الجمهورية، عند وزير الدفاع، عند مدير المخابرات العامة، عند مدير المخابرات العسكرية، عند رئيس الأركان، 12 خط، وزير الداخلية أيضا وأنا كان عندي خط، كان عندي خط وهذه دائرة مغلقة جدا،”

معنى هذا أن السيد هيكل كان أحد اثني عشر مسؤولا في الدولة ممن تشملهم الدائرة التلفونية المغلقة والأكثر أهمية وسرية في منظومة تلفونات الدولة المصرية. نُصاب بالذهول ونحن نسمع السيد هيكل يتحدث عن هذا بكل بساطة وكأنه أمر طبيعي أن يكون لصحافي موقع ضمن إثني عشر مسؤولا رفيعا في الدولة. ونُصاب بما هو أكثر من الذهول ونحن نستمع إلى هيكل وهو يسمي لنا بعض المسؤولين الآخرين الذين هم على هذه الدائرة المغلقة:

” الخط المغلق كان عليه 12 عدة، 12 ماكينة وهو موجود عند رئيس الجمهورية، عند وزير الدفاع، عند مدير المخابرات العامة، عند مدير المخابرات العسكرية، عند رئيس الأركان، 12 خط، وزير الداخلية أيضا وأنا كان عندي خط، كان عندي خط وهذه دائرة مغلقة جدا،”

  1.     رئيس الجمهورية
  2.      وزير الدفاع
  3.      مدير المخابرات العامة
  4.      مدير المخابرات العسكرية
  5.     وزير الداخلية
  6.      رئيس الأركان
  7.     السيد محمد حسنين هيكل

لم يذكر لنا الخمسة مسؤولين الآخرين (ربما بسبب النسيان، وحتى لا نقول لأنه لا يعتبرهم بنفس القدر من الأهمية). ولهذا نسمح لأنفسنا بالتخمين، فقد نتعرف على بعضهم:

  1.     النائب الأول للرئيس والقائد العام للقوات المسلحة: المشير عبدالحكيم عامر.
  2.       النائب الثاني لرئيس الجمهورية
  3.       قائد القوات الجوية (الطيران)
  4.     قائد القوات البحرية (الأسطول)
  5.      مدير جهاز أمن الدولة.

نأمل ألا نكون قد أخطأنا في التخمين، لكن مقصدنا من إيراد هذا الاقتباس من أقوال السيد هيكل هو ألا نسمح بالقفز على موقع هيكل في السلطة. هو ليس صحافيا فقط وإن كان يمارس الصحافة ويغيظ أقرانه بالسبق الصحفي الذي يلتقطه من الرئيس ومن غيره من متنفذي الدولة المصرية والمطلعين على أسرارها، بل هو في موقع ومكانة من التشاور وصنع القرار يتجاوز فيه نواب الرئيس وأغلب الوزراء، بمن فيهم رئيس الوزراء ووزير الإرشاد القومي ويتجاوز فيه أيضا رئيس مجلس الشعب، وغيرهم من المسؤولين الآخرين. هذا ليس فقط هو موقع السيد هيكل، بل إنه يتفرد عن هؤلاء جميعا، ويتفرد عن غيرهم من المسؤولين ورجال الدولة المصرية بميزة أخرى. لنقرأ ما قاله السيد هيكل:

” إلى جانب ده وبترتيب إضافي يعني كان في خط مباشر بيني وبين مكتب الرئيس، فهو كان بيتصل بي على هذا الخط اللي متصور أنه عنده أقصى درجات السرية ولذلك كان بيتكلم يعني أنا للنهارده ما أعرفش إلى أي مدى كان هذا الخط مخترقا”

مكانة لا شك تتجاوز جميع رجالات الدولة المصرية آنذاك، تجعله الأكثر التصاقا بالرئيس عبدالناصر بحيث أصبح يتداول معه في أخطر الشؤون ويستشيره فيما لا يستشير  فيه غيره، وربما فيما لم يتداوله الرئيس مع نائبه الأول المشير عامر قائد عام القوات المسلحة فيما يتعلق بشؤون خطيرة مثل شأن الحرب، ومزاعم التدخل الأمريكي، وغيرها من الشؤون.

الصحافي المخضرم المشهور الأستاذ “ناصر الدين النشاشيبي” رافق هيكل وعمل بالقرب منه، فهو يعرفه حق المعرفة، وقد خصص فصلا كاملا في كتابه (حضرات الزملاء المحترمين)، للحديث عن هيكل وعلاقاته. يقول في هذا الكتاب مخاطبا هيكل:

” يا أخي ويا عزيزي ويا رفيق العمر الصحفي ، لقد ضاعت

بلدي في عهدكم وعلى يديكم فمن هو المسؤول؟. من ؟ من ؟ من ؟ كنت أنت المقرب الأوحد إلى عبد الناصر ، وكنت أنت المؤتمن الأوحد على كل أسراره وعلى كل قراراته قبل التنفيذ وبعد التنفيذ!…وكنت أنت المستشار الأول والأوحد والأكبر لكل نبضة فكر في عقله وتفكيره…فمن أضاع بلدي في غمرة قرار مرتجل أمر بإغلاق المضائق وطلب سحب القوات الدولية وجرّنا إلى الكارثة الأعظم في تاريخ العرب والإسلام ؟ “.

لسنا بصدد البحث عن إجابة عن تساؤلات النشاشيبي، ولكننا أوردنا هذا النص كدليل إضافي على مكانة هيكل وموقعه من الحكم الناصري، ومشاركته في القرارات المصيرية (قبل التنفيذ و بعد التنفيذ!) بصفته (المستشار الأول والأوحد والأكبر)  للرئيس جمال عبد الناصر، وكان عليه أن يتحمل مسؤولية القرارات التي شارك فيها والتي جرّت إلى هذه الكوارث بدلا من أن يطل علينا من “الجزيرة” ليلعب دور المتفرج الشاطر.

ولكن لماذا نذهب بعيدا، فقد كفانا السيد هيكل نفسه مغبة التنقيب والبحث فقدم لنا إثباتا بعد الآخر عما نريد قوله وتأكيده. وإذا ما صدقنا رواية السيد هيكل لأحداث “الليلة الحزينة”، ليلة تنحى الرئيس عبدالناصر، وشخصيا أجد صعوبة في تصديق هذه الرواية. لكن إذا ما صدقنا هذه الرواية على علاتها الواضحة البينة، فإن القيادات المصرية وشخصيات الدولة وهياكلها، بل إن مصر كلها بمؤسساتها ورجالها قد اختزلت في تلك الليلة العصيبة في شخصين: عبدالناصر وهيكل، اختزلت مصر كلها في شخص رئيس منكسر يجد صعوبة في السيطرة على انفعالاته وأحاسيسه، يبدو معزولا في مقره، واكتفى بأن أعلن “استعداده لتحمل المسؤولية” وذلك بعد خراب مالطا “كما يقولون”، والآخر هيكل، صحافي يمارس دور المشارك في صنع القرارات دون أن يكون مسؤولا عن نتائجها. الإثنان يقرران كل شيء: الحاضر والمستقبل. وإذا كان موقع عبدالناصر -في تلك الليلة- معروفا فهو رئيس الجمهورية، وهو الذي يريد أن يعلن استقالته -إن كان حقا صادق العزم في التخلي عن الحكم-، وهو أيضا يتجاوز كل النصوص والمؤسسات الدستورية ويسمح لنفسه بأن يختار من يخلفه في قيادة مصر، ولم لا؟.. فهو القائد الملهم الذي اتخذ –منفردا- قرارات أخطر من ذلك بكثير. لكن أليس من الطبيعي أن نتساءل: ما هو موقع هيكل في تلك الليلة؟.

لعل أحداث تلك الليلة تتطلب وقفة خاصة كي نستبين كيف كانت الأمور تجري في مصر الناصرية، وكيف كانت الأمور تدار في قصر حدائق القبة في وقت كان مئات الألوف من الرجال يموتون ويؤسرون ويعانون فوق رمال سيناء،،، نعم .. قد نعود لهذا في وقت لاحق،  لكن ما يعنينا هنا هو أنه حسب رواية السيد هيكل فإنه لم يكن كاتب خطاب التنحي فحسب ولكنه شارك في اتخاذ قرارات مصيرية، فهو الذي سمى زكريا محي الدين خليفة لعبدالناصر، دون أن يستشار الرجل أو حتى (يدولو خبر) !!. وإذا ما صدقنا رواية هيكل فقد تحول إلى حاكم مصر في تلك الليلة: عبدالناصر تنحى ونام بتأثير المنوم، ولكنه قبل أن ينام –وهو الذي ترك منصب الرئاسة ولم يعد له أن يأمر أو ينهى!!!!- أوعز إلى هيكل بضبط الأمور، وعدم السماح لأحد بإلقاء بيانات من الإذاعة بما في ذلك النائب الأول والقائد العام المشير عبدالحكيم عامر الذي لم يتنح عن مناصبه رسميا بعد. وحسب رواية هيكل فقد توالت الاتصالات به –هو دون غيره-، ومن هذه الاتصالات اتصال من المشير عامر يكاد فيه أن يرجو هيكل السماح له بإلقاء بيان استقالة من الإذاعة، وبحسب رواية هيكل، فقد وصل الأمر بقيام المشير بتخويل هيكل بكتابة نص يذاع على الناس تُعلن فيه استقالة المشير، ولا يوافق هيكل لأن المشير كان ممنوعا من أن يُعلن استقالته بحسب تعليمات الرئيس المستقيل الذي كان وقتها يغط في النوم. وبحسب رواية هيكل أيضا فقد وردت إليه اتصالات من رؤساء دول –كلهم موتى الآن-، والأغرب من ذلك ورود اتصال من السيد زكريا محي الدين الرئيس المكلف!!!  نعم … بموجب رواية هيكل، انتهت كل المرجعيات في مصر  وأمسى هو المرجعية في تلك الليلة الظلماء !! أصبح الحاكم الفعلي لمصر إلى أن ينتهي مفعول منوم الرئيس المستقيل !!!! وإلى أن تنهي قيادات الاتحاد الاشتراكي من ترتيب “المظاهرات العفوية” المطالبة بعودة الرئيس !!!

ما يهمنا هنا –من كل ما أورناه- هو التعرف على موقع هيكل في أجهزة اتخاذ القرار والتشاور في مصر في تلك الحقبة:

فهو ليس صحافيا فحسب، ولكنه ضمن 12 مسؤولا في مصر يشتركون في دائرة تلفونية مغلقة،

وعلاوة على ذلك فهو –دون غيره- لديه خط تلفوني مباشر وخاص مع رئيس الدولة،

وهو الشخصية الثانية –بدون منازع- في “الليلة الحزينة”،

وهو الذي تفرد –ولو لعدة ساعات- بضبط الأمور في مصر –خلال نوم الرئيس المستقيل- فأصبح قطب الاتصالات والقرار في تلك الساعات.

أبعد هذا كله يستطيع أحد أن يعفي السيد هيكل من المسؤولية، على الأقل عما يكتبه في الأهرام وغيرها، باعتبارها صادرة عن شخص ضمن الدائرة الضيقة للتشاور والقرار؟ ما هي آثار هذه الكتابات على الأمن القومي العربي؟ وما هي آثار هذه الكتابات على حرب يونيو؟ وهل قدمت معلومات للعدو؟ معلومات غاية في الحساسية .. عن القوات .. والقيادات .. وعن النوايا؟

إذا كانت الجماهير العربية –وكنت أحدها- تستمع لأحمد سعيد ومحمد عروق يذيعان بصوتيهما المجلجلين مقالات بصراحة التي كان هيكل يكتبها في الأهرام، إذا كانت الجماهير تستمع لهذه المقالات وتقرؤها بعاطفة “قومية” جياشة، ولا تتوقف لتعرف مدى صحتها ولكنها تتأثر بسحر الكلمات والعبارات المرصوصة التي برع فيها هيكل، إذا كان هذا حال الجماهير مع مقالات هيكل، إلا أن لمخابرات الدول شأن آخر معها، فهي تدرسها بعناية وتقرأ سطورها وما بينها وتخضعها لتحليل دقيق، ليس فقط لأنها من روائع الأعمال في تطويع الكلمات، ولكن لأنهم يعرفون بأنها تمثل نافذة مجانية على ما تفكر به القيادة المصرية، وأنها تشكل مصدرا للمعلومات الحساسة لا يكلف الحصول عليها سوى اشتراك في الأهرام أو ضبط مؤشر المذياع على صوت العرب بعد عصر الجمعة. وبدون شك فقد كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية -وغيرها- تبدي اهتماما بشخصية السيد هيكل وبدوره في النظام الناصري. هذا الاهتمام يدعوها إلى إخضاعه لتحليلات نفسية بغية معرفة ما ترغبه عن شخصيته واهتماماته وما يعتريه من ضعف وقوة وغير ذلك مما تحرص المخابرات على معرفته. ومن خلال هذه المعرفة الدقيقة لشخصيته فإن إسرائيل والدوائر الغربية قد عملت على تقديم معلومات إلى السيد هيكل وتسريبها إليه، وربما إلى غيره من الصحافيين المصريين، كي تجد هذه المعلومات طريقها إلى الصحافة المصرية وإلى دوائر صنع القرار في مصر، وإلى التأثير على الجماهير العربية.

قد يتهمنا البعض بالتجني على هيكل .. ونقول إلا إذا كان الرجل يتجنى على نفسه. لنقرأ ما قاله السيد هيكل حول بعض ما نشرته الأهرام، وهو رئيس تحريرها، بل إنه ينسب النشر لنفسه، لنقرأ:

“لكن أنا بدا لي من بعيد في حاجة مرتبكة، بدا لي من بعيد كصحفي أنه في قرار صدر بتعيين الفريق مرتجي قائدا للقوات، ونشرت في الأهرام أنه حتبقى تحته -وطبقا للي سمعته- أنه حتبقى تحته قيادات الجو والبر والبحر المخصصة للجبهة، وثاني، نفس اليوم طلب مني عبد الحكيم عامر كلمني في التلفون وقال لي أنت عملت لي مشكلة انشر أن كل القوات حتبقى تحت قياداتها، يعني الطيران حيشتغل تحت صدقي محمود والبحرية حتشتغل تحت سليمان عزت وأن قائد الجبهة حينسق”

لنقرأ أيضا ما قاله السيد هيكل:

“الحاجة الثالثة أنه في إشكال حصل في القوات وهو كان موجودا على صفحات الجرائد وأنا شخصيا في الأهرام عانيت منه في ذلك الوقت لأنه في الأول قيل لي ومن الرئيس عبد الناصر، قيل لي إنه في قائد أصلا مكلف بالخطة قاهر اللي هي كانت الخطة بتاعتنا وهو صلاح محسن، الفريق صلاح محسن وهو قائد القيادة الشرقية، ثم عين الفريق مرتجي قائدا عاما للجبهة، بقى في مشكلة تنازع اختصاصات، ولكن الحاجة المهمة أن الرئيس عبد الناصر لما قال لي على إنه في قيادة عامة موحدة الجبهة combined عمليات مشتركة، بيسموها العمليات المشتركة وهذا أضعف نوع نحن كويسين فيه، الإسرائيليون كويسين فيه، العمليات المشتركة بالمدرعات والطيران والبحرية والمشاة وكل القوات اللي بيسموها الـ  Combined Operations العمليات المشتركة نحن مع الأسف الشديد مش كويسين فيه قوي، لكن اللي حصل في هذا الموضوع أن الرئيس قال لي أنا، قال لي إنه حيبقوا القائد العام للجبهة وهو مرتجي عنده تحت تصرفه قيادة الطيران المكلفة بالعمليات، قيادة البحرية التي قد تشترك والقوات البرية الموجودة ولكن فوجئت بعد كده أنه يبدو أن القادة تضايقوا وفوجئت بعد ذلك بالرئيس عبد الناصر نفسه بيكلمني ثم عبد الحكيم عامر بيكلمني بيقول لي إن قائد الطيران صدقي محمود يرى أنه هو يقود معركته بنفسه وقائد البحرية سليمان عزت بيروا أن البحرية تقود بنفسها وبالتالي فكرة الـ combined operations اللي أنا كتبتها في الأهرام عاملة حساسية وبالتالي لا بد أن إحنا نرجع نكتب خبر صغير قوي نقول فيه إن قائد كل سلاح سوف يتولى مسؤولية قيادة قوات سلاحه في هذه الحرب، أنا الحقيقة كنت مستغربا من هذا لكن على أي حال نشرنا الخبرين، الأهرام نشرت الخبرين، الأولاني ثم عدلناه بالخبر الثاني.”

بضع أمثلة فقط مما أورده السيد هيكل بنفسه في برنامج “مع هيكل”، ولو راجعنا كل ما قاله في هذا البرنامج لوجدنا الكثير من مثل هذه المعلومات الخطيرة والدقيقة منشورة على صفحات الأهرام. ولو راجعنا ما كتبه في مسيرته الصحافية لأصابنا الذهول من حجم ما يقدم من معلومات، وسبحان الله، يتفرد بها دائما السيد هيكل دون أقرانه.  طبعا السيد هيكل لا يستطيع أن يدعي بأنه مجرد صحافي أُمر بأن ينشر فنشر. يعني حكاية “عبد المأمور أو حتى عبدٌ مأمور” ما تنفعش كعذر لهيكل:

  •        فهو يعرف خطورة هذه المعلومات، والدليل ما قاله حول المعلومات، وخاصة حول النوايا.
  •      وهو مقرب من الرئيس، ويستطيع بحكم أنه أحد أعضاء الدائرة المغلقة (دائرة ال 12)، وبحكم الخط التلفوني المباشر مع الرئيس، كان يستطيع أن ينبه إلى أن هذه المعلومات (ما يصحش تنشر).
  •       لكنه هيكل: فهل قام بذلك خدمة للمعركة التي باتت تدار من على صفحات الجرائد؟ أم خدمة للسبق الصحفي ولتعزيز مكانته في المجالين المحلي والدولي؟ أم أنه كان يشارك في تمرير معلومات إلى العدو؟. هل نستثني السؤال الأخير؟ ….  ونقول: لا ينبغي أن نستثنيه أمام الكارثة والحريق الذي ما زال مشتعلا إلى يومنا هذا، تكتوي منه الأمة ويحترق في أتونه الفلسطينيون، ثم لا ينبغي أن نستثنيه والسيد هيكل ما زال بالرغم من مرور 42 عاما يوزع تهم العمالة والخيانة ذات اليمين والشمال.

 

وإذا ما أخذنا الأمثلة السابقة (فقط، وغيرها كثير) وتساءلنا: ما هي مصادر السيد هيكل؟ وما هي طبيعة المعلومات التي مررت إلى العدو، لوجدنا التالي:

  •        المصادر: الرئيس جمال عبدالناصر، والمشير عبدالحكيم عامر. والناشر السيد محمد حسنين هيكل في جريدة الأهرام “الحكومية”.
  •        من المعلومات: الكشف عن اسم القائد الميداني للقوات المحتشدة في سيناء. (الفريق مرتجي)
  •       وأيضا الكشف عن الأسلوب الذي اعتمد لإدارة العمليات:

“ونشرت في الأهرام أنه حتبقى تحته -وطبقا للي سمعته- أنه حتبقى تحته قيادات الجو والبر والبحر المخصصة للجبهة”

  •        نشر معلومات جديدة يتغير فيها أسلوب إدارة العمليات:

وفوجئت بعد ذلك بالرئيس عبد الناصر نفسه بيكلمني ثم عبد الحكيم عامر بيكلمني بيقول لي إن قائد الطيران صدقي محمود يرى أنه هو يقود معركته بنفسه وقائد البحرية سليمان عزت بيروا أن البحرية تقود بنفسها وبالتالي فكرة الـ combined operations اللي أنا كتبتها في الأهرام عاملة حساسية وبالتالي لا بد أن إحنا نرجع نكتب خبر صغير قوي نقول فيه إن قائد كل سلاح سوف يتولى مسؤولية قيادة قوات سلاحه في هذه الحرب، أنا الحقيقة كنت مستغربا من هذا لكن على أي حال نشرنا الخبرين، الأهرام نشرت الخبرين، الأولاني ثم عدلناه بالخبر الثاني.

  •      ولا يخفى ما تعنيه هذه المعلومات من حساسية وخطورة بالغة، أما الأخطر منها فهو التضارب والارتباك الذي كشفه نشر معلومة بمثل هذه الأهمية ثم تعديلها في اليوم التالي.
  •        أضف إلى ذلك ما لم يقله السيد هيكل حول النشر المستمر –وبالصور والأسماء- للحشد المصري في سيناء، وما أوضحه هذا النشر من معلومات عن أسماء القطعات والتشكيلات وعن تسليحها وأسماء قادتها، كما أوضح هذا النشر –لكل من يعرف الأبجديات العسكرية- أن الحشد المصري للقوات كان يفتقر إلى أبسط قواعد المهنية العسكرية. كان حشدا مرتبكا، ومع هذا وصفه السيد هيكل بالوصف التالي في مقالة بصراحة بتاريخ 2 يونيو 1967: (هذا استطراد أحسبه مناسبا)

“وكانت المفاجأة… مفاجأة الأيام العشرة العظيمة التى غيرت كل شىء فى الشرق الأوسط.

تقدم الجيش المصرى بقوة لم يتنبه لها راسمو الخطط الاستراتيجية فى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية… ولا تصوروا وجودها.

وتقدم بكفاءة كانت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أول من شهد بها وحاولت أمام المفاجأة الصاعقة أن تنسبها إلى تخطيط قديم محاولةً تبرير جهلها – مضيفةً إلى ذلك أنه لابد أن السوفيت شاركوا فى الإعداد لها! ”

ومع خطورة هذه المعلومات التي أوردناها في الأمثلة السابقة، وبينا أن خطورتها مستمدة من مصادرها ومن طبيعتها الاستراتيجية الحساسة، ولكن تسريبات السيد هيكل لم تتوقف عند ذلك، على خطورته، فليس هذا كل ما كشفه السيد هيكل، بل إنه كشف نوايا القيادة المصرية.

لعل مفتاح حرب يونيو 1967 هو من يوجه الضربة الأولى؟ من أجل ذلك عملت الدولتان أمريكا والاتحاد السوفيتي على مناشدة الطرفين بالطرق الدبلوماسية السرية وحتى بالطرق العلنية بعدم بدء الحرب. ومن أجل ذلك سعت مخابرات الدول –جميعها- لمحاولة معرفة نذر الضربة الأولى. سعت إسرائيل بكل ما أوتيت مخابراتها من قدرات لمعرفة نوايا مصر في هذا الصدد، وعملت في نفس الوقت على إخفاء نيتها بتوجيه الضربة الأولى، ونجحت في ذلك، فكانت الضربة مفاجأة استراتيجية. قبل يونيو 1967 بزمن ليس بالقصير –بحساب التخطيط العسكري- تأكدت إسرائيل من أن مصر لن تفاجأها بضربة جوية، وعلى هذا الأساس أخذت راحتها في اختيار توقيت أكثر ملاءمة لتوجيه ضربتها، حساباتها أصبحت تدور حول استعداداتها هي، وحول استباق أي جهد دولي قد يحول دون حرمانها من هذه الفرصة الذهبية، وباختصار فهي لم تعد في حالة سباق مع مصر: أيهما يوجه الضربة الأولى ويستفيد من عنصري المباغتة والمبادأة. ولكن كيف ومتى علمت إسرائيل بالنوايا المصرية؟

في مقالة بصراحه المنشورة في الأهرام بتاريخ 26 مايو 1967 تحت عنوان:  “الصدام بالسلاح مع إسرائيل محتم .. لماذا؟” اختتم السيد هيكل مقاله بالعبارات التالية:

“وهنا يبرز سؤال حيوى:

- هل انتهت المسألة؟

لقد شرحت – أو حاولت أن أشرح فى الملاحظة الأولى من هذا الحديث – أن المسألة لم تنتهِ وإنما هى – بالكاد – بدأت لأنى على يقين من أن إسرائيل لعدة عوامل، فى مقدمتها العامل النفسى، لا تستطيع أن تقبل ما حدث حتى الآن وتسكت عليه…

لا تستطيع فى تقديرى..

معنى ذلك- وهذا هو قصدى من هذه الملاحظة الثانية فى هذا الحديث – أن الخطوة التالية لها، عليها هى الآن أن ترد. (يقصد إسرائيل)

وليس أمامها غير أن توجه ضربة وعلينا أن نكون فى انتظارها نقلل – كما قلت – إلى أقصى حد مستطاع من تأثيرها، ثم تكون لنا الضربة الثانية نشحنها بالتأثير إلى أقصى حد مستطاع.

وباختصار.

فإن مصر استعملت القوة وحققت أهداف هذه المرحلة بدون الالتجاء حتى الآن إلى السلاح.

وإسرائيل ليس أمامها الآن غير أن تلجأ إلى السلاح إذا أرادت استعمال القوة.

أى أن خط سير المواجهة الرهيبة الواقعة الآن بين مصر المعززة بقوى جماهير الأمة العربية، وإسرائيل المعززة بحماقة القوة الأمريكية – يفرض على مصر بعد كل ما نجحت فى تحقيقه أن تنتظر… حتى ولو كان انتظارها لضربة.

ذلك ضرورى أيضاً لسلامة خط سير المعركة خصوصاً من وجهة نظر دولية.

ولتبدأ إسرائيل!

ولتكن بعدها ضربتنا الثانية متحفزة… وقاضية!..”

أذكر أنني مع عدد من رفاقي ضباط مدرستي المخابرة والمشاة، في معسكر المرج، كنا نستمع لهذه المقالة في صوت العرب، وكنا نعي تماما معنى ما كتبه هيكل، وأن المبادأة قد أعطيت للعدو. دار جدال يومها: هل ما يقوله هيكل هو الحقيقة، أم أن هذا يقع ضمن تكتيكات الخداع المصرية. يومها غلّب أكثرنا التكتيك والخداع، لأننا لم نظن أن القيادة المصرية بهذا الغباء، ولم نظن أن النوايا يُعلن عنها هيكل على صفحات الأهرام. أذكر أن ضابطا واحد قال: لا أظن أنها (تكتيكه) ولكن خوفي منها (هتيكه).

نعم لم يكن ذلك تكتيكا ولكنه كان إفشاء مفضوحا وكشفا للعدو المتربص عن نوايا القيادة المصرية.

وللحديث بقية إن شاء الله

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هيكل والافتراء على التاريخ – المعلومات ومعركة الاستخبارات – الحلقة الرابعة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

لا يختلف اثنان على أهمية المعلومات الاستراتيجبة في مجريات الحروب عامة، والحروب الحديثة بشكل خاص. ولهذا تحرص الدول على المعلومات بركائز أربع:

  •     الحصول على المعلومات الصحيحة.
  •       وأن يُحصل على المعلومة في وقتها.
  •       اتخاذ تدابير وترتيبات تمكن الاستفادة من المعلومة واستثمارها.
  •      إجراءات الوقاية من التجسس وحرمان الأجنبي –وبالأخص العدو- من الحصول على المعلومات.

 

من أجل ذلك تفعل الحكومات كل ما يمكن بدءا من بث العملاء والجواسيس وانتهاء بعقد الصفقات والاتفاقيات مع الدول الأخرى للتعاون في مجال تبادل المعلومات. وفي هذا الصدد نجد أن إسرائيل قد نجحت أيما نجاح في الركائز الأربع، حصلت على معلومات حيوية في وقتها واستثمرتها، ومنعت عدوها من الحصول على معلومات. سخرت لذلك كل إمكاناتها وقدراتها، وعقدت الاتفاقات المكتوبة وغير المكتوبة. أما على الجانب العربي فنجد فشلا ذريعا، في الحصول على المعلومات في الوقت المناسب، وفي إحسان استثمارها، وفي حماية الأسرار الاستراتيجية من سطوة العدو.

في مجال الاستخبارات والتجسس، ليس هناك من شك في أن إسرائيل قد تمكنت من إقامة علاقات تعاون استخباراتي متينة مع الولايات المتحدة ومع غيرها من الدول. الاستخبارات عادة يتم تبادلها، وهي لا تعطى مجانا. ونحن نعرف الآن ما لم نكن نعرفه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. نعرف أن المخابرات الإسرائيلية بكل فروعها “الموساد والشافاك وأمان” تعد من أكفأ أجهزة المخابرات في العالم، كما بتنا نعرف بحجم الاختراق الذي تمكنت “الموساد” من تحقيقه في عدد كبير من الدول العربية وعلى الأخص في دول الجوار (مصر وسوريا ولبنان والأردن)، وعلى أعلى المستويات السياسية والعسكرية. هذا الاختراق كان على أيدي جواسيس تمكنوا من الوصول إلى أكثر المواقع الاستراتيحية حساسية، وإلى مواقع القيادات العسكرية والسياسية . لقد ذكر السيد هيكل اسمين فقط من عملاء “الموساد” الكثر المنتشرين في الدول العربية، ذكر (ولفغانغ لوتز وإيلي كوهين)، وهما من أخطر الجواسيس فعلا، لكنه أغفل جاسوسا لا يقل عنهما خطورة إن لم يبزهما في مقدار ما قدمه من خدمات ومعلومات لإسرائيل، وما أحدثه من ضرر لمصر، بل إن هذا الجاسوس وما قام به قد يُفسِّر إلى حد كبير ما حدث في الخامس من يونيو، وكيف تصرفت إسرائيل في ذلك اليوم تصرف العارف بكل دخائل القوات الجوية المصرية. هذا الجاسوس هو “باروخ نادل”.

وفي الواقع فإنه مهما تقدمت تقنية الاستخبارات والتجسس إلا أن العنصر البشري الموجود على الأرض يظل ركيزة أية معلومات ذات قيمة خاصة إذا تمكن من وضع نفسه في الدائرة المناسبة لالتقاط المعلومات الحيوية والحساسة. لكن “كوهين” و “باروخ نادل” لم يتمكنا من التواجد في دائرة التقاط المعلومات فحسب، ولكنهما تمكنا في أحيان كثيرة من وضع نفسيهما في محيط دائرة اتخاذ القرار. وفيما جرى الكشف عن “كوهين ” وأعدم في سوريا، إلا أن “باروخ نادل” قد أنهى مهمته إلى آخر لحظة ثم غادر القاهرة على متن الخطوط التركية صبيحة الخامس من يونيو دون أن يقبض عليه.

باروخ نادل قدم روايته في كتاب سماه “وتحطمت الطائرات عند الفجر“، صدر هذا الكتاب بعيد حرب يونيو. هو كتاب كتبه جاسوس ويمكن تصنيف بعض ما جاء فيه على أنه مبالغات تقع في دائرة الحرب النفسية، لكن لا يمكن تجاهل معظم ما جاء في هذا الكتاب، خاصة وأن هناك ما يسندها مما كشفت عنه الأوساط المصرية نفسها في أوقات لاحقة، علاوة على أنه لم يقم حتى الآن أي من المسؤولين المصريين بتقديم تكذيب –مقبول- لما ورد في هذا الكتاب من معلومات خطيرة تكشف المدى والمستويات الذي بلغها الاختراق، وتوضح المعلومات الخطيرة التي تم الحصول عليها ونقلها إلى تل أبيب. قد نعود إلى هذا الكتاب في وقت لاحق، غير أننا في هذا المقام نوضح أن هذا الجاسوس أقام في مصر ما يقرب من 14 سنة بعد أن دخلها تحت اسم (مالك نوير) وزعم أنه تاجر تركي يتاجر بصفقات السلاح، وخاصة في معدات وتجهيزات السلاح الجوي، وتمكن من الوصول إلى أعلى مستويات القيادة المصرية، خاصة في قيادة السلاح الجوي وحتى في القيادة العامة ووزارة الحربية. يَدَّعي هذا الجاسوس أن علاقاته التي بناها وصفته التي انتحلها مكنتاه من التجول في كثير من المطارات الحربية المصرية، كان ضيفا دائما في نوادي وميسات الضباط، وكان مضيفا يقيم الحفلات ويختلق لها المناسبات. تمكن هذا الجاسوس من تزويد إسرائيل بمعلومات استراتيجية عن القوات المصرية، خاصة الطيران والمطارات الحربية، عن مدارج الإقلاع والهبوط، عن ضباط الطيران، عن عادات وتوقيتات السلاح الجوي المصري، عن المدارج الحديدية البديلة التي اكتشف أنها باتت صدئة بسبب انعدام الصيانة والإهمال الذي بلغ حد بقائها لسنوات عديدة دون أن تفرد وتطرح على الأرض، مما جعلها غير صالحة للاستعمال. معلومة حيوية حازت عليها إسرائيل، وعرفت أن مصر لن تستطيع تعويض المدارج بعد ضربها. ومما يدعيه هذا الجاسوس أيضا أنه رتب سهرة حضرها عدد كبير جدا من ضباط  سلاح الطيران المصري في الليلة التي سبقت الضربة الجوية الإسرائيلية واستمرت السهرة حتى الرابعة فجرا على حد قوله (أي قبل الضربة الإسرائيلية الجوية بساعات معدودة)!!. ويوضح كيف تمكن هو من مغادرة مصر على متن الخطوط الجوية التركية صبيحة الخامس من يونيو، واصفا المنظر الذي رآه من الجو بعيد إقلاع الطائرة للدخان وهو يغطي سماء القاهرة من المطارات المحترقة -خاصة مطار ألماظه الحربي- نتيجة للغارة الجوية الإسرائيلية.

هذا جاسوس واحد قررت إسرائيل الكشف عنه بعد أن احترقت أوراقه، وهناك غيره، وللأسف غيره كثير… ولعل المعلومات التي تتكشف من حين لآخر يوضح حجم الكارثة، ويوضح أن الاختراق لم يقتصر على  عملاء أوفدوا من الخارج، بل تعداه إلى عملاء جندوا من الداخل، ومن أكثر الدوائر السياسية والقيادية حساسية. هذا لم يكن متوقفا على مصر وحدها، وإن كان التركيز الإسرائيلي كان منصبا على دول الجوار وفي مقدمتها مصر.

إيرادنا لمثال “باروخ نادل” ولجزء يسير من دوره هو من قبيل توضيح أن هؤلاء الجواسيس على الأرض هم من أعطى جهاز “الموساد” شهرته، ودفع معظم أجهزة الاستخبارات إلى الاحتياط منه والسعي لإقامة صلات استخباراتية معه. ولهذا فإن القول بأن إسرائيل كانت عاجزة استخباراتيا لولا ما قدمته لها أمريكا من معلومات هو قول يفتقر إلى الدقة إن لم نقل إلى الصدق. هؤلاء الجواسيس، وأحدهم “باروخ نادل”، قاموا بعملية اختراق كبيرة، وهم من جعل الطائرات الإسرائيلية تقوم بمهامها في الخامس من يونيو بأقل الخسائر وبأكبر درجات الدقة والنجاح.

أما ما لم يتمكن هؤلاء الجواسيس من نقله إلى إسرائيل فقد تكفلت بالكشف عنه الصحافة والإعلام الناصري، ذلك أننا نعلم أن القيادة المصرية كانت تعد للمعركة وتخوضها من على صفحات الجرائد المصرية، خاصة الأهرام. كان حشد القوات في سيناء يتم بالخبر والصورة، بل إن السيد محمد حسنين هيكل شخصيا قد شارك في الكشف عن وإعطاء العدو الإسرائيلي معلومات حيوية عن مواقع تمركز القوات في سيناء وعن قياداتها والأسلوب الذي اتفق على اتباعه في تسلسل قيادة المعارك، بل أكثر من ذلك فإن السيد هيكل قد قدم للعدو الإسرائيلي –على طبق من صفحات الأهرام- شيئا أغلى من الذهب نفسه وهو الكشف عن نوايا القيادة المصرية. النوايا هي الجائزة الكبرى التي يرغبها كل عدو، وغالبا ما يفشل جواسيسه في معرفتها. نحن لا نتجنى على السيد هيكل ولكن دوره هذا مثبت وموثق في الأهرام نفسها وكذلك يقر به هو نفسه في أحاديثه في برنامج “مع هيكل” دون أن يرى أي غضاضة في هذا الدور. (قد نتحدث عن أمثلة عن دور هيكل هذا في وقت لاحق)

تجاه هذا الاختراق الكبير الذي حققته إسرائيل، نجد عجزا كاملا للأطراف العربية أن يكون لها أية نوافذ استخباراتية في إسرائيل، وهذا ما اعترف به السيد هيكل، وهذه بعض من الأمثلة عما قاله في هذا الصدد:

” بس اللي أنا عاوز أقوله إنه نحن لم يكن لدينا في الفترة ما بين 1956 لفترة 1967 عميلا واحدا له قيمة داخل إسرائيل، بينما كان لإسرائيل عندنا عشرات العملاء الألمان والصحفيين …… كثير جدا من الصحفيين اللي جاؤوا لنا كانوا في الواقع بيشتغلوا في أماكن أخرى”

“إحنا تعرضنا لاختراقات لم تتعرض لها إسرائيل لكن واحد لم يكن عندنا عملاء أبدا إلا في المسرحيات والمسلسلات …………. ولكن المخطط المصري وهو يضع خطته كان يضع خطته وهو في ظلام كامل”

“أنا بأعتقد أن كمية الاختراق اللي كانت موجودة في مجتمعاتنا كانت غير معقولة”

هذا ما يقر به السيد هيكل من عمليات الاختراق الكبيرة التي تمكنت إسرائيل من تحقيقها بزرع عشرات العملاء، وما رافق ذلك من عجز مصر (وغيرها من الدول العربية) أن تتمكن من زرع ولو عميل واحد “له قيمة داخل إسرائيل”. لكنه مع هذا يردد أنه لولا إمداد أمريكا لإسرائيل بمعلومات استخباراتية لما أمكن لإسرائيل أن تحقق ما حققته، ولما أمكنها أن تعرف شيئا عن القواعد والخطوط المصرية وكذلك “روتين العمل” في السلاح الجوي المصري، فهو يقول:

“إدوا صورا للقواعد وإدوا صورا للخطوط ولكن ما هو أهم في اعتقادي أنهم إدوا روتين العمل.”

فماذا كان يفعل “عشرات الجواسيس والعملاء” الذين زرعتهم إسرائيل داخل مصر، إن لم يستطيعوا إمداد إسرائيل بهذه المعلومات؟ وماذا كان يفعل “باروخ نادل” الذي تمكن من الدخول إلى قواعد جوية مصرية كما شاء ووقتما شاء؟ وهو الذي أبلغ إسرائيل عن أدق أسرار السلاح الجوي المصري؟.

لا ينبغي التباكي على أطلال الفشل في أن تخوض معركة الاستخبارات كما ينبغي: تزرع عملاء لك .. وتحصن ذاتك من الاختراق. ولا ينبغي البحث عن أسباب أخرى غير -هذا الفشل- أدت إلى ما تمخض عن المعركة في شقها الاستخباراتي، وما ترتب على ذلك من كوارث في المعارك البرية والجوية. ولا ينبغي المبالغة في حجم المعلومات الاستخباراتية التي قدمتها أمريكا لإسرائيل، في الوقت الذي تتحدث فيه المصادر عن أن أمريكا كانت تعتمد على إسرائيل في جزء كبير من معلوماتها عن القوات المسلحة المصرية كنتيجة طبيعية لتمكن إسرائيل من زرع عملاء لها في مصر وعلى مختلف المستويات محققة التجسس البشري الذي لا غنى عنه مهما تقدمت التقنيات. وحتى لا نستمر في خداع أنفسنا فإن نجاح إسرائيل في عقد صلة استخباراتية مع أمريكا ما كان يمكن أن يتم لو لم يكن لدى إسرائيل ما لا تستطيع أمريكا ان تحصل عليه.

على الطرف الآخر فيبدو أن النظام الناصري بعلاقاته المتشعبة مع الاتحاد السوفيتي لم يستطع أن يتحصل على معلومات استراتيجية عن إسرائيل في وقتها، بل إن المعلومة الوحيدة التي تحصلت عليها مصر من الاتحاد السوفيتي كانت تتعلق بالحشد الإسرائيلي على سوريا، وهي معلومة ثبت خطؤها واتضح أنها غير صحيحة حتى قبل أن تنشأ الأزمة وذلك حين أرسلت القيادة المصرية الفريق محمد فوزي إلى سوريا ورجع ليؤكد عدم صحة الحشود. فهل خَدعَنا حُلفاؤنا السوفيت أم أنهم –كما يؤكد السيد مراد غالب  في شهادته على العصر- هم الآخرون خُدعوا من تسريبات الموساد عبر العملاء السوفيت في إسرائيل؟ وبعد هذا الفشل المركب أو كما يقول إخواننا المصريون “الخيبة التقيلة”، بعد هذا هل يحق للسيد هيكل أن يلوم أمريكا .. ويتباكى بسبب نجاح إسرائيل في هذا الصدد، وهو يقر بكل صراحة أن مصر لم تستطع أن تعقد اتفاقيات في مجال الاستخبارات حتى مع الدول العربية “الشقيقة”، ولم تستطع أن تستثمر طبيعة الأرض على الحدود الأردنية الإسرائيلية، حيث تتمكن “المناظير البدائية” المتمركزة فوق مرتفعات “أم قيس” من رصد المواقع الإسرائيلية في السهول الواسعة حول بحيرة “الحوله” و بحيرة “طبريه”، وكان يمكنها أيضا رصد حركة الطيران الإسرائيلي. أما مثل هذه المواقع على هضبة الجولان ومن على جبل الشيخ، فتستطيع أن ترصد مساحات واسعة من الشمال والوسط الإسرائيلي، وتكون المدفعية المنصوبة فوق هضبة الجولان قادرة على ضرب مواقع وقواعد إسرائيلية في أنحاء شتى حتى شواطئ البحر، ناهيك عن الاستفادة من مواقع في الضفة الغربية للرصد والمراقبة . ترتيبات كهذه كانت تجعل إسرائيل كلها تحت المراقبة العربية، وكان يمكنها إعطاء إنذارات مبكرة وفي الوقت المناسب، وكان يمكنها رصد التدريبات الإسرائيلية على تنفيذ الضربة الجوية، وهي التدريبات التي استمرت طيلة الأعوام (57-67). كما كان يمكن لترتيبات في مجال العمليات والتنسيق من التعويض عن خسائر الطيران وضبط الأمور حتى يجري إصلاح المدارج وتعويض الطائرات، بضربات مدفعية مركزة من مرتفعات الجولان وأم قيس تستهدف القواعد الجوية الإسرائيلية، وخطوط مواصلات القوات الإسرائيلية المتحشدة على خطوط التماس مع مصر. لكن مصر فشلت في أن تقيم صلات عمل مع الأشقاء في الوقت المناسب. يوافقنا السيد هيكل في هذه الناحية، فيقول:

“في الأردن، الأردن بقربه من إسرائيل بإطلالة بعد (بعض) التلال فيه على إسرائيل كان يستطيع قوي أن يرصد قيام الموجات الأولى من الضربة ولكن هذا لم يكن ممكنا أن يتحقق في ظل الظروف التي كانت فيها علاقتنا بالملك حسين -قبل ما يجيء هنا مصر- مقطوعة وخناقات طويلة قوي وحكايات طويلة قوي”

لم يقل لنا السيد هيكل ما هي أسباب “قطع العلاقات والخناقات الطويلة قوي والحكايات الطويلة قوي”. مع الأردن، بل لم يخبرنا السيد هيكل هل للبصمة الأمريكية دور في هذه القطيعة؟ وماذا عن دور السياسات وأجهزةالإعلام الناصرية في هذه القطيعة “والخناقات”. وربما لا يكون مناسبا أن نسأل السيد هيكل عن دوره هو في الحملات الإعلامية التي أدت إلى هذه القطيعة وأججة نيرانها.

ونقول بأن يوم الخامس من يونيو كان يوم حصاد : طرف حصد نتائج عمل دؤوب لتحقيق أهداف محددة، وطرف حصد نتائج التراكمات التي خلفتها سياسات الخطب العنترية والمواقف المرتجلة والصراعات الداخلية واختلاق المعارك الهامشية، ولم يكن مجديا تدارك هذا الحصاد المر بإجراءات ارتجالية في أيام قليلة مع الأردن وغيرها. لم يكن في الإمكان –في أيام معدودة- تحويل سنوات من القطيعة والشتائم والتآمر إلى ثقة وعمل مشترك وتبادل للمعلومات،  فصدق في العرب المثل العربي القائل: “الصيف ضيعت اللبن”.

وللحديث بقية إن شاء الله

 

 

 

هيكل والافتراء على التاريخ – نظية التدخل الأمريكي (الحلقة الثانية)

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم” هيكل

نظرية التدخل الأمريكي: حقيقتها وكيف نشأت

نظرية الدور الأمريكي في حرب 1967 تعود إلى الساعات الأولى من الحرب، بل ربما سبقت اندلاع الحرب نفسها.

قبل الحرب كان الإعداد النفسي للجماهير العربية لتقبل نظرية الاعتداء الأمريكي. نجد ذلك في الإعلام المصري، خاصة فيما كانت إذاعة صوت العرب تبثه من تحريض للجماهير الليبية بمهاجمة قاعدة “الملاحة/ويلاس”، ونجده أيضا في كثير مما نشرته الأهرام والصحف المصرية الأخرى، بل وفي ما كتبه السيد هيكل نفسه.

لنأخذ على سبيل المثال ما أشار إليه السيد هيكل في مقال سبق اندلاع الحرب:

“كلمة الأهرام بتقول “سمعة ليبيا هي الموضوع!” وهنا ده موضوع مهم قوي لأن إحنا كنا قلنا خبر قبلها بيوم إنه في حركة عسكرية كبيرة جدا في مطار ويلاس في قاعدة ويلاس في طرابلس في ليبيا، وبنقول إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار، …………”

“فإحنا كتبنا وبمنتهى الأدب تعقيبا على وزير خارجية ليبيا السيد بشتي بنقول له إن الموضوع مش موضوع أنكم تقولوا إن سمعتكم في الميزان، مش موضوع أن تقولوا لا حصل ما حصلش، هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها.”

وبغض النظر عن أن السيد هيكل لم يقدم يومها أي إثبات لما كتبه في الأهرام لأنه تعود أن يكتب فُيصدق دونما حاجة لأن يقول لنا كيف عرف بأن “هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها.” في الوقت الذي لم يعرف الليبيون بهذه ال “حركة عسكرية كبيرة جدا في مطار ويلاس في قاعدة ويلاس في طرابلس في ليبيا، ……. إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار،”  لكنها لم تلفت إليها ليس فقط أنظار الليبيين ولكن يبدو أيضا أن هذه الحركة (الكبيرة الملفتة للأنظار) لم تلتفت إليها حتى أنظارسفارات الدول المنتشرة في طرابلس بالقرب من قاعدة “الملاحة/ويلاس” بما فيها سفارة الاتحاد السوفيتي وسفارات دول حلف “وارسو”، لأن هذه الدول ببساطة شديدة لم تقل بأن سفاراتها في طرابلس قد لاحظت هذه الحركة (الكبيرة الملفتة للأنظار)، ولم تقل أي من هذه الدول بأن قاعدة “الملاحة/ويلاس” قد استعملت.

نعم .. هذا الحديث عن نظرية التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس” كان يتم حتى قبل اندلاع المعارك، والغاية منه هو إعداد الجماهير العربية، وخاصة الليبية، نفسيا لتقبل نظرية التدخل الأمريكي.

أما بمجرد حدوث الضربة الجوية الإسرائيلية فقد ابتدأت القيادات المصرية على مختلف مستوياتها تتحدث –حتى فيما بينها- عن نظرية التدخل الأمريكي، وتبحث عن أية شوارد يمكن استخدامها، بل وربما اختراع الشواهد والشوارد التي قد تعزز هذه النظرية. وفي هذا يخبرنا السيد هيكل بروايته للأحداث عن تلعثم المشير عبدالحكيم عامر في ردوده على أسئلة عبدالناصر حول الموقف، وكيف بدت المسألة وكأنها استجواب من عبدالناصر لنائبه عبدالحكيم عامر. وهو –على فكرة- موقف لم يحضره هيكل ولم يكن شاهدا على الحوار بين الرجلين ولكنه يسوق هذا الحوار بحرفية المسجلات الالكترونية زاعما أن الرجلين قد قالاه له هو دون غيره.  لنستمع للسيد هيكل:

” لكن جمال عبد الناصر أظنه أنه بدأ يقلق لكن إلحاحه في ذلك الوقت على عبد الحكيم أنه تقريبا، الاثنان اتفقوا في روايتهم لي في الحوادث أن جمال عبد الناصر كان دائم التكرار بيقول لعبد الحكيم أنا عايز أعرف إيه هي الحقيقة، إيه التقارير، إيه الصورة الحقيقية لما جرى في الطائرات، كم حجم الخسائر؟ لأنهم بدؤوا يقولون كلاما، بدأ عبد الحكيم يقول، وأظن هنا في نقطة من النقط المهمة جدا أن عبد الحكيم بدأ يقول إن حجم الضربة الجوية أكثر مما تتحمله طاقة إسرائيل، هذه مش إسرائيل هذا حد ثاني، وبعدين حصلت حدة في الموقف، جمال عبد الناصر بيقول له الحد الثاني مين؟ بيقول له الأميركان. بيقول له الأميركان شوف أنا -وهذا ثابت من كل الروايات- قال له أنا لا أصدق في المعلومات اللي عندي -وأظن هنا كان  غلطان جمال عبد الناصر- في المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي وعلى أي حال أنا مستعد أصدقك أن الأميركان دخلوا لكن أطلب منك حاجتين -ده كان قدام كل الناس اللي موجودين- أطلب منك إما أن تأتي لي بحطام طائرة أميركية ضربتوها وإما أن تأتي لي بطيار أميركي أسير وأما دون هذا فأنا مش مستعد أصدق حكاية الأميركان موجودين، وأنا لا أستطيع أن أطلع قدام الناس وأقول لهم والله الأميركان موجودين بدون أن يكون لدي دليل…”

حوار بين عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر يبين مستوى الارتباك والرغبة في البحث عن معاذير، كما يبين ما وصلت إليه العلاقة بين القائد الأعلى ونائبه من توتر. هذا الحوار يحدث بعد فترة وجيزة من الضربة الإسرائيلية، حين كان الوقت أثمن من أن يضيع في هذه المماحكات، لكن البحث عن قشة تدعم نظرية التدخل الأمريكي يستمر دون توقف، ودون حساب للوقت المطلوب لتدارك المعركة البرية في سيناء التي باتت القوات المصرية تواجهها وهي تفتقر إلى كل شيء وليس فقط الغطاء الجوي، بل وإلى القيادة المتفرغة لإدارة معركة يتعلق عليها مصير أمة بأكملها. لنستمع لما يقوله هيكل:

“التضارب في هذه النقطة عمل حاجة غريبة جدا، يحكي بغدادي على سبيل المثال يقول إنه اتصل له، في صدقي محمود بيقول إنه عنده ضابط في طيار قديم في الجنوب في الصعيد في قاعدة من قواعد الصعيد اسمه حسني مبارك شاف طيارة أميركية، بيقوم عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر بيقولوا الكلام ده مش معقول، فعبد الحكيم عامر يقوم يكلم هذا الضابط حسني مبارك في المطار بيكلمه بنفسه في وجود جمال عبد الناصر فهذا الضابط بيقول لا، أنا اللي شفتهم كانت طائرات إسرائيلية. الارتباك كان كده إلى هذا الحد كان كبيرا جدا إلى درجة أنه في وقت بيفوت وعمليات القوات البرية على وشك أنها ستبتدي،”

لم يتوقف السيد هيكل .. ولم يستطرد كما -عودنا- ويتساءل عن هذه الرواية .. هل كان العضو السابق لمجلس قيادة الثورة السيد “عبد اللطيف البغدادي” –المعروف بدقته- مخطئا في نقله عن صدقي محمود؟ .. أم أن صدقي محمود قد ذكر له هذه الحادثة فعلا نقلا عن أحد طياريه؟، وأن هذا الطيار قد تراجع عن زعمه لسبب ما .. أم أن الأمر كله كان مختلقا من أساسه؟، ولذلك فإن الطيار “حسني مبارك” قد أنكر علمه بالرواية وأنكر رؤيته لطائرات أمريكية حين قام كل من عبدالحكيم عامر وعبدالناصر بالاستفسار منه حول هذه المسألة. في وقت مصيري كهذا تحسب فيه الثواني قبل الدقائق، تتحول القيادات المصرية كلها (الرئيس ونائبه وكل قيادات القوات المسلحة … وربما سرت العدوى إلى بقية اركان الدولة بما فيها السفارات) تتحول لمتابعة أية شاردة قد تثبت نظرية التدخل الأمريكي. ولعل سؤالا استنكاريا منطقيا يفرض نفسه على هذه الأجواء –التي وضعنا فيها السيد هيكل-، ألم يكن طبيعيا أن يقدم صدقي محمود قائد الطيران تقاريره إلى القائد العام المشير عامر بدلا من أن يسمع هذا القائد العام تقارير قائد طيرانه عن طريق عضو سابق مبعد عن مجلس قيادة الثورة؟. وللأسف فإن هيكل لم يتوقف أيضا ويسأل -باستنكار- لماذا تحولت غرفة العمليات في تلك اللحظات المأساوية المصيرية الحرجة إلى مساحة ازدحمت بكل من هب ودب، ولماذا لم يعد لقائد الطيران من مهمة إلا الاتصال أو تلقي الاتصالات من أشخاص ليس لهم أي دور في سير المعركة لا على صعيدها السياسي ولا على الصعيد العسكري.

من الضروري جدا أن نعود إلى الحوار الذي دار بين عبدالناصر وعبدالحكيم عامر. في هذه المحادثة يقول الرئيس عبدالناصر بأنه لا يصدق المعلومات -أو ربما نقول الافتراضات- التي يقدمها المشير، ويقول صراحة:  ” المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي”  إذن فالرئيس عبدالناصر لديه معلومات تنفي التدخل الأمريكي، ويبدو واثقا جدا من هذه المعلومات … فيبدي عدم استعداده لإعلان تدخل أمريكا بدون أن يكون هناك دليل.

كان عبدالناصر يطلب أحد أمرين عجزت القيادة العامة أن تقدمهما: طائرة أمريكية أسقطت، أو طيارا أمريكيا أسر. وإذا ما صدقنا رواية هيكل فإن الرئيس عبدالناصر  لم يصر على هذا المطلب طويلا، بل سرعان ما طرح ثقته في معلوماته التي تنفي التدخل الأمريكي وتنازل عن مطلب الطائرة المسقطة أو الطيار الأسير. تنازل عن كل ذلك واكتفى لتأكيد التدخل الأمريكي ببعض التقارير التي يقول هيكل بأنها قد جاءت من السفير المصري في باريس، والملحق العسكري المصري في طرابلس (وسنتحدث في الوقت المناسب عن هذه “التقارير” التي ذكرها هيكل، والتي يعلق عليها مرافعته لإثبات الدور المزعوم لقاعدة ويلاس). لكننا إذا ما استقرأنا الأحداث وراجعنا خطب عبدالناصر وتصرفاته بعدئذ لوجدنا أنه لم يستطع أن يقول صراحة –ولو مرة واحدة- بحدوث التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس”، وأن أقصى ما قاله عبد الناصر هو الإشارة التي وردت في خطاب التنحي الشهير:

“أن العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب؛ الأمر الذي يقطع بأن هناك تسهيلات تفوق مقدرته، وتتعدى المدى المحسوب لقوته، قد أعطيت له”.

معروف أن هذه العبارة المطاطة من صياغة السيد هيكل ضمن صياغته لخطاب التنحي الذي يقول السيد هيكل أنه استغرق منه بضع ساعات لإتمامه. ولا أحسب أن عبدالناصر كان سيكتفي بمثل هذه العبارة ويتوقف عندها لو كان مقتنعا فعلا ومتأكدا من التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس”.

وبدون شك فإن الأمر كان وقتها في غاية الخطورة والحساسية: الرئيس عبدالناصر يُلقي خطابا يعترف فيه بالهزيمة “النكسة”، في وقت حطمت فيه إسرائيل القوة العسكرية المصرية وقوات دول عربية أخرى، وباتت قواتها تحتل الضفة والقطاع والجولان وسيناء وتسيطر على الضفة الشرقية لقناة السويس، في ذلك الوقت لم يعد من القوات المسلحة المصرية أية قوة قادرة على إنجاز مهمات قتالية ذات معنى، اللهم إلا فرقة الحرس الجمهوري التي عُهد إليها بتأمين النظام الحاكم في القاهرة، وبات قادة هذه الفرقة يتلقون تعليماتهم مباشرة من الرئيس عبدالناصر –المتنحي عن الرئاسة-، أما الطريق الذي يربط بين مدن قناة السويس والقاهرة فلم تجد القيادة المصرية إلا طلبة الكلية الحربية لاستنفارهم لمراقبته والدفاع عنه!!!. في هذه الظروف الحرجة، لنا أن نتصور أن عبدالناصر لديه معلومات ووثائق حقيقية يُعتد بها تدين أمريكا وتفضح استخدامها لقاعدة “الملاحة/ويلاس” منطلقا لعدوانها على مصر ولا يكشف –في تلك الظروف المصيرية- هذه الوثائق!! .. ولا يقول صراحة أن مصر تلقت ضربة شاركت فيها أمريكا بقوتها الجوية المنطلقة من قاعدة “الملاحة/ويلاس”!!. أم أنه وقتها -وهو يبحث حتى عن القشة- كان يعرف أن الوثائق المزعومة التي لوح بها هيكل –إن كان هناك وجود لهذه الوثائق أصلا- لا تستطيع أن تصمد أمام أي اختبار.

كما أن العلاقات اللاحقة بين مصر وليبيا –حتى فيما تبقى من حكم عبدالناصر- لا تدل بأي شكل من الأشكال على مزاعم التدخل الأمريكي باستخدام الأراضي الليبية، وليس هناك أي دليل واحد أن مصر أثارت –بصورة رسمية- مع الحكومة الليبية هذه المسألة، أو أثارتها في أي محفل رسمي دولي.

بل ماذا يقول هيكل في أن الرئيس عبدالناصر والملك حسين كليهما قد أنكرا وجود أي تدخل عسكري أجنبي في الحرب وذلك أثناء مؤتمر القمة العربية الذي انعقد بعيد الحرب في الخرطوم. بل إن مصادر متعددة أشارت إلى أن عبدالناصر قد قدم شرحا تفصيليا في إحدى جلسات القمة قال فيه بأن الاتهام الوارد في بيان وزارة الخارجية المصرية الصادر يوم 6 يونيو لكل من بريطانيا وأمريكا بالمشاركة الفعلية في الهجوم الجوي الإسرائيلي كان بسبب خطأ في معلومات الرادار المصري وكذلك لأن الطائرات الإسرائيلية جاءت من البحر من اتجاه الأسطول السادس . واضح أن عبدالناصر -خلال هذا الشرح والتبرير- لم يشر إلى ليبيا أو إلى قاعدة “الملاحة/ويلاس” لا من قريب ولا من بعيد، لم يشر حتى إلى أنهم ظنوا أن الهجوم قادم من ناحية القاعدة،  بل أشار إلى أن القيادة المصرية توهمت أن الطائرات أمريكية كونها قادمة من البحر من جهة الأسطول السادس.

وماذا يقول السيد هيكل في أن السفير السوفياتي بالقاهرة بادر يوم 6 يونيو وبعد صدور تصريح وزارة الخارجية المصرية المشار إليه بإعلام السلطات المصرية أن معلومات الاتحاد السوفياتي تنفي حدوث مشاركة أجنبية (لا بريطانية ولا أمريكية) .

وماذا يقول السيد هيكل في الرجاء الحار –خلال مؤتمر القمة في الخرطوم- الذي طالب به الرئيس عبدالناصر الدول العربية (التي لديها علاقات مع أمريكا) أن تتوسط لرتق علاقات مصر المقطوعة مع أمريكا، معترفا باستعجاله في قرار قطع العلاقات، هل هذا تصرف رئيس يعلم أن أمريكا قد اعتدت على بلده ولم تجف دماء الضحايا بعد.. وما زال العدو يرسخ احتلاله لسيناء والضفة والقطاع والجولان ؟…

وماذا يقول السيد هيكل في التصريح الذي أدلى به الملك حسين لوكالة “آسوشييتد بريس” في نيويورك بتاريخ 30 يونيو 1967 وقال فيه صراحة بأنه متأكد من أن الطائرات الأمريكية والبريطانية لم تشارك في المعارك. وهذا نص التصريح:

“On 30 June, King Hussein announced in New York that he was “perfectly satisfied” that “no American planes took part, or any British planes either”.

وترجمة التصريح: ” بتاريخ 30 يونيو أعلن الملك حسين في نيويورك أنه كان مقتنعا تماما أنه لا الطائرات الأمريكية ولا البريطانية قد شاركت”

إذن كانت نظرية التدخل الأمريكي موجودة ومثارة في الإعلام المصري قبل الحرب وأثناءها، وكانت الشغل الشاغل لدى القيادات المصرية السياسية والعسكرية، لدرجة أن الرئيس عبدالناصر أجرى اتصالا هاتفيا عمل فيه على إقناع الملك حسين بالادعاء بتدخل كل من بريطانيا وأمريكا. المكالمة اشتهرت وافتضحت لأن المخابرات الإسرائيلية التقطتها وأذاعتها في حينها بصوت الرجلين. وفي تلك المكالمة كان عبدالناصر يسأل الملك حسين عما إذا كانت بريطانيا تمتلك حاملة طائرات!!!. ويسأله هل “نقول أمريكا وبريطانيا وإلا أمريكا بس” ، ليس في المكالمة أي حديث عن الأراضي الليبية أو قاعدة “الملاحة/ويلاس” لا من قريب ولا من بعيد، بل إن الادعاء كان منصبا على حاملات الطائرات !!!.

أما بعد الحرب فقد سقطت بالكامل نظرية التدخل البريطاني، ولكن استمر الحديث عن نظرية الدور الأمريكي في الإعلام المصري، ولكن بدرجة من الخفوت التدريجي بعدما لم يوجد من المعطيات ما يثبت هذا التدخل.

وحده السيد هيكل الذي استمر –منذئذ وإلى يومنا هذا- يثير هذا الموضوع ويصر على أن الولايات المتحدة الأمريكية قد شاركت إسرائيل في توجيه الضربة الجوية مؤكدا بأن قاعدة “الملاحة/ويلاس” في طرابلس قد جرى استخدامها لانطلاق الطائرات الأمريكية المغيرة. ولعل أي متابع لأحاديث وكتابات السيد هيكل منذ حرب يونيو سيجد تكريرا لهذا الزعم، وسيلمس في نفس الوقت تناقضات في روايات هيكل المتعددة، كما سيجد أن هيكل قد فشل في تقديم أية قرائن حول مزاعمه بالخصوص، إلى أن طالعنا في برنامج “مع هيكل” بحديث –لم يخل هو أيضا من التناقضات – عن وثائق يدعي أنها تثبت وتسند زعمه باستخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدة “الملاحة/ويلاس” خلال حرب يونيو 1967.

وهذه المزاعم هي محور هذه المقالات، وسيكون لنا إن شاء الله حديث عن وثائق هيكل المزعومة.