هيكل والافتراء على التاريخ –”الأدلة” التي استخدمها هيكل– الحلقة الحادية عشرة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

جـ) برقية السفير المصري في باريس

لا بد أن نعيد التذكير بأن نظرية التدخل الأجنبي في حرب يونيو 1967 كانت موجودة حتى قبل اندلاع الحرب، وكانت أجهزة الدعاية الناصرية تروج لهذه النظرية، وكان هيكل في مركز هذا الترويج وفي صدارته. ولقد رأينا ما ذكره هيكل في أحاديثه عما نشرته الأهرام قبل الحرب بهذا الخصوص، ورأينا أيضا مقدار الشراسة التي واجهت بها الأهرام تصريحات وتوضيحات وزير خارجية ليبيا الدكتور أحمد البشتي.  أما بمجرد حدوث الضربة الجوية الإسرائيلية فقد ابتدأت القيادات المصرية على مختلف مستوياتها تتحدث –حتى فيما بينها- عن نظرية التدخل الأمريكي، وتبحث عن أية شوارد يمكن استخدامها، بل وربما اختراع الشواهد والشوارد التي قد تعزز هذه النظرية. وفي هذا فقد  قام السيد هيكل بنقلنا إلى الأجواء التي سادت غرفة عمليات القيادة العامة وما كان يدور فيها من بحث محموم عما من شأنه أن يؤكد التدخل الأجنبي وعلى وجه التحديد التدخل الأمريكي انطلاقا من أن الضربة الجوية كانت أكبر مما هو متوقعا، وأن الخسائر كانت كارثية بمعنى الكلمة الأمر الذي سيصعب تبريره دون إقحام التدخل الخارجي وبوجه خاص التدخل الأمريكي.

وقتها لم يتوقف أحد للحديث عن الأسباب التي مكنت إسرائيل من توجيه هذه الضربة ومن ثم إحداث هذه الخسائر الكارثية التي حسمت المعركة منذ لحظاتها الأولى، بل إن جميع أولئك القادة بمن فيهم الرئيس عبدالناصر لم يستطيعوا –آنذاك- أن يدركوا أن تلك الضربة قد مكنت إسرائيل من حسم معركتها مع العرب لأجيال ولعقود ستلحق. لم يتوقف أحد ليتساءل كيف أمكن لإسرائيل أن تقوم بتلك الضربة لأن هذا من شأنه أن يضع كل أركان الحكم الناصري في دائرة المسؤولية التي ترتبت عن سنوات طويلة من الإهمال والتسيب والاستخفاف الذي اقترب من الخيانة. سيكون عبد الناصر أول المسؤولين بفشله في إعداد مصر لمعركة كانت متوقعة، ولسياساته التي حالت دون توافر إمكانات الاستفادة من الطاقات العربية وتوجيهها للمعركة، وعن سنوات من المعارك (الدانكشوتية) طالت على وجه الخصوص الأشقاء العرب، وعن قرارته التي اتخذها بالوقوع في شراك معلومات زرعتها أجهزة العدو؛ هذا إذا أحسنا النية بأنه وقع في شرك، وعلى أساس تلك القرارات اختلق الأزمة وألحقها بالتحشد الاستعراضي للقوات المسلحة المصرية والإداراة الاستعراضية الإعلامية لمعركة حربية، ولقراره الكارثي بحرمان مصر من المبادأة ومن فرص توجيه الضربة الأولى أو على الأقل توقي الضربة الإسرائيلية، والأدهى السماح لهيكل أن ينشر هذا القرار على صفحات الأهرام. أجل إن الأسباب التي مكنت إسرائيل من جعل تلك الضربة الجوية بتلك الضخامة كانت واضحة ومعروفة للقيادات المصرية سواء في رئاسة الجمهورية أو التي كانت موجودة في غرفة العمليات وقتها، لكن الاعتراف بذلك كان يعني الاعتراف بالسجل الطويل من الخطايا التي ارتكبها الحكم الناصري بدءا من ترك عملاء وجواسيس إسرائيل يمرحون في مصر في أوساط القوات المسلحة ذاتها وعلى الأخص في داخل قيادات القوات الجوية، مرورا بنشر أسرار تحركات القوات المصرية وتشكيلاتها وقياداتها على صفحات الأهرام، ومرورا بإلغاء حالة الطوارئ المعلنة، وعلى وجه الخصوص قرار وقف عمل الدفاع الجوي المصري في تلك الساعات الحرجة وذلك تأمينا للطائرة التي كانت تقل المشير عبدالحكيم عامر الذي كان في طريقه لزيارة إحدى القواعد الجوية في سيناء والتي كان من المفترض أن يتم تحويلها إلى مركز القيادة الأمامية.

لم يكن سهلا على أحد الاعتراف بذلك، فقد كانت كل أطراف القيادة المصرية مشغولة –في تلك الساعات الحرجة- بإبعاد التهمة، كل عن نفسه، بل إننا نرى -مما أورده السيد هيكل- أن عبدالناصر قد بدأ منذ الساعات الأولى للمعركة في تصفية حساباته مع المشير عبدالحكيم عامر؛ وكأن المعركة قد نشبت خصيصا لهذا الأمر!!  لنقرأ ما قاله السيد هيكل:

” لكن جمال عبد الناصر أظنه أنه بدأ يقلق لكن إلحاحه في ذلك الوقت على عبد الحكيم  أنه تقريبا، الاثنان اتفقوا في روايتهم لي في الحوادث أن جمال عبد الناصر كان دائم التكرار بيقول لعبد الحكيم أنا عايز أعرف إيه هي الحقيقة، إيه التقارير، إيه الصورة الحقيقية لما جرى في الطائرات، كم حجم الخسائر؟ لأنهم بدؤوا يقولون كلاما، بدأ عبد الحكيم يقول، وأظن هنا في نقطة من النقط المهمة جدا أن عبد الحكيم بدأ يقول إن حجم الضربة الجوية أكثر مما تتحمله طاقة إسرائيل، هذه مش إسرائيل هذا حد ثاني، وبعدين حصلت حدة في الموقف، جمال عبد الناصر بيقول له الحد الثاني مين؟ بيقول له الأميركان. بيقول له الأميركان شوف أنا -وهذا ثابت من كل الروايات- قال له أنا لا أصدق في المعلومات اللي عندي -وأظن هنا كان  غلطان جمال عبد الناصر- في المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي وعلى أي حال أنا مستعد أصدقك أن الأميركان دخلوا لكن أطلب منك حاجتين -ده كان قدام كل الناس اللي موجودين- أطلب منك إما أن تأتي لي بحطام طائرة أميركية ضربتوها وإما أن تأتي لي بطيار أميركي أسير وأما دون هذا فأنا مش مستعد أصدق حكاية الأميركان موجودين، وأنا لا أستطيع أن أطلع قدام الناس وأقول لهم والله الأميركان موجودين بدون أن يكون لدي دليل…”

عبدالناصر الذي يصوره هيكل بأنه كان يبحث عن الحقيقة ويستبعد التدخل الأمريكي، والذي كان يؤكد في حديثه الموجه إلى المشير عامر بأن الأمريكان لا يمكن أن يكونوا مشتركين وفقا للمعلومات التي لديه: “معلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي”  ومن حقنا أن نسأل لماذا لم تكن هذه المعلومات متوافرة أيضا عند القائد العام الذي كان عليه أن يقود المعركة؟! .. ونتساءل أيضا من أين هذه المعلومات .. ثم نلاحظ أن عبدالناصر يبدو واثقا من صحة معلوماته بأن الأمريكان “لا يمكن يكونوا داخلين في العملية دي” ويشدد على هذا في محاورته مع المشير عامر.. ثم يغير رأيه بعد فترة لا تتجاوز ساعات قليلة!!

عبد الناصر الواثق من عدم التدخل الأمريكي هو نفسه الذي قام –بعد ساعات قليلة- بالاتصال بالملك الحسين ليقنعه بتلفيق أكذوبة مشاركة بريطانيا وأمريكا في المعارك الجوية. الفارق بين الموقفين واضح: في الأولى كان المهم وضع المشير في موقف المساءلة؛ وهي –على ما يبدو- فرصة لم يسبق أن سنحت لعبد الناصر قبل هذا، أما في الثانية فهي محاولة لضرب عصفورين بحجر واحد: إشراك الملك الحسين في كذبة التخل الأمريكي-البريطاني، والقيام بعملية حفظ ماء الوجه لإنقاذ الهالة التي أحيط بها عبدالناصر وللتمهيد لإنقاذ حكمه من الانهيار بسبب هزيمة مروعة وكارثية في معركة طبل لها كثيرا واستخدمها لإذلال كل من حوله من حكام وشعوب ولكنه لم يفعل شيئا حقيقيا من أجلها. نقول هذا لنؤكد أن عبدالناصر في تلك اللحظات كان مشتركا بصورة فعلية للترويج لأكذوبة المشاركة الأجنبية.  لكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن موقف الرئيس عبدالناصر قد تذبذب بين المطالب بإثباتات حقيقية ملموسة لتأكيد المشاركة الأمريكية، والمصدق لكل ما ورد إليه دون أي تمحيص، ثم قام بنفسه بفبركة الخبر الذي حاول أن يشرك الملك الحسبن في نشره، وقد كان خطاب التنحي قد شهد آخر مرة أشار فيها عبدالناصر بطريقة غامضة إلى موضوع مشاركة أطراف أخرى في المعركة. بعد ذلك تراجع الرئيس عبدالناصر عن هذه الادعاءات، ولم يعد يذكرها أبدا. وما ينبغي أن نكرر ذكره هو أنه لا الرئيس عبدالناصر ولا أي زعيم آخر قد أشار من قريب أو بعيد إلى استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدتها في ليبيا منطلقا للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية. وحده السيد هيكل الذي أطلق تلك الفرية ولم يستطع أن يتجاوزها أو يتراجع عنها، وهذا بيت قصيدنا وسبب مقالاتنا هذه.

ما نقله لنا هيكل عما كان يجري حينها في غرفة عمليات القيادة المصرية، يوضح أن هذه القيادة لم تكن منشغلة بتدارك المعركة البرية في سيناء التي باتت القوات المصرية تواجهها وهي لا تفتقر إلى الغطاء الجوي فحسب، بل وإلى القيادة المتفرغة لإدارة معركة يتعلق عليها مصير أمة بأكملها، لأن القيادة كانت منشغلة عن المعركة بإجراء اتصالات شارك فيها الرئيس عبدالناص والمشير عامر والفريق صدقي محمود بحثا عن قشة تدعم نظرية التدخل الأمريكي. فمن بقي لمواجهة الكارثة الحقيقية؟!!

لكن كل هذه الاتصالات باءت بالفشل في العثور على القشة المطلوبة: فلم يستطع أحد أن يفي بمطالب عبدالناصر بإثبات التدخل الأمريكي عن طريق حطام طائرة أمريكية أو طيار أمريكي أسير، كما عجزت الاتصالات عن الحصول على إفادة أي طيار مصري بأنه شاهد طائرة أمريكية في الأجواء المصرية في ذلك اليوم.

لكن، وبحسب رواية السيد هيكل، لم يمض ذلك اليوم .. بل لم تمض سوى ساعات حتى تحصلت القيادة المصرية على ما اعتبره السيد هيكل إثباتا للمشاركة الأمريكية في الضربة الجوية الإسرائيلية.  لم يكن هذا الإثبات طائرة أمريكية أسقطتها الدفاعات الجوية المصرية .. ولا طيارا أميركيا أسيرا .. ولكن هذا “الإثبات”  كان رسالة من السفير المصري في باريس، وأن الرئيس عبدالناصر بنفسه قد أخبر هيكل عن وصولها. هكذا قدم السيد هيكل هذه الرسالة “الإثبات” ضمن مرافعته البائسة:

“وبعدين الساعة السابعة، ستة ونصف سبعة كده كلمني بالتلفون، كلمني بالتلفون وقال لي على رسالة جاءت من باريس، السفير عبد المنعم النجار في ذلك الوقت هو سفيرنا في باريس، سفير الجزائر صديقه في باريس، سفير الجزائر قابل الجنرال ديغول رئيس الجمهورية الفرنسية في ذلك الوقت، والجنرال شارل ديغول هو من هو، فالجنرال ديغول بيقول للسفير، بيسأل سفير الجزائر عن آخر التطورات أو سفير الجزائر بيسأل الرئيس الفرنسي عن آخر التطورات، فالرئيس الفرنسي يقول لسفير الجزائر بيقول له.. وقف ديغول شوية كده وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”

“عبد المنعم النجار يبدو أنه وجد أن هذه المعلومات لا تستطيع أن تنتظر برقية فعمل حاجتين، الحاجة الأولانية أنه كلم في التلفون السفير محمد رياض وكيل وزارة الخارجية والمساعد الأول في ذلك الوقت لوزير الخارجية محمود رياض وقال له إنه حصل كذا وكذا وكذا، وقال له إنه تكلم في التلفون لكنه حيبعث البرقية، قدامي برقية عبد المنعم النجار، بيقول، قابل سفير الجزائر الرئيس ديغول، أبلغه بوجهة نظر الجزائر في قضية فلسطين واشتراك الجزائر في قواتها المسلحة في الحرب الدائرة وذلك بناء على تكليف من الرئيس بومدين، أشار ديغول بضرورة حل المشكلة جذريا مع مراعاة حقوق اللاجئين، يعتبر أن إسرائيل هي المعتدية وسوف يمتنع عن تقديم أي معونة تماشيا مع ما أعلنته فرنسا من قبل، كان هو ديغول قال إن فرنسا سوف تحدد موقفها من أي حرب مقبلة على أساس من يطلق الرصاصة الأولى، فهو هنا بيقول عارف الإسرائيليين أنه.. وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (كلمة أجنبية)، موقف فرنسا على الحياد وسوف تظل بعيدا في الوقت الحاضر حتى لا تزج في المشكلة، في مشكلة جاية في العالم العربي ولكنها سوف تكون إيجابية في الاشتراك في حل جذري عادل مستقبلا. الرئيس بيحكي لي هنا بيقول لي، الرئيس عبد الناصر بقى بيكلمني هنا وبيقول لي إنه هو بيشك، أنا بحقيقي أنا شفت الحيرة اللي أو بلاش أقول شفتها لأني ما شفتهاش لكن سمعت على التلفون، الحيرة عند رجل يجد موقفا لا تفسير له في رأيه، لا هو قابل أن ده جهد إسرائيل لوحدها مش قادر يخش فيه يدخل رأسه ولا يعقله لأنه ببساطة أكبر لكنه وبعدين عنده وزير الدفاع ونائب القائد الأعلى بيقول نفس الكلام بيقول إنه حاجة أكثر أنه لا، دول كانوا موجودين ومشتركين وعنده قائد الطيران مصر على أنه في جهد أميركي، أنه في جهد أميركي مباشر، وهنا أنا أظن أنه -ودي مسألة نقطة مهمة جدا- أنه هنا صدقي محمود كان في ذهنه أيضا موضوع سنة 1956، وهذه البرقية قدام جمال عبد الناصر ما كانتش كافية تغير رأيه لكن أقصد هذه البرقية ما كانتش عنده لما كلمني لكن كان عنده الرسالة اللي عبد المنعم النجار أبلغها لمحمد رياض علشان يديها لمحمود رياض واتصال محمود رياض لكي يبلغ بهذه المعلومات أن أميركا في اللعبة، موجودة في اللعبة نقلا عن الجنرال ديغول

قبل أن نشرع في مناقشة المحتويات التي يزعمها هيكل لبرقية السفير المصري في باريس السيد عبدالمنعم النجار، ومحاولته -من خلال هذه البرقية- إقحام الجنرال شارل ديغول والزعم أن ما قاله ديغول إلى السفير الجزائري في باريس هو إثبات آخر لما يدعيه هيكل حول استخدام قاعدة “ويلاس/ الملاحة” في طرابلس في الضربة الجوية الإسرائيلية يوم الخامس من يونيو 1967، قبل أن نناقش محتويات هذه البرقية لا بد أن نوضح النقاط المنهجية والموضوعية التالية:

  • أننا لا نستطيع التسليم بأن ما قاله هيكل عن تلك البرقية يعكس بدقة محتوياتها؛ ذلك لأن السيد هيكل لم يتكرم بعرض نص البرقية على المشاهدين، بل اكتفى بالقول بأن الوثيقة أمامه. لكننا –مع هذه العلة البينة- سنناقش محتوى البرقية والرتوش التي بثها السيد هيكل في جوانبها.
  •  أننا لا نقبل أن نعتبر الكلام الذي وضعه هيكل على فم الرئيس ديغول هو حقيقة ما قاله ديغول؛ فهيكل كان بنقل عن السفير المصري الذي كان هو الآخر ينقل عن السفير الجزائري وهو بدوره الذي نقل عن ديجول، هذا إذا صحت الرواية كلها.

إن هناك تناقضا واضحا في وصف هيكل لمجريات مقابلة السفير الجزائري للرئيس ديجول، على سبيل المثال يقول هيكل: ” فالجنرال ديغول بيقول للسفير، بيسأل سفير الجزائر عن آخر التطورات أو سفير الجزائر بيسأل الرئيس الفرنسي عن آخر التطورات،”  فمن سأل من؟ هذه العبارة تعني أحد أمرين: فإذا كانت هذه العبارة واردة في برفية السفير المصري فهو غير متأكد مما ينقله ما يخل بدقة النقل، أو ان هذه المجريات لم ترد في برقية السفير المصري وإنما هي من عنديات هيكل، فعلى هذه الحالة يمكننا قياس مصداقية رواية هيكل ودقتها. لكن هيكل يعود فيناقض نفسه ويحزم أمره فيجزم أن سفير الجزائر كان مكلفا لإبلاغ رسالة من الرئيس بومدين إلى ديغول، هكذا ورد نص هيكل  “أبلغه بوجهة نظر الجزائر في قضية فلسطين واشتراك الجزائر في قواتها المسلحة في الحرب الدائرة وذلك بناء على تكليف من الرئيس بومدين” هذا التناقض يدلنا على أحد أمرين: إما أن هيكل لم تكن أمامه برقية مكتوبة من السفير المصرى، أو أن هيكل يتصرف على هواه بمحتويات البرقية ويطوعها كي تخدم أغراضه ومزاعمه. ويصدق هذا أيضا على النقطة التالية.

  •  الأمر الآخر الذي ينبغي ألا يفوتنا، أن هيكل بدا في بعض ما يقوله أنه لا ينقل فقط عن برقية مكتوبة من السفير المصري، بل جاءت روايته وكأنه هو شخصيا كان حاضرا مع السفير الجزائري ويصف لنا مشاهد من ذلك اللقاء. مثال على ذلك هذه العبارة التي أوردها هيكل: “، فالرئيس الفرنسي يقول لسفير الجزائر بيقول له.. وقف ديغول شوية كده وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم” عبارة ” وقف ديغول شوية كده”  لا يمكن أن تكون واردة في برقية السفير المصري الذي كان ينقل –سماعا- عن سفير الجزائر، فلماذا يضيفها هيكل؟ هل لمحاولة إضفاء مصداقية على ما يقول؟ أم لتتبيل ما يقوله بشيء من اللمسات الدرامية؟ .. فهو في الحالتين يكذب ويخدع المشاهدين.
  • إذا كانت محتويات مقابلة السفير الجزائري هي حقيقة كما أوردها هيكل، وإذا كان الاستنتاج الخطير الذي استنتجه هيكل من ذلك النص هو استنتاج صحيح (أن ديغول يقر بالتدخل العسكري الأمريكي)، فلماذا لم نسمع بأية محاولة من السفير المصري في باريس لاستجلاء الأمر بمقابلة الرئيس ديجول أو عن طريق الخارجية الفرنسية؟، ولماذا لم يورد هيكل ما تحصل عليه السفير المصري من ردود؟. إن عدم قيام السفير المصري بذلك يكشف بجلاء أن الأمر لم يؤخذ – يومها- بما يزعمه هيكل على أنه إقرار من ديجول بتدخل أمريكي. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فلم نسمع من الرئيس ديجول –طيلة حكمه- ولا من الحكومة الفرنسية ما يؤيد مزاعم هيكل.
  • للعلم فإن ديجول قد اشتهر بأمرين اولهما: مناصبته العداء للنفوذ والهيمنة الأمريكية ومقاومته لها لدرجة اتخاذ إجراءات فيما يتعلق بعضوية فرنسا في الحلف الأطلسي تحديا لسيطرة أمريكا على الحلف، ولدرجة قيام السياسة الفرنسية (الديجولية) إلى السعي لاستقلال أوروبا عن النفوذ الأمريكي؛ ولذلك فقد كانت أمام ديغول فرصة نادرة –إذا كان ما ينسبه له هيكل صحيحا- لم يستغلها للنيل من أمريكا، وهذا ما لا يعرف عن ديجول، وثانيهما: أن ديغول كان مشهورا بصراحته في التعبير عن آرائه ومواقفه لدرجة أخرجته –في بعض الأحوال- عن اللياقة الدبلوماسية، وجرّت عليه بعض المتاعب . فكيف لم نسمع من ديجول انتقادا لأمريكا لتدخلها العسكري في حرب 1967، وهو الذي اتخذ مواقف محموده بوقف تصدير السلاح الفرنسي إلى إسرائيل، واتخاذ مواقف تدعو إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة.
  • معروف أن السفراء المصريون يكتبون تقاريرهم إلى الخارجية المصرية باللغة العربية، لكن هيكل استخدم عبارة باللغة الفرنسية على أنها من محتويات برقية السفير المصري وعلى أن هذه العبارة منسوبة للرئيس ديغول، وهذه العبارة هي التي استند عليها هيكل واعتبرها بمثابة إقرار من ديغول بالتدخل الأمريكي؛ ومن ثم قرر إقحام الجنرال ديغول في مرافعته البائسة. ولا ندري حقيقة –إذا صحت رواية هيكل حول هذه البرقية وأن ما ورد بها هو كما ذكره- لماذا يستخدم السفير المصري هذه العبارة الفرنسية في برقية باللغة العربية، أما إذا كان استخدام هذه الكلمة من عند هيكل فهذا إخلال واضح بدقة النقل، لا يشفع فيه أن هيكل يريد ان بستعرض بعضا من التعبيرات الفرنسية ربما ليضفي شيئا من المصداقية على روايته.
  • يبدو أننا لسنا الوحيدين الذين استشكلت عليهم العبارة الفرنسية الواردة في كلام هيكل: ذلك لأن أعضاء فريق الجزيرة الذين فرّغوا تسجيلات هيكل وقاموا بطباعتها قد وجدوا أنفسهم في حيرة من هذه العبارة فأشاروا لها بين قوسين على أنها (كلمة أجنبية)، وعمل هيكل كل جهده لإعطاء الانطباع أن هذه العبارة وردت حرفيا على لسان ديغول، وقد أوردها هيكل مرتين … هكذا:

“وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”

” وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (كلمة أجنبية)”

وينبغي أن نلاحظ ان هيكل قد أضاف إلى هذه الكلمة عبارة “الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم” في محاولة منه لإيهام القارئ بأن هذه العبارة قد وردت على لسان الرئيس ديغول أيضا، أو أنها تفسير للكلمة الأجنبية التي كرر هيكل نسبتها إلى الرئيس الفرنسي.

  • العبارة التي أوردها هيكل هي (dans le jour)  وترجمتها الحرفية (في اليوم) . وإذا ما عدنا إلى النص الذي أورد فيه هذه العبارة فسنجد الآتي:

“وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (في اليوم) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”

” وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (في اليوم)”

من  الواضح أن هيكل هنا يريد أن يقحم شهادة من الرئيس ديغول بأن أمريكا قد شاركت في القتال إلى جانب إسرائيل. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن هيكل لم يقل إطلاقا بأن أمريكا قد استخدمت قواعدها في أوروبا، كما لم يقل بأن أمريكا استخدمت حاملات الطائرات المنتشرة في البحرين المتوسط والأحمر، بل إن مرافعته كلها كانت مبنية على استخدام القاعدة الأمريكية “ويلاس/ الملاحة” في طرابلس، إذا ما أخذنا هذا في الاعتبار فإن هيكل يريد من محاولة إقحام ديغول أن يوهم المشاهدين بأن ديغول يؤكد ويدعم ادعاءات هيكل بخصوص استخدام امريكا للقاعدة في طرابلس للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية.

لكن حتى إذا سلمنا -من قبيل الجدل- بصحة ما أورده هيكل حول برقية السفير المصري في باريس، وبأمانة ودقة نقل هذا السفير عن زميله السفير الجزائري، وبأمانة ودقة نقل السفير الجزائري لما ورد على لسان الرئيس ديغول، إذا ما سلمنا جدلا بكل ذلك، فهل يمكن حتى أن نستشف من نصوص هيكل أن الرئيس شارل ديغول قد أقر أو قال بأمرين:

  • أولهما: أن هناك تدخلا فعليا قامت به الولايات المتحدة مستخدمة قواتها المسلحة في الضربة الإسرائيلية الجوية.
  • ثانيهما: أن أمريكا قد استخدمت لذلك الغرض قاعدتها الجوية “ويلاس/ الملاحة” منطلقا لطائراتها التي أغارت على الأراضي المصرية.

بخصوص الأمر الأول، فلا نجد ما يدل على أن ديجول يشير من قريب أو بعيد إلى أن أمريكا تدخلت عسكريا في الحرب وأن قوات أمريكية تشارك بعمليات في تلك الحرب. إذا صحت الكلمة المنسوبة إلى ديجول (أن أمريكا “في اليوم”) فإنها لا تفيد ذلك، حتى ولو حاولنا تطويعها وإعطاءها مدلولا مجازيا وتعسفنا في تفسيرها لتقريبها من مراد السيد هيكل؛ فديجول بمواقفه وطبيعته كان سيقول للسفير الجزائري صراحة، وكان سيصرح بهذا في أوقات لاحقة. المدلول المجازي للكلمة قد يعني –في أقرب التفسيرات- أن أمريكا على علم واطلاع وربما موافقة على ما تقوم به إسرائيل. وهذه حقيقة فإسرائيل تصرفت يوم الخامس من يونيو وهي متأكدة أن أمريكا لن تمانع، وربما أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك أن إسرائيل كانت على ثقة بأن أمريكا في نهاية المطاف لن تسمح بإلحاق هزيمة بها.

أما بخصوص الأمر الثاني، فلم يرد في نصوص هيكل ما يمكن أن يستشف منه أن ديغول قد قال للسفير الجزائري بأن الولايات المتحدة قد استخدمت قاعدتها الجوية “ويلاس/ الملاحة” منطلقا للمشاركة الفعلية في الحرب. هذا ما يدعيه السيد هيكل ويحاول أن يوهم المشاهدين بأنه يمتلك  الأدلة والبراهين التي تؤيده. وهذا ما يهمنا تفنيده وإظهار الحقيقة في أن مزاعم هيكل لا تستند على أية معطيات أو ادلة أو براهين، وأن كل ما يقدمه ليس سوى تلفيقات وأوهام وتطويع للكلمات ولي لأعناق المعاني.

وللحديث بقية إن شاء الله

……………………….

  1. مثال على ذلك: عندما كان الرئيس شارل ديجول في زيارة رسمية لكندا، وألقى كلمة فيها تشجيع لاستقلال مقاطعة “كيبك” وانفصالها عن كندا، ثم أنهى كلمته بالهتاف (عاشت كيبك حرة مستقلة)، مما أدى غلى احتجاج كندي واضطرار ديجول لقطع زيارته والعودة غلى فرنسا.
  2. استفسرت من بعض الإخوة الذين يجيدون الفرنسية عن معنى الكلمة، وأجمعوا على ترجمتها الواردة أعلاه، وعرضت عليهم النص الذي أورد هيكل هذه الكلمة في سياقه للبحث عن أي  مغزى مجازي يمكن استقاؤه من النص فأفادوا بأنهم يستبعدون أن يستخدم الرئيس ديجول هذهالعبارة لأنها تنطوي على “سوقية واضحة” علاوة على عدم دقتها.  الذين استشرتهم في هذا الصدد منهم جزائريين ومغاربة ويعملون في وسائل إعلامية مرموقة وأحدهم أستاذا لآداب اللغة الفرنسية في إحدى الجامعات الأمريكية.

 

 

هيكل والافتراء على التاريخ – دور هيكل في إفشاء المعلومات إلى العدو– الحلقة الخامسة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

أسهب السيد هيكل في الحديث عن الأهمية البالغة التي تلعبها الاستخبارات في مجريات الحروب ونتائجها. وهو في هذا لم يقدم جديدا، فقد عرف المتحاربون الأهمية القصوى للمعلومات، وكان التجسس من أقدم المهن التي احترفها الإنسان منذ أن عرف الصراع والحرب.

وقد أوضح السيد هيكل حقائق في هذا الصدد –نتفق معه حولها- تتعلق بالدور الذي لعبته الاستخبارات في حرب يونيو 1967، ولكنه غيَّب حقائق أخرى هي بنفس المستوى أو ربما تفوقها في الأهمية:

  •       “فهو قد اعترف بأن مصر لم تستطع أن تزرع ” ما بين 1956 لفترة 1967 عميلا واحدا له قيمة داخل إسرائيل”.
  •        واعترف بأن ” المخطط المصري وهو يضع خطته كان يضع خطته وهو في ظلام كامل”.
  •       واعترف بأنه ” كان لإسرائيل عندنا عشرات العملاء” ، “إحنا تعرضنا لاختراقات لم تتعرض لها إسرائيل”
  •        وذكر أسماء بعض الجواسيس الإسرائيليين ممن يتصفون بدرجة عالية من الخطورة، وأغفل –عن عمد- ذكر أخطرهم على الإطلاق وأقربهم مما  جرى في الخامس من يونيو “باروخ نادل”، وعلى الأخص لأن عمله قد انصب بصورة مركزة على السلاح الجوي المصري.
  •       واعترف بأن مصر فشلت في إيجاد علاقات عمل مستقرة –في مجال الاستخبارات- مع الدول العربية قبل حرب يونيو.

ورغم تسليم السيد هيكل بالفشل المصري الذريع في الحصول على معلومات عن العدو، والفشل في تقديم الحماية اللازمة للتراب والمعلومات المصرية من عبث الجواسيس الإسرائيليين، الذي يقابله نجاح إسرائيل في زرع “عشرات” العملاء والجواسيس في مختلف مرافق الدولة المصرية. رغم ذلك نجد السيد هيكل يقفز على السطوة الإسرائيلية في مجال المخابرات، في محاولة للزعم بأن الفضل في الانتصار الإسرائيلي راجع إلى المعلومات الاستخباراتية التي قدمتها لها أمريكا. والسيد هيكل، وهو يقفز على السطوة الإسرائيلية في مجال معركة المعلومات، إنما يناور في إطار حشد الحجج التي تكون بمستوى التمهيد والإطار لما أسماه “بالبصمة الأمريكية”.

ولقد قلنا في مقال سابق بأن الجواسيس الإسرائيليين على الأرض هم من قاموا بعملية اختراق كبيرة داخل مصر، وهم من جعل الطائرات الإسرائيلية تقوم بمهامها في الخامس من يونيو بأقل الخسائر وبأكبر درجات الدقة والنجاح. أما ما لم يتمكن هؤلاء الجواسيس من نقله إلى إسرائيل فقد تكفلت بالكشف عنه الصحافة والإعلام الناصري، ذلك أننا نعلم أن القيادة المصرية كانت تعد للمعركة وتخوضها من على صفحات الجرائد المصرية، خاصة الأهرام. بل إن السيد محمد حسنين هيكل شخصيا قد شارك في إعطاء العدو الإسرائيلي معلومات حيوية عن مواقع تمركز القوات في سيناء وعن قياداتها والأسلوب الذي تم اعتماده في تسلسل قيادة المعارك، بل أكثر من ذلك فإن السيد هيكل قد قدم للعدو الإسرائيلي –على طبق من صفحات الأهرام- شيئا أغلى من الذهب نفسه وهو الكشف عن نوايا القيادة المصرية.

وقد يظن أحد أن السيد هيكل يجهل خطورة تقديم معلومات عن النوايا التي كانت تعتزمها القيادة المصرية، وقد يخطئ أحد ويظن بالسيد هيكل الجهل بالخطورة القصوى لتزويد العدو بمعلومات عن تشكيلات القوات المصرية، وعن قياداتها، وعن تسلسل القيادة، وعن بعض المشاكل التي تدور في أوساط القيادات المصرية، بل وعن نوايا هذه القيادة. لكن السيد هيكل لم يترك مجالا لهذا الظن أو الخطأ، فقد أوضح –بكل جلاء- إدراكه وفهمه التام لما تشكله مسألة معرفة النوايا من معضلة أمام أجهزة المخابرات، وما يشكله تسربها إلى العدو من مخاطر. لنستمع لما يقوله السيد هيكل:

“المعلومات هنا في قضية الحرب المعلومات ليست قضية بسيطة المعلومات باستمرار قدامنا كل حاجة في أي حرب موجودة قدام الأطراف بمعنى أنه في أزمة موجودة تحذر وفي حشد جيوش ممكن يؤكد لي أنه نحن مقبلون على المعركة وممكن جدا أن تتسرب إلي أشياء حتى في الصحف عن الأهداف المطلوب تحقيقها لكن أستنى باستمرار عنصرا أساسيا جدا بيسميه العسكريون النوايا، أنا بأعرف قوة العدو اللي قدامي وبأعرف حشده وشايف قدامي أنصاره وشايف قدامي تصرفاته والصحف تعطيني معلومات كثيرة قوي ولكن ما حدث بيديني قدرا معينا عما ينوي هذا العدو أن يفعله بهذه القوى التي حشدها، بالضبط عاوز يعمل إيه؟ بالضبط عاوز ينفذ من أين؟ عاوز يضرب من أين؟ عاوز يتصرف إزاي في هذه اللحظة؟ وهنا اللي بيسموه باستمرار كل عسكريين أنه ممكن كل حاجة في الحرب ممكنة ومعروفة إلا حاجة واحدة بس يبقى فيها السر وهي نوايا العدو، ما الذي يريد هذا العدو أن يفعله بالتحديد؟ كيف؟

نعم …  السيد هيكل لا يجهل الخطورة المطلقة التي ينطوي عليها الكشف عن النوايا للعدو:

يعلم أن الجواسيس قد ينجحون في الحصول على شتى أنواع المعلومات، لكن تبقى النوايا لغزا محيرا،

وأن طائرات الاستطلاع حتى نوع U2 –الذي أكثر الإشارة إليها- قد تستطيع تصوير مواقع كثيرة وغيرها، لكنها لا تستطيع أن تصور النوايا،

حتى التجسس الالكتروني يعجز عن التقاط ما لا يتم في فلكه أو عن طريقه.

هكذا تظل النوايا والمقاصد هاجسا دائما أمام المخططين، قد يمكنهم -في أحسن الأحوال- التخمين ووضع الاحتمالات المختلفة، وما يعنيه ذلك من الدخول في دائرة التغليب والموازنة بينها، والاضطرار لإعداد خطط متعددة لمواجهة هذه الاحتمالات. أما إذا عرف العدو النوايا، فسيقتصر همه على مواجهة هذه النوايا والاستعداد لها بما يعنيه ذلك من تركيز لكل القدرات والإمكانات والقوات اللازمة للتعامل مع هذه النوايا دون التفات إلى غيرها. يكتسب هذا أهمية قصوى مطلقة عند كل الدول لا سيما إسرائيل وما تمليه عليها جغرافيتها وعدد سكانها وإمكاناتها من محددات.

لكن حالة السيد هيكل لا تتوقف عند حالة صحافي أخطأ وهو يسعى للحصول على السبق الصحفي فقدَّم للعدو معلومات جوهرية وحيوية وحساسة وفي الوقت المناسب عن أمور هي بخطورة النوايا، فالسيد هيكل ليس صحافيا عاديا، وليس فقط رئيسا لمجلس إدارة الأهرام “الحكومية”، وليس فقط لأنه ماهر في تصيد المعلومات وتلقيها بإمكاناته الذاتية، ليس هذا فقط .. بل لأنه من أقرب المقربين للرئيس عبدالناصر، وبسبب ذلك فإن لديه حظوة، وقد نقول سطوة –ربما لم تتوافر لأحد غيره، وقد لا تتوافر في يوم من الأيام- لدى كل فروع الدولة المصرية، بما فيها شخصيات بوزن المشير عبدالحكيم عامر النائب الأول للرئيس والقائد العام للقوات المسلحة.

حتى ندرك هذه الحظوة أو السطوة لنقرأ ما قاله هيكل (ليسمح لي القراء على إيراد هذا الاقتباس الطويل والذي يحتوي على تكرار كثير، لكن مقتضيات الدقة تتطلب ذلك):

“وفي في ذلك الوقت وأظنه لازم يكون موجودا لغاية النهارده في ثلاث درجات من التلفونات للدولة، في التلفونات العادية ما كناش نستعملها في ذلك الوقت في واقع الأمر في الاتصالات يعني لكن في نوعين من التلفونات، في التلفون اللي بيسموه الـ BBX وهو التلفون اللي عليه كل المسؤولين وكل الوزراء بما فيهم الوزراء يعني وهذا في منه أظن حوالي مائتي خط أو حاجة أو 180، 200 خط، لكن في خط آخر وهو الخط المغلق كان عليه 12 عدة، 12 ماكينة وهو موجود عند رئيس الجمهورية، عند وزير الدفاع، عند مدير المخابرات العامة، عند مدير المخابرات العسكرية، عند رئيس الأركان، 12 خط، وزير الداخلية أيضا وأنا كان عندي خط، كان عندي خط وهذه دائرة مغلقة جدا،”

معنى هذا أن السيد هيكل كان أحد اثني عشر مسؤولا في الدولة ممن تشملهم الدائرة التلفونية المغلقة والأكثر أهمية وسرية في منظومة تلفونات الدولة المصرية. نُصاب بالذهول ونحن نسمع السيد هيكل يتحدث عن هذا بكل بساطة وكأنه أمر طبيعي أن يكون لصحافي موقع ضمن إثني عشر مسؤولا رفيعا في الدولة. ونُصاب بما هو أكثر من الذهول ونحن نستمع إلى هيكل وهو يسمي لنا بعض المسؤولين الآخرين الذين هم على هذه الدائرة المغلقة:

” الخط المغلق كان عليه 12 عدة، 12 ماكينة وهو موجود عند رئيس الجمهورية، عند وزير الدفاع، عند مدير المخابرات العامة، عند مدير المخابرات العسكرية، عند رئيس الأركان، 12 خط، وزير الداخلية أيضا وأنا كان عندي خط، كان عندي خط وهذه دائرة مغلقة جدا،”

  1.     رئيس الجمهورية
  2.      وزير الدفاع
  3.      مدير المخابرات العامة
  4.      مدير المخابرات العسكرية
  5.     وزير الداخلية
  6.      رئيس الأركان
  7.     السيد محمد حسنين هيكل

لم يذكر لنا الخمسة مسؤولين الآخرين (ربما بسبب النسيان، وحتى لا نقول لأنه لا يعتبرهم بنفس القدر من الأهمية). ولهذا نسمح لأنفسنا بالتخمين، فقد نتعرف على بعضهم:

  1.     النائب الأول للرئيس والقائد العام للقوات المسلحة: المشير عبدالحكيم عامر.
  2.       النائب الثاني لرئيس الجمهورية
  3.       قائد القوات الجوية (الطيران)
  4.     قائد القوات البحرية (الأسطول)
  5.      مدير جهاز أمن الدولة.

نأمل ألا نكون قد أخطأنا في التخمين، لكن مقصدنا من إيراد هذا الاقتباس من أقوال السيد هيكل هو ألا نسمح بالقفز على موقع هيكل في السلطة. هو ليس صحافيا فقط وإن كان يمارس الصحافة ويغيظ أقرانه بالسبق الصحفي الذي يلتقطه من الرئيس ومن غيره من متنفذي الدولة المصرية والمطلعين على أسرارها، بل هو في موقع ومكانة من التشاور وصنع القرار يتجاوز فيه نواب الرئيس وأغلب الوزراء، بمن فيهم رئيس الوزراء ووزير الإرشاد القومي ويتجاوز فيه أيضا رئيس مجلس الشعب، وغيرهم من المسؤولين الآخرين. هذا ليس فقط هو موقع السيد هيكل، بل إنه يتفرد عن هؤلاء جميعا، ويتفرد عن غيرهم من المسؤولين ورجال الدولة المصرية بميزة أخرى. لنقرأ ما قاله السيد هيكل:

” إلى جانب ده وبترتيب إضافي يعني كان في خط مباشر بيني وبين مكتب الرئيس، فهو كان بيتصل بي على هذا الخط اللي متصور أنه عنده أقصى درجات السرية ولذلك كان بيتكلم يعني أنا للنهارده ما أعرفش إلى أي مدى كان هذا الخط مخترقا”

مكانة لا شك تتجاوز جميع رجالات الدولة المصرية آنذاك، تجعله الأكثر التصاقا بالرئيس عبدالناصر بحيث أصبح يتداول معه في أخطر الشؤون ويستشيره فيما لا يستشير  فيه غيره، وربما فيما لم يتداوله الرئيس مع نائبه الأول المشير عامر قائد عام القوات المسلحة فيما يتعلق بشؤون خطيرة مثل شأن الحرب، ومزاعم التدخل الأمريكي، وغيرها من الشؤون.

الصحافي المخضرم المشهور الأستاذ “ناصر الدين النشاشيبي” رافق هيكل وعمل بالقرب منه، فهو يعرفه حق المعرفة، وقد خصص فصلا كاملا في كتابه (حضرات الزملاء المحترمين)، للحديث عن هيكل وعلاقاته. يقول في هذا الكتاب مخاطبا هيكل:

” يا أخي ويا عزيزي ويا رفيق العمر الصحفي ، لقد ضاعت

بلدي في عهدكم وعلى يديكم فمن هو المسؤول؟. من ؟ من ؟ من ؟ كنت أنت المقرب الأوحد إلى عبد الناصر ، وكنت أنت المؤتمن الأوحد على كل أسراره وعلى كل قراراته قبل التنفيذ وبعد التنفيذ!…وكنت أنت المستشار الأول والأوحد والأكبر لكل نبضة فكر في عقله وتفكيره…فمن أضاع بلدي في غمرة قرار مرتجل أمر بإغلاق المضائق وطلب سحب القوات الدولية وجرّنا إلى الكارثة الأعظم في تاريخ العرب والإسلام ؟ “.

لسنا بصدد البحث عن إجابة عن تساؤلات النشاشيبي، ولكننا أوردنا هذا النص كدليل إضافي على مكانة هيكل وموقعه من الحكم الناصري، ومشاركته في القرارات المصيرية (قبل التنفيذ و بعد التنفيذ!) بصفته (المستشار الأول والأوحد والأكبر)  للرئيس جمال عبد الناصر، وكان عليه أن يتحمل مسؤولية القرارات التي شارك فيها والتي جرّت إلى هذه الكوارث بدلا من أن يطل علينا من “الجزيرة” ليلعب دور المتفرج الشاطر.

ولكن لماذا نذهب بعيدا، فقد كفانا السيد هيكل نفسه مغبة التنقيب والبحث فقدم لنا إثباتا بعد الآخر عما نريد قوله وتأكيده. وإذا ما صدقنا رواية السيد هيكل لأحداث “الليلة الحزينة”، ليلة تنحى الرئيس عبدالناصر، وشخصيا أجد صعوبة في تصديق هذه الرواية. لكن إذا ما صدقنا هذه الرواية على علاتها الواضحة البينة، فإن القيادات المصرية وشخصيات الدولة وهياكلها، بل إن مصر كلها بمؤسساتها ورجالها قد اختزلت في تلك الليلة العصيبة في شخصين: عبدالناصر وهيكل، اختزلت مصر كلها في شخص رئيس منكسر يجد صعوبة في السيطرة على انفعالاته وأحاسيسه، يبدو معزولا في مقره، واكتفى بأن أعلن “استعداده لتحمل المسؤولية” وذلك بعد خراب مالطا “كما يقولون”، والآخر هيكل، صحافي يمارس دور المشارك في صنع القرارات دون أن يكون مسؤولا عن نتائجها. الإثنان يقرران كل شيء: الحاضر والمستقبل. وإذا كان موقع عبدالناصر -في تلك الليلة- معروفا فهو رئيس الجمهورية، وهو الذي يريد أن يعلن استقالته -إن كان حقا صادق العزم في التخلي عن الحكم-، وهو أيضا يتجاوز كل النصوص والمؤسسات الدستورية ويسمح لنفسه بأن يختار من يخلفه في قيادة مصر، ولم لا؟.. فهو القائد الملهم الذي اتخذ –منفردا- قرارات أخطر من ذلك بكثير. لكن أليس من الطبيعي أن نتساءل: ما هو موقع هيكل في تلك الليلة؟.

لعل أحداث تلك الليلة تتطلب وقفة خاصة كي نستبين كيف كانت الأمور تجري في مصر الناصرية، وكيف كانت الأمور تدار في قصر حدائق القبة في وقت كان مئات الألوف من الرجال يموتون ويؤسرون ويعانون فوق رمال سيناء،،، نعم .. قد نعود لهذا في وقت لاحق،  لكن ما يعنينا هنا هو أنه حسب رواية السيد هيكل فإنه لم يكن كاتب خطاب التنحي فحسب ولكنه شارك في اتخاذ قرارات مصيرية، فهو الذي سمى زكريا محي الدين خليفة لعبدالناصر، دون أن يستشار الرجل أو حتى (يدولو خبر) !!. وإذا ما صدقنا رواية هيكل فقد تحول إلى حاكم مصر في تلك الليلة: عبدالناصر تنحى ونام بتأثير المنوم، ولكنه قبل أن ينام –وهو الذي ترك منصب الرئاسة ولم يعد له أن يأمر أو ينهى!!!!- أوعز إلى هيكل بضبط الأمور، وعدم السماح لأحد بإلقاء بيانات من الإذاعة بما في ذلك النائب الأول والقائد العام المشير عبدالحكيم عامر الذي لم يتنح عن مناصبه رسميا بعد. وحسب رواية هيكل فقد توالت الاتصالات به –هو دون غيره-، ومن هذه الاتصالات اتصال من المشير عامر يكاد فيه أن يرجو هيكل السماح له بإلقاء بيان استقالة من الإذاعة، وبحسب رواية هيكل، فقد وصل الأمر بقيام المشير بتخويل هيكل بكتابة نص يذاع على الناس تُعلن فيه استقالة المشير، ولا يوافق هيكل لأن المشير كان ممنوعا من أن يُعلن استقالته بحسب تعليمات الرئيس المستقيل الذي كان وقتها يغط في النوم. وبحسب رواية هيكل أيضا فقد وردت إليه اتصالات من رؤساء دول –كلهم موتى الآن-، والأغرب من ذلك ورود اتصال من السيد زكريا محي الدين الرئيس المكلف!!!  نعم … بموجب رواية هيكل، انتهت كل المرجعيات في مصر  وأمسى هو المرجعية في تلك الليلة الظلماء !! أصبح الحاكم الفعلي لمصر إلى أن ينتهي مفعول منوم الرئيس المستقيل !!!! وإلى أن تنهي قيادات الاتحاد الاشتراكي من ترتيب “المظاهرات العفوية” المطالبة بعودة الرئيس !!!

ما يهمنا هنا –من كل ما أورناه- هو التعرف على موقع هيكل في أجهزة اتخاذ القرار والتشاور في مصر في تلك الحقبة:

فهو ليس صحافيا فحسب، ولكنه ضمن 12 مسؤولا في مصر يشتركون في دائرة تلفونية مغلقة،

وعلاوة على ذلك فهو –دون غيره- لديه خط تلفوني مباشر وخاص مع رئيس الدولة،

وهو الشخصية الثانية –بدون منازع- في “الليلة الحزينة”،

وهو الذي تفرد –ولو لعدة ساعات- بضبط الأمور في مصر –خلال نوم الرئيس المستقيل- فأصبح قطب الاتصالات والقرار في تلك الساعات.

أبعد هذا كله يستطيع أحد أن يعفي السيد هيكل من المسؤولية، على الأقل عما يكتبه في الأهرام وغيرها، باعتبارها صادرة عن شخص ضمن الدائرة الضيقة للتشاور والقرار؟ ما هي آثار هذه الكتابات على الأمن القومي العربي؟ وما هي آثار هذه الكتابات على حرب يونيو؟ وهل قدمت معلومات للعدو؟ معلومات غاية في الحساسية .. عن القوات .. والقيادات .. وعن النوايا؟

إذا كانت الجماهير العربية –وكنت أحدها- تستمع لأحمد سعيد ومحمد عروق يذيعان بصوتيهما المجلجلين مقالات بصراحة التي كان هيكل يكتبها في الأهرام، إذا كانت الجماهير تستمع لهذه المقالات وتقرؤها بعاطفة “قومية” جياشة، ولا تتوقف لتعرف مدى صحتها ولكنها تتأثر بسحر الكلمات والعبارات المرصوصة التي برع فيها هيكل، إذا كان هذا حال الجماهير مع مقالات هيكل، إلا أن لمخابرات الدول شأن آخر معها، فهي تدرسها بعناية وتقرأ سطورها وما بينها وتخضعها لتحليل دقيق، ليس فقط لأنها من روائع الأعمال في تطويع الكلمات، ولكن لأنهم يعرفون بأنها تمثل نافذة مجانية على ما تفكر به القيادة المصرية، وأنها تشكل مصدرا للمعلومات الحساسة لا يكلف الحصول عليها سوى اشتراك في الأهرام أو ضبط مؤشر المذياع على صوت العرب بعد عصر الجمعة. وبدون شك فقد كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية -وغيرها- تبدي اهتماما بشخصية السيد هيكل وبدوره في النظام الناصري. هذا الاهتمام يدعوها إلى إخضاعه لتحليلات نفسية بغية معرفة ما ترغبه عن شخصيته واهتماماته وما يعتريه من ضعف وقوة وغير ذلك مما تحرص المخابرات على معرفته. ومن خلال هذه المعرفة الدقيقة لشخصيته فإن إسرائيل والدوائر الغربية قد عملت على تقديم معلومات إلى السيد هيكل وتسريبها إليه، وربما إلى غيره من الصحافيين المصريين، كي تجد هذه المعلومات طريقها إلى الصحافة المصرية وإلى دوائر صنع القرار في مصر، وإلى التأثير على الجماهير العربية.

قد يتهمنا البعض بالتجني على هيكل .. ونقول إلا إذا كان الرجل يتجنى على نفسه. لنقرأ ما قاله السيد هيكل حول بعض ما نشرته الأهرام، وهو رئيس تحريرها، بل إنه ينسب النشر لنفسه، لنقرأ:

“لكن أنا بدا لي من بعيد في حاجة مرتبكة، بدا لي من بعيد كصحفي أنه في قرار صدر بتعيين الفريق مرتجي قائدا للقوات، ونشرت في الأهرام أنه حتبقى تحته -وطبقا للي سمعته- أنه حتبقى تحته قيادات الجو والبر والبحر المخصصة للجبهة، وثاني، نفس اليوم طلب مني عبد الحكيم عامر كلمني في التلفون وقال لي أنت عملت لي مشكلة انشر أن كل القوات حتبقى تحت قياداتها، يعني الطيران حيشتغل تحت صدقي محمود والبحرية حتشتغل تحت سليمان عزت وأن قائد الجبهة حينسق”

لنقرأ أيضا ما قاله السيد هيكل:

“الحاجة الثالثة أنه في إشكال حصل في القوات وهو كان موجودا على صفحات الجرائد وأنا شخصيا في الأهرام عانيت منه في ذلك الوقت لأنه في الأول قيل لي ومن الرئيس عبد الناصر، قيل لي إنه في قائد أصلا مكلف بالخطة قاهر اللي هي كانت الخطة بتاعتنا وهو صلاح محسن، الفريق صلاح محسن وهو قائد القيادة الشرقية، ثم عين الفريق مرتجي قائدا عاما للجبهة، بقى في مشكلة تنازع اختصاصات، ولكن الحاجة المهمة أن الرئيس عبد الناصر لما قال لي على إنه في قيادة عامة موحدة الجبهة combined عمليات مشتركة، بيسموها العمليات المشتركة وهذا أضعف نوع نحن كويسين فيه، الإسرائيليون كويسين فيه، العمليات المشتركة بالمدرعات والطيران والبحرية والمشاة وكل القوات اللي بيسموها الـ  Combined Operations العمليات المشتركة نحن مع الأسف الشديد مش كويسين فيه قوي، لكن اللي حصل في هذا الموضوع أن الرئيس قال لي أنا، قال لي إنه حيبقوا القائد العام للجبهة وهو مرتجي عنده تحت تصرفه قيادة الطيران المكلفة بالعمليات، قيادة البحرية التي قد تشترك والقوات البرية الموجودة ولكن فوجئت بعد كده أنه يبدو أن القادة تضايقوا وفوجئت بعد ذلك بالرئيس عبد الناصر نفسه بيكلمني ثم عبد الحكيم عامر بيكلمني بيقول لي إن قائد الطيران صدقي محمود يرى أنه هو يقود معركته بنفسه وقائد البحرية سليمان عزت بيروا أن البحرية تقود بنفسها وبالتالي فكرة الـ combined operations اللي أنا كتبتها في الأهرام عاملة حساسية وبالتالي لا بد أن إحنا نرجع نكتب خبر صغير قوي نقول فيه إن قائد كل سلاح سوف يتولى مسؤولية قيادة قوات سلاحه في هذه الحرب، أنا الحقيقة كنت مستغربا من هذا لكن على أي حال نشرنا الخبرين، الأهرام نشرت الخبرين، الأولاني ثم عدلناه بالخبر الثاني.”

بضع أمثلة فقط مما أورده السيد هيكل بنفسه في برنامج “مع هيكل”، ولو راجعنا كل ما قاله في هذا البرنامج لوجدنا الكثير من مثل هذه المعلومات الخطيرة والدقيقة منشورة على صفحات الأهرام. ولو راجعنا ما كتبه في مسيرته الصحافية لأصابنا الذهول من حجم ما يقدم من معلومات، وسبحان الله، يتفرد بها دائما السيد هيكل دون أقرانه.  طبعا السيد هيكل لا يستطيع أن يدعي بأنه مجرد صحافي أُمر بأن ينشر فنشر. يعني حكاية “عبد المأمور أو حتى عبدٌ مأمور” ما تنفعش كعذر لهيكل:

  •        فهو يعرف خطورة هذه المعلومات، والدليل ما قاله حول المعلومات، وخاصة حول النوايا.
  •      وهو مقرب من الرئيس، ويستطيع بحكم أنه أحد أعضاء الدائرة المغلقة (دائرة ال 12)، وبحكم الخط التلفوني المباشر مع الرئيس، كان يستطيع أن ينبه إلى أن هذه المعلومات (ما يصحش تنشر).
  •       لكنه هيكل: فهل قام بذلك خدمة للمعركة التي باتت تدار من على صفحات الجرائد؟ أم خدمة للسبق الصحفي ولتعزيز مكانته في المجالين المحلي والدولي؟ أم أنه كان يشارك في تمرير معلومات إلى العدو؟. هل نستثني السؤال الأخير؟ ….  ونقول: لا ينبغي أن نستثنيه أمام الكارثة والحريق الذي ما زال مشتعلا إلى يومنا هذا، تكتوي منه الأمة ويحترق في أتونه الفلسطينيون، ثم لا ينبغي أن نستثنيه والسيد هيكل ما زال بالرغم من مرور 42 عاما يوزع تهم العمالة والخيانة ذات اليمين والشمال.

 

وإذا ما أخذنا الأمثلة السابقة (فقط، وغيرها كثير) وتساءلنا: ما هي مصادر السيد هيكل؟ وما هي طبيعة المعلومات التي مررت إلى العدو، لوجدنا التالي:

  •        المصادر: الرئيس جمال عبدالناصر، والمشير عبدالحكيم عامر. والناشر السيد محمد حسنين هيكل في جريدة الأهرام “الحكومية”.
  •        من المعلومات: الكشف عن اسم القائد الميداني للقوات المحتشدة في سيناء. (الفريق مرتجي)
  •       وأيضا الكشف عن الأسلوب الذي اعتمد لإدارة العمليات:

“ونشرت في الأهرام أنه حتبقى تحته -وطبقا للي سمعته- أنه حتبقى تحته قيادات الجو والبر والبحر المخصصة للجبهة”

  •        نشر معلومات جديدة يتغير فيها أسلوب إدارة العمليات:

وفوجئت بعد ذلك بالرئيس عبد الناصر نفسه بيكلمني ثم عبد الحكيم عامر بيكلمني بيقول لي إن قائد الطيران صدقي محمود يرى أنه هو يقود معركته بنفسه وقائد البحرية سليمان عزت بيروا أن البحرية تقود بنفسها وبالتالي فكرة الـ combined operations اللي أنا كتبتها في الأهرام عاملة حساسية وبالتالي لا بد أن إحنا نرجع نكتب خبر صغير قوي نقول فيه إن قائد كل سلاح سوف يتولى مسؤولية قيادة قوات سلاحه في هذه الحرب، أنا الحقيقة كنت مستغربا من هذا لكن على أي حال نشرنا الخبرين، الأهرام نشرت الخبرين، الأولاني ثم عدلناه بالخبر الثاني.

  •      ولا يخفى ما تعنيه هذه المعلومات من حساسية وخطورة بالغة، أما الأخطر منها فهو التضارب والارتباك الذي كشفه نشر معلومة بمثل هذه الأهمية ثم تعديلها في اليوم التالي.
  •        أضف إلى ذلك ما لم يقله السيد هيكل حول النشر المستمر –وبالصور والأسماء- للحشد المصري في سيناء، وما أوضحه هذا النشر من معلومات عن أسماء القطعات والتشكيلات وعن تسليحها وأسماء قادتها، كما أوضح هذا النشر –لكل من يعرف الأبجديات العسكرية- أن الحشد المصري للقوات كان يفتقر إلى أبسط قواعد المهنية العسكرية. كان حشدا مرتبكا، ومع هذا وصفه السيد هيكل بالوصف التالي في مقالة بصراحة بتاريخ 2 يونيو 1967: (هذا استطراد أحسبه مناسبا)

“وكانت المفاجأة… مفاجأة الأيام العشرة العظيمة التى غيرت كل شىء فى الشرق الأوسط.

تقدم الجيش المصرى بقوة لم يتنبه لها راسمو الخطط الاستراتيجية فى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية… ولا تصوروا وجودها.

وتقدم بكفاءة كانت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أول من شهد بها وحاولت أمام المفاجأة الصاعقة أن تنسبها إلى تخطيط قديم محاولةً تبرير جهلها – مضيفةً إلى ذلك أنه لابد أن السوفيت شاركوا فى الإعداد لها! ”

ومع خطورة هذه المعلومات التي أوردناها في الأمثلة السابقة، وبينا أن خطورتها مستمدة من مصادرها ومن طبيعتها الاستراتيجية الحساسة، ولكن تسريبات السيد هيكل لم تتوقف عند ذلك، على خطورته، فليس هذا كل ما كشفه السيد هيكل، بل إنه كشف نوايا القيادة المصرية.

لعل مفتاح حرب يونيو 1967 هو من يوجه الضربة الأولى؟ من أجل ذلك عملت الدولتان أمريكا والاتحاد السوفيتي على مناشدة الطرفين بالطرق الدبلوماسية السرية وحتى بالطرق العلنية بعدم بدء الحرب. ومن أجل ذلك سعت مخابرات الدول –جميعها- لمحاولة معرفة نذر الضربة الأولى. سعت إسرائيل بكل ما أوتيت مخابراتها من قدرات لمعرفة نوايا مصر في هذا الصدد، وعملت في نفس الوقت على إخفاء نيتها بتوجيه الضربة الأولى، ونجحت في ذلك، فكانت الضربة مفاجأة استراتيجية. قبل يونيو 1967 بزمن ليس بالقصير –بحساب التخطيط العسكري- تأكدت إسرائيل من أن مصر لن تفاجأها بضربة جوية، وعلى هذا الأساس أخذت راحتها في اختيار توقيت أكثر ملاءمة لتوجيه ضربتها، حساباتها أصبحت تدور حول استعداداتها هي، وحول استباق أي جهد دولي قد يحول دون حرمانها من هذه الفرصة الذهبية، وباختصار فهي لم تعد في حالة سباق مع مصر: أيهما يوجه الضربة الأولى ويستفيد من عنصري المباغتة والمبادأة. ولكن كيف ومتى علمت إسرائيل بالنوايا المصرية؟

في مقالة بصراحه المنشورة في الأهرام بتاريخ 26 مايو 1967 تحت عنوان:  “الصدام بالسلاح مع إسرائيل محتم .. لماذا؟” اختتم السيد هيكل مقاله بالعبارات التالية:

“وهنا يبرز سؤال حيوى:

- هل انتهت المسألة؟

لقد شرحت – أو حاولت أن أشرح فى الملاحظة الأولى من هذا الحديث – أن المسألة لم تنتهِ وإنما هى – بالكاد – بدأت لأنى على يقين من أن إسرائيل لعدة عوامل، فى مقدمتها العامل النفسى، لا تستطيع أن تقبل ما حدث حتى الآن وتسكت عليه…

لا تستطيع فى تقديرى..

معنى ذلك- وهذا هو قصدى من هذه الملاحظة الثانية فى هذا الحديث – أن الخطوة التالية لها، عليها هى الآن أن ترد. (يقصد إسرائيل)

وليس أمامها غير أن توجه ضربة وعلينا أن نكون فى انتظارها نقلل – كما قلت – إلى أقصى حد مستطاع من تأثيرها، ثم تكون لنا الضربة الثانية نشحنها بالتأثير إلى أقصى حد مستطاع.

وباختصار.

فإن مصر استعملت القوة وحققت أهداف هذه المرحلة بدون الالتجاء حتى الآن إلى السلاح.

وإسرائيل ليس أمامها الآن غير أن تلجأ إلى السلاح إذا أرادت استعمال القوة.

أى أن خط سير المواجهة الرهيبة الواقعة الآن بين مصر المعززة بقوى جماهير الأمة العربية، وإسرائيل المعززة بحماقة القوة الأمريكية – يفرض على مصر بعد كل ما نجحت فى تحقيقه أن تنتظر… حتى ولو كان انتظارها لضربة.

ذلك ضرورى أيضاً لسلامة خط سير المعركة خصوصاً من وجهة نظر دولية.

ولتبدأ إسرائيل!

ولتكن بعدها ضربتنا الثانية متحفزة… وقاضية!..”

أذكر أنني مع عدد من رفاقي ضباط مدرستي المخابرة والمشاة، في معسكر المرج، كنا نستمع لهذه المقالة في صوت العرب، وكنا نعي تماما معنى ما كتبه هيكل، وأن المبادأة قد أعطيت للعدو. دار جدال يومها: هل ما يقوله هيكل هو الحقيقة، أم أن هذا يقع ضمن تكتيكات الخداع المصرية. يومها غلّب أكثرنا التكتيك والخداع، لأننا لم نظن أن القيادة المصرية بهذا الغباء، ولم نظن أن النوايا يُعلن عنها هيكل على صفحات الأهرام. أذكر أن ضابطا واحد قال: لا أظن أنها (تكتيكه) ولكن خوفي منها (هتيكه).

نعم لم يكن ذلك تكتيكا ولكنه كان إفشاء مفضوحا وكشفا للعدو المتربص عن نوايا القيادة المصرية.

وللحديث بقية إن شاء الله