هيكل والافتراء على التاريخ – كيف تعامل هيكل مع الوثائق– الحلقة الثامنة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

المتابع لأحاديث هيكل يلاحظ حرصه الشديد على ذكر الأسماء وإثباتها في الأحداث التي كان يرويها، ولا يستثني حتى تلك التي غيبها النسيان، وحتى تلك التي لم يكن لها دور يستحق الذكر. كما يلاحظ حرصه الشديد على إبراز الأوراق والوثائق ذات العلاقة بالحدث الوارد في السياق.

وقد تفنن الفريق الفني في برنامج “مع هيكل” في إبراز الوثائق وإضاءة السطور وتظليلها في جهد يشكرون عليه. لم يتوقف الأمر عند حد “الوثائق” والأوراق المكتوبة فحسب، لكن السيد هيكل أتحفنا –أيضا- بتحويل بعض المحادثات الشفهية التي يقول بأنها جرت بينه وبين الرئيس عبدالناصر إلى نصوص مكتوبة، قام فنيو البرنامج بإبرازها وإضاءة سطورها هي الأخرى. وبالرغم من أن وضع هذه المحادثات الشفهية بهذه الكيفية، يخل -بطريقة مفضوحة- بالدقة في النقل؛ إذ لا يمكن لهيكل أو لغيره أن يزعم بأن هذه النصوص مأخوذة من محضر حرفي، ولكنه جعلها تبدو وكأنها مأخوذة من محضر مكتوب. كان يكفي السيد هيكل سرد مثل هذه المحادثات لطبيعتها الشفهية، وكان يمكنه أن يعمد –كعادته- إلى تكرار مايريد تأكيده من هذه المقاطع، لكن حرصه على إبرازها للمشاهد بصورة مكتوبة يظهر رغبته  الشديدة في أن يسبغ عليها مصداقية قد لا تتوافر عليها فعلا، أو في أحسن الاحتمالات أن تسبغ هذه الطريقة شيئا من المصداقية على ما يقول، أو تبرز بعض الأمور التي يريد ترسيخها في ذهن المشاهد. بالرغم من محذور الإخلال بالدقة وإيهام المشاهد والمتابع بحرفية النصوص المنقولة من محادثات شفوية، إلا ان ذلك قد يحسب للسيد هيكل إذا ما مارس الاستمرارية وتجنب الانتقائية غير المبررة.

المتابع للأحاديث المذكورة يلاحظ أيضا أن حرص السيد هيكل على إبراز الوثائق والأوراق وتقديمها للمشاهد قد اختفى وتلاشى تماما عندما كان يتحدث عن ادعاءاته بقيام أمريكا بالمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية مستخدمة قاعدتها الجوية “الملاحة / ويلاس”، أو ما أسماه السيد هيكل “البصمة الأمريكية” والتي يسعى جاهدا لفك “طلاسمها”. ولا نريد أن نتوقف طويلا أمام مصطلحات السيد هيكل “البصمة” و “الطلاسم”، فهو صاحب المصطلحات غامضة الدلالة والمضمون، لكننا قد نفهم من هيكل أن المصطلحين يستوجبان جهدا غير عادي لإثباتهما خاصة أن الحديث يتم عن مصطلح لا نسمعه يتردد إلا في القصص البوليسية أو في تحقيقات المباحث العامة، وآخر لا نسمعه يتردد بكثرة إلا عند السحرة والمشعوذين.

كنا نتوقع من السيد هيكل أن يتعامل مع الوثائق التي يسوقها حججا وقرائن ويدعي أنها تؤكد على ما يقول وتساعد في فك الطلسم وحل أحجية البصمة، بنفس الأسلوب والطريقة التي حرص عليها في التعامل مع غير ها من الوثائق: أن يبرزها على الشاشة، وينير السطور والكلمات، حتى يمكننا نحن المشاهدين من متابعة تفكيك رموز البصمة وفك أحجية الطلسم، أو على الأقل أن يضعها أمام المشاهدين ليشاركوا في الحكم على هذه الوثائق. لكن السيد هيكل –خلافا لعادته- لم يفعل شيئا من هذا، وبدلا من ذلك اكتفى إما بالقول بوجود وثيقة أمامه، أو بالتلويح بورقة لا ندري ما فيها؛ إذ لا يمكن لأي أحد مهما كانت قوة نظره أن يرى ما فيها أو أن يتأكد بأن مضمونها يتفق مع السياقات التي يطرحها هيكل، بل لا يمكن لأي أحد أن يجزم ما إذا كانت هذه الأوراق الملوح بها ذات علاقة بالموضوع أصلا، فضلا عن أن يكون في مقدور المشاهد أن يكون مع السيد هيكل في نفس دهاليز وأحجيات هذا الطلسم الذي يدعيه ويدعي القدرة على اكتشاف بصماته وتفكيكها. لكن بدلا من ذلك نجده يتملص من ضرورة طرح هذه الوثائق على المشاهدين والمتابعين؛ فيقول:

“قدامي عدد كبير قوي من الوثائق المصرية فيما يتعلق بهذا وقد أفتح قوسا وأقول إن هذه الوثائق أيضا ليست احتكارا لي، هذه الوثائق صورت منها مئات النسخ لكي يقرأها كل الذين كان عليهم أن يحاربوا، حرب تصحيح ما جرى في 5 يونيو وهي حرب أكتوبر

وبعد محاولة الهروب –غير الناجحة- من استحقاق تقديم الوثائق وإبرازها، بعد ذلك يصور لنا السيد هيكل مهمة فك الطلاسم بأنها من الأهمية بمكان، لأنها تخلص الإنسان المصري والعربي من عقدة الفشل والهزيمة:

“لكن المسألة الأهم أنه أنا بأعتقد أن هذا لا يزال يستغل إلى أغراض سياسية حتى هذه اللحظة، وأنا في عملية فك الطلاسم حول 67، بأعتقد أنها مش بس مهمة لتخليص الإنسان المصري والعربي من عقدة فشل وعقدة هزيمة لا مبرر لها في اعتقادي”

“ما أريد أن أفعله بالدرجة الأولى مش أنه أقعد أحكي تاريخ الحرب، لأن تاريخ الحرب قضية سهلة، لكن ما أريده بالدرجة الأولى أن أفك الطلاسم التي لحقت بسنة 1967 واللي أنا أعتقد أنها أثرت قوي على الوجدان المصري والعربي بصفة عامة لأني أعتقد أنه إلى جانب الأخطاء والخطايا التي وقع فيها كل الناس -وأنا حأتكلم على هذا فيما بعد- لكن المسألة الأهم أنه أنا بأعتقد أن هذا لا يزال يستغل إلى أغراض سياسية حتى هذه اللحظة، وأنا في عملية فك الطلاسم حول 67، بأعتقد أنها مش بس مهمة لتخليص الإنسان المصري والعربي من عقدة فشل وعقدة هزيمة لا مبرر لها في اعتقادي، آه حصل، حصل، حصل حاجة كبيرة جدا وينبغي أن يحاسب كل حد عنها ولا يعفى أحد مهما كان مقامه”

أمام هذه الأهمية التي يصورها هيكل لعملية فك “الطلاسم”، ألا يحق لنا أن نتساءل، وألا يحق لكل من شاهد واستمع إلى هيكل وهو يترافع لإثبات التدخل الجوي الأمريكي انطلاقا من قاعدة “الملاحة / ويلاس”، بل ألا يحق لكل المصريين والعرب الذين ستخلصهم عملية فك الطلاسم من عقدتي الفشل والهزيمة، ألا يحق لهم جميعا أن يتساءلوا:

لماذا خرج السيد هيكل عن عادته ولم يضع على الشاشة هذه “الوثائق” والأوراق التي يزعم أنها في حوزته، وأنها ئؤكد ما يعدُّه –هو نفسه-  أحد الأسباب، بل السبب الرئيس في هزيمة يونيو 1967؟

لماذا لم يقم بعرض هذه الأوراق حتى تطمئن النفوس وتزول عقدتا الفشل والهزيمة؟

ألا يستحق الإنسان المصري والعربي، وألا يستحق الوجدان المصري والعربي، وألا يستحق مشاهدو “قناة الجزيرة” أن يحترم السيد هيكل ذكاءهم وأن يمتنع عن التعامل معهم بنفس الاستخفاف الذي مارسه طيلة “مشوار حباته”؟

لا يمكن للسيد هيكل أن يدعي أن هذا الموضوع ليس مهما، ولا يستدعي بالتالي التوقف وإبراز الوثائق التي يدعيها ، فهو قد جعل منه الموضوع الذي تدور حوله أحاديثه عن هزيمة يونيو 1967، بل جعله -كما قال- السبب الرئيس لهذه الهزيمة التي “لا مبرر لها”.

كما لا يمكن للسيد هيكل أن يدعي بأن الموضوع بديهي، وأن تدخل أمريكا من قاعدة “الملاحة / ويلاس” أمر محسوم ولا يحتاج إلى إثبات، ولا حاجة إذن لإبراز الوثائق؟. لا يستطيع إقناع أحدا بهذا؛ لأنه هو نفسه جعل الموضوع أحجية وبصمة وطلاسم لابد من فكها، أي أنها –من وجهة نظره- في حاجة إلى إثبات. بل إنه قد اتخذ من هذه الأوراق “الوثائق” حججا وأدلة تثبت مزاعمه بالخصوص.

كان من الضروري على السيد هيكل أن يرينا نصوص هذه الوثائق، لكنه لم يفعل، وبدلا من ذلك أخضعنا لمنهج ركيك هذه بعض ملامحه:

  • فهو يدعي بوجود هذه الوثائق، وأنه يستقي حديثه منها.
  • ويدعي أن مجرد وجود هذه الوثائق –إن وجدت أصلا- كفيل بأن يثبت ما يقوله؛ بغض النظر عما إذا كانت محتويات الوثيقة صحيحة أم لا.
  • وهو يفرض قراءته الخاصة لهذه الوثيقة أو تلك على المشاهد، فلا ندري هل عرض الوثيقة كلها، أم أغفل بعض جوانبها، وماذا أغفل  .. ولماذا؟ وماذا ذكر .. ولماذا؟
  • وهو يفرض تفسيراته وتأويلاته لما يزعمه من محتويات الوثيقة.
  • وبعد أن تصور -ثم صور لنا- أن هذه الوثائق حجة بالغة، قام بالخروج على ما زعم أنه منصوص عليه في الوثيقة، ونسج أحداثا ومعطيات غير واردة فيها، في محاولة مفضوحة لإيهام المتابع بأن هذا النسج امتداد لما في الوثيقة المدعاة وبالتالي يمكن تصنيفه ضمن دائرة التوثيق المستند على معلومات تحويها الوثائق المزعومة. هذا لم يقنع أحدا: فما يدعيه هيكل من نصوص في وثائق هو في حد ذاته في حاجة إلى تمحيص فضلا عن أنه غير مقنع لافتقاده المصداقية، ولذلك جاء نسيج هيكل أقرب ما يكون من إنتاج كُتّاب “سيناريوهات الدراما”. وفي هذا الجانب تفنن هيكل في خلط أحداث ومعطيات مع خيال جامح معبرا عنه بعبارات غامضة مع شيء كثير من الكذب والمغالطات، فجاء “السيناريو” متضاربا ومتناقضا لا يصلح إلا لبعض الأفلام الهابطة، ولا يمكن أن يحل أحجية أو يفسر بصمة أو يفك طلسما، فضلا أن يزيل عقدتي الفشل والهزيمة.

 

إزاء هذا كله نجد من الصعوبة بمكان أن نقر بوجود ما أشار إليه السيد هيكل على أنه وثائق ولم يبرزها لنا، خاصة ما يزعم أنها “وثائق “مصرية”، لأن الحصول عليها غير ممكن؛ فهي لم تنشر، ولم يسمح بتداولها. كما لا نستطيع –إذا كانت هذه الوثائق موجودة بالفعل- أن نقر قراءة السيد هيكل وتفسيراته لها أو أن نعترف بصحة هذه القراءة، ومع هذا فلا نجد مناصا من أن نُخضع وثائق السيد هيكل المزعومة للفحص، ونطرح قراءاته وتفسيراته لها لتمحيص موضوعي خال من خيال هيكل وأكاذيبه التي بلغت حد التدليس. كما لا بد من تحليل ما يدعيه هيكل من “أدلة” وتبيان كيف اختلق بعضها ثم دسها في ثنايا أحاديثه.

وفي الواقع فإنني اعترف أنني وجدت صعوبة كبيرة في متابعة ما كان السيد هيكل يقوله، واضطررت إلى إعادة قراءة النصوص أكثر من مرة لأتأكد أنني لم أخطئ، وللتفريق بين ما يدعي هيكل أنه منصوص عليه في وثيقة لم يبرزها، وبين ما هو نتاج خيال خصب مؤسس على أكذوبة روج لها منذ ستينيات القرن الماضي،  وساهم هيكل نفسه في اختلاقها والترويج لها، وهو إلى يومنا هذا يلهث جاهدا بحثا عن قشة يتعلق بها ليوهمنا بأنها إثبات لما يقول.

وللحديث بقية إن شاء الله

 

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.