هيكل والافتراء على التاريخ – السلاح الأمريكي لإسرائيل قبل 1967 – الحلقة الثالثة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

حديث السيد محمد حسنين هيكل عن الدور الأمريكي في حرب يونيو 1967 متشعب ومتناقض في الوقت نفسه، ويتطرق إلى عدة نواحي ويشير إلى صور مختلفة لهذا الدور:

  • فهو يتحدث عن قيام أمريكا بتسليح إسرائيل بمختلف أنواع السلاح، التي عزا إليها أسباب الانتصار الإسرائيلي.
  • ويتحدث عن إمداد الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل بمعلومات استخباراتية من النوع الذي لم يكن في إمكان إسرائيل الحصول عليه لولا أمريكا.
  •  وعن قيام طائرات التجسس الأمريكية بالطيران فوق جبهات القتال وتصوير مواقع القطعات وتحركاتها، وإعطاء هذه المعلومات لإسرائيل.
  • ويشير أيضا إلى تقديم أمريكا لأعداد كبيرة من المتطوعين، الذين  قال بأنهم وصلوا بالفعل إلى إسرائيل –بطريقة أو بأخرى، وبعضهم عبر “قاعدة الملاحة- ويلاس”- وساهموا في المعارك منذ بداياتها.
  • ويتحدث عن الدعم السياسي والدبلوماسي غير المحدود الذي قدمته أمريكا لإسرائيل في المحافل الدولية، خاصة في مجلس الأمن.
  • وكل ما سبق يعتبره السيد هيكل في كفة لا ترجح كفة ما أسماه “البصمة الأمريكية”، وهو ما يزعمه من استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدة “الملاحة/ويلاس” أثناء هذه الحرب، وخاصة في الضربة الجوية الإسرائيلية، ويعتبر –تلميحا وتصريحا- أن ذلك كان السبب الرئيسي في نجاح الضربة الجوية الإسرائيلية، وإن كان يعترف أيضا بأن القوات الجوية الإسرائيلية قد قضت سنوات طويلة وهي تتدرب على خطط هذه الضربة الجوية، وعلى تنفيذها.

إن المتابع لأحاديث السيد هيكل لا يستطيع أن يتخلص من الشعور بأن كل الصور التي أشار إليها من تسليح، وتعاون استخباراتي، ودعم سياسي، ومتطوعين، ومن استقطاع لأجزاء من محاضر لقاءات مسؤولين أمريكان مع نظرائهم الإسرائيليين مع تعمد تغييب مقاطع أخرى، وغيرها مما حفلت به أحاديث هيكل، إنما يسوقها ويبالغ في وصفها وتقييمها من أجل إثبات المشاركة الأمريكية في الضربة الجوية انطلاقا من قاعدة “الملاحة/ويلاس”، أو “البصمة” التي احتاجت إلى خبير بصمات –مثل هيكل- لاكتشافها ثم لفك “طلاسمها”.

بيت القصيد في مقالاتنا هذه هو الرد على مزاعم السيد هيكل حول استخدام قاعدة “الملاحة/ ويلاس”، لأن هذا ما يهمنا كأكذوبة رددها السيد هيكل طويلا، ولا نظن أنه صدقها ولكنه يريد منا –ومن غيرنا- أن نصدقها. ما يهمنا هو هذه المزاعم التي يرددها السيد هيكل، والتي يدعي أن هناك “وثائق” تسندها وتؤكدها.  ولكن من الواجب قبل أن نخوض في هذا الأمر، وفي وثائقه التي يلّوح بها، أن نستبين بقية الصور الأخرى “للدور الأمريكي” التي أوردها السيد هيكل، خاصة وأنه –كما قلنا- يحاول حشد هذه الصور كقرائن تؤكد التدخل الأمريكي الذي يزعم أنه انطلق من ليبيا. وهذا يدعونا أن نستوضح بقية الصور ونقدم حولها ما هو معروف من الحقائق، ثم ندع للقارئ أن يقارنها مع ما أورده هيكل أو أغفله وغيَّبه منها، ثم نتساءل –بعد تبيين الحقائق- من ينبغي أن نلوم: إسرائيل أم أمريكا أم سياسات عبدالناصر؟

لا بد أن نتبين الحقائق خاصة حول أمرين اثنين يتعلقان بالدور الأمريكي، ومدى علاقتهما بانتصار إسرائيل في الحرب، وهما:

  1. قيام أمريكا بتسليح إسرائيل قبل حرب يونيو، خاصة في مجال السلاح الجوي. بمعنى آخر هل زودت أمريكا السلاح الجوي الإسرائيلي بما مكن إسرائيل من تنفيذ ضربتها الجوية بهذا النجاح المذهل؟
  2. تقديم أمريكا معلومات استخباراتية إلى إسرائيل. بمعنى آخر هل كانت المخابرات الإسرائيلية قاصرة وعاجزة في الحصول على المعلومات الحيوية عن القوات المسلحة المصرية، خاصة الطيران والدفاع الجوي، اللازمة لتنفيذ ضربتها بحيث نقول بأنه لولا المعلومات الأمريكية ما نجحت الضربة؟

وقبل أن نخوض في هذين الأمرين لا بد أن نشير إلى معيار آخر من المعايير التي أراد السيد هيكل أن يفرضها من خلال أحاديثه، فهو يحاول أن يسرد أحاديثه قفزا على الأوضاع السائدة يومذاك، وتجاهلا للاختلافات الجوهرية بينها وبين الأوضاع الدولية في الوقت الراهن، وعلى الأخص أوضاع العلاقات الإسرائيلية- الأمريكية. دور “اللوبي” الإسرائيلي يومئذ –على قوته- كان يواجه محددات، ولا يمكن أن يقارن  بما بلغه هذا “اللوبي” من تغول في الوقت الراهن، ودوره الذي أصبح مركزيا في التأثير على القرار الأمريكي. وفي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي لم تكن الحالة العربية قد وصلت إلى ما بلغته حاليا من وهن وهوان، فلم يعد العرب –اليوم-ذلك الصديق الذي يُسعى إليه ويُحتفى به، ولا ذلك العدو الذي يُهاب ويُخشى، ولا ذلك الند الذي يُحترم. هذا كله لم يكن عشية حرب يونيو، بل نجده اليوم كنتاج لتلك الحرب وما تبعها من انتكاسات متتالية.

لهذا ينبغي أن نتذكر بأننا نتحدث عن مرحلة كانت فيها الأوضاع الدولية تختلف بصورة كلية عما هي عليه الآن. هذا يسري على العلاقات العربية-الأمريكية، وعلى موازين القوى الدولية، وعلى حقائق الصراع العربي– الإسرائيلي، بل حتى على درجات وقوة التأثير الإسرائيلية على الإدارات الأمريكية. لم تكن إسرائيل آنذاك تسيطر على القرار الأمريكي بالطريقة والدرجة التي نراها الآن، وكان للعرب أصدقاء في مختلف الإدارات الأمريكية يتعاطفون مع قضايا العرب من منطلق حرصهم على مصالح الولايات المتحدة المرتبطة بالمنطقة العربية.

لكن التغيرات التي جاءت بين الأمس واليوم لم تحدث فجأة، وإنما كانت نتاجا لسنوات طويلة من السياسات العابثة التي لم تقدر المصلحة العربية العليا حق قدرها، ولم تفرد للقضية الفلسطينية ما تستحقه من مكانة في أولويات الصراع والسياسة، ولا ما تستحقه من مكانة في إطار العلاقات والتعاون العربي، ولا إلى ما تتطلبه من بناء علاقات دولية بناءة على الأخص مع الأطراف الدولية المؤثرة. بدلا من ذلك، كانت المهاترات والتخوين والتآمر أساليب معتمدة في السياسة المصرية تجاه الدول العربية المختلفة، لم تنج من هذه السياسات دولة عربية واحدة. وكان التعامل مع البعد الدولي والقوى الدولية مؤسسا على افتراضات لا تمت إلى الواقع بصلة وتفتقر إلى التقييم الموضوعي السليم –الخالي من الأهواء- للمعطيات والعوامل المؤثرة، بل كانت شؤون وشجون العلاقات الدولية تقفز إلى صفحات الجرائد وميكروفونات الإذاعات قبل أن يتمكن الدبلوماسيون من التعامل معها. في تلك الحقبة كانت إسرائيل تضع أمامها أهدافا واضحة تتوحد وراءها الغالبية العظمى من يهود العالم، وتسعى لجلب التعاطف الدولي مع هذه الأهداف. وكانت إسرائيل تضع كل القدرات والإمكانيات في خدمة هذه الأهداف ، وتسخر أركان الدولة وعلاقاتها الدولية وأصدقاءها وعملاءها من أجل الحصول على كل إمكانية غائبة تعين على تحقيق الأهداف. وعلى الطرف الآخر كانت أهداف العرب قد تحولت إلى شعارات جوفاء فارغة ليس ما يساندها من عمل جماعي مشترك، فكانت الأهداف ضبابية، وكانت السبل إلى بلوغها تفتقر إلى العزيمة والوضوح والمداومة، فتشتت هذه الجهود إلى معارك جانبية ومفتعلة كانت خاسرة في معظمها. كان الأداء العربي في مضمار العلاقات الدولية فاشلا وكارثيا، أخضع بالكامل للأهواء والنزعات، وغابت عنه العقلانية، وتوخِي المصالح العليا، والبحث عن قواسم مشتركة مع مختلف الدول، والبحث عن مساحات الاتفاق لتنميتها، وجوانب الخلافات لتضييقها، بل غابت حتى سياسات التكامل وتبادل الأدوار بين الدول العربة في مضمار العلاقات مع مختلف الدول.

هكذا كانت هذه السياسات سببا في الفشل في تقييم حرب السويس 1956 بطريقة موضوعية تحدد الأطراف التي كان دورها مؤثرا في حل الأزمة وإجبار الدول المعتدية على الانسحاب، ومن ثم تحديد مناهج صحيحة للتعامل مع هذه الأطراف. جرى عمدا تجاهل الدور الأمريكي وإبراز الدور السوفياتي بالرغم من البون الشاسع بين دور كل من الطرفين، وسرى هذا التجاهل والإبراز إلى السياسات والخطب والإعلام، وتعالت حدة الحملات الإعلامية ضد أمريكا، وتم تصوير كل قصور في العلاقات بين مصر الناصرية وأمريكا –بالذات- إلى خطيئة في حق القضية العربية.  وكان هذا أحد أسباب التمهيد لمزيد من إزاحة الدور والتأثير العربي في أمريكا وإلى نماء العلاقات الإسرائيلية الأمريكية في الفترة الواقعة بين حرب السويس وحرب يونيو 1967، وكانت هناك أسباب كثيرة أخرى منها ما هو خارج عن الإرادة، وكان يمكن تداركه، ولكن معظمها كان من صنع السياسات والممارسات الناصرية قي تلك المرحلة .

قد يكون في ما أورده هيكل حول إمداد أمريكا لإسرائيل بالسلاح والمعلومات شيئ قليل من الصحة، ولكن حتما فإن فيه كثير من المبالغة. حتى وإن افترضنا –جدلا- صحة ما يقوله هيكل إلا أن أمورا كثيرة ينبغي بحثها وهو ما يتطلب تحليلا هادئا وتساؤلات من قبيل لم وكيف تم هذا؟ ومن المسؤول؟.

لا ينبغي التباكي على أن إسرائيل وقادتها –منذ قيام دولتهم وحتى يومنا هذا- قد فعلوا كل ما كان بوسعهم لتكوين وتعزيز وإدامة علاقة استرتيجية من طراز فريد مع الولايات المتحدة، وأنهم عبر هذه العلاقة عززوا مكانة إسرائيل داخل أمريكا حتى أصبحت أدوات ولجان الضغط الإسرائيلية تخيف الرؤساء والإدارات الأمريكية وتعشعش في أوساط الكونغرس ومختلف الإدارات الأخرى. لا نستطيع أن نتباكى لأن قادة إسرائيل قد حددوا بكل دقة مكمن المصلحة الإسرائيلية، ثم ركزوا جهودهم وحشدوا إمكاناتهم وأصدقاءهم لتعزيز وتحقيق هذه المصلحة. أليس الأولى أن نصب جام غضبنا على السياسة الناصرية التي لم تترك وسيلة ولا سبيلا إلا سلكته لتخريب العلاقات العربية- الأمريكية، ولم يقتصر هذا التخريب على علاقات مصر بأمريكا فقط؟.

إذا ما استعدنا أجواء الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فإننا سنعيش فترة الخطب الحماسية الرنانة، واتهام الزعماء العرب الذين سعوا لإقامة علاقات متوازنة مع أمريكا بالعمالة للإمبريالية، وسنستمع إلى إذاعة “صوت العرب” والإعلام المصري عموما تحرض الشعوب على هؤلاء الزعماء الذين أصبحوا يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى فبدوا مترددين في علاقاتهم والتزاماتهم الدولية، ووجدوا أنفسهم في دوامة البحث عن سبل الدفاع عن أنفسهم أو الانخراط في خدمة التوجهات الناصرية. وإذا ما كنا صرحاء أكثر لوجدنا أن مصر الناصرية سعت، ونجحت -إلى حد كبير- في تسخير الجماهير العربية وتحشيدها ضد حكامها وضد أية سياسات إيجابية مع الغرب خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية. لم يستطع حتى بعض الزعماء الذين يعتد بهم –مثل الملك فيصل بن عبدالعزيز- من أن يقنعوا عبدالناصر بسياسة تكامل الأدوار العربية، وكان عليهم إما أن يكونوا مع التوجهات الناصرية أو يواجهوا  تهم العمالة والخيانة. وفي هذا الصدد نستعير من السيد هيكل حديثا نسبه إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز:

“أنا فاكر أن الملك فيصل -وأنا سمعها منه كذا مرة وآخر مرة سمعتها منه كنا في فندق فلسطين في الإسكندرية والملك كان ضيفا هنا- لكن الملك بيقول إيه؟ بيقول لي يا أخي طال عمرك الرئيس عبد الناصر استفز الأميركان بأكثر من اللازم، هم ما عندهمش صداقة مع إسرائيل بهذه الدرجة وهم ما عندهمش عداء معنا إلى هذه الدرجة لكن نحن رحنا إلى جانب الاتحاد السوفياتي، أنتم يعني المصريون ذهبتم متحيزين إلى الجانب السوفياتي وهذا أغضبهم، ولو أوقفنا هذه العلاقة وهذه الصداقة الزائدة مع الاتحاد السوفياتي فالأميركان موقفهم مختلف لأن مصالحهم معنا وبالتالي إذا اختلف موقفهم معنا فسوف يقل تحيزهم لإسرائيل”

وإذا كان الملك يتحدث بمثل هذه الصراحة ويكرر هذا الحديث على مسامع هيكل فلا بد أنه كان وغيره من الرؤساء والملوك العرب أكثر صراحة ونصحا -وربما مناشدة- في الجلسات المغلقة أو في المشاورات  الجانبية. ولكن تبقى الحقيقة المرة أن سياسات عبدالناصر لم تترك فقط لإسرائيل الساحة الأمريكية تلعب فيها كما تريد، بل إنها أعطت كل المبررات لأمريكا كي تدير لنا ظهرها وتنحاز بالكامل لإسرائيل عبر سنوات تراكمت فيها المواقف، وعززت فيها إسرائيل مركزها، حتى وصل بها الأمر ليس فقط بالمراهنة على الحصان الأمريكي، بل إلى امتطائه والإمساك بلجامه وتوجيهه الوجهة التي تريدها.

لا بد لكي يكون المرء صادقا في تحليلاته واستنتاجاته، أن يستند على الوقائع والحقائق، وأن يراعي الدقة ويتجنب المبالغة، وأن لا يسمح لنفسه بالجنوح إلى الخيال والأوهام. لا بد لنا من أن نتعرف على الأسباب التي أدت إلى تطور العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية إلى ما صارت عليه عشية حرب يونيو 1967. وقد نستطيع الاستطراد فنبحث القفزة الرهيبة للعلاقات الأمريكية-الإسرائيلية التي ترتبت عن نتائج حرب يونيو، وترتبت أيضا عن تصرفات العرب حيال أمريكا بحجة هذه النتائج.

ربما من المهم الإشارة إلى حقيقة منسية أو مهملة ومغيَّبة عن عمد، وهي حقيقة موقف الدولتين الكبريين (الاتحاد السوفيتي وأمريكا) من إسرائيل. ذكر هذه الحقيقة والتذكير بها مهم جدا لأنها ضاعت في خضم الدعاية الناصرية، وهو مهم كي يكون معيارنا مستندا على قاعدة راسخة ومتوازنة، ثم حتى نزن المواقف والسياسات التي رسمت وصاغت العلاقات العربية مع الدولتين.

سنجد أن موقف الدولتين من قيام إسرائيل متشابها إن لم يكن متطابقا، فاعتراف الاتحاد السوفيتي بقيام دولة إسرائيل جاء بعد أربعة دقائق من اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية. وحتى في أوج التحالف الناصري-السوفيتي فإن إنهاء دولة إسرائيل والقضاء عليها كان خطا أحمرا لدى السوفيت كما هو لدى أمريكا ولدى كثير من دول العالم الأخرى. ليس هناك فارق كبير بين الدولتين في مسألة وجود إسرائيل وبقائها.

بقي أن نتعرف على حقيقتين أخريين:

أولاهما: أن الاتحاد السوفيتي لم يتوقف –حتى أثناء تحالفه مع عبدالناصر- أن يكون المخزون الاستراتيجي والمزود الرئيسي لإسرائيل بالعقول والخبرات المدربة التي كانت هجرتها تتم بترتيبات مع حكومة الحليف السوفيتي. ولا نريد الاستطراد هنا لتوضيح ما أحدثته هذه الهجرة المدربة من تطورات على الصناعة والزراعة والإنتاج في إسرائيل، وبالأخص على الجيش الإسرائيلي، وعلى القدرة العسكرية الإسرائيلية. إزاء هذا الإمداد لم يرفع النظام الناصري عقيرته بالاحتجاج لدى الحليف السوفيتيى، وخلت كل خطبه –وما أكثرها- من أية إشارات إلى هذه المسألة. كما أن الإعلام الناصري وقطب رحاه هيكل لم يثيرا هذه المسألة لا من قريب ولا من بعيد. وقد نتساءل هل كانت المصالح المصرية وعلاقاتها مع الاتحاد السوفيتي ستكون في خطر إذا ما قامت مصر بإثارة هذه المسألة؟

أما الحقيقة الثانية: فإن الإدارات الأمريكية المتعاقبة استمرت في اتباع سياستين أرساهما الرئيس “هاري ترومان” تقضيان بمتابعة تأييد إسرائيل ودعمها في كل المجالات، وفي نفس الوقت بمتابعة الامتناع عن تصدير السلاح إلى دول منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك إسرائيل. استمر ذلك إلى ما بعد حرب السويس. قبل ذلك كان مصدر التسلح الإسرائيلي من بريطانيا ومن فرنسا، وهذه الأخيرة هي التي زودتها بمنظوماتها الجوية بما فيها طائرات الميسيتير وسوبر مايستير والميراج وقنابل Durendal المخصصة لتدمير مدارج المطارات،  وهي –مع غيرها- شكلت القوة الضاربة التي استخدمتها إسرائيل في ضربتها الجوية.

وإذا ما استطردنا –في هذا الصدد- لوجدنا أن أول صفقة لتزويد السلاح الجوى الإسرائيلي بأسلحة أمريكية الصنع كانت عام 1962 في عهد الرئيس “جون كندي”، حين جرى التوقيع على تزويد إسرائيل بمنظومة صواريخ “هوك” للدفاع الجوي، وكان التبرير الذي قدمته إدارة الرئيس “كندي” آنذاك أن الاتحاد السوفيتي قد زود مصر بقاذفات للقنابل ذات مدى طويل وبمنظومة الصواريخ SAM التي ضخم الإعلام المصري في وصف قدراتها وسميت “القاهر” و “الظافر”. ومع هذا لم يتم حصول إسرائيل على صواريخ “هوك” بسهولة –كما يحدث الآن، بل كان على إسرائيل آنذاك أن تبذل الجهود وتختلق الظروف وتحشد أصدقاءها مرة تلو الأخرى للحصول على أسلحة، وكان معظمها يرفض بسبب السياسة المعتمدة من ناحية وكذلك بسبب الوجود القوي لأصدقاء العرب في الإدارة الأمريكية. وقد بذلت إسرائيل مساع متكررة وحشدت أصدقاءها للحصول على طائرات مقاتلة وقاذفة أمريكية الصنع، وفي كل مرة كان أصدقاء العرب في الإدارة الأمريكية وخاصة في وزارة الخارجية يحولون دون تبلور هذه الطلبات إلى عقود، ويستطيع أي باحث محايد أن يقرر أن وزارة الخارجية –بالذات- كانت مليئة بالمسؤولين الذين كانوا يعرفون باسم “آرابيست” بسبب مواقفهم المؤيدة لسياسة أمريكية أكثر توازنا تميل إلى تقدير المصالح الأمريكية- العربية المشتركة وتغليبها. كان الأولى أن نقدم دعما –بالقول والفعل- لهؤلاء الأصدقاء حتى يمكنهم من تعزيز دورهم في السعي لتحقيق سياسة أمريكية متوازنة ، لكن السياسة الناصرية لم تعط لهؤلاء أية مساندة، ولم تعمل على تعزيز منطقهم وموقفهم، بل ما حدث هو العكس، فقد أعطت السياسات الناصرية “ذخيرة” لأصدقاء إسرائيل تاركة أصدقاء العرب يواجهون مدا إسرائيليا متناميا أوصلهم إلى التقلص والتقوقع، بل أوصلهم إلى الدفاع عن أنفسهم بكل ما تعنيه الكلمة.

نجح “الآرابيست” في الحيلولة دون حصول إسرائيل على مقاتلات أو قاذفات أمريكية عدة مرات، إلى ان كان عام 1966، في إدارة الرئيس “ليندون جونسون”، حين كررت إسرائيل مطالبها بالحصول على مقاتلات وقاذفات، وتحصلت على موافقة مبدأية من البيت الأبيض، لكن هذه الموافقة كان عليها أن تمر بسلسلة من الإجراءات التي تمر على وزارتي الدفاع والخارجية علاوة على موافقة الكونغرس. وهكذا شرعت إدارة الرئيس جونسون في الإجراءات اللازمة لاستخراج التراخيص لتزويد إسرائيل بطائرات “سكاي هوك” القاذفة. لكن  إسرائيل لم تستلم أي من هذه الطائرات إلا في أواخر عام 1967، أي بعد حرب يونيو، وشاركت هذه الطائرات في “حرب الاستنزاف”. أما في حرب يونيو 1967 فلم يكن في حوزة إسرائيل أية مقاتلات أو قاذفات أمريكية الصنع. ومعر وف أن نتائج حرب يونيو وقيام مصر بقطع علاقاتها مع أمريكا سرَّعا في الموافقة على تنفيذ صفقة طائرات سكاي هوك ثم تلتها طائرات الفانتوم …. ثم توالت الصفقات.

هذا ما تقوله حقائق التسليح الأمريكي لإسرائيل -في مجال القوات الجوية- قبل حرب 1967. فلم تشارك أية طائرة من صنع أمريكي في تلك الحرب لأن إسرائيل ببساطة لم تكن –في تلك الفترة- تملك طائرات أمريكية الصنع. وهذا في الواقع كان من شأنه أن يسهل اكتشاف أية طائرات أمريكية الصنع تكون قد شاركت في الضربة الجوية، لأن الطيارين وأطقم الدفاع الجوي كانوا سيتعرفون عليها بكل بساطة حتى ولو كانت مطلية بعلامات السلاح الجوي الإسرائيلي كما يقول السيد هيكل .

كافة الإحصاءات المنشورة عن حرب يونيو تدل أن السلاح الجوي الإسرائيلي، كان يتكون آنذاك من الآتي:

65 ميراج (3) الاعتراضية           35 سوبر مايستير القاذفة

33  مايستير المقاتلة                      18 فوتور (2) المقاتلة

48 أوراغان القاذفة                       45 فوغا ماجيستير للتدريب

جميع هذه الطائرات فرنسية الصنع، ولم يكن بينها طائرة أمريكية واحدة.

أما بعد 1967 فقد أثبتت إسرائيل لأمريكا أنها حليف استراتيجي يعتد به، واستمر وقوفها بكل قوة وراء أصدقائها في أمريكا، وازداد تنامي وترسخ علاقاتها مع أمريكا، فيما باتت علاقات مصر وسوريا ودول عربية أخرى مع أمريكا مقطوعة لعدة سنوات، وشبه مجمدة مع دول أخرى، وتنامت الحملات الإعلامية والاتهامات في الصحافة العربية ضد أمريكا، وتركت الساحة بالكامل لإسرائيل، فكانت تلك هي السنوات الذهبية التي تنامت فيها مؤسسات الضغط الإسرائيلية، وتمكن الأخطبوط الإسرائيلي من الإمساك بمفاصل القرار الأمريكي، كما تمكن هذا الأخطبوط من استغلال كل الأزمات العربية-الأمريكية والضعف والهوان العربيين للتمكين لسيطرته إلى أن وصل الأمر إلى ما هو عليه الآن.

هذا عن تسليح أمريكا لإسرائيل -في مجال السلاح الجوي- قبل حرب يونيو، وعن دور هذا التسليح في نتائج تلك الحرب، وعلى الأخص في نتائج الضربة الجوية.

وسنتناول –بإذن الله- مسألة الإمداد بالمعلومات في حديث قادم إن شاء الله.

 

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.