حول تحريض القذافي على تقسيم السودان

تصريحات القذافي الأخيرة بخصوص جنوب السودان ما هي إلا متابعة لسياساته القديمة-الجديدة تجاه السودان ووحدتها واستقرارها. هذه التصريحات التي أعلن فيها القذافي تأييده ودعمه لانفصال الجنوب عن السودان؛ في عملية تحريض واضحة للجنوبيين على الانفصال بالتلويح لهم بتأييد الدولة الانفصالية ودعمها. هذا التلويح بدعم الدولة الانفصالية كرره القذافي من قبل حين قدم وعدا بذلك إلى سلفاكير نائب الرئيس السوداني ورئيس حكومة الجنوب.

اضغط هنا لقراءة تكملة المقالة »

أماكن لها تاريخ جامع عصمان

جامع عصمان هو أحد المساجد القديمة في مدينة بنغازي، اسمه الأصلي جامع “رشيد” نسبة إلى بانيه وهو أحد الولاة العثمانيين، ولكنه اشتهر باسم جامع عصمان لوقوعه في الشارع الذي يحمل نفس الاسم.. وشارع عصمان شارع ضيق يبدأ من جهة البحر بالقرب من “بيرقو النجمي” وتتفرع منه عدة أزقة وشوارع من أهمها شارع “سيدي سعيد”، وينتهي متقاطعا مع شارع سيدي سالم، ملتقيا في نفس التقاطع مع أحد فروع سوق الظلام.

شارع عصمان يحتوي على منازل سكنية، ويحتوي على عدد من دكاكين البقالة لكل منها خصوصية، كان دكان “مصطفى باقو” مشهورا ببيع “اللبن” في مواسمه، وكان “محمد بوزقية” يبيع الفاكهة والخضراوات والمعلبات ويتفنن في عرضها، أما “رمضان عصمان” فكان يتفنن في إعداد وعرض ” الفلفل المصير” في الصيف،،،،، وهكذا.

اضغط هنا لقراءة تكملة المقالة »

هيكل والافتراء على التاريخ –”الأدلة” التي استخدمها هيكل– الحلقة الحادية عشرة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

جـ) برقية السفير المصري في باريس

لا بد أن نعيد التذكير بأن نظرية التدخل الأجنبي في حرب يونيو 1967 كانت موجودة حتى قبل اندلاع الحرب، وكانت أجهزة الدعاية الناصرية تروج لهذه النظرية، وكان هيكل في مركز هذا الترويج وفي صدارته. ولقد رأينا ما ذكره هيكل في أحاديثه عما نشرته الأهرام قبل الحرب بهذا الخصوص، ورأينا أيضا مقدار الشراسة التي واجهت بها الأهرام تصريحات وتوضيحات وزير خارجية ليبيا الدكتور أحمد البشتي.  أما بمجرد حدوث الضربة الجوية الإسرائيلية فقد ابتدأت القيادات المصرية على مختلف مستوياتها تتحدث –حتى فيما بينها- عن نظرية التدخل الأمريكي، وتبحث عن أية شوارد يمكن استخدامها، بل وربما اختراع الشواهد والشوارد التي قد تعزز هذه النظرية. وفي هذا فقد  قام السيد هيكل بنقلنا إلى الأجواء التي سادت غرفة عمليات القيادة العامة وما كان يدور فيها من بحث محموم عما من شأنه أن يؤكد التدخل الأجنبي وعلى وجه التحديد التدخل الأمريكي انطلاقا من أن الضربة الجوية كانت أكبر مما هو متوقعا، وأن الخسائر كانت كارثية بمعنى الكلمة الأمر الذي سيصعب تبريره دون إقحام التدخل الخارجي وبوجه خاص التدخل الأمريكي.

وقتها لم يتوقف أحد للحديث عن الأسباب التي مكنت إسرائيل من توجيه هذه الضربة ومن ثم إحداث هذه الخسائر الكارثية التي حسمت المعركة منذ لحظاتها الأولى، بل إن جميع أولئك القادة بمن فيهم الرئيس عبدالناصر لم يستطيعوا –آنذاك- أن يدركوا أن تلك الضربة قد مكنت إسرائيل من حسم معركتها مع العرب لأجيال ولعقود ستلحق. لم يتوقف أحد ليتساءل كيف أمكن لإسرائيل أن تقوم بتلك الضربة لأن هذا من شأنه أن يضع كل أركان الحكم الناصري في دائرة المسؤولية التي ترتبت عن سنوات طويلة من الإهمال والتسيب والاستخفاف الذي اقترب من الخيانة. سيكون عبد الناصر أول المسؤولين بفشله في إعداد مصر لمعركة كانت متوقعة، ولسياساته التي حالت دون توافر إمكانات الاستفادة من الطاقات العربية وتوجيهها للمعركة، وعن سنوات من المعارك (الدانكشوتية) طالت على وجه الخصوص الأشقاء العرب، وعن قرارته التي اتخذها بالوقوع في شراك معلومات زرعتها أجهزة العدو؛ هذا إذا أحسنا النية بأنه وقع في شرك، وعلى أساس تلك القرارات اختلق الأزمة وألحقها بالتحشد الاستعراضي للقوات المسلحة المصرية والإداراة الاستعراضية الإعلامية لمعركة حربية، ولقراره الكارثي بحرمان مصر من المبادأة ومن فرص توجيه الضربة الأولى أو على الأقل توقي الضربة الإسرائيلية، والأدهى السماح لهيكل أن ينشر هذا القرار على صفحات الأهرام. أجل إن الأسباب التي مكنت إسرائيل من جعل تلك الضربة الجوية بتلك الضخامة كانت واضحة ومعروفة للقيادات المصرية سواء في رئاسة الجمهورية أو التي كانت موجودة في غرفة العمليات وقتها، لكن الاعتراف بذلك كان يعني الاعتراف بالسجل الطويل من الخطايا التي ارتكبها الحكم الناصري بدءا من ترك عملاء وجواسيس إسرائيل يمرحون في مصر في أوساط القوات المسلحة ذاتها وعلى الأخص في داخل قيادات القوات الجوية، مرورا بنشر أسرار تحركات القوات المصرية وتشكيلاتها وقياداتها على صفحات الأهرام، ومرورا بإلغاء حالة الطوارئ المعلنة، وعلى وجه الخصوص قرار وقف عمل الدفاع الجوي المصري في تلك الساعات الحرجة وذلك تأمينا للطائرة التي كانت تقل المشير عبدالحكيم عامر الذي كان في طريقه لزيارة إحدى القواعد الجوية في سيناء والتي كان من المفترض أن يتم تحويلها إلى مركز القيادة الأمامية.

لم يكن سهلا على أحد الاعتراف بذلك، فقد كانت كل أطراف القيادة المصرية مشغولة –في تلك الساعات الحرجة- بإبعاد التهمة، كل عن نفسه، بل إننا نرى -مما أورده السيد هيكل- أن عبدالناصر قد بدأ منذ الساعات الأولى للمعركة في تصفية حساباته مع المشير عبدالحكيم عامر؛ وكأن المعركة قد نشبت خصيصا لهذا الأمر!!  لنقرأ ما قاله السيد هيكل:

” لكن جمال عبد الناصر أظنه أنه بدأ يقلق لكن إلحاحه في ذلك الوقت على عبد الحكيم  أنه تقريبا، الاثنان اتفقوا في روايتهم لي في الحوادث أن جمال عبد الناصر كان دائم التكرار بيقول لعبد الحكيم أنا عايز أعرف إيه هي الحقيقة، إيه التقارير، إيه الصورة الحقيقية لما جرى في الطائرات، كم حجم الخسائر؟ لأنهم بدؤوا يقولون كلاما، بدأ عبد الحكيم يقول، وأظن هنا في نقطة من النقط المهمة جدا أن عبد الحكيم بدأ يقول إن حجم الضربة الجوية أكثر مما تتحمله طاقة إسرائيل، هذه مش إسرائيل هذا حد ثاني، وبعدين حصلت حدة في الموقف، جمال عبد الناصر بيقول له الحد الثاني مين؟ بيقول له الأميركان. بيقول له الأميركان شوف أنا -وهذا ثابت من كل الروايات- قال له أنا لا أصدق في المعلومات اللي عندي -وأظن هنا كان  غلطان جمال عبد الناصر- في المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي وعلى أي حال أنا مستعد أصدقك أن الأميركان دخلوا لكن أطلب منك حاجتين -ده كان قدام كل الناس اللي موجودين- أطلب منك إما أن تأتي لي بحطام طائرة أميركية ضربتوها وإما أن تأتي لي بطيار أميركي أسير وأما دون هذا فأنا مش مستعد أصدق حكاية الأميركان موجودين، وأنا لا أستطيع أن أطلع قدام الناس وأقول لهم والله الأميركان موجودين بدون أن يكون لدي دليل…”

عبدالناصر الذي يصوره هيكل بأنه كان يبحث عن الحقيقة ويستبعد التدخل الأمريكي، والذي كان يؤكد في حديثه الموجه إلى المشير عامر بأن الأمريكان لا يمكن أن يكونوا مشتركين وفقا للمعلومات التي لديه: “معلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي”  ومن حقنا أن نسأل لماذا لم تكن هذه المعلومات متوافرة أيضا عند القائد العام الذي كان عليه أن يقود المعركة؟! .. ونتساءل أيضا من أين هذه المعلومات .. ثم نلاحظ أن عبدالناصر يبدو واثقا من صحة معلوماته بأن الأمريكان “لا يمكن يكونوا داخلين في العملية دي” ويشدد على هذا في محاورته مع المشير عامر.. ثم يغير رأيه بعد فترة لا تتجاوز ساعات قليلة!!

عبد الناصر الواثق من عدم التدخل الأمريكي هو نفسه الذي قام –بعد ساعات قليلة- بالاتصال بالملك الحسين ليقنعه بتلفيق أكذوبة مشاركة بريطانيا وأمريكا في المعارك الجوية. الفارق بين الموقفين واضح: في الأولى كان المهم وضع المشير في موقف المساءلة؛ وهي –على ما يبدو- فرصة لم يسبق أن سنحت لعبد الناصر قبل هذا، أما في الثانية فهي محاولة لضرب عصفورين بحجر واحد: إشراك الملك الحسين في كذبة التخل الأمريكي-البريطاني، والقيام بعملية حفظ ماء الوجه لإنقاذ الهالة التي أحيط بها عبدالناصر وللتمهيد لإنقاذ حكمه من الانهيار بسبب هزيمة مروعة وكارثية في معركة طبل لها كثيرا واستخدمها لإذلال كل من حوله من حكام وشعوب ولكنه لم يفعل شيئا حقيقيا من أجلها. نقول هذا لنؤكد أن عبدالناصر في تلك اللحظات كان مشتركا بصورة فعلية للترويج لأكذوبة المشاركة الأجنبية.  لكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن موقف الرئيس عبدالناصر قد تذبذب بين المطالب بإثباتات حقيقية ملموسة لتأكيد المشاركة الأمريكية، والمصدق لكل ما ورد إليه دون أي تمحيص، ثم قام بنفسه بفبركة الخبر الذي حاول أن يشرك الملك الحسبن في نشره، وقد كان خطاب التنحي قد شهد آخر مرة أشار فيها عبدالناصر بطريقة غامضة إلى موضوع مشاركة أطراف أخرى في المعركة. بعد ذلك تراجع الرئيس عبدالناصر عن هذه الادعاءات، ولم يعد يذكرها أبدا. وما ينبغي أن نكرر ذكره هو أنه لا الرئيس عبدالناصر ولا أي زعيم آخر قد أشار من قريب أو بعيد إلى استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدتها في ليبيا منطلقا للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية. وحده السيد هيكل الذي أطلق تلك الفرية ولم يستطع أن يتجاوزها أو يتراجع عنها، وهذا بيت قصيدنا وسبب مقالاتنا هذه.

ما نقله لنا هيكل عما كان يجري حينها في غرفة عمليات القيادة المصرية، يوضح أن هذه القيادة لم تكن منشغلة بتدارك المعركة البرية في سيناء التي باتت القوات المصرية تواجهها وهي لا تفتقر إلى الغطاء الجوي فحسب، بل وإلى القيادة المتفرغة لإدارة معركة يتعلق عليها مصير أمة بأكملها، لأن القيادة كانت منشغلة عن المعركة بإجراء اتصالات شارك فيها الرئيس عبدالناص والمشير عامر والفريق صدقي محمود بحثا عن قشة تدعم نظرية التدخل الأمريكي. فمن بقي لمواجهة الكارثة الحقيقية؟!!

لكن كل هذه الاتصالات باءت بالفشل في العثور على القشة المطلوبة: فلم يستطع أحد أن يفي بمطالب عبدالناصر بإثبات التدخل الأمريكي عن طريق حطام طائرة أمريكية أو طيار أمريكي أسير، كما عجزت الاتصالات عن الحصول على إفادة أي طيار مصري بأنه شاهد طائرة أمريكية في الأجواء المصرية في ذلك اليوم.

لكن، وبحسب رواية السيد هيكل، لم يمض ذلك اليوم .. بل لم تمض سوى ساعات حتى تحصلت القيادة المصرية على ما اعتبره السيد هيكل إثباتا للمشاركة الأمريكية في الضربة الجوية الإسرائيلية.  لم يكن هذا الإثبات طائرة أمريكية أسقطتها الدفاعات الجوية المصرية .. ولا طيارا أميركيا أسيرا .. ولكن هذا “الإثبات”  كان رسالة من السفير المصري في باريس، وأن الرئيس عبدالناصر بنفسه قد أخبر هيكل عن وصولها. هكذا قدم السيد هيكل هذه الرسالة “الإثبات” ضمن مرافعته البائسة:

“وبعدين الساعة السابعة، ستة ونصف سبعة كده كلمني بالتلفون، كلمني بالتلفون وقال لي على رسالة جاءت من باريس، السفير عبد المنعم النجار في ذلك الوقت هو سفيرنا في باريس، سفير الجزائر صديقه في باريس، سفير الجزائر قابل الجنرال ديغول رئيس الجمهورية الفرنسية في ذلك الوقت، والجنرال شارل ديغول هو من هو، فالجنرال ديغول بيقول للسفير، بيسأل سفير الجزائر عن آخر التطورات أو سفير الجزائر بيسأل الرئيس الفرنسي عن آخر التطورات، فالرئيس الفرنسي يقول لسفير الجزائر بيقول له.. وقف ديغول شوية كده وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”

“عبد المنعم النجار يبدو أنه وجد أن هذه المعلومات لا تستطيع أن تنتظر برقية فعمل حاجتين، الحاجة الأولانية أنه كلم في التلفون السفير محمد رياض وكيل وزارة الخارجية والمساعد الأول في ذلك الوقت لوزير الخارجية محمود رياض وقال له إنه حصل كذا وكذا وكذا، وقال له إنه تكلم في التلفون لكنه حيبعث البرقية، قدامي برقية عبد المنعم النجار، بيقول، قابل سفير الجزائر الرئيس ديغول، أبلغه بوجهة نظر الجزائر في قضية فلسطين واشتراك الجزائر في قواتها المسلحة في الحرب الدائرة وذلك بناء على تكليف من الرئيس بومدين، أشار ديغول بضرورة حل المشكلة جذريا مع مراعاة حقوق اللاجئين، يعتبر أن إسرائيل هي المعتدية وسوف يمتنع عن تقديم أي معونة تماشيا مع ما أعلنته فرنسا من قبل، كان هو ديغول قال إن فرنسا سوف تحدد موقفها من أي حرب مقبلة على أساس من يطلق الرصاصة الأولى، فهو هنا بيقول عارف الإسرائيليين أنه.. وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (كلمة أجنبية)، موقف فرنسا على الحياد وسوف تظل بعيدا في الوقت الحاضر حتى لا تزج في المشكلة، في مشكلة جاية في العالم العربي ولكنها سوف تكون إيجابية في الاشتراك في حل جذري عادل مستقبلا. الرئيس بيحكي لي هنا بيقول لي، الرئيس عبد الناصر بقى بيكلمني هنا وبيقول لي إنه هو بيشك، أنا بحقيقي أنا شفت الحيرة اللي أو بلاش أقول شفتها لأني ما شفتهاش لكن سمعت على التلفون، الحيرة عند رجل يجد موقفا لا تفسير له في رأيه، لا هو قابل أن ده جهد إسرائيل لوحدها مش قادر يخش فيه يدخل رأسه ولا يعقله لأنه ببساطة أكبر لكنه وبعدين عنده وزير الدفاع ونائب القائد الأعلى بيقول نفس الكلام بيقول إنه حاجة أكثر أنه لا، دول كانوا موجودين ومشتركين وعنده قائد الطيران مصر على أنه في جهد أميركي، أنه في جهد أميركي مباشر، وهنا أنا أظن أنه -ودي مسألة نقطة مهمة جدا- أنه هنا صدقي محمود كان في ذهنه أيضا موضوع سنة 1956، وهذه البرقية قدام جمال عبد الناصر ما كانتش كافية تغير رأيه لكن أقصد هذه البرقية ما كانتش عنده لما كلمني لكن كان عنده الرسالة اللي عبد المنعم النجار أبلغها لمحمد رياض علشان يديها لمحمود رياض واتصال محمود رياض لكي يبلغ بهذه المعلومات أن أميركا في اللعبة، موجودة في اللعبة نقلا عن الجنرال ديغول

قبل أن نشرع في مناقشة المحتويات التي يزعمها هيكل لبرقية السفير المصري في باريس السيد عبدالمنعم النجار، ومحاولته -من خلال هذه البرقية- إقحام الجنرال شارل ديغول والزعم أن ما قاله ديغول إلى السفير الجزائري في باريس هو إثبات آخر لما يدعيه هيكل حول استخدام قاعدة “ويلاس/ الملاحة” في طرابلس في الضربة الجوية الإسرائيلية يوم الخامس من يونيو 1967، قبل أن نناقش محتويات هذه البرقية لا بد أن نوضح النقاط المنهجية والموضوعية التالية:

  • أننا لا نستطيع التسليم بأن ما قاله هيكل عن تلك البرقية يعكس بدقة محتوياتها؛ ذلك لأن السيد هيكل لم يتكرم بعرض نص البرقية على المشاهدين، بل اكتفى بالقول بأن الوثيقة أمامه. لكننا –مع هذه العلة البينة- سنناقش محتوى البرقية والرتوش التي بثها السيد هيكل في جوانبها.
  •  أننا لا نقبل أن نعتبر الكلام الذي وضعه هيكل على فم الرئيس ديغول هو حقيقة ما قاله ديغول؛ فهيكل كان بنقل عن السفير المصري الذي كان هو الآخر ينقل عن السفير الجزائري وهو بدوره الذي نقل عن ديجول، هذا إذا صحت الرواية كلها.

إن هناك تناقضا واضحا في وصف هيكل لمجريات مقابلة السفير الجزائري للرئيس ديجول، على سبيل المثال يقول هيكل: ” فالجنرال ديغول بيقول للسفير، بيسأل سفير الجزائر عن آخر التطورات أو سفير الجزائر بيسأل الرئيس الفرنسي عن آخر التطورات،”  فمن سأل من؟ هذه العبارة تعني أحد أمرين: فإذا كانت هذه العبارة واردة في برفية السفير المصري فهو غير متأكد مما ينقله ما يخل بدقة النقل، أو ان هذه المجريات لم ترد في برقية السفير المصري وإنما هي من عنديات هيكل، فعلى هذه الحالة يمكننا قياس مصداقية رواية هيكل ودقتها. لكن هيكل يعود فيناقض نفسه ويحزم أمره فيجزم أن سفير الجزائر كان مكلفا لإبلاغ رسالة من الرئيس بومدين إلى ديغول، هكذا ورد نص هيكل  “أبلغه بوجهة نظر الجزائر في قضية فلسطين واشتراك الجزائر في قواتها المسلحة في الحرب الدائرة وذلك بناء على تكليف من الرئيس بومدين” هذا التناقض يدلنا على أحد أمرين: إما أن هيكل لم تكن أمامه برقية مكتوبة من السفير المصرى، أو أن هيكل يتصرف على هواه بمحتويات البرقية ويطوعها كي تخدم أغراضه ومزاعمه. ويصدق هذا أيضا على النقطة التالية.

  •  الأمر الآخر الذي ينبغي ألا يفوتنا، أن هيكل بدا في بعض ما يقوله أنه لا ينقل فقط عن برقية مكتوبة من السفير المصري، بل جاءت روايته وكأنه هو شخصيا كان حاضرا مع السفير الجزائري ويصف لنا مشاهد من ذلك اللقاء. مثال على ذلك هذه العبارة التي أوردها هيكل: “، فالرئيس الفرنسي يقول لسفير الجزائر بيقول له.. وقف ديغول شوية كده وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم” عبارة ” وقف ديغول شوية كده”  لا يمكن أن تكون واردة في برقية السفير المصري الذي كان ينقل –سماعا- عن سفير الجزائر، فلماذا يضيفها هيكل؟ هل لمحاولة إضفاء مصداقية على ما يقول؟ أم لتتبيل ما يقوله بشيء من اللمسات الدرامية؟ .. فهو في الحالتين يكذب ويخدع المشاهدين.
  • إذا كانت محتويات مقابلة السفير الجزائري هي حقيقة كما أوردها هيكل، وإذا كان الاستنتاج الخطير الذي استنتجه هيكل من ذلك النص هو استنتاج صحيح (أن ديغول يقر بالتدخل العسكري الأمريكي)، فلماذا لم نسمع بأية محاولة من السفير المصري في باريس لاستجلاء الأمر بمقابلة الرئيس ديجول أو عن طريق الخارجية الفرنسية؟، ولماذا لم يورد هيكل ما تحصل عليه السفير المصري من ردود؟. إن عدم قيام السفير المصري بذلك يكشف بجلاء أن الأمر لم يؤخذ – يومها- بما يزعمه هيكل على أنه إقرار من ديجول بتدخل أمريكي. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فلم نسمع من الرئيس ديجول –طيلة حكمه- ولا من الحكومة الفرنسية ما يؤيد مزاعم هيكل.
  • للعلم فإن ديجول قد اشتهر بأمرين اولهما: مناصبته العداء للنفوذ والهيمنة الأمريكية ومقاومته لها لدرجة اتخاذ إجراءات فيما يتعلق بعضوية فرنسا في الحلف الأطلسي تحديا لسيطرة أمريكا على الحلف، ولدرجة قيام السياسة الفرنسية (الديجولية) إلى السعي لاستقلال أوروبا عن النفوذ الأمريكي؛ ولذلك فقد كانت أمام ديغول فرصة نادرة –إذا كان ما ينسبه له هيكل صحيحا- لم يستغلها للنيل من أمريكا، وهذا ما لا يعرف عن ديجول، وثانيهما: أن ديغول كان مشهورا بصراحته في التعبير عن آرائه ومواقفه لدرجة أخرجته –في بعض الأحوال- عن اللياقة الدبلوماسية، وجرّت عليه بعض المتاعب . فكيف لم نسمع من ديجول انتقادا لأمريكا لتدخلها العسكري في حرب 1967، وهو الذي اتخذ مواقف محموده بوقف تصدير السلاح الفرنسي إلى إسرائيل، واتخاذ مواقف تدعو إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة.
  • معروف أن السفراء المصريون يكتبون تقاريرهم إلى الخارجية المصرية باللغة العربية، لكن هيكل استخدم عبارة باللغة الفرنسية على أنها من محتويات برقية السفير المصري وعلى أن هذه العبارة منسوبة للرئيس ديغول، وهذه العبارة هي التي استند عليها هيكل واعتبرها بمثابة إقرار من ديغول بالتدخل الأمريكي؛ ومن ثم قرر إقحام الجنرال ديغول في مرافعته البائسة. ولا ندري حقيقة –إذا صحت رواية هيكل حول هذه البرقية وأن ما ورد بها هو كما ذكره- لماذا يستخدم السفير المصري هذه العبارة الفرنسية في برقية باللغة العربية، أما إذا كان استخدام هذه الكلمة من عند هيكل فهذا إخلال واضح بدقة النقل، لا يشفع فيه أن هيكل يريد ان بستعرض بعضا من التعبيرات الفرنسية ربما ليضفي شيئا من المصداقية على روايته.
  • يبدو أننا لسنا الوحيدين الذين استشكلت عليهم العبارة الفرنسية الواردة في كلام هيكل: ذلك لأن أعضاء فريق الجزيرة الذين فرّغوا تسجيلات هيكل وقاموا بطباعتها قد وجدوا أنفسهم في حيرة من هذه العبارة فأشاروا لها بين قوسين على أنها (كلمة أجنبية)، وعمل هيكل كل جهده لإعطاء الانطباع أن هذه العبارة وردت حرفيا على لسان ديغول، وقد أوردها هيكل مرتين … هكذا:

“وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”

” وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (كلمة أجنبية)”

وينبغي أن نلاحظ ان هيكل قد أضاف إلى هذه الكلمة عبارة “الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم” في محاولة منه لإيهام القارئ بأن هذه العبارة قد وردت على لسان الرئيس ديغول أيضا، أو أنها تفسير للكلمة الأجنبية التي كرر هيكل نسبتها إلى الرئيس الفرنسي.

  • العبارة التي أوردها هيكل هي (dans le jour)  وترجمتها الحرفية (في اليوم) . وإذا ما عدنا إلى النص الذي أورد فيه هذه العبارة فسنجد الآتي:

“وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (في اليوم) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”

” وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (في اليوم)”

من  الواضح أن هيكل هنا يريد أن يقحم شهادة من الرئيس ديغول بأن أمريكا قد شاركت في القتال إلى جانب إسرائيل. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن هيكل لم يقل إطلاقا بأن أمريكا قد استخدمت قواعدها في أوروبا، كما لم يقل بأن أمريكا استخدمت حاملات الطائرات المنتشرة في البحرين المتوسط والأحمر، بل إن مرافعته كلها كانت مبنية على استخدام القاعدة الأمريكية “ويلاس/ الملاحة” في طرابلس، إذا ما أخذنا هذا في الاعتبار فإن هيكل يريد من محاولة إقحام ديغول أن يوهم المشاهدين بأن ديغول يؤكد ويدعم ادعاءات هيكل بخصوص استخدام امريكا للقاعدة في طرابلس للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية.

لكن حتى إذا سلمنا -من قبيل الجدل- بصحة ما أورده هيكل حول برقية السفير المصري في باريس، وبأمانة ودقة نقل هذا السفير عن زميله السفير الجزائري، وبأمانة ودقة نقل السفير الجزائري لما ورد على لسان الرئيس ديغول، إذا ما سلمنا جدلا بكل ذلك، فهل يمكن حتى أن نستشف من نصوص هيكل أن الرئيس شارل ديغول قد أقر أو قال بأمرين:

  • أولهما: أن هناك تدخلا فعليا قامت به الولايات المتحدة مستخدمة قواتها المسلحة في الضربة الإسرائيلية الجوية.
  • ثانيهما: أن أمريكا قد استخدمت لذلك الغرض قاعدتها الجوية “ويلاس/ الملاحة” منطلقا لطائراتها التي أغارت على الأراضي المصرية.

بخصوص الأمر الأول، فلا نجد ما يدل على أن ديجول يشير من قريب أو بعيد إلى أن أمريكا تدخلت عسكريا في الحرب وأن قوات أمريكية تشارك بعمليات في تلك الحرب. إذا صحت الكلمة المنسوبة إلى ديجول (أن أمريكا “في اليوم”) فإنها لا تفيد ذلك، حتى ولو حاولنا تطويعها وإعطاءها مدلولا مجازيا وتعسفنا في تفسيرها لتقريبها من مراد السيد هيكل؛ فديجول بمواقفه وطبيعته كان سيقول للسفير الجزائري صراحة، وكان سيصرح بهذا في أوقات لاحقة. المدلول المجازي للكلمة قد يعني –في أقرب التفسيرات- أن أمريكا على علم واطلاع وربما موافقة على ما تقوم به إسرائيل. وهذه حقيقة فإسرائيل تصرفت يوم الخامس من يونيو وهي متأكدة أن أمريكا لن تمانع، وربما أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك أن إسرائيل كانت على ثقة بأن أمريكا في نهاية المطاف لن تسمح بإلحاق هزيمة بها.

أما بخصوص الأمر الثاني، فلم يرد في نصوص هيكل ما يمكن أن يستشف منه أن ديغول قد قال للسفير الجزائري بأن الولايات المتحدة قد استخدمت قاعدتها الجوية “ويلاس/ الملاحة” منطلقا للمشاركة الفعلية في الحرب. هذا ما يدعيه السيد هيكل ويحاول أن يوهم المشاهدين بأنه يمتلك  الأدلة والبراهين التي تؤيده. وهذا ما يهمنا تفنيده وإظهار الحقيقة في أن مزاعم هيكل لا تستند على أية معطيات أو ادلة أو براهين، وأن كل ما يقدمه ليس سوى تلفيقات وأوهام وتطويع للكلمات ولي لأعناق المعاني.

وللحديث بقية إن شاء الله

……………………….

  1. مثال على ذلك: عندما كان الرئيس شارل ديجول في زيارة رسمية لكندا، وألقى كلمة فيها تشجيع لاستقلال مقاطعة “كيبك” وانفصالها عن كندا، ثم أنهى كلمته بالهتاف (عاشت كيبك حرة مستقلة)، مما أدى غلى احتجاج كندي واضطرار ديجول لقطع زيارته والعودة غلى فرنسا.
  2. استفسرت من بعض الإخوة الذين يجيدون الفرنسية عن معنى الكلمة، وأجمعوا على ترجمتها الواردة أعلاه، وعرضت عليهم النص الذي أورد هيكل هذه الكلمة في سياقه للبحث عن أي  مغزى مجازي يمكن استقاؤه من النص فأفادوا بأنهم يستبعدون أن يستخدم الرئيس ديجول هذهالعبارة لأنها تنطوي على “سوقية واضحة” علاوة على عدم دقتها.  الذين استشرتهم في هذا الصدد منهم جزائريين ومغاربة ويعملون في وسائل إعلامية مرموقة وأحدهم أستاذا لآداب اللغة الفرنسية في إحدى الجامعات الأمريكية.

 

 

هيكل والافتراء على التاريخ –”الأدلة” التي استخدمها هيكل– الحلقة العاشرة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

ب) مقابلة رئيس الوزراء الليبي للسفير الأمريكي

لم يترك السيد هيكل أي حجر دون أن يقلبه لعله يجد تحته دليلا يستخدمه في مرافعته “البائسة” لإثبات مزاعمه حول استخدام الولايات المتحدة لقاعدتها الجوية “الملاحة/ويلاس”، للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية في الخامس من يونيو. لم يتوقف هيكل عند حد قلب الأحجار، وإنما لجأ إلى قلب الحقائق وتحويل مساعي الحكومة الليبية ومواقفها الإيجابية إلى سلبيات يزعم بأنها دلائل على ما يزعمه. رأينا هذا في تعامله مع تصريحات الدكتور أحمد البشتي النافية لمزاعم هيكل التي نشرتها صحيفة الأهرام. لكن أسلوب قلب الحقائق وتحويل الإيجابيات إلى سلبيات نجده أكثر وضوحا في تعامل هيكل مع ما دار في المقابلة التي جرت بين السيد حسين مازق رئيس وزراء ليبيا والسفير الأمريكي  “ديفيد نيوسم”.

من المعروف أن السيد حسين مازق استدعى السفير الأمريكي يوم الثاني من يونيو ليعرب له عن قلق الحكومة الليبية من التطورات الجارية في منطقة الشرق الأوسط ومن احتمالات اندلاع القتال في أية لحظة. وقد نتج عن هذا الاجتماع عدة إجراءات لعل أهمها:

  • انتزاع تعهد من أمريكا بعدم استخدام قاعدتها الجوية “الملاحة/ويلاس” في النزاع الوشيك، وإعادة تأكيد أمريكا على تعهداتها بعدم استخدام القاعدة منطلقا للعدوان ضد البلاد العربية.
  • اتخاذ ترتيبات عملية لتجميد العمليات في القاعدة، وفيما طالب رئيس الوزراء بأن يكون التجميد فوريا، إلا ان السفير الأمريكي أكد استحالة ذلك وطالب بإمهال القاعدة مهلة 24 ساعة لتنفيذ قرار التجميد.
  • الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة من ضباط سلاح الطيران الليبي ومن الضباط الأمريكان في القاعدة للإشراف على تنفيذ قرار التجميد ومراقبته.
  • إعادة الجانب الأمريكي التأكيد على قبوله من حيث المبدأ إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في ليبيا والاتفاق على استئناف المفاوضات التي كانت حكومة السيد محمود المنتصر قد بدأتها مع الجانب الأمريكي .

 

ومعروف أيضا أن الطلعات الجوية للطائرات المقاتلة قد توقفت بالفعل منذ فجر الرابع من يونيو بانتهاء المهلة التي طلبها الجانب الأمريكي، ولم يستثنى من ذلك إلا طائرات النقل التي قامت بنقل بعض عائلات العاملين في القاعدة، وطائرات الشحن التي تنقل الإمدادات إلى القاعدة. وقد استمر قرار التجميد ساري المفعول حتى بعد انتهاء الحرب. وسنرى في مكان آخر كيف أن السفير الأمريكي قابل الملك إدريس بتاريخ 21 يونيو ليبحث معه مسألة السماح للقاعدة بالعودة إلى مزاولة نشاطاتها، أي أن القاعدة لم تعد للعمل إلا في أواخر شهر يونيو.

ينبغي أن نتوقف طويلا أمام هذا اللقاء وأن نتعامل معه بموضوعية آخذين في الاعتبار كل الظروف والعوامل المحيطة به، وأن نقيّم النتائج التي ترتبت عليه، لا أن نتعامل مع ما دار في اللقاء بالطريقة الديماغوجية التي اتبعها هيكل والتي حاول فيها خلط الحقائق وإخفاء التواريخ وإخضاع نتائج هذا اللقاء لتقييم جائر ينافي المنطق ويفتقد الموضوعية ولا يتوخي الحقيقة.

لا بد أن نتوقف أمام حقيقة أن السيد حسين مازق كان رئيسا لوزراء ليبيا، الدولة التي لا يزيد عدد سكانها يومها عن مليونين، وهي دولة كانت آنذاك لما تزل تنفض عن كاهلها سنوات طويلة من الاستعمار وآثار الحرب والفقر المدقع، ولم تبدأ في استلام عائدات البترول إلا عام 1963؛ أي قبل أربعة أعوام، ويومها كان سعر البرميل (أقل من دولارين) وليست الأسعار السائدة حاليا، ولا ننسى أيضا ان ليبيا كانت إلى عهد قريب تسد رمق ميزانياتها المتواضعة من المساعدات التي كانت أمريكا وبريطانيا تقدمهما بعد أن رفضت الدول العربية –خاصة مصر الثورة- تقديم المساعدات التي طلبتها ليبيا .  لا يفوتنا أيضا أن ليبيا يومها لا يزيد جيشها عن لوائين مجحفلين مع نقص حاد في ملاكاتهما من الكوادر والتسليح، أما سلاحا الطيران والبحرية فلا يزالان يحبوان.

رئيس الوزراء الليبي بهذه الإمكانيات الضئيلة يستدعي سفير أقوى دولة في العالم وينتزع ليس فقط التعهدات والالتزامات التي ذكرناها، بل ويتوصل معه إلى اتفاق بتجميد نشاط قاعدة الملاحة/ويلاس في مهلة لا تتعدى 24 ساعة. ومن نافلة القول أن تجميد نشاط قاعدة الملاحة/ويلاس يعني تكبد الولايات المتحدة الأمريكية خسائر جسيمة سواء كانت مادية أو في سياق توقف تدريب الطيارين؛ وهي المهمة الأساسية لهذه القاعدة. ولا يمكن لأي مراقب منصف إلا أن يعُد نتائج لقاء رئيس الوزراء الليبي مع السفير الأمريكي على أنه  إنجاز غير مسبوق ولا ملحوق في السياسات العربية وفي علاقات الدول العربية مع الدول الكبرى. ولم تتوقف إجراءات الحكومة يومها عند هذا الحد ولكنها اتخذت مواقف وتدابير في مضمار دعم ومساندة مصر، وهي إجراءات وتدابير سوف نشير إليها إن شاء الله في موضع آخر.

كان الأولى بالسيد هيكل أن يشيد بمواقف الحكومة الليبية، وهي مواقف وإجراءات وتدابير تجاوزت إمكانات ليبيا وقدراتها، وهددت بالفعل المصالح العليا للدولة الليبية، بل كانت إجراءات عرّضت أمن واستمرار الدولة الليبية لأخطار جسيمة وهيأت تربة لبذرة الانقلاب.

على الأخص كان الأولى بالسيد هيكل –لو كان يملك ذرة من موضوعية وإنصاف- أن يشيد بالإجراءات التي تمكنت حكومة السيد حسين مازق من اتخاذها بشأن قاعدة الملاحة، وكان الأولى به أن يشيد –على وجه الخصوص- بنتائج هذا اللقاء الذي نحن بصدده، ولكنه بدلا من ذلك تعامل مع هذا اللقاء بطريقة غوغائية تعجز الكلمات المهذبة أن تصفها.

تطرق السيد هيكل إلى ما جرى في لقاء رئيس الوزراء الليبي للسفير الأمريكي في أكثر من موضع، بعض هذه المواضع يربط فيها هذه المجريات باللقاء، وفي مواضع أخرى يقحمها ضمن نصوص أخرى دون إشارة إلى أنها كانت ضمن اللقاء المشار إليه. وفي كل المواضع نجد هيكل يحاول جاهدا قلب الحقائق وتطويع الكلمات في محاولة مفضوحة لإيهام المشاهد بصدقية الاتهامات والمزاعم التي يسوقها حول اشتراك قاعدة الملاحة/ويلاس في الضربة الجوية الإسرائيلية في الخامس من يونيو 1967.

هذا ما جاء في أحد مواضع تناول السيد هيكل لمجريات اللقاء:

“قدامي الوثائق وكلها بتتكلم على أن جماهير الشعب الليبي بتحاصر القاعدة، قواعدنا في ليبيا في ويلس لأنها شايفة الطيارات طالعة وأنه في موقف خطر، وبعدين بيطلبوا الاتصال على أرفع مستوى بالحكومة الليبية لأن الموقف ممكن قوي ينكشف هناك وبعدين بيقولوا إنهم محتاجون تقريبا 24 ساعة لكي تنتهي القاعدة في ويلس”

في هذا النص نلاحظ التالي:

  • لم يشر إلى أن اللقاء تم بموجب استدعاء من رئيس الوزراء للسفير الأمريكي، بل إنه بطلب من أمريكا “وبعدين بيطلبوا الاتصال على أرفع مستوى بالحكومة الليبية”. أي أن المبادرة في طلب اللقاء كانت –بزعم هيكل- من الطرف الأمريكي.
  • لم يشر هيكل في هذه الفقرة إلى حدوث اللقاء، وقفز ايضا على ذكر أي تاريخ، وبدلا من ذلك تعمد أن يخلط بين مظاهرات الشعب الليبي وبأنها تمت لأن الجماهير ” شايفة الطيارات طالعة” ويزرع الإيحاء بأن هذه الاتصالات تمت بعد نشوب الحرب وبسبب اكتشاف الجماهير ورؤيتها للطيارات “طالعه”، وطبعا لا بد ان الطيارات “طالعه” لتنفيذ المهام التي يزعمها هيكل. يعني المهم عند هيكل أن يزعم بأن هذه الاتصالات لم تتم إلا بعد بداية اندلاع الحرب وبالذات بعد حدوث الضربة الجوية الإسرائيلية.
  • الأمر الوحيد الذي دلنا على أنه يتحدث عن اللقاء بين رئيس الوزراء والسفير الأمريكي هو ما ذكره حول طلب الحكومة الأمريكية إمهالها 24 ساعة لتجميد نشاط القاعدة، وهو الطلب الذي نعرف أنه نشأ بسبب مطالبة الرئيس مازق تجميد نشاط الفاعدة فورا، وهذا نعرف بأنه قد تم يوم 2 يونيو. وطبعا من هذا كله يتضح لنا لماذا أغفل هيكل التواريخ، ولماذا حاول نسبة المبادرة في الاتصال للحكومة الأمريكية.
  • سنرى فيما بعد كيف يناقض هيكل نفسه.

 

في موقع آخر تناول هيكل هذا اللقاء، فقال:

“في حاجات بتحصل في ليبيا في القاعدة الأميركية ومن بدري قوي الحكومة الليبية نفسها أحست أنه في أشياء تجري وهي متضايقة منها وفي ذلك الوقت حصل أن رئيس الوزراء الليبي دعا السفير الأميركي وقال له في نشاط نحن قلقون منه في قاعدة ويلس. وألاقي قدامي وثيقة بتقول لي، وهنا في التواء غريب جدا في الكلمات، السفير الأميركي في ليبيا بيبعث لوزارة الخارجية في واشنطن بيقول لهم إن رئيس الوزراء الليبي جاء وأبدى لي قلقا من أن هناك نشاطا يجري في قاعدة ويلس وأنهم يخشون على سلامة النظام، أن تنكشف بعض الحاجات الموجودة التي تحدث هنا، وأبلغ من وزير الخارجية بيؤكد له أنه -وهنا دي نقطة غريبة قوي وقدامي دي في الوثيقة- يؤكد له أن الولايات المتحدة لن تسمح بأن تجري من أي قاعدة لها في ليبيا أي أعمال معادية للمصالح العربية. الوصف ده، الكلمة دي كانت كلمة مطاطة قوي، المصالح العربية، أي مصالح عربية؟ في ذلك الوقت العالم العربي كان واضحا قدام كل الناس أنه منقسم، في ناس بعاد وفي ناس بيحاولوا يحموا عروشا وفي ناس كانوا بيحرضوا وفي واضح أنه، لما أحد هنا يقول لي واضح إنه في انقسام في العالم العربي، لما أحد يقول لي والله نحن هنا سوف نراعي المصالح، لن نفعل شيئا ضد المصالح العربية علي أن أسأل أي مصالح؟ لو قال له ضد المصالح المصرية لأن مصر هي المهددة كنت مستعدا أفهم، لو حدد كلامه، ولكن رئيس الوزراء الليبي قبل هذا الكلام”

لا بد أن ندون بعض الملاحظات حول هذا النص:

أولا: تعمد هيكل إغفال التاريخ الذي تم به الاستدعاء، وإن كان قال ” ومن بدري قوي الحكومة الليبية نفسها أحست أنه في أشياء تجري وهي متضايقة منها” .

ثانيا: محاولة هيكل وضع كلام على لسان رئيس الوزراء حين قال: “وفي ذلك الوقت حصل أن رئيس الوزراء الليبي دعا السفير الأميركي وقال له في نشاط نحن قلقون منه في قاعدة ويلس”. وحين قال على لسان السفير الأمريكي:  “وأبدى لي قلقا (يعني رئيس الوزراء) من أن هناك نشاطا يجري في قاعدة ويلس وأنهم يخشون على سلامة النظام، أن تنكشف بعض الحاجات الموجودة التي تحدث هنا”

ونقول بأن هيكل ليس لديه أي إثبات على أن رئيس الوزراء قال “في نشاط نحن قلقون منه في قاعدة ويلس”، ولا أن السفير الأمريكي قد قال في تقريره بأن حسين مازق عبر له عن الخشية من “أن تنكشف بعض الحاجات الموجودة التي تحدث هنا”  وإنما هي عبارات من صياغة هيكل أراد بها أن يحاول أن يزعم بأن الحكومة الليبية كانت تقر بوجود نشاط في القاعدة يدعو للقلق، وبأن هناك أمور تجري (تعرفها الحكومة الليبية) وتخاف أن تنكشف.

ثالثا: حاول هيكل أن يقلل من قيمة استدعاء رئيس الوزراء للسفير الأمريكي بإيراد عبارة ” السفير الأميركي في ليبيا بيبعث لوزارة الخارجية في واشنطن بيقول لهم إن رئيس الوزراء الليبي جاء وأبدى لي قلقا ……….. ”

رابعا: بالرغم من أن هيكل لم يجد مناصا من الاعتراف بأن رئيس وزراء ليبيا قد تمكن من انتزاع تأكيدات من أعلى مستويات الحكومة الأمريكية (وزارة الخارجية) نقلها إليه السفير الأمريكي: “وأبلغ من وزير الخارجية بيؤكد له أنه -وهنا دي نقطة غريبة قوي وقدامي دي في الوثيقة- يؤكد له أن الولايات المتحدة لن تسمح بأن تجري من أي قاعدة لها في ليبيا أي أعمال معادية للمصالح العربية”

لكنه يعمد مباشرة -عن طريق الاستخفاف بقيمة هذا التعهد- إلى تفريغه من محتواه:

“الوصف ده، الكلمة دي كانت كلمة مطاطة قوي، المصالح العربية، أي مصالح عربية؟ في ذلك الوقت العالم العربي كان واضحا قدام كل الناس أنه منقسم، في ناس بعاد وفي ناس بيحاولوا يحموا عروشا وفي ناس كانوا بيحرضوا وفي واضح أنه، لما أحد هنا يقول لي واضح إنه في انقسام في العالم العربي، لما أحد يقول لي والله نحن هنا سوف نراعي المصالح، لن نفعل شيئا ضد المصالح العربية علي أن أسأل أي مصالح؟ لو قال له ضد المصالح المصرية لأن مصر هي المهددة كنت مستعدا أفهم، لو حدد كلامه، ولكن رئيس الوزراء الليبي قبل هذا الكلام”

يعتبر السيد هيكل أن عبارة المصالح العربية عبارة مطاطة، ويتساءل أي مصالح عربية؟ ..   لماذا يرى هيكل بأن عبارة “المصالح العربية مطاطة”؟ .. لأنه برأيه فإن العالم العربي منقسم، وقدم لنا كيف كان يرى العالم العربي يومها:

ناس بعاد       وناس بيحاولوا يحموا عروشا        وناس بيحرضوا

ويخلص إلى القول بأنه كان من المفروض على السفير الأمريكي أن يقول “المصالح المصرية”، وبأنه كان من المفروض على رئيس الوزراء الليبي أن لا يقبل بغير ذلك بديلا، “ولكن رئيس الوزراء الليبي قبل هذا الكلام” ولهذا فإن هذا التعهد ليس له قيمة في رأي السيد هيكل. لكن ينبغي علينا أن نذّكر السيد هيكل أن مصر لم تكن وحدها يومئذ في المعركة؛ هناك سوريا والأردن، وهناك قوات من عدد من الدول العربية تزحف نحو الجبهات، قوات من الجزائر ومن ليبيا ومن العراق وحتى من السعودية، وكل هذه الدول أعلنت الحرب، أفلا يكون إصرار هيكل على مصطلح “المصالح المصرية” بدلا من “المصالح العربية” عنجهية تصل إلى درجة السخف!! ونجد أن علينا أيضا تذكير السيد هيكل بأن هذا العالم العربي الذي قسمه هيكل وصنفه بهذه المصطلحات التي تنتمي إلى أيام زمان .. أيام التصنيفات التي اخترعتها الدعاية الناصرية بين الرجعية والتقدمية والثورية وغيرها، وأدت إلى تشتيت الجهد العربي وإلى توزيعه على محاور… نذّكر هيكل بأن هذا العالم العربي المنقسم هب كله للوقوف إلى جانب مصر في معركة لم تشارك أية دولة عربية في التخطيط لها، ولم تتكرم مصر بالتشاور مع الدول العربية بخصوصها، …

وإذا كانت الدول العربية ذات الأنظمة الملكية هي المقصودة بتصنيف هيكل ”ناس بيحاولوا يحموا عروشا”، فما هو الضير في حرص مختلف الدول على حماية أنظمة الحكم فيها، وما علاقة ذلك بالمعركة التي كانت فيها الأردن الملكية في المقدمة؟، وهل حماية نظام الحكم القائم جريمة في نظر السيد هيكل؟، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نصنف ما قام به جهاز المخابرات العامة وأمن الدولة والسجن الحربي وليمان طره وأبوزعبل، وغيرها؟ ألم تكن كلها لحماية حكم الرئيس عبدالناصر؟ أم أن حماية الوضع القائم حرام على بعض الدول حلال على غيرها؟. بل كيف يفسر لنا هيكل .. كيف أنه والإعلام المصري قد هوّن علينا هزيمة مرة وغير مسبوقة، هونّها علينا فقط لأن الرئيس عبدالناصر قد احتفظ بمنصبه وأصبح في إمكانه أن يقصي رفاقه عبدالحكيم عامر وزكريا محي الدين وغيرهم؟ كيف نفسر ما قيل يومها على لسان هيكل وغيره من أدوات وطبول الدعاية الناصرية أن استمرار عبدالناصر في الحكم قد حرم العدو من الانتصار، وأن سقوط سيناء وغزة والضفة والجولان لا يعد هزيمة وأن تدمير الجيوش العربية في سوريا والأردن ومصر، بما فيها من مئات الألوف من القتلى والمصابين والأسرى، والمعدات التي تقدر بمليارات الدولارات … كل ذلك لا يعد هزيمة –في رأي هيكل- طالما استمر حكم الريس؟

لكن بالعودة إلى تصنيفات هيكل، وقد خمنا من هم المقصودون بتصنيف “حماية العروش”، ويمكننا أن نخمن من المقصود بتصنيف ” ناس بعاد ” هي تلك الدول البعيدة عن أرض المعركة، لكن من هم الذين يقعون تحت تصنيف “ناس بيحرضوا”؟ أجل من هم الذين يحرضون على الانقلابات العسكرية، وعلى الحكومات العربية؟ أي نظام حكم عربي تعرضت علاقاته للتوتر مع معظم الدول العربية؟ بسبب التدخلات في الشؤون الداخلية .. والحملات الإعلامية .. والتحريض على قلب أنظمة الحكم؟  أجل .. ليقل لنا هيكل الذي يدعي التأريخ: كم مرة تعرضت العلاقات بين مصر الناصرية والدول العربية المختلفة للقطع أو التجميد أو التوتر؟ مع المغرب والجزائر وتونس وليبيا والسودان والأردن وسوريا والعراق والسعودية .. لكننا لا نظن بأن السيد هيكل يعني أن يُدخل حكم عبدالناصر تحت تصنيف التحريض، وإنما يُلقي بالتهمة جزافا ولعله يبحث بعد ذلك على من يلقيها.

نعم لم يعجب السيد هيكل صيغة التعهد التي قدمها السفير الأمريكي أثناء استدعائه من قبل السيد حسين مازق رئيس الوزراء، وبحث عن معاذير ليستخف بهذا التعهد ويستصغر شأنه، ويلوم السيد حسين مازق لقبوله بهذا التعهد. لكن –وكما يقال- الشيء بالشيء يذكر: لنا أن نتساءل في المقابل ما هي الضمانات والتعهدات التي طلبتها مصر من أمريكا؟ .. معلوم أن أمريكا من خلال سفيرها في مصر وعبر مقابلة مع الرئيس جمال عبد الناصر قد طلب من مصر ألا تكون البادئة بالهجوم، وأن عبدالناصر قد اتخذ قرارا –بناء على ذلك- بعدم قيام مصر بالضربة الأولى، فما هي الضمانات التي طلبها الرئيس عبدالناصر من أمريكا استجابة لطلبها؟… هل طلب ضمانة بعدم قيام إسرائيل بشن هجوم؟ وهل طلب من أمريكا تعهدا بالوقوف إلى جانب مصر حال تعرضها لهجوم إسرائيلي؟ وهل طالب بأن تتعهد أمريكا بوقف دعمها لإسرائيل إذا قامت بالاعتداء؟… ومعلوم أيضا أن السفير السوفيتي هو الآخر قد طلب من عبدالناصر ألا تكون مصر البادئة بالهجوم، واستجاب عبدالناصر للطلب، فما هي الضمانات التي طلبها من الاتحاد السوفيتي الحليف الرئيسي لمصر؟ .. الإجابة: لا شيء… لا شيء على الإطلاق، لم يطلب الرئيس عبدالناصر أي تعهد!!. وليس لدينا مجال لنتحدث عن طلبات إسرائيل من أمريكا والاتحاد السوفيتي تجاه نفس الطلب. رئيس أكبر دولة عربية والقائد الأعلى “لأكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط” و”رائد القومية العربية” وافق على طلبات أبلغت له من السفير الأمريكي .. ولم يطلب لقاء استجابته وموافقته على هذا الطلب أية ضمانة أو تعهد .. أما الطلب الذي أبلغ به فهو أن تمتنع مصر عن المبادأة بالهجوم .. وقبول عبد الناصر به دون أن يحصل على تعهد أمريكي بضمان بالتزام إسرائيل بنفس الأمر .. هذا يعني –بكل بساطة- ترك زمام المبادأة لإسرائيل، وإعطائها حرية اختيار توقيت الضربة الأولى .. وياليتهم استعدوا للضربة الأولى بإجراءات دفاعية احترازية .. لكنهم -في الواقع- لم يقوموا بأكثر من انتظار انتهاء المسرحية الإعلامية التي بدأوها، بينما كانوا في الواقع ينتظرون هجوم العدو،. ولا أرغب في هذا المضمار أن أخوض في مقدار الاستخفاف والعبث اللذين تعاملت بهما القيادة المصرية مع أمور مصيرية تتعلق بالأمن العربي.

المرة الثالثة التي تطرق فيها هيكل إلى مقابلة رئيس الوزراء حسين مازق للسفير الأمريكي، كانت على النحو التالي:

“ألاقي أنه وقدامي كل الوثائق الأميركية وفي آخرها في وثيقة لها معنى خاص يعني، لكن قدامي الوثائق الأميركية وهي أولا وثيقة يوم 2 يونيو أي قبل الحرب، والسفير الأميركي بيقابل رئيس الوزراء السيد حسين مازق رئيس الوزراء في ذلك الوقت وبيقول له، رئيس الوزراء ده بيقول له نحن قلقون، وبعدين بيقول له نقلا عن وزارة الخارجية الأميركية بيقول له

The US facilities in no way being utilize against Arab interests

، لن تستعمل قواعد ضد مصالح عربية. هنا أنا إديت وجهة نظري أن حكاية مصالح عربية ده موضوع محتاج مناقشة، وبعدين بيقول له إن القاعدة فيها نشاط وفيها حركة وهذه طبيعة القاعدة ولذلك ليس لكم أن تقلقوا لأنه أنتم بتشوفوا أشياء كثيرة جدا، ممكن قوي تشوفوا تحركات كثير ولكن أرجوكم تلاحظوا أن هذه قاعدة تلعب دورا كبيرا جدا في منظومة الدفاع الأميركية عن أزمة الشرق الأوسط، عن الشرق الأوسط كله، فمن فضلكم خلي صدركم يتسع للي هو جاري”.

وملاحظاتنا حول هذا النص:

  • أن هيكل يعترف بأن المقابلة تمت يوم 2 يونيو أي قبل نشوب القتال.
  •  ومن هنا فإن مهلة ال 24 ساعة لتجميد نشاط القاعدة والتي ذكرناها سابقا، والتي ذكرها هيكل هو الآخر في موضع آخر (مع إغفاله لتاريخ المقابلة في ذلك الموضع)، هذه المهلة تنتهي بنهاية اليوم الثالث من يونيو، وهذا ما تؤكده معلوماتنا: أن تجميد نشاط القاعدة قد تم في اليوم الرابع من يونيو أي قبل الحرب بيوم، ما يعني أنه في يوم الخامس من يونيو لم تطر طائرات مقاتلة من تلك القاعدة لا وهي تحمل علامات سلاح الجو الأمريكي ولا وهي تحمل علامات السلاح الجوي الإسرائيلي (كما يزعم هيكل).
  • لكن هيكل هو هيكل لا يأبى إلا أن يترك بصمته المشهورة في تطويع الكلمات لتناسب مراده، وإن لم يستطع فليس من بد أمامه من أن يخفي الوقائع، فهو مع اعترافه بموعد اللقاء إلا أنه تعمد أن يتجنب ذكر الاتفاق الذي تم في هذا اللقاء والذي يقضي بإمهال القاعدة 24 ساعة لتوقف نشاطها، وتشكيل لجنة مشتركة من ضباط سلاح الطيران الليبي ومن الضباط الأمريكان في القاعدة للإشراف على تنفيذ قرار التجميد ومراقبته، وغيرها مما جرى في ذلك اللقاء. ومن نافلة القول أن ذكر هذا الاتفاق من شأنه أن ينسف ادعاءات هيكل ويكشف أكاذيبه.

وللحديث بقية إن شاء الله

ليعذرني القراء الكرام إلى لجوئي إلى تكرار إيراد الاقتباسات من كلام السيد هيكل، لكنني وجدتني مضطرا إلى ذلك أمام أساليب السيد هيكل الملتوية ومحاولاته قلب الحقائق وطمس مضامينها.

…………………………………..

  1. قد بكون من المناسب الإحاطة بالملابسات التي أحاطت بمبادرة السيد محمود المنتصر “رئيس الوزراء آنذاك” بفتح المفاوضات مع كل من أمريكا وبريطانيا –عام 1964- حول مستقبل قواعدهما في ليبيا. ففيما كانت الحكومة الليبية منشغلة بالتدابير الدبلوماسية الكفيلة بإخطار الدولتين بنوايا ليبيا بحث مستقبل هذه القواعد، وفيما كانت الحكومة حريصة كل الحرص على سرية هذه الاتصالات وعدم خروجها للعلن وذلك حرصاً على نجاحها، فجّر الرئيس جمال عبد الناصر مفاجأة في خطاب له بدعوة الحكومة الليبية إلى تصفية القواعد الأجنبية، ولقد كانت هذه الدعوة مفاجئة، فلم يكن من الأحداث والوقائع ما يبرر توقيتها، كما جاءت وكأنها جزء دخيل على فقرات خطابه. ولم يكن من تفسير لذلك سوى أن الرئيس عبدالناصر قد علم بمبادرة الحكومة الليبية إما بتسريب أمريكي-بريطاني أو من مصادر مخابراته النشطة في ليبيا. ولقد أجبر ذلك رئيس الوزراء إلى الإعلان عن مبادرته مما حرمه من المناورة التي كانت السرية تتيحها له. لكن الأوساط العربية والشعبية في ليبيا فسّرت ذلك الإعلان على أنه رضوخ لمطالب الرئيس عبدالناصر ولا فضل لحكومة المنتصر فيه. ثم كانت الطامة حين استجابت الحكومة الليبية لمطلب من الرئيس عبدالناصر بعدم الإصرار على التصفية الفورية الكاملة للقواعد وذلك بعد أن قطعت المفاوضات شوطاً لا بأس به، فقد فوجئ السيد حسين مازق “وزير الخارجية” الذي كان يحضر اجتماعات مجلس الجامعة العربية في القاهرة، فوجيء بالرئيس عبدالناصر يطلب منه – أثناء مقابلة في القصر الجمهوري –بأن لا تُصِّر ليبيا على التصفية الفورية الشاملة للقواعد، محذرا في نفس الوقت من استعداء أمريكا. وقد اتضح فيما بعد أن إدارة الرئيس جونسون قد طلبت منه القيام بهذا المسعى. ولسنا بصدد تفسير لجوء أمريكا لعبدالناصر، ولا سبب قبوله القيام بذلك الدور الذي يتناقض مع مواقفه المعلنة وعلى الأخص خطابه المشار إليه، لكن تؤكد المعلومات المستقاة من الوثائق الأمريكية أن الرئيس جونسون قد هدد بوقف شحنات القمح الأمريكي لمصر ما لم يقم عبدالناصر بإقناع الحكومة الليبية بالتريث في مسألة تصقية القاعدة.
  2. للإلمام بالوضع المالي لليبيا وبمساعي الحكومة الليبية للحصول على مساعدات من الدول العربية (مصر والعراق) لتغطية عجز الميزانية (مليونا جنيه استرليني)، يمكن للقارئ الاطلاع على كتاب ليبيا بين الماضي والحاضر(المجلد الثاني)، الصفحات 34-42، تأليف الدكتور محمد يوسف المقريف.
  3. الملك حسين الذي كان هدفا لحملات التصنيفات الناصرية، بادر  بالسفر إلى مصر ووضع قواته تحت قيادة مصرية (اللواء عبد المنعم رياض)، ودخل الحرب رغم التحذيرات التي تلقاها، وكان من أكثر الدول تضررا من نتائجها. ……………..
  4. يقاس النصر والهزيمة بمعايير متعددة: منها احتلال أراضي العدو ومنها تدمير قوات جيش العدو. ويميل الاستراتيجيون إلى القول بأن أكبر معيار لتقرير النصر هو تدمير جيش العدو والقضاء على معنوياته. في حالة حرب يونيو 1967 تمكنت إسرائيل من تحقيق تدمير جيوش ثلاث دول عربية علاوة على جزء من الجيش العراقي، وتمكنت أيضا من احتلال أراضي تابعة لثلاث دول عربية تفوق في مساحتها مساحة إسرائيل، ولذلك فإنني أعد الادعاء بأن بقاء عبدالناصر هو حرمان للعدو من تحقيق الانتصار أعده تنطعا فارغا لا معنى له سوى الضحك على الذقون.

 

هيكل والافتراء على التاريخ –”الأدلة” التي استخدمها هيكل– الحلقة التاسعة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

أ) ما نشرته الأهرام

إذا ما تفحصنا “الحجج والبراهين” التي يسوقها هيكل لدعم وإسناد ادعاءاته باستخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدتها الجوية “الملاحة / ويلاس”، للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية في الخامس من يونيو، فإننا سنجد أنفسنا أمام متاهة لا حدود لها. وأكرر اعترافي بأنني وجدت صعوبة كبيرة في متابعة ما كان السيد هيكل يقوله، واضطررت إلى إعادة قراءة النصوص أكثر من مرة لأتأكد أنني لم أخطئ، ولكي أحاول التفريق بين ما يزعم هيكل أنه منصوص عليه في وثيقة لم يبرزها للمشاهدين، وبين ما هو نتاج خيال خصب مؤسس على أكذوبة رُوج لها منذ ستينيات القرن الماضي،  وساهم هيكل نفسه في اختلاقها والترويج لها، وهو إلى يومنا هذا يكررها رغم أن الأيام قد تكفلت –قبل غيرها- بتجريد ما يزعمه هيكل ويردده من كل ما يمت إلى الموضوعية والحقيقة بصلة.

حتى قبل اندلاع المعارك، كان الإعلام المصري يروج لأكذوبة استخدام قاعدة “الملاحة/ويلاس” للعدوان على مصر. لم ينتظر هيكل حتى تندلع المعارك وحتى يتبين ما إذا كانت أمريكا شاركت أم لم تشارك في الضربة الجوية الإسرائيلية. لم ينتظر حتى يتبين له ما إذا كانت أمريكا استخدمت أم لم تستخدم قاعدتها  في طرابلس، ولكنه استبق كل ذلك وكتب في الأهرام أخبارا تزرع في أذهان القراء فكرة استخدام قاعدة “الملاحة/ويلاس” منطلقا للعدوان على مصر.  لنقرأ ما يقوله هيكل حول هذا الأمر:

“كلمة الأهرام بتقول “سمعة ليبيا هي الموضوع!” وهنا ده موضوع مهم قوي لأن إحنا كنا قلنا خبر قبلها بيوم إنه في حركة عسكرية كبيرة جدا في مطار ويلاس في قاعدة ويلاس في طرابلس في ليبيا، وبنقول إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار، فوزير خارجية ليبيا السيد أحمد بشتي في ذلك الوقت طلع بيانا قال فيه إن ده مش صحيح وإن ليبيا لا تقبل لم تقبل أن أي أحد يستعمل أراضيها. أنا أعلم ويقينا أن الملك السنوسي كان فلتة -الشهادة لله يعني- أن هذا الرجل العجوز الصوفي كان فلتة بين ملوك العرب وأنه في ذلك الوقت الرجل أبدى بمقدار ما يستطيع رفضه أن تستعمل ليبيا في أي عمليات ضد مصر ولكن هذا لم يمنع أن في قاعدة زي قاعدة ويلاس في طرابلس تحت تصرف الأميركان وفي قاعدة زي قاعدة العظم جنب بنغازي تحت تصرف الإنجليز في ذلك الوقت، كيف يمكن الحكومة الليبية ما تقدرش؟ فإحنا كتبنا وبمنتهى الأدب تعقيبا على وزير خارجية ليبيا السيد بشتي بنقول له إن الموضوع مش موضوع أنكم تقولوا إن سمعتكم في الميزان، مش موضوع أن تقولوا لا حصل ما حصلش، هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها. وهذا الموضوع فيما بعد أخذ.. لأنه مع الأسف الشديد في مرات يغلبنا الهوى الأهواء بتغلبنا ولما حصل أنه اتقال إنه في أشياء جاءت من الغرب وأشياء جاءت من الشرق بعض الناس أخذوا هذا الموضوع كيعني طريقة للتنكيت أو طريقة يعني للتشفي أو أي حاجة”

وبالرغم من أن هيكل لم يحدد بالضبط تواريخ نشر هذا الخبر، إلا أننا نستنتج من السياق الذي أورده، أن الخبر نُشر في اليوم الأول أو الثاني من شهر يونيو، أو حتى قبل ذلك، أي قبل الحرب وقبل الضربة الجوية بعدة أيام. ويمكننا أن نضع الأمور في تسلسلها ونبدي ملاحظاتنا بخصوصها:

  • أن الأهرام نشرت خبرا عن وجود تحركات كبيرة تجري في قاعدة “الملاحة/ويلاس”، لم يبين ماهية هذه التحركات سوى أنها ” وبنقول إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار”.  توقف هيكل عند حدود الإشارة إلى نشر الأهرام لهذا الخبر، فلم يبين لنا ما تضمنه خبر الأهرام بصورة كاملة، علاوة على أنه لم يخبرنا –بالرغم من مرور أكثر من أربعين سنة على هذه الأحداث- لم يخبرنا كيف استقت الأهرام معلوماتها، وما هي مصادرها، ولا كيف أسست على هذه المعلومات الخبر الذي أوردته ثم تابعته، ولا كيف حكمت على أن هناك “تحركات كبيرة، وسلاح داخل وسلاح خارج”، ولا ما إذا كان لهذا علاقة بالتطورات الدائرة في الشرق الأوسط، والأهم من ذلك لم يقل لنا هل أن هذه التحركات في القاعدة – التي وصفها بالكبيرة- هي تحركات اعتيادية أم أنها طارئة؟… وكيف تسنى له أن يعرف في الحالتين؟
  • يقينا فإن خبر الأهرام لم يتوقف عند الإشارة إلى هذه الأخبار –التي لا أشك في أنها أخبار مفبركة- بل تجاوزها إلى القول تصريحا أو تلميحا بأن القاعدة يتم إعدادها للمشاركة في العدوان على مصر، وهذا ما دعى وزير الخارجية الليبي إلى إصدار بيان قال عنه هيكل: “فوزير خارجية ليبيا السيد أحمد بشتي في ذلك الوقت طلع بيانا قال فيه إن ده مش صحيح وإن ليبيا لا تقبل لم تقبل أن أي أحد يستعمل أراضيها”.

هذا تصريح من وزير الخارجية الليبي يؤكد فيه –بموجب النص الذي أورده هيكل- أمرين:

  • أولهما: أن الأخبار التي نشرتها الأهرام (تحركات كبيرة لسلاح داخل وخارج….) غير صحيحة. وفي الواقع فإن كل المعلومات كانت تفيد بأن أمريكا -منذ بداية الأزمة-  قد شرعت بصورة كانت ملحوظة آنذاك في تقليل نشاط القاعدة، بما في ذلك تعديل برامج التدريب اليومية، وذلك نتيجة للاتصالات التي قامت بها الحكومة الليبية مع واشنطن من ناحية، وحرصا من أمريكا على سلامة القاعدة ومنتسبيها من ناحية أخرى. كذلك فقد نتج عن اتصالات الحكومتين الليبية والأمريكية –آنذاك- اتفاق يقضي بتجميد نشاط القاعدة، وسنشير إلى اللقاء الذي تم بين رئيس الوزراء السيد حسين مازق والسفير الأمريكي في الثاني من يونيو وما ترتب عن ذلك اللقاء من إجراءات.
  • ثاني ما أكده السيد البشتي: أن ليبيا لا تقبل أن تُستخدم أراضيها من قبل أي أحد.
  • لكن هذا التصريح الذي تم على أعلى مستويات الحكومة الليبية لم يُرض السيد هيكل الذي كان وقتها يتابع ما درجت عليه الدعاية الناصرية من أساليب، وكان أيضا يمهد لأكذوبة التدخل الأمريكي كمشجب جاهز يعلق عليه خطايا القيادة المصرية في إدارة الشؤون والسياسات، بما فيها شؤون وسياسات المواجهة مع إسرائيل، التي شارك هيكل في وضعها وتنفيذها وكشف ما لا ينبغي كشفه عنها للعدو على صفحات الأهرام. تصريح وزير الخارجية الليبي لم يرض هيكل فعاد مجددا للكتابة مرة أخرى في الأهرام: ” فإحنا كتبنا وبمنتهى الأدب تعقيبا على وزير خارجية ليبيا السيد بشتي بنقول له إن الموضوع مش موضوع أنكم تقولوا إن سمعتكم في الميزان، مش موضوع أن تقولوا لا حصل ما حصلش، هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها” يعني بالليبي الفصيح “عنز ولو طارت”. السيد هيكل لا يعتد بكلام وزير الخارجية، ويدعي بأنه كان يعرف آنذاك ما يجري في طرابلس وهو في مكتبه في الأهرام أكثر مما تعرف الحكومة الليبية نفسها، وأكثر مما يعرف وزير خارجيتها. بل إن هيكل الذي ادعى أن “في حركة تبدو ملفتة للأنظار” ينفي في الوقت نفسه أن هذه الحركة قد لفتت إليها أنظار الحكومة الليبية ووزير خارجيتها في حين أنها لفتت أنظار هيكل في مكتبه في الأهرام.

 

ولم يستطع السيد هيكل إخفاء استماتته في الدفاع عن العبارة التي سبق له أن كتبها في خطاب تنحي الرئيس عبدالناصر، عبارة (أن العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب)، فبالرغم من أنه لم يقدم شيئا ملموسا يؤيد ادعاءاته إلا أنه عاد ليدافع عن تلك العبارة المسمومة  فيقول بعد أكثر من أربعين سنة على كتابته لها، وبعد أن ثبت أنها عبارة لا تستند على أية معطيات حقيقية:  “لأنه مع الأسف الشديد في مرات يغلبنا الهوى الأهواء بتغلبنا ولما حصل أنه اتقال إنه في أشياء جاءت من الغرب وأشياء جاءت من الشرق بعض الناس أخذوا هذا الموضوع كيعني طريقة للتنكيت أو طريقة يعني للتشفي أو أي حاجة”  ومن هذا الدفاع المستميت عن عبارة كاذبة قد نستطيع تلمس بعض الأسباب التي ما زالت تدعو هيكل للإصرار على مواصلة كذبة التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس”، فهو لا يرغب في التراجع لأن في هذا التراجع كشف لأساليب الزيف والخداع التي كان هيكل والزعيم الملهم يُخضعون الأمة العربية لها. إن التراجع عن كذبة من شأنه أن ينقض نسيجا كاملا من الكذب على الشعوب، ويكشف من كان يقف وراء تلك الأكاذيب. لقد ظل هيكل أسيرا لجملة من الأكاذيب التي أطلقها في الستينيات، ولم يستطع أن يتجاوزها، تصدق على حالته هذه كلمة هو قائلها: “والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”

هذه الأخبار المزعومة التي نشرت في الأهرام قبل اندلاع المعارك حول قاعدة الملاحة/ويلاس  -والتي يرددها هيكل اليوم لإيهام المشاهد على أنها دليل على ما يقول-، هذه الأخبار كانت أصداؤها تتردد في البرامج التي كانت تذيعها الإذاعات المصرية وخاصة إذاعة صوت العرب، وكانت هذه الأخبار تلقى رواجا ليس في أوساط الشارع الليبي فحسب ولكن تأثيراتها كانت تمتد لتتغلغل في مختلف الأوساط الأخرى خاصة الجيش الليبي – الذي كنت أحد ضباطه آنذاك- وكذلك في أوساط من يوصفون بالنخب ومعظمهم إما ناصري أو قومي. في ذلك الوقت كان هناك استعداد لتصديق كل ما يرد من خارج حدودنا، وكان هناك استعداد لتصديق أن أمريكا ستهرع لنجدة إسرائيل في مواجهتها مع القوات المصرية، التي كان هيكل يصفها بأنها “أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط”. كان الجميع مخدوعا بالدعايات المصرية وكان التوقع السائد أن إسرائيل لن تستطيع ان تصمد إلا إذا تلقت مساندة فورية ومباشرة من أمريكا. ولذلك فقد كانت الأخبار الاستباقية التي تنشرها الأهرام وترددها ماكينة الدعاية الناصرية تعمل عملها وتنتشر انتشار النار في الهشيم، خاصة مع وجود تلك الفجوة التي صنعتها سنوات من استلاب الشخصية الوطنية التي ولدت حالة من انعدام الثقة بين النخب وبين الحكومات الليبية. ولهذا فقد صدّق الناس الدعاية المركزة التي تزعم بأن القاعدة سوف تستخدم، وبمجرد اندلاع القتال وجهت الجماهير غضبتها تجاه المصالح الغربية، ومنها السفارتين البريطانية والأمريكية وكذلك قاعدة الملاحة. لكن هيكل يصف هذه الغضبة بأنها كانت مؤسسة على إدراك الجماهير ويقينها أن القاعدة يجري استخدامها بالفعل، ويتخذ من ذلك “دليلا” آخر من أدلته التي يسوقها لإثبات مزاعمه:

“وإحنا كانت جاءت لنا من قبل معلومات أن الجماهير العادية أحسوا أن شيئا ما يجري في قاعدة ويلس وأن هذا الشيء موجه على وجه اليقين، جاية لهم أخبار الحرب وفي شيء جانبهم يحدث وبدت في جماهير تزحف على القاعدة، جماهير ليبية”

“ولكن الناس اللي في ليبيا الجماهير في ليبيا اللي أحست صباح 5 يونيو وقد بدأت المعارك بدأت ضربات الطيران، أحست أنه في شيء بيجري، أحسوا أولا بالطلعة الأولى”

ليس هذا فقط، الأمر ليس إحساس فقط، بل إنه يزعم بأن وثائقه “بتتكلم” على أن الجماهير كانت تشاهد الطائرات “طالعة” من القاعدة:

“قدامي الوثائق وكلها بتتكلم على ان جماهير الشعب الليبي بتحاصر القاعدة، قواعدنا في ليبيا في ويلس لأنها شايفة الطيارات طالعة وأنه في موقف خطر”

ولا ننسى ان هيكل كان قد زعم بأن الطائرات قد جرى طلاؤها بعلامات السلاح الجوى الإسرائيلي، وبحسب ذلك الزعم .. وزعمه بأن الجماهير الليبية كانت تشاهد الطائرات “طالعة” فمعنى ذلك أنها لا بد أنها قد شاهدت النجمة السداسية على هذه الطائرات!!! هذه معضلة ينبغي على هيكل ان يقوم بحلها.

أما نحن فنقول: كانت هناك تظاهرات، تظاهرات سمحت بها الحكومة الليبية ولم تقمعها، وكانت هناك احتجاجات على وجود القواعد العسكرية، وعلى ضرورة السيطرة عليها ثم إنهاء وجودها فوق التراب الليبي،  وهو أمر توافقت عليه إرادة الشعب الليبي وإرادة حكومته. لكن ما يزعمه هيكل من أن المظاهرات كانت مدفوعة بمعرفة الجماهير وعلمها بل “ويقينها” بأن القاعدة تستخدم فعلا منطلقا للعدوان .. وأن الجماهير قد شاهدت الطائرات وهي تقلع ..   هذا الزعم لا يستند على أية حقائق موضوعية.. ولا على أية مستندات. الغريب في الأمر أن المظاهرات التي تمت في المدن الليبية واستهدفت المصالح الغربية وعلى رأسها الأمريكية والبريطانية وطالت حتى اليهود الليبيين، هذه المظاهرات لم يكن لها مثيل آخر في البلاد العربية. في مصر نفسها لم تمس السفارة والقنصليات الأمريكية بسوء ولم يتعرض اليهود المصريون لأية مضايقات.

ما نشرته الأهرام من أخبار مزعومة قبل اندلاع القتال كان مجرد كذبة نجح هيكل –يومها- في زرعها في الأذهان، وكان لها بدون شك تأثيراتها. هذا شيء من أشياء الماضي الذي كنا نحن الليبيين من أوائل ضحاياه. للسيد هيكل أن يزعم بأنه يصدق كذبته تلك؛ فهذا شأنه، أما أن يأتي بعد أربعين سنة ليستند عليها ويتخذ منها دليلا من أدلته المزعومة فهذا شيء يدعو إلى التقزز.

بقي أمران أوردهما السيد هيكل –في هذا السياق- ولا بد من التعليق عليهما:

  • أولهما: تلك الأقوال المتناقضة المعنى والدلالات التي أوردها حول الملك إدريس: “أنا أعلم ويقينا أن الملك السنوسي كان فلتة -الشهادة لله يعني- أن هذا الرجل العجوز الصوفي كان فلتة بين ملوك العرب وأنه في ذلك الوقت الرجل أبدى بمقدار ما يستطيع رفضه أن تستعمل ليبيا في أي عمليات ضد مصر ولكن هذا لم يمنع أن في قاعدة زي قاعدة ويلاس في طرابلس تحت تصرف الأميركان وفي قاعدة زي قاعدة العظم جنب بنغازي تحت تصرف الإنجليز في ذلك الوقت” .

 

فيما تنطوي هذه العبارة على التأكيد على حقيقة باتت معروفة للقاصي والداني، وأقر بها عبدالناصر في خطاب علني بعد حرب السويس (العدوان الثلاثي)، وتثبتها كل المعطيات وأحداث التاريخ، في أن ليبيا أثتاء حكم الملك إدريس –رغم قلة إمكاناتها- قد وقفت مواقف مشرفة نصرة لأشقائها، بالرغم من أن هذه المواقف قد أدت في كثير من الحالات إلى تعريض المصالح الليبية العليا للخطر، بل إنها قد أضرت فعلا بالمصالح الليبية.  لكن عبارات الإطراء التي (تكرم) بها هيكل لم تمنعه -في حلقة أخرى من برنامجه على الجزيرة- من تصوير الملك إدريس وكأنه كان طرفا في تآمر مع السفير الأمريكي، وهو ما سنتطرق إليه ونناقشه في حينه. كذلك فلم يتوقف هيكل في حلقات أخرى من الغمز من مكانة ووطنية الملك إدريس، ويقدم معلومات تاريخية مغلوطة ومشوشة (انظر الهامش ).

لكن هذا في الواقع يضع أمامنا حقيقة بشعة يمثلها هيكل، فهو برغم مرور هذه السنين منذ حرب يونيو، والنتائج الوخيمة التي أفرزتها هذه الحرب والتي كانت نتاجا لسنوات من الديماغوجية الدعائية والتصنيفات الهوجاء وسياسات التخوين والإقصاء، وبرغم سقوط رموز طوطمية صنعتها مرحلة التيه وراء الشعارات الجوفاء الرنانة، بالرغم من كل ذلك فما زال هيكل يُنصِّب نفسه حكما يمنح صكوك الوطنية والإخلاص، ويجرم ويخون، ويجيز لنفسه ولرئيسه عبدالناصر ما لا يجبزه للغير بمن فيهم الرئيس أنور السادات.

التاريخ وحده .. وحقائق التاريخ فقط هي التي تحكم على من كان وطنيا مخلصا …  من الذي كان يعمل في صمت وفي تواضع في زمن سادت فيه الدعاية السوداء والغوغائية… وحقائق التاريخ هي التي تحكم على من الذي سخر كل شيء: سخر الكلمة فحولها إلى تهريج .. وأخضع الشعب فحوله إلى مجموعات لا تعرف إلا التصفيق أو التهميش .. وألغى الأوطان فحولها إلى سجون كبيرة .. واستولى على الإمكانات فبددها لخدمة حكم شمولي وفرد متسلط.. وعبث بالأمة ومشاعرها فقادها وراء شعارات جوفاء وسراب مهلك .. بل وحتى زور التاريخ وطمس الحقائق في سبيل استمرار تخدير الأمة وإلهائها عن حقيقة الثمن الرهيب الذي تتحمله أجيالها نتيجة لما أصابها من هزائم ونكبات…. أجل التاريخ هو الحكم .. أما هيكل فهو آخر من يحق له الحديث عن الوطنية والإخلاص وهو الذي سمح لنفسه بتسريب أسرار الاستراتيجيات المصرية علنا من على صفحات الأهرام، أما في السر والخفاء فالعلم عند الله وحده.

  • بقيت نقطة ثانية –في هذا السياق- لا بد من تسجيلها: فالسيد هيكل لا يخطئ مطلقا في أسماء المسؤولين الإسرائيليين، بل نراه يحرص على نطق هذه الأسماء بصورة صحيحة، وحتى بلكناتها العبرية، ويزودنا بمعلومات –غير ضرورية- عنهم وعن زوجاتهم وهواياتهم، وغير ذلك مما لا يقدم أو يؤخر، كما أنه في رواياته يضفي عليهم وعلى مواقفهم ومداولاتهم بريقا خاصا، ربما يدعوك فعلا إلى الإعجاب بهم وبحرصهم على مصالح شعبهم وتمسكهم حتى بدقائق الأمور من أجل تحقيق أهدافهم. لكن حرص هيكل على الدقة يتلاشى وهو يتحدث عن المسؤولين والزعماء في الدولة الشقيقة الجارة ليبيا. لم يكلف هيكل نفسه أن يرجع إلى مساعديه لمعرفة بديهيات حول الدولة الجارة ليبيا، وفي هذا نقول للسيد هيكل بأن الاسم الصحيح لوزير خارجية ليبيا آنذاك هو الدكتور أحمد البشتي (وليس بشتي). وأن مطار “العدم” (وهذا اسمه الصحيح وليس “العظم” كما ورد على لسان هيكل) يقع جنوبي مدينة “طبرق” وليس “جنب بنغازي”، ولعلم السيد هيكل فإن مطار العدم يبعد عن بنغازي بمسافة تزيد على 450 كم. كما أن هيكل في مواقع أخرى من احاديثه أورد معلومات مغلوطة عن الملك إدريس  (انظر الهامش أدناه).

 

هذا كله غيض من فيض يدل دلالة واضحة على أحد أمرين: إما على الجهل وعدم الاهتمام بتوخي المعلومات الصحيحة والاستخفاف بهذا الشعب الجار، أو أن هيكل كان يقصد بث هذه المعلومات المغلوطة وهو ما يمكن وصفه بالتزوير والتدليس.

وللحديث بقية إن شاء الله

…………………………………

    أترك للقراء تقييم ما قاله هيكل عن الملك إدريس، وما حواه من أغاليط تاريخبة وتقييمات مغرضة، علاوة على التناقضات بين الإطراء والتخوين، وهذا ما قاله في إحدى الحلقات:

“الملك السنوسي رجل شخصية، أنا شخصيا بأقدره لأنه، أقصد بأقدره لأنه، بأقدره في ظروف، هذا رجل تقدمت به السن ليس له وريث على العرش وجاء ابن أخيه يخليه وريثه في العرش وهو رجل في عنده قدر من الزهد الصوفي ولكنه أيضا جانب الصوفية وجانب التجرد وجانب كل حاجة أو الثانية هو نوع من هؤلاء الأمراء العرب الذين أدركوا مبكرا أن عروشهم مرهونة برضى قوى معينة، قوى كبرى. ليبيا كانت أصلها مستعمرة أو جاءت إيطاليا واحتلتها فعلا من سنة 1912 وبعدين الإنجليز هم اللي فتحوا، دخلوا في أثناء مواجهتم في الحرب العالمية الثانية وإخراجهم الألمان من العلمين، في معركة العلمين، وأزاحوهم وبعدين جابوا الملك السنوسي اللي هو كان أصله موجودا قبل ما الطلاينة ما يخلعوه، أو هو كان آثر أن يخرج إلى المنفى أو يلجأ في الخارج وراح تركيا فعلا، ولكن هو يدرك أنه في النهاية هذه العروش ضعيفة مهما قيل فيها، هذه العروش الضعيفة تحتاج إلى سند خارجي والملك هنا يدرك أن سنده هنا هو الإنجليز ثم بعدهم الأميركان …………”

 

معركة الاستقلال… صراع من أجل الحرية والوحدة والسيادة

في حياة كل أمة من الأمم تبرز أيام مخصوصة تتميز عن غيرها من الأيام بما يقع فيها من أحداث عظيمة، وبما تشهده من إنجازات فريدة. وتحفل الأمم لهذه الأيام وتحتفل بها، تخلدها وتفرد لها موقعا متميزا، وتبقيها دائما منبرا تطل منه الأجيال على تاريخ الأمة مستذكرة تجاربه وعبره، وتحتفل بها مناسبة لتخليد ذكريات تلكم الأيام وأحداثها وما تحقق فيها من إنجازات، وتجعل منها وقفة للتعبير عن الوفاء والتقدير والإكبار لأولئك الذين صنعوا تلك الإنجازات بفكرهم وحكمتهم أو بجهدهم وجهادهم أو بصبرهم وإصرارهم، وتتخذ منها بداية انطلاقة جديدة نحو آفاق المستقبل وتحدياته بخطى وثابة تزيدها التجارب المتراكمة رسوخا وثبوتا.

اضغط هنا لقراءة تكملة المقالة »

صفحة 2 من 212