أماكن لها تاريخ جامع عصمان

جامع عصمان هو أحد المساجد القديمة في مدينة بنغازي، اسمه الأصلي جامع “رشيد” نسبة إلى بانيه وهو أحد الولاة العثمانيين، ولكنه اشتهر باسم جامع عصمان لوقوعه في الشارع الذي يحمل نفس الاسم.. وشارع عصمان شارع ضيق يبدأ من جهة البحر بالقرب من “بيرقو النجمي” وتتفرع منه عدة أزقة وشوارع من أهمها شارع “سيدي سعيد”، وينتهي متقاطعا مع شارع سيدي سالم، ملتقيا في نفس التقاطع مع أحد فروع سوق الظلام.

شارع عصمان يحتوي على منازل سكنية، ويحتوي على عدد من دكاكين البقالة لكل منها خصوصية، كان دكان “مصطفى باقو” مشهورا ببيع “اللبن” في مواسمه، وكان “محمد بوزقية” يبيع الفاكهة والخضراوات والمعلبات ويتفنن في عرضها، أما “رمضان عصمان” فكان يتفنن في إعداد وعرض ” الفلفل المصير” في الصيف،،،،، وهكذا.

تتركز هذه الدكاكين في الطرف القريب من شارع سيدي سالم، وكانت – في معظمها – صغيرة جدا، ولكن تتميز بتنوع المعروض فيها رغم قلة الكميات المعروضة من كل صنف، وكان زبائن هذه الدكاكين محدودين والبيع فيها أيضا محدودا، ومع ذلك فقد كانت تدر دخلا يجعل حالة أصحابها ميسورة.

على الطرف القريب من البحر يوجد “هوتيل سلطان” نسبة إلى صاحبه الذي سماه “هوتيل درنة”، لكن الناس استمروا يعرفون الهوتيل باسم صاحبه، وقد كان معظم زبائن الهوتيل مستديمين، من الموظفين الذين قدموا من قرى ومدن أخرى للعمل بمدينة بنغازي، وكان أحد أبرز زبائن الهوتيل “الشيخ افضيل بريدان” الذي كان عضوا في مجلس الشيوخ، وكان يقيم في هذا الهوتيل أثناء وجوده في بنغازي.

أما في وسط شارع عصمان فيقع جامع عصمان، ويطل الجامع على الشارع من خلال باب يفضي إلى ممر طويل، على يمين الداخل (غرفة) كانت تستخدم كُتّابا لتعليم القرآن الكريم، وتستخدم أحيانا مأوى لعابري السبيل، ثم المواضي، وعلى يسار الداخل من الممر عدة أبواب تؤدي إلى صحن المسجد، تقع كلها تحت رواق مغطى بسقف تحمله أعمدة على هيئة أقواس.

جامع عصمان - بنغازي - ليبيا

جامع عصمان - بنغازي - ليبيا

 

كان جامع عصمان يعد -في الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي- ثاني أكبر المساجد في بنغازي سواء من حيث المساحة أو الأهمية، ويتميز الجامع بسعة صحنه، ويتوافر به قسم علوي كان في الأصل مخصصا للنساء، وهذا القسم يطل مثل الشرفة بعرض المسجد من المؤخرة، كما يوجد في القسم العلوي غرف تحفظ بها بعض متعلقات المسجد. وكان الجامع مفروشا بالحصران حتى أواخر الخمسينيات حيث تولت الأوقاف فرشه بالسجاد.

أما صحن المسجد نفسه فهو واسع وتقع على يمينه ردهة ضيقة بطول المسجد يربطها بالصحن مدخلان أحدهما في مقدمة المسجد بموازاة المحراب والآخر في مؤخرة المسجد، ولا تستخدم تلك الردهة إلا في مناسبة الاحتفال بالمولد النبوي، وفيما عدا ذلك تبقى هذه الردهة غير مستعملة.

ويتميز جامع عصمان باحتوائه على منبر متحرك، يقدم يوم الجمعة ليصعد عليه الخطيب، وبعد نهاية الخطبة يدفع المنبر الذي يتحرك على عجلات نحو الحائط فيحدث قرقعة بفعل حركة العجلات، فيدخل الجزء الأمامي من المنبر في حيز في الحائط، وهذا يؤدي إلى الاحتفاظ بتواصل الصف الأول دون أن يقطعه المنبر لو كان ثابتا في موقعه.

تداول كثيرون على الإمامة الراتبة في مسجد عصمان، وكان الأستاذ محمد بن عامر (المحامي بالمحاكم الشرعية) قد تطوع لسنوات عديدة ليؤم المصلين يوم الجمعة. وكان يلبس بدلة وطربوشا، ونادرا ما يلبس اللباس التقليدي الليبي، وكان ينوع دائما في الخطبة الأولى ويختار مواضيعها لتتناسب مع المناسبات الدينية أو السياسية أو الحوادث التي تحدث في المدينة، خطبته دائما تتصف بالجرأة والحدة في الطرح، أما الخطبة الثانية فكانت ثابتة لا تتغير في كل جمعة، كان يقرأ فيها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:  ((سيأتي على الناس سنون يُصدق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويخوَّن الأمين، ويؤتمن الخائن، وينطق فيها الرويبضة .. قيل : يا رسول الله، وما الرويبضة ؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة)): وقد سأله أحد المصلين مرة بعد صلاة الجمعة بشيء من الدعابة قائلا (الله والنبي إن ما فكيتنا من ها الرويبضة يا سي محمد)، فكان رده أمام المصلين : (سيأتي يوم تعرف لماذا تعمدت تكرار التذكير بهذا الحديث، زمن الرويبضة لا أظنه إلا قريبا بعد ما تفشى تخوين الأمين وتصديق الكاذب وانقلاب الأمور، وكلام السفيه في أمر العامة هو تولي السفهاء للأمور، ويومها سيقول الناس ياريتنا ما حضرنا ها الوقت). وقد توقف الأستاذ محمد بن عامر عن خطبة الجمعة بعدما أسندت لأحد المشايخ المصريين.

وقد عرف جامع عصمان أيضا متطوعا آخر هو الطالب عبد الفتاح بوعرقوب الذي كان يدرس بمدرسة بنغازي الثانوية ويقيم في القسم الداخلي في (توريللي)، وكان يقوم بتجويد آيات من القرآن قبل صلاة الجمعة، كان صوته جميلا وإن لم يكن متمكنا من قواعد التجويد، ولم يتوقف عن تطوعه إلا عندما سافر إلى ألمانيا في بعثة دراسية.

ولا شك أن أهم ما يميز جامع عصمان عن غيره من المساجد في بنغازي هو احتوائه على (الشعرة النبوية)، وهي عبارة عن اسطوانة زجاجية مغلقة الطرفين تحتوي على شعرات من شعر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحتفظ بهذه الاسطوانة في صندوق موشى بالمخمل، ويحفظ الصندوق في غرفة تقع بالطابق العلوي، ولا يتم إخراجها إلا في مناسبة المولد النبوي أو عند حضور أحد كبار الزوار، ولعل الرئيس النيجيري أحمد أوبللو رحمه الله كان أشهر من زاروا مسجد عصمان وأخرجت لهم (الشعرة النبوية).

كذلك فإن الاحتفال بالمولد النبوي يأخذ طابعا متميزا في جامع عصمان، ففيه يتم الاحتفال الرئيس. يتجمع الناس لصلاة العصر، ثم يبدأ الاحتفال بعد الصلاة بقراءة السيرة النبوية الشريفة، يتخللها أناشيد ومدائح نبوية كان المنشدون يتسابقون على الحصول على شرف الإنشاد، وكان من ضمن المنشدين المستديمين رجب البكوش الذي يعرف عنه امتلاكه لمواهب متعددة، وكذلك الشيخ بشون، وغيرهم من المنشدين، وكانت المدائح والأناشيد لا يزيد أي منها عن أبيات قليلة … مواقعها معروفة وتتخلل تلاوة السيرة، مثل:

“ولد الهدى فالكائنات ضياء ،،، وفم الزمان تبسم وثناء”   أو

” يا آمنة بشراك ،،، جل الذي أعطاك……….بحملك لمحمد ،،، رب السماء حباك”   أو

“صلي يا ربنا وسلم على ،،، من هو للخلق رحمة وشفاء”    أو

“مولاي صلى وسلم دائما أبدا ،،، على حبيبك خير الخلق كلهم”

وغيرها من الأبيات المشهورة.

كانت العبر تترى من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان الابتهاج والفرحة تتبدى على الوجوه حينا يعقبها تأثر وحزن بل ودموع في مواقف أخرى، تسمع الزفرات حين تمر السيرة بغزوة أحد واستشهاد حمزة، ويهلل المهللون عندما ترد أحداث فتح مكة، ويبكي الرجال عندما تختتم السيرة بوفاة الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم وكأن وفاته صلى الله عليه وسلم قد تمت في ذلك اليوم.

يتم توزيع أكياس من الحلوى وتقدم الشربات المثلجة وكانت جميعها تبرعات من المواطنين، ويصل الاحتفال ذروته عند الانتهاء من قراءة السيرة حيث يكون المسجد غاصا بالناس صغارا وكبارا، شيوخا وأطفالا، ومن جميع شرائح أهل بنغازي، حيث يقف الجميع ويشرعون بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بصورة جماعية، وبطريقة إنشادية تتردد أصداؤها في جنبات المسجد بوقع مؤثر ترتجف له القلوب وتدمع العيون:

“اللهم صلي أفضل صلاة على أشرف مخلوقاتك نور الهدى محمد وعلى آله وصحبه وسلم عدد مخلوقاتك ومداد كلماتك كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون”

ومع تردد صدى هذه الصلوات العطرة يكون الزحام قد بلغ أشده، وتكون المسافات بين الصفوف قد تلاشت، ويكرر الجموع ترديد هذه الصلاة، في الوقت الذي يشرع فيه مجموعة من الأعيان يتقدمهم عادة أحد الشيوخ أو الفقهاء في التحرك لإحضار الشعرة النبوية، حيث تصعد المجموعة إلى الطابق العلوي، ثم يعودون يتقدمهم مقدم المجموعة وهو يحمل فوق رأسه الصندوق المخملي الذي يحتوي على الشعرة النبوية. وحالما تصل المجموعة إلى صحن المسجد، يقفون صفا واحدا بمحاذاة باب الردهة الموازي للمحراب، وتستخرج الاسطوانة الزجاجية التي تحتوي على الشعرة النبوية ويمسكها أحدهم بيديه من طرفيها فيمر الناس ليقبلونها واحدا تلو الآخر، ثم يدخلون الردهة من بابها الموازي للمحراب ويخرجوا من باب الردهة الذي يقع في مؤخر الجامع، وهذا الترتيب كان يمنع حدوث اكتظاظ ويحول دون تدافع الناس. ويستمر الناس يرددون الصلاة على النبي حتى يخرجوا من المسجد، ويتبادل مجموعة الأعيان شرف الإمساك بالشعرة النبوية. وينتهي الاحتفال بإعادة الشعرة إلى الموضع الذي تخزن فيه بنفس الكيفية التي أحضرت بها.

كان جامع عصمان، مكانا له تاريخ .. وذكريات .. أمه للصلاة أعداد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وفي كُتّابه الصغير المتواضع تداول المعلمون مهمة هي أفضل مهمة في هذه الحياة .. تعليم القرآن الكريم .. ومن على منبره توالى الخطباء والوعاظ ..

ترى أية ذكريات يحتفظ بها جامع عصمان؟ وأي تاريخ خط بين جدرانه؟.. من هم أولاء الذين اعتلوا منبره؟.. وماذا قالوا؟.. ومن قام في جنباته مبتهلا باكيا أو ساجدا راكعا؟.. وأية أجيال كان جامع عصمان لها محضنا؟… كم مرة احتفل بالمولد النبوي بين جدرانه؟.. وتساؤلات أخرى هي بطول عمر الزمن… وبطول عمر جامع عصمان… تساؤلات بقدر الذكريات التي احتضنها جامع عصمان.. بقدر ما تخلفه تلكم الذكريات من لذة يتحفز لها القلب وتتوالى نبضاته مع أصدائها.. وبقدر ما يتركه ذلك من حزن يغوص في الخاطر… تساؤلات تحمل معها نسمات الماضي.. برجاله .. وأحداثه.. بعبقه.. بروعته وبساطته… وهي أيضا بقدر الحنين الذي يحتدم بين ضلوع مهاجر طالما سكب العبرات تحت القبة الشامخة.. وطالما قادته خطاه عبر شارع سيدي سعيد وشارع عصمان إلى أبواب الجامع… وهو اليوم يقبع في هجرته بعيدا عن أرض جامع عصمان.. لا يستطيع العودة.. ويرنو من بعيد .. ويتساءل ماذا أبقت الأيام في مرورها؟.. ماذا أحرقت الحوادث؟. وماذا بقي من دنيانا التي نعرف؟.. وأين هم جيران جامع عصمان؟.. وتساؤلات غيرها كثير…

لكن التساؤلات تظل دون إجابة .. فقد غادر الفقيه والطلبة كُتّابهم الصغير.. ولم تعد بهجة “الميلود” كما كانت.. وأقفر شارع عصمان من حوانيته.. وفي داخل الجامع.. تحت الرواق والقبة الشامخة… وبين جنبات الصحن … لا شيء سوى صمت مهيب.. كأنه حزن على ماض ولى ولن يعود.. أصبحت أحداثه طيا في الأفئدة.. ورحل المنبر بعد أن فقد دوره في زمن ظهر فيه الرويبضة.

—————–

وبعد … فقد كتبت هذه الخاطرة منذ سنوات عدة. يومها كانت الغربة نفقا طويلا مظلما لا تبدو له نهاية…. ويومها كان قلبي يتفطر حنينا وشوقا إلى أرض الوطن …

إلى تلك الدروب التي شهدت أيام الصبا والشباب …

إلى شارع سيدي سعيد .. والعنيزات …  وإلى بحر الشابي …

وإلى جامع عصمان الذي كان أحد المعالم الثابتة في الذاكرة.

ومن هذه الذاكرة كتبت خاطرتي عن جامع عصمان  ..

ومن الذاكرة سجلت وصفا للجامع وما يحيط به وما كان فيه من ذكريات بالرغم من أنني لم أزره لأكثر من خمس وأربعين سنة. .. وقد أصابت الذاكرة أحيانا.. وربما خذلتني في بعض التفاصيل …

لكنني كتبت الخاطرة بمعاناة حقيقية … وبدمع يترقرق من المآقي … وبفؤاد يتفطر … وبحنين جارف .. وشوق عارم .. يراودني اليأس فأدفعه بعيدا .. وتضيق علي الغربة لتبعدني عن وطن أجدادي … فأستحضر الوطن إلى داخل قلبي …  وتمر طيوف الذكريات لتجدد حرقة الشوق .. ومعاناة استحضار الأمل في وقت يطبق فيه اليأس على المشهد.

وشاء الله أن ينعم علينا بالثورة المباركة .. وتمكنت من العودة إلى أرض الوطن …

 وكانت زيارتي لجامع عصمان .. حافلة بالمشاعر الجياشة … ولم أدر أينا احتضن الآخر .. وغالبت الدموع فغلبتني .. وتنسمت عبق التاريخ .. وأحسست بذكريات الماضي وأحداثه .. وتمثلت الشخصيات التي كنت أعرفها من رواد الجامع … تمثلتهم وهم يجلسون في مواقعهم المعتادة …

لم يتغير في الجامع شيء سوى حالة الإهمال التي يتعرض لها .. وحاجته الماسة إلى الصيانة قبل أن يتهاوى وينهار …

تغير الجوار .. وامحت آثار سوق الظلام … ولم يعد شارع سيدي سالم كما كان .. وأصبح جامع عصمان والمسجد العتيق متناظرين ….. وتغير شارع سيدي سعيد … وغابت حوانيت شارع عصمان … لكن بحر الشابي ما زال يرسل نسماته عبر الشارع…

تحلق حولي الأحبة ممن أعرف  … وممن كنت أعرف آباءهم وأجدادهم … فذكروني بالشيب الذي غزا شعري .. وذكروني بأيام مضت ولن تعود … تذاكرنا حول جيراننا .. وماذا فعلت الأيام بهم … عرفت منهم ما حل بالجامع العتيد .. وعرفت منهم أنه في زمن “الرويبضة” تم سلب الجامع من أهم ممتلكاته التي كانت تميزه عن غيره .. اختفت الشعرة النبوية التي كانت الأجيال –جيلا بعد جيل- تتولى المحافظة عليها … لا يعرف أحد من سرق الشعرة النبوية .. ولا أين هي الآن …

لكن زمن “الرويبضة” ولى … ولى إلى غير رجعة .. وعاد المنبر مجددا إلى دوره العتيد ليدعو إلى التكاتف والوحدة والاعتصام بحبل الله … وليحذر من التهاون والتخاذل حتى لا يكون رويبضة آخر …

وعاد جامع عصمان ليروي لنا في صمته المهيب تاريخ أجيال كان هو محضنها وراعيها .. وليخبرنا عن جيرانه القدامى والوافدين .. وليخبرنا عن سر عبرات سكبت في أركانه .. وتلاوات وتسابيح وابتهالات ترددت تحت القبة الشامخة .. وليبشرنا بعودة بريق وأفراح الميلود .. حتى وإن غابت عنها الشعرة النبوية …

وعاد جامع عصمان بكل الشموخ وعزة النفس يشتكي الإهمال .. ويرنو … كما نرنو نحن .. أن الأيادي ستمتد إليه –في زمن الحرية- لتواسيه بصيانة تحفظه للأجيال اللاحقة .. وتحفظه معلما بارزا من معالم بنغازي ..

بنغازي محضن الثورة .. ورباية الذايح … والتي ذاقت –هي الأخرى- من مرارات الإهمال والتهميش والتجاهل … والتي هي أيضا في أمس الحاجة إلى الصيانة والرعاية ردا لجمائلها التي لا تنسى….

  وإلى لقاء إن شاء الله … مع أماكن لها تاريخ مع المسجد العتيق / الجامع

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.