هيكل والافتراء على التاريخ –”الأدلة” التي استخدمها هيكل– الحلقة التاسعة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

أ) ما نشرته الأهرام

إذا ما تفحصنا “الحجج والبراهين” التي يسوقها هيكل لدعم وإسناد ادعاءاته باستخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدتها الجوية “الملاحة / ويلاس”، للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية في الخامس من يونيو، فإننا سنجد أنفسنا أمام متاهة لا حدود لها. وأكرر اعترافي بأنني وجدت صعوبة كبيرة في متابعة ما كان السيد هيكل يقوله، واضطررت إلى إعادة قراءة النصوص أكثر من مرة لأتأكد أنني لم أخطئ، ولكي أحاول التفريق بين ما يزعم هيكل أنه منصوص عليه في وثيقة لم يبرزها للمشاهدين، وبين ما هو نتاج خيال خصب مؤسس على أكذوبة رُوج لها منذ ستينيات القرن الماضي،  وساهم هيكل نفسه في اختلاقها والترويج لها، وهو إلى يومنا هذا يكررها رغم أن الأيام قد تكفلت –قبل غيرها- بتجريد ما يزعمه هيكل ويردده من كل ما يمت إلى الموضوعية والحقيقة بصلة.

حتى قبل اندلاع المعارك، كان الإعلام المصري يروج لأكذوبة استخدام قاعدة “الملاحة/ويلاس” للعدوان على مصر. لم ينتظر هيكل حتى تندلع المعارك وحتى يتبين ما إذا كانت أمريكا شاركت أم لم تشارك في الضربة الجوية الإسرائيلية. لم ينتظر حتى يتبين له ما إذا كانت أمريكا استخدمت أم لم تستخدم قاعدتها  في طرابلس، ولكنه استبق كل ذلك وكتب في الأهرام أخبارا تزرع في أذهان القراء فكرة استخدام قاعدة “الملاحة/ويلاس” منطلقا للعدوان على مصر.  لنقرأ ما يقوله هيكل حول هذا الأمر:

“كلمة الأهرام بتقول “سمعة ليبيا هي الموضوع!” وهنا ده موضوع مهم قوي لأن إحنا كنا قلنا خبر قبلها بيوم إنه في حركة عسكرية كبيرة جدا في مطار ويلاس في قاعدة ويلاس في طرابلس في ليبيا، وبنقول إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار، فوزير خارجية ليبيا السيد أحمد بشتي في ذلك الوقت طلع بيانا قال فيه إن ده مش صحيح وإن ليبيا لا تقبل لم تقبل أن أي أحد يستعمل أراضيها. أنا أعلم ويقينا أن الملك السنوسي كان فلتة -الشهادة لله يعني- أن هذا الرجل العجوز الصوفي كان فلتة بين ملوك العرب وأنه في ذلك الوقت الرجل أبدى بمقدار ما يستطيع رفضه أن تستعمل ليبيا في أي عمليات ضد مصر ولكن هذا لم يمنع أن في قاعدة زي قاعدة ويلاس في طرابلس تحت تصرف الأميركان وفي قاعدة زي قاعدة العظم جنب بنغازي تحت تصرف الإنجليز في ذلك الوقت، كيف يمكن الحكومة الليبية ما تقدرش؟ فإحنا كتبنا وبمنتهى الأدب تعقيبا على وزير خارجية ليبيا السيد بشتي بنقول له إن الموضوع مش موضوع أنكم تقولوا إن سمعتكم في الميزان، مش موضوع أن تقولوا لا حصل ما حصلش، هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها. وهذا الموضوع فيما بعد أخذ.. لأنه مع الأسف الشديد في مرات يغلبنا الهوى الأهواء بتغلبنا ولما حصل أنه اتقال إنه في أشياء جاءت من الغرب وأشياء جاءت من الشرق بعض الناس أخذوا هذا الموضوع كيعني طريقة للتنكيت أو طريقة يعني للتشفي أو أي حاجة”

وبالرغم من أن هيكل لم يحدد بالضبط تواريخ نشر هذا الخبر، إلا أننا نستنتج من السياق الذي أورده، أن الخبر نُشر في اليوم الأول أو الثاني من شهر يونيو، أو حتى قبل ذلك، أي قبل الحرب وقبل الضربة الجوية بعدة أيام. ويمكننا أن نضع الأمور في تسلسلها ونبدي ملاحظاتنا بخصوصها:

  • أن الأهرام نشرت خبرا عن وجود تحركات كبيرة تجري في قاعدة “الملاحة/ويلاس”، لم يبين ماهية هذه التحركات سوى أنها ” وبنقول إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار”.  توقف هيكل عند حدود الإشارة إلى نشر الأهرام لهذا الخبر، فلم يبين لنا ما تضمنه خبر الأهرام بصورة كاملة، علاوة على أنه لم يخبرنا –بالرغم من مرور أكثر من أربعين سنة على هذه الأحداث- لم يخبرنا كيف استقت الأهرام معلوماتها، وما هي مصادرها، ولا كيف أسست على هذه المعلومات الخبر الذي أوردته ثم تابعته، ولا كيف حكمت على أن هناك “تحركات كبيرة، وسلاح داخل وسلاح خارج”، ولا ما إذا كان لهذا علاقة بالتطورات الدائرة في الشرق الأوسط، والأهم من ذلك لم يقل لنا هل أن هذه التحركات في القاعدة – التي وصفها بالكبيرة- هي تحركات اعتيادية أم أنها طارئة؟… وكيف تسنى له أن يعرف في الحالتين؟
  • يقينا فإن خبر الأهرام لم يتوقف عند الإشارة إلى هذه الأخبار –التي لا أشك في أنها أخبار مفبركة- بل تجاوزها إلى القول تصريحا أو تلميحا بأن القاعدة يتم إعدادها للمشاركة في العدوان على مصر، وهذا ما دعى وزير الخارجية الليبي إلى إصدار بيان قال عنه هيكل: “فوزير خارجية ليبيا السيد أحمد بشتي في ذلك الوقت طلع بيانا قال فيه إن ده مش صحيح وإن ليبيا لا تقبل لم تقبل أن أي أحد يستعمل أراضيها”.

هذا تصريح من وزير الخارجية الليبي يؤكد فيه –بموجب النص الذي أورده هيكل- أمرين:

  • أولهما: أن الأخبار التي نشرتها الأهرام (تحركات كبيرة لسلاح داخل وخارج….) غير صحيحة. وفي الواقع فإن كل المعلومات كانت تفيد بأن أمريكا -منذ بداية الأزمة-  قد شرعت بصورة كانت ملحوظة آنذاك في تقليل نشاط القاعدة، بما في ذلك تعديل برامج التدريب اليومية، وذلك نتيجة للاتصالات التي قامت بها الحكومة الليبية مع واشنطن من ناحية، وحرصا من أمريكا على سلامة القاعدة ومنتسبيها من ناحية أخرى. كذلك فقد نتج عن اتصالات الحكومتين الليبية والأمريكية –آنذاك- اتفاق يقضي بتجميد نشاط القاعدة، وسنشير إلى اللقاء الذي تم بين رئيس الوزراء السيد حسين مازق والسفير الأمريكي في الثاني من يونيو وما ترتب عن ذلك اللقاء من إجراءات.
  • ثاني ما أكده السيد البشتي: أن ليبيا لا تقبل أن تُستخدم أراضيها من قبل أي أحد.
  • لكن هذا التصريح الذي تم على أعلى مستويات الحكومة الليبية لم يُرض السيد هيكل الذي كان وقتها يتابع ما درجت عليه الدعاية الناصرية من أساليب، وكان أيضا يمهد لأكذوبة التدخل الأمريكي كمشجب جاهز يعلق عليه خطايا القيادة المصرية في إدارة الشؤون والسياسات، بما فيها شؤون وسياسات المواجهة مع إسرائيل، التي شارك هيكل في وضعها وتنفيذها وكشف ما لا ينبغي كشفه عنها للعدو على صفحات الأهرام. تصريح وزير الخارجية الليبي لم يرض هيكل فعاد مجددا للكتابة مرة أخرى في الأهرام: ” فإحنا كتبنا وبمنتهى الأدب تعقيبا على وزير خارجية ليبيا السيد بشتي بنقول له إن الموضوع مش موضوع أنكم تقولوا إن سمعتكم في الميزان، مش موضوع أن تقولوا لا حصل ما حصلش، هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها” يعني بالليبي الفصيح “عنز ولو طارت”. السيد هيكل لا يعتد بكلام وزير الخارجية، ويدعي بأنه كان يعرف آنذاك ما يجري في طرابلس وهو في مكتبه في الأهرام أكثر مما تعرف الحكومة الليبية نفسها، وأكثر مما يعرف وزير خارجيتها. بل إن هيكل الذي ادعى أن “في حركة تبدو ملفتة للأنظار” ينفي في الوقت نفسه أن هذه الحركة قد لفتت إليها أنظار الحكومة الليبية ووزير خارجيتها في حين أنها لفتت أنظار هيكل في مكتبه في الأهرام.

 

ولم يستطع السيد هيكل إخفاء استماتته في الدفاع عن العبارة التي سبق له أن كتبها في خطاب تنحي الرئيس عبدالناصر، عبارة (أن العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب)، فبالرغم من أنه لم يقدم شيئا ملموسا يؤيد ادعاءاته إلا أنه عاد ليدافع عن تلك العبارة المسمومة  فيقول بعد أكثر من أربعين سنة على كتابته لها، وبعد أن ثبت أنها عبارة لا تستند على أية معطيات حقيقية:  “لأنه مع الأسف الشديد في مرات يغلبنا الهوى الأهواء بتغلبنا ولما حصل أنه اتقال إنه في أشياء جاءت من الغرب وأشياء جاءت من الشرق بعض الناس أخذوا هذا الموضوع كيعني طريقة للتنكيت أو طريقة يعني للتشفي أو أي حاجة”  ومن هذا الدفاع المستميت عن عبارة كاذبة قد نستطيع تلمس بعض الأسباب التي ما زالت تدعو هيكل للإصرار على مواصلة كذبة التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس”، فهو لا يرغب في التراجع لأن في هذا التراجع كشف لأساليب الزيف والخداع التي كان هيكل والزعيم الملهم يُخضعون الأمة العربية لها. إن التراجع عن كذبة من شأنه أن ينقض نسيجا كاملا من الكذب على الشعوب، ويكشف من كان يقف وراء تلك الأكاذيب. لقد ظل هيكل أسيرا لجملة من الأكاذيب التي أطلقها في الستينيات، ولم يستطع أن يتجاوزها، تصدق على حالته هذه كلمة هو قائلها: “والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”

هذه الأخبار المزعومة التي نشرت في الأهرام قبل اندلاع المعارك حول قاعدة الملاحة/ويلاس  -والتي يرددها هيكل اليوم لإيهام المشاهد على أنها دليل على ما يقول-، هذه الأخبار كانت أصداؤها تتردد في البرامج التي كانت تذيعها الإذاعات المصرية وخاصة إذاعة صوت العرب، وكانت هذه الأخبار تلقى رواجا ليس في أوساط الشارع الليبي فحسب ولكن تأثيراتها كانت تمتد لتتغلغل في مختلف الأوساط الأخرى خاصة الجيش الليبي – الذي كنت أحد ضباطه آنذاك- وكذلك في أوساط من يوصفون بالنخب ومعظمهم إما ناصري أو قومي. في ذلك الوقت كان هناك استعداد لتصديق كل ما يرد من خارج حدودنا، وكان هناك استعداد لتصديق أن أمريكا ستهرع لنجدة إسرائيل في مواجهتها مع القوات المصرية، التي كان هيكل يصفها بأنها “أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط”. كان الجميع مخدوعا بالدعايات المصرية وكان التوقع السائد أن إسرائيل لن تستطيع ان تصمد إلا إذا تلقت مساندة فورية ومباشرة من أمريكا. ولذلك فقد كانت الأخبار الاستباقية التي تنشرها الأهرام وترددها ماكينة الدعاية الناصرية تعمل عملها وتنتشر انتشار النار في الهشيم، خاصة مع وجود تلك الفجوة التي صنعتها سنوات من استلاب الشخصية الوطنية التي ولدت حالة من انعدام الثقة بين النخب وبين الحكومات الليبية. ولهذا فقد صدّق الناس الدعاية المركزة التي تزعم بأن القاعدة سوف تستخدم، وبمجرد اندلاع القتال وجهت الجماهير غضبتها تجاه المصالح الغربية، ومنها السفارتين البريطانية والأمريكية وكذلك قاعدة الملاحة. لكن هيكل يصف هذه الغضبة بأنها كانت مؤسسة على إدراك الجماهير ويقينها أن القاعدة يجري استخدامها بالفعل، ويتخذ من ذلك “دليلا” آخر من أدلته التي يسوقها لإثبات مزاعمه:

“وإحنا كانت جاءت لنا من قبل معلومات أن الجماهير العادية أحسوا أن شيئا ما يجري في قاعدة ويلس وأن هذا الشيء موجه على وجه اليقين، جاية لهم أخبار الحرب وفي شيء جانبهم يحدث وبدت في جماهير تزحف على القاعدة، جماهير ليبية”

“ولكن الناس اللي في ليبيا الجماهير في ليبيا اللي أحست صباح 5 يونيو وقد بدأت المعارك بدأت ضربات الطيران، أحست أنه في شيء بيجري، أحسوا أولا بالطلعة الأولى”

ليس هذا فقط، الأمر ليس إحساس فقط، بل إنه يزعم بأن وثائقه “بتتكلم” على أن الجماهير كانت تشاهد الطائرات “طالعة” من القاعدة:

“قدامي الوثائق وكلها بتتكلم على ان جماهير الشعب الليبي بتحاصر القاعدة، قواعدنا في ليبيا في ويلس لأنها شايفة الطيارات طالعة وأنه في موقف خطر”

ولا ننسى ان هيكل كان قد زعم بأن الطائرات قد جرى طلاؤها بعلامات السلاح الجوى الإسرائيلي، وبحسب ذلك الزعم .. وزعمه بأن الجماهير الليبية كانت تشاهد الطائرات “طالعة” فمعنى ذلك أنها لا بد أنها قد شاهدت النجمة السداسية على هذه الطائرات!!! هذه معضلة ينبغي على هيكل ان يقوم بحلها.

أما نحن فنقول: كانت هناك تظاهرات، تظاهرات سمحت بها الحكومة الليبية ولم تقمعها، وكانت هناك احتجاجات على وجود القواعد العسكرية، وعلى ضرورة السيطرة عليها ثم إنهاء وجودها فوق التراب الليبي،  وهو أمر توافقت عليه إرادة الشعب الليبي وإرادة حكومته. لكن ما يزعمه هيكل من أن المظاهرات كانت مدفوعة بمعرفة الجماهير وعلمها بل “ويقينها” بأن القاعدة تستخدم فعلا منطلقا للعدوان .. وأن الجماهير قد شاهدت الطائرات وهي تقلع ..   هذا الزعم لا يستند على أية حقائق موضوعية.. ولا على أية مستندات. الغريب في الأمر أن المظاهرات التي تمت في المدن الليبية واستهدفت المصالح الغربية وعلى رأسها الأمريكية والبريطانية وطالت حتى اليهود الليبيين، هذه المظاهرات لم يكن لها مثيل آخر في البلاد العربية. في مصر نفسها لم تمس السفارة والقنصليات الأمريكية بسوء ولم يتعرض اليهود المصريون لأية مضايقات.

ما نشرته الأهرام من أخبار مزعومة قبل اندلاع القتال كان مجرد كذبة نجح هيكل –يومها- في زرعها في الأذهان، وكان لها بدون شك تأثيراتها. هذا شيء من أشياء الماضي الذي كنا نحن الليبيين من أوائل ضحاياه. للسيد هيكل أن يزعم بأنه يصدق كذبته تلك؛ فهذا شأنه، أما أن يأتي بعد أربعين سنة ليستند عليها ويتخذ منها دليلا من أدلته المزعومة فهذا شيء يدعو إلى التقزز.

بقي أمران أوردهما السيد هيكل –في هذا السياق- ولا بد من التعليق عليهما:

  • أولهما: تلك الأقوال المتناقضة المعنى والدلالات التي أوردها حول الملك إدريس: “أنا أعلم ويقينا أن الملك السنوسي كان فلتة -الشهادة لله يعني- أن هذا الرجل العجوز الصوفي كان فلتة بين ملوك العرب وأنه في ذلك الوقت الرجل أبدى بمقدار ما يستطيع رفضه أن تستعمل ليبيا في أي عمليات ضد مصر ولكن هذا لم يمنع أن في قاعدة زي قاعدة ويلاس في طرابلس تحت تصرف الأميركان وفي قاعدة زي قاعدة العظم جنب بنغازي تحت تصرف الإنجليز في ذلك الوقت” .

 

فيما تنطوي هذه العبارة على التأكيد على حقيقة باتت معروفة للقاصي والداني، وأقر بها عبدالناصر في خطاب علني بعد حرب السويس (العدوان الثلاثي)، وتثبتها كل المعطيات وأحداث التاريخ، في أن ليبيا أثتاء حكم الملك إدريس –رغم قلة إمكاناتها- قد وقفت مواقف مشرفة نصرة لأشقائها، بالرغم من أن هذه المواقف قد أدت في كثير من الحالات إلى تعريض المصالح الليبية العليا للخطر، بل إنها قد أضرت فعلا بالمصالح الليبية.  لكن عبارات الإطراء التي (تكرم) بها هيكل لم تمنعه -في حلقة أخرى من برنامجه على الجزيرة- من تصوير الملك إدريس وكأنه كان طرفا في تآمر مع السفير الأمريكي، وهو ما سنتطرق إليه ونناقشه في حينه. كذلك فلم يتوقف هيكل في حلقات أخرى من الغمز من مكانة ووطنية الملك إدريس، ويقدم معلومات تاريخية مغلوطة ومشوشة (انظر الهامش ).

لكن هذا في الواقع يضع أمامنا حقيقة بشعة يمثلها هيكل، فهو برغم مرور هذه السنين منذ حرب يونيو، والنتائج الوخيمة التي أفرزتها هذه الحرب والتي كانت نتاجا لسنوات من الديماغوجية الدعائية والتصنيفات الهوجاء وسياسات التخوين والإقصاء، وبرغم سقوط رموز طوطمية صنعتها مرحلة التيه وراء الشعارات الجوفاء الرنانة، بالرغم من كل ذلك فما زال هيكل يُنصِّب نفسه حكما يمنح صكوك الوطنية والإخلاص، ويجرم ويخون، ويجيز لنفسه ولرئيسه عبدالناصر ما لا يجبزه للغير بمن فيهم الرئيس أنور السادات.

التاريخ وحده .. وحقائق التاريخ فقط هي التي تحكم على من كان وطنيا مخلصا …  من الذي كان يعمل في صمت وفي تواضع في زمن سادت فيه الدعاية السوداء والغوغائية… وحقائق التاريخ هي التي تحكم على من الذي سخر كل شيء: سخر الكلمة فحولها إلى تهريج .. وأخضع الشعب فحوله إلى مجموعات لا تعرف إلا التصفيق أو التهميش .. وألغى الأوطان فحولها إلى سجون كبيرة .. واستولى على الإمكانات فبددها لخدمة حكم شمولي وفرد متسلط.. وعبث بالأمة ومشاعرها فقادها وراء شعارات جوفاء وسراب مهلك .. بل وحتى زور التاريخ وطمس الحقائق في سبيل استمرار تخدير الأمة وإلهائها عن حقيقة الثمن الرهيب الذي تتحمله أجيالها نتيجة لما أصابها من هزائم ونكبات…. أجل التاريخ هو الحكم .. أما هيكل فهو آخر من يحق له الحديث عن الوطنية والإخلاص وهو الذي سمح لنفسه بتسريب أسرار الاستراتيجيات المصرية علنا من على صفحات الأهرام، أما في السر والخفاء فالعلم عند الله وحده.

  • بقيت نقطة ثانية –في هذا السياق- لا بد من تسجيلها: فالسيد هيكل لا يخطئ مطلقا في أسماء المسؤولين الإسرائيليين، بل نراه يحرص على نطق هذه الأسماء بصورة صحيحة، وحتى بلكناتها العبرية، ويزودنا بمعلومات –غير ضرورية- عنهم وعن زوجاتهم وهواياتهم، وغير ذلك مما لا يقدم أو يؤخر، كما أنه في رواياته يضفي عليهم وعلى مواقفهم ومداولاتهم بريقا خاصا، ربما يدعوك فعلا إلى الإعجاب بهم وبحرصهم على مصالح شعبهم وتمسكهم حتى بدقائق الأمور من أجل تحقيق أهدافهم. لكن حرص هيكل على الدقة يتلاشى وهو يتحدث عن المسؤولين والزعماء في الدولة الشقيقة الجارة ليبيا. لم يكلف هيكل نفسه أن يرجع إلى مساعديه لمعرفة بديهيات حول الدولة الجارة ليبيا، وفي هذا نقول للسيد هيكل بأن الاسم الصحيح لوزير خارجية ليبيا آنذاك هو الدكتور أحمد البشتي (وليس بشتي). وأن مطار “العدم” (وهذا اسمه الصحيح وليس “العظم” كما ورد على لسان هيكل) يقع جنوبي مدينة “طبرق” وليس “جنب بنغازي”، ولعلم السيد هيكل فإن مطار العدم يبعد عن بنغازي بمسافة تزيد على 450 كم. كما أن هيكل في مواقع أخرى من احاديثه أورد معلومات مغلوطة عن الملك إدريس  (انظر الهامش أدناه).

 

هذا كله غيض من فيض يدل دلالة واضحة على أحد أمرين: إما على الجهل وعدم الاهتمام بتوخي المعلومات الصحيحة والاستخفاف بهذا الشعب الجار، أو أن هيكل كان يقصد بث هذه المعلومات المغلوطة وهو ما يمكن وصفه بالتزوير والتدليس.

وللحديث بقية إن شاء الله

…………………………………

    أترك للقراء تقييم ما قاله هيكل عن الملك إدريس، وما حواه من أغاليط تاريخبة وتقييمات مغرضة، علاوة على التناقضات بين الإطراء والتخوين، وهذا ما قاله في إحدى الحلقات:

“الملك السنوسي رجل شخصية، أنا شخصيا بأقدره لأنه، أقصد بأقدره لأنه، بأقدره في ظروف، هذا رجل تقدمت به السن ليس له وريث على العرش وجاء ابن أخيه يخليه وريثه في العرش وهو رجل في عنده قدر من الزهد الصوفي ولكنه أيضا جانب الصوفية وجانب التجرد وجانب كل حاجة أو الثانية هو نوع من هؤلاء الأمراء العرب الذين أدركوا مبكرا أن عروشهم مرهونة برضى قوى معينة، قوى كبرى. ليبيا كانت أصلها مستعمرة أو جاءت إيطاليا واحتلتها فعلا من سنة 1912 وبعدين الإنجليز هم اللي فتحوا، دخلوا في أثناء مواجهتم في الحرب العالمية الثانية وإخراجهم الألمان من العلمين، في معركة العلمين، وأزاحوهم وبعدين جابوا الملك السنوسي اللي هو كان أصله موجودا قبل ما الطلاينة ما يخلعوه، أو هو كان آثر أن يخرج إلى المنفى أو يلجأ في الخارج وراح تركيا فعلا، ولكن هو يدرك أنه في النهاية هذه العروش ضعيفة مهما قيل فيها، هذه العروش الضعيفة تحتاج إلى سند خارجي والملك هنا يدرك أن سنده هنا هو الإنجليز ثم بعدهم الأميركان …………”

 

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.