خواطر في ذكرى تفجر الثورة

يوم 17 فبراير  كان يوما مفصليا في تاريخ الشعب الليبي. كان يوما انتفض فيه الليبيون وتجاوزوا عقبات كثيرة كانت تعترض تجسيد إرادتهم التي كانت تمور في النفوس ولا تجد لها تفعيلا. كانت لحظات حاسمة تراكمت المواقف والعزائم، وتحول التردد إلى إصرار، وانطلق المارد الليبي من عقاله، وتجسدت الإرادة الصلبة في إنهاء أربعين عاما من حكم الطغيان.

كان 17 فبراير يوما اتفق عليه الليبيون لبدأ الثورة .. أما إرهاصاتها فقد سبقت ذلك اليوم بكثير .. وكلما اقترب التاريخ كلما ازداد شد الأعصاب، وتعددت التوقعات والتكهنات، فيما كانت الاستعدادات تتم بطرق عفوية وبعيدا عن الأنظار، ولكن الانطلاقة الفعلية للثورة كانت مساء يوم 15 من نفس الشهر، وكان لهذا دور كبير في تحقيق مفاجأة استراتيجية أذهلت كل المتابعين، وأدت إلى ارتباك حكم الطاغية وقيامه بردود أفعال مرتجلة  وسريعة، أججت احتدام المواجهة. هكذا لم يأت يوم السابع عشر إلا والثورة في عنفوانها قد تمكنت من تحطيم حاجز الخوف، وبدأت في اكتساب أرضيات صلبة.

اليوم – بعد مضي عام على انطلاقة الثورة- يعود الليبيون بالذاكرة الحية، ليتذكروا مواقف عاصروها وشاهدوها وشاركوا في صنعها، مواقف ما زالوا يعيشونها ويحسونها .. يتذكرون ساعات الألم وما أكثرها وما أطولها، ويتذكرون ومضات الأمل وكانت في بدايات الثورة نادرة ومتباعدة. وعندما تعود الذاكرة فإنها تبدأ من البداية، وتحديدا من بنغازي عندما كانت المواجهات تتم في الشوارع .. بين طرفين غير متكافئين في السلاح والعتاد…. عندما كان الناس يواجهون الرصاص الحي بصدور عارية لكنها مليئة بالإيمان.  مواجهات امتدت لتشمل كل المدن الليبية … البيضاء وشحات والزنتان ودرنه واجدابيه والزاوية ومصراته ومدن جبل نفوسه … كل المدن الليبية تنتفض الواحدة تلو الأخرى وتتحرر .. إلى أن يأتي اليوم الكبير بتحرير طرابلس، ثم إعلان التحرير بعد سقوط الطاغية واستكمال السيطرة على كامل التراب الليبي.

 في الذاكرة مفردات كثيرة بشعة، ومصطلحات ستعلق طويلا بالأذهان، وشخوص كان لهم أقذر الأدوار وأبشعها … كان في إمكانهم اختصار المسافات وتقليل المعاناة، لكنهم لم يفعلوا. خوفهم على رؤوسهم التافهة جعل الشعب الليبي يفقد عشرات الآلاف من خيرة أبنائه، وحرصهم على مصالحهم الوضيعة أطال معاناة الليبيين وأحدث دمارا هائلا .. قتل الجبن فيهم المروءة والنخوة، فكانوا عبيدا للطاغية يخوضون معركته الشرسة الآثمة، في الوقت الذي كان يحتمي هو وأبناؤه بعصابات المرتزقة وخلف الأسوار.

وفي الذاكرة مواقف شامخة لا تُنسى ومبادرات غيرت شكل المواجهة وأحدثت فارقا جوهريا، وشخصيات فذة كان لها دور محوري في قلب كافة الموازين التي كانت قائمة. ومع ازدحام المواقف وبروز الشخصيات في الذاكرة الليبية إلا أن مبادرات وأسماء حق أن يكون لها موقع خاص في مجريات الثورة .. كان المهدي زيو بمبادرته الجهادية الاستشهادية الرائعة يتماهى مع محمد نبوس الذي كان النافذة التي أطل منها العالم على الثورة حين سدت كل المنافذ الأخرى … مواقف وشخصيات عديدة تتسع في شموخها لتحتضن ليبيا وتقودها إلى الحرية .. لم تغب هذه المواقف والشخصيات الفذة عن أي من الجبهات والمدن والساحات والمجالات.

في ذاكرة الشعب الليبي تلك الهبة العظيمة التي شارك فيها كل أحرار وحرائر ليبيا، قدموا كل التضحيات، وجادوا بالغالي والمرتخص .. أقبلوا على المعارك بنفوس أبية وبشجاعة تفوقت على كل الخوف، واقتحموا الغمار بكل عزم وتصميم، وامتدت أياديهم فتلاحمت سواعدهم فلم تعد تتمايز إلا في التسابق نحو البذل والعطاء .. سجلوا مفاخر الوحدة الوطنية والتكاتف والتكافل في أصعب الظروف وأقساها. هكذا كانت ليبيا خلال ثورتها المجيدة: أما تقدم فلذات كبدها إلى أتون المعارك .. وأبا يتسابق مع ابنائه نحو جبهات القتال .. وزوجة آلت على نفسها ألا يتأخر الزوج عن مواكب الفداء .. هكذا كانت ليبيا .. وهكذا كان أحرارها وحرائرها … لم يفكروا يومها إلا في تخليص الوطن وإنقاذه بكل ثمن مهما غلا وارتفع .. لم يبخلوا وجادوا بكل شيء … ولم يفكروا بشيء لأنفسهم إلا في إطار ما يريدونه لبلادهم من تحرر وإنقاذ.

كانت  قوافل الشهداء في كل يوم، وفي كل مدينة.  وكان الاستشهاد منية يتسابق نحوها أصحاب العزائم، وكان الشهداء يمهرون بدمائهم الزكية حرية ليبيا. هؤلاء هم الرجال الذين آلوا على أنفسهم أن يكون في استشهادهم عزا لوطنهم وحياة لشعبهم، فارتفعوا إلى مصاف الشهداء الأبرار، وحق لهم أن نخلدهم ونكبر تضحياتهم، ونرعاهم في عائلاتهم. وجب علينا أن نتذكرهم ونذكّر الأجيال اللاحقة بهم وبتضحياتهم.

وفي الذاكرة شباب عادوا من ميادين المعارك بجراح قد تلتئم وقد لا تشهد التئاما … معها معاناة جسدية ونفسية .. ومعها تغير جوهري في معايشهم .. هم تذكار حي ودليل على حجم التضحيات التي قدمها الشعب الليبي. علاجهم جسديا ونفسيا واجب على ليبيا كلها.  لكن مع العلاج أمور اخرى لا بد منها، فإدارة ملفاتهم يجب أن تتم بطريقة تحفظ الكرامة وتقدم الرعاية دون أن نضطرهم للانتظار والمطالبة. وملف علاجهم كان ينبغي أن يصان مما شاهدناه من تزاحم من لا يستحق وحرمان من يستحق. كما أن السلطات الحالية واللاحقة مطالبة بوضع تشريعات تكفل الرعاية لمن أصبح منهم في عداد ذوي الاحتياجات الخاصة، وهي لا تقتصر على الرعاية المالية والعلاجية فقط، بل ينبغي أن تشمل تقديم التسهيلات الضرورية في كل المرافق والأماكن العامة التي تكفل لهم ممارسة حياتهم بأقل قدر من الإعاقة.

في يوم 17 فبراير من هذا العام تذكر الليبيون كل ذلك .. ومعه تذكروا العمل الإعلامي والسياسي الدؤوب الذي انطلق مع انطلاقة الثورة .. والاعتصامات والمسيرات … وقوافل الإغاثة  العاجلة .. وتذكروا التأييد الدولي لثورتهم .. تذكروا الحرب النفسية التي شنها الطاغية بتواز مع حربه الشرسة القذرة التي استخدم فيها كل أنواع الأسلحة …. فكان يوما من الذكرى استعادوا فيه مجريات الثورة ورجالها وتضحياتها ….

كانت كل المشاهد حاضرة في الذكرى الأولى لتفجر الثورة، وحق لها أن تكون، فهي مشاهد تاريخية ومصيرية. هي مشاهد صنعت ليبيا الثورة، وقادت الخطى نحو الحرية التي نعيش في كنفها اليوم. مشاهد اختلطت بالعرق والدموع واصطبغت بلون الدماء.  مع هذا  كله، كان ينبغي أيضا أن نتذكر أمورا محورية. فمن المهم جدا أن تكون في الأذهان الأسباب التي من أجلها ثار الليبيون،  والدوافع والأهداف التي دفعتهم لأن يقدّموا هذه التضحيات الجسام. هي بدون شك دوافع وأهداف في حجم التضحيات؛ لا تتوقف عند التخلص من شخص القذافي -على أهمية ذلك-، ولكنها كانت من أجل التخلص من حكم الطغيان بكل رموزه وشخوصه، وبكل ممارساته وسياساته، وبكل فساده وإفساده. لهذا كان الشعار الذي رفعه الليبيون منذ الأيام الأولى للثورة “الشعب يريد إسقاط النظام”. فهل تخلصنا فعلا من حكم الطغيان؟ هل انتهت سطوة رموزه وشخوصه على مقدراتنا؟ وهل غابوا عن مراكز ومفاصل الدولة؟ هل خلفنا وراء ظهورنا ممارسات الطاغية وسياساته وقوانينه؟ هل غابت عن المشهد تلكم الذئاب البشرية التي تتصيد فرائس المال العام لتنهشها ولتعيث فسادا في الأرض؟ هل أقمنا العدل بتقديم من أجرم في حق الشعب الليبي إلى المحاكمة؟ وهل نحن في الطريق الصحيح نحو إعادة بناء دولتنا التي حرمنا منها طيلة أربعة عقود؟.

كانت الذكرى الأولى مناسبة للتذكر ولاستعادة روح الثورة ودفقها وزخمها، واستعادة الثقة التي سادت بيننا، واستعادة التماسك والوحدة والتضامن الوطنيين. هي أيضا كانت مناسبة لتفعيل عهدنا مع الشهداء بأن دمهم لن يذهب هباء.

11 تعليقات

كتبه محمدالحوتي بتاريخ 2012/03/01 عند الساعة 01:27. رد #

واول اولئك الانجاس هو البراني اشكال الذي يتبجح الان بتحرير طرابلس وغيره الكثير من اعضاء المجلس المتسلقين

كتبه أنزار انتمورت بتاريخ 2012/03/01 عند الساعة 13:07. رد #

جزاك الله الف خير علي هذه الخواطر

كتبه sara ohaida بتاريخ 2012/03/01 عند الساعة 20:42. رد #

ان شاء الله نكون على قد مسؤولية الثورة .. دم الشهداء والأحباء اللذين فقدناهم لن يذهب هباء بإذن الله

كتبه فؤاد المنتصر بتاريخ 2012/03/12 عند الساعة 22:57. رد #

ونحن نحتفل بمضى عام على التحرير المجيد لقد احتفضت داكرة كل ليبى بهول دلك المخاض العسير,الا ان الفرحة سرعان ما تلاشت عندما نرى الوطن تمزقه الاراء ,وتفتح جراحه من جديد حينما ظهر شبح الفرقة يحلق فى سماء ليبيا الحرة

كتبه waseela بتاريخ 2012/05/07 عند الساعة 03:11. رد #

نتمنى التوفيق لحزب الجبهة..

كتبه ابوبكر محمد القطراني بتاريخ 2012/07/21 عند الساعة 16:03. رد #

نغم هناك مشاهد تاريخيه لا يمكن ان تنسي وهي مشاهد صنعها ابطال كان همهم هوا نصرة الوطن وليس غير ذلك …. اهنئك استاذ ابراهيم بترشحك للمؤتمر الوطني ونرجوا من الله ان يوفقك لما فيه خير هذا البلد وان يسدد خطاك لكل خير .

كتبه نادر محمد احمد بتاريخ 2012/07/21 عند الساعة 17:56. رد #

دم الشهداء أمانة فى اعناقنا ولا يجب ان يضيع هباء

كتبه الصادق مختار بن عصمان بتاريخ 2012/07/23 عند الساعة 19:58. رد #

أنتم رواد هده الثوره مند 1981 فلا يلهيكم شيئا دنيوي عن دعم و نصرة المضلومين و أخد حقوقهم كامله في هدا الوطن.

كتبه على الدينالى بتاريخ 2012/08/02 عند الساعة 16:48. رد #

املنا فبكم كبير فى المؤتمر الوطنى ونتمنى ان تكون رئيس لهذا المؤتمر

كتبه رضا جبران بتاريخ 2012/08/03 عند الساعة 14:06. رد #

أولا نشكر الأستاذ الفاضل إبراهيم صهد طويل النفس في طريق النضال المهجري وأشد على يديه فيما قرر وقدر ويجب إعادة توجيه النظر فيما قاله حول متابعة أحوال الثوار الأبطال بعين الإنصاف لتتحقق نواياهم التي قاموا من أجلها لنصرة الحق فهم:
شَبَابٌ قَدَّمُوا الأَرواحَ
وَاجتَاحُوا المَيادِينَا

وَهَدُّوا مَعقِلَ الطَّاغُوتِ
فِي شَتَّى أَراضِينَا

لماذا؟ كَي يَعيشَ النَّاسُ
حُكمَاً لَيسَ يُقصِينَا

لِمَاذَا؟ كَي يَزولَ الهَمُّ
عَن مَسرَى تَصافِينَا

لِمَاذَا؟ كَي يَعُمَّ الَخيرُ
فِي أَعلَى نَوَاحِينَا

لِمَاذَا؟ كَي يُرَدَّ الحَقُّ
لا جَوْرٌ فَيُعْينا

لِمَاذَا؟ كَي يَكونَ العَدلُ
بَينَ النَّاسِ مُفْتِينَا

بِهَذا سَوفَ نَذكُرهم
وَهذَا العِزُّ يَكفِينَا

سَنَحفظُ عَهدَهُم أَبدَاً

وَلا نَبغِي المُضِلِّينَا

وإِنَّا لَن نُكَافِئَهُم
إِذَا عَادُوا وَحَابَيْنَا

كتبها/ رضا محمد جبران
أبو طه الأمين
2/10/2011

كتبه younis alhassi بتاريخ 2012/08/06 عند الساعة 14:02. رد #

بالتوفيق الدكتور ابراهيم ونسأل الله لك التوفيق ولكل اعضاء المؤتمر الوطني إلي مايحب الله ويرضا

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.