على هامش قمة سرت

انفضت القمة العربية ..

وتنفس الزعماء العرب الصعداء ..

وتجرعت الشعوب العربية مرة أخرى مغبة السير وراء أوهام سراب القمم العربية.

وبقي المنظور العربي العام على ما هو عليه من هوان وذل وتخلف ..

وازداد العدو صلفا وتجبرا؛ تمسكا بباطله، وسخرية من أمة بلغت أرذل حالات الهوان على أيدي قادتها..

وتأكد للعالم أن الحل الأمثل “لحل” القضية الفلسطينبة لن يكون إلا بمزيد من الضغط على العرب لتقديم التنازلات تلو الأخرى.

لا حد لأطماع إسرائيل .. ولا حد لتنازل العرب.

لا حد لصلف إسرائيل .. ولا حد لهوان العرب

تنفس الزعماء العرب الصعداء بعد أن انفضت قمّتهم دون أن يضاف شرخ جديد إلى جدار العلاقات الشخصية بينهم، وعلاهم البشر والسرور لمجرد أن هذا الجدار باق على حالته الراهنة الآيلة للسقوط، ولم يتهاوى بعد .. وهذا هو المهم لديهم .. أما غير ذلك فهو من سقط المتاع طالما لا أحد يملك حق محاسبتهم عليه..

لم يعد هناك أحد يستطيع أن يزايد على أحد؛ فقد انتهى عهد المزايدات بعد أن تعرى كل زعيم برداء الفشل، وغرق كل منهم في ضحالة العجز الكامل،  أما زعيم المزايدين وعميدهم فقد انشغل هذه المرة بكرسي الرئاسة ووجد أن الأولى له في هذه القمة أن يمارس دور الغُراب حين يكون دليل القوم على أن يمارس دورالأراجوز الذي تعودت عليه القمم السابقة… لم يعد في إمكانه المزايدة بأن أوراق القمة العربية معروفة سلفا؛ ذلك لأن نائب وزير الخارجية الأمريكي فضح المستور بتصريح له من وسط طرابلس وعلى الأشهاد أن محادثاته مع القذافي قد شملت جدول أعمال القمة العربية التي كانت ستعقد بعد أيام من الزيارة .. هذا ما دعا بعض المراقبين إلى التساؤل هل لهذه الزيارة دور في تدجين القذافي وفي عزوفه عن مزايداته ومناداته بتحرير القدس والضفة والجولان بكل الوسائل بما في ذلك “البردم” الذي ما زال خبراء السلاح وعلماء اللغة حائرين في معرفة كنهه، وما زالت دوائر الاستخبارات تتعقبه فربما يكون سلاحا سريا آخر من أسلحة الدمار الشامل.

غرق القذافي في كرسيه  .. ليدير اجتماع قمة سيسجل التاريخ أنه اجتماع لا يحمل من القمة حتى اسمها .. اجتماع باهت لا لون له ولا طعم .. ولكن رائحته فاحت حتى زكمت الأنوف .. لم يرتق الاجتماع إلى اتخاذ قرار واحد يتماهى مع ما يمور في الساحة العربية من تطلعات، ويرقى إلى حجم القضية وعظم المصيبة، ويواجه التحديات السافرة التي تعمّد العدو أن يلقيها ويختار لها مناسبة القمة. فشل الزعماء العرب في مؤتمر سرت أن يتخذوا قرارا واحدا يحاججون به أمام شعوبهم وأمام التاريخ، بل أمام الله.

انفضت اجتماعات الزعماء العرب وأراضي القدس يتم ابتلاعها يوما بعد يوم على مرأى منهم  .. والمستوطنات القائمة يتم توسيعها وتفرخ في كل يوم مستوطنات جديدة على مسمع منهم .. والجدار قائم لم يفشل العرب في تفعيل قرار المحكمة الدولية بشأنه فحسب ، بل إنهم عملوا على تأكيد “مشروعية الجدار” حين مدوا جدارا لا يمنع عن الفلسطينيين الهواء فحسب ولكنه يسد الهواء وما يمكن أن يكون متنفسا تحت الأرض ..

انفضت اجتماعات الزعماء العرب وقوات العدو تجتاح الضفة والقطاع كما تشاء .. وأهل غزة يقاسون مرارات الحصار الإسرائيلي الذي بات مدعوما بحصار عربي .. والأسرى الفلسطينيون لدى العدو في ازدياد دون أن يذكرهم أو يتذكرهم أحد .. والأسير الإسرائيلي الوحيد تتنادى بعض الدول العربية لبذل الوساطات لإطلاق سراحه وللضغط على حماس كي ترضخ وتعيده دون قيد أو شرط أو بتسوية أخرى من التسويات البخسة الكثيرة التي أجاد الزعماء العرب إبرامها حول القضية الفلسطينية منذ تدخلهم في مجرياتها بدءا من عام 1936 -حين فضوا الإضراب الفلسطيني الشامل- وإلى يومنا هذا.

انفضت اجتماعات الزعماء العرب تحت تهديدات “ناتانياهو” بحرمان العرب حتى من ورقة التوت المسماة بالمفاوضات المباشرة إلا إذا تمت تحت شروطه المذلة ودون الإخلال بأي منها .. “ناتانياهو” ومن قبله كل قادة إسرائيل ضربوا بعرض الحائط كل اتفاق كان لهم مع الفلسطينيين، ومع العرب .. فمزقوا أوراق اجتماعات مدريد ورموها في القمامة .. وأصبحت أوسلو في خبر كان .. وجفت مياه “واي ريفير” .. وأصبحت لقاءات “كامب ديفيد” مجرد تخاريف وأوهام .. أما خارطة الطريق التي يتشدق بها دائما عباس وعريقات فقد أصبحت طريقا تتغير ملامحها ومعالمها كلما حدثت انتخابات إسرائيلية، بل إنها  غدت طريقا مهجورا يقود إلى هاوية سحيقة لا تؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية فحسب، بل إلى تصفية الشعب الفلسطيني وإنهاء وجوده .. هذا كله في الوقت الذي يتمسك فيه زعماء عرب باتفاقاتهم مع إسرائيل وينفذونها بحذافيرها، ولا يجرؤ أحد منهم أن يستدعي سفيره حتى من قبيل الاحتجاج .. لم نسمع من قبل أن اتفاقية مهما بلغت مرجعياتها وقوتها تحول دون أن تُعمل الدول سيادتها وتستدعي سفيرها أو تطرد سفيرا أو دبلوماسيا إذا ما دعت الضرورة ذلك، ومتى تكون الضرورة إن لم تكن من أجل وقف مجزرة غزة المستمرة .. ومتى تكون الضرورة إن لم تكن من أجل المسجد الأقصى والخليل .. لكن كيف نطلب إجراءً مثل قطع العلاقات أو تجميدها أو حتى إجراء استدعاء السفراء العرب لدى إسرائيل أو غير ذلك من الإجراءات السيادية التي عجزت عنها دول تدّعي السيادة .. كيف نطلب ذلك والدول العربية لم توقف إمداد إسرائيل بالسلع الاستراتيجية .. وبمبررات إقامة الدول الأخرى لعلاقات استراتيجية مع إسرائيل .. كيف نطلب ذلك وقد تحولت بعض الدول العربية إلى أسواق استهلاكية للمنتجات الإسرائيلية .. وأصبح الميزان التجاري مع إسرائيل في تصاعد لصالح الأخيرة … كيف نطلب ذلك والدول العربية تتسابق في العلن والخفاء لإقامة أو تمتين علاقاتها مع إسرائيل…

العدو يعربد ويهدد .. وينفذ إرادته على الأرض .. ويستمر في اقتطاع الأراضي الفلسطينية وتشريد الفلسطينيين .. ويتجسس ويرتكب جرائم اغتيال فوق الأراضي العربية .. أما الزعماء العرب فيلجأون إلى الاستكانة .. منهم من طلب من القمة أن تتخذ قرارا بأن السلام خيار استراتيجي .. وكأن المبادرة العربية التي قبرتها إسرائيل لم تقل هذا ولم تستجد السلام .. وكأن العرب قد جاءوا لتوهم من حرب لا تُبقي ولا تذر مع إسرائيل، فهم بذلك يعلنون التحول من خيار الحرب إلى تغليب السلم .. أما عباس.. الثائر عباس .. رئيس السلطة ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية .. لم يجد شيئا يقوله سوى أن المقاومة ينبغي أن تكون سلمية ولا تخرج عن ذلك .. ونسي أن المقاومة من طرفه قد توقفت منذ اتفاقية أوسلو التي جرى توقيعها على أشلاء الانتفاضة الفلسطينية الرائعة .. نسي عباس بأن أوسلو وأخواتها لم تكن ممكنة دون الانتفاضة  .. ونسي أن السلطة نفسها قد جاءت على حساب دماء شهداء الانتفاضة .. ولكنه لم ينسى أن يُذِّكرنا بما يسميه انقلاب حماس .. وأي انقلاب قام به طرف فاز بصورة كاسحة في انتخابات شعبية شهد لها القريب والبعيد بأنها أنزه انتخابات شهدتها الأرض العربية على الإطلاق ..

انفضت القمة دون أن تنظر في قضايا تأكل الجسد العربي .. دع قضية فلسطين عنك .. واترك الجولان جانبا .. ولا تتحدث عن حصار أهلنا في غزة .. ولا تتطرق إلى دار فور ولا إلى مجازر الصومال .. وانس مصيبة العراق … وغض الطرف عن الانشقاق الوشيك في اليمن .. والأحوال المتردية لمعايش الشعوب العربية .. ولا تفكر مجرد التفكير أن القمة قادرة على بحث قضايا حقوق الإنسان .. وحقوق الشعوب العربية في تقرير واختيار ومحاسبة حكامها .. لا تفكر في هذه الأمور فوجود هؤلاء على طاولة القمة إنما جاء لغياب هذه المسائل عن الواقع .. ولذا فما أهون أن تغيب عن صالة الاجتماع.

انفضت قمّة سرت بعد أن سجلت أرقاما قياسية: في سوء الإعداد .. وتدني التمثيل.. وارتفاع سقف العجز .. وتدني سقف الإنجاز، بل وانعدامه .. قمة أبرز ما فيها “هرجلة” الأمين العام عمرو موسى المعتادة،  وقمة ساد فيها الارتجال .. من اقتراح إقامة اتحاد عربي من رئيس يواجه انشقاقا في بلاده، ومن ضرورة البحث عن علاج للعمل العربي المثخن بجراح المزايدات والعجز، إلى تكوين رابطة دول الجوار .. وجاءت جلسات القمة ركيكة ومملة حتى للروساء أنفسهم الذين ألغوا جلسات هي بمثابة نصف القمة .. ولم يكن مفاجئا أن يأتي البيان الختامي هزيلا بحيث لم يجد أحد الجرأة على تلاوته في جلسة ختامية ..

قمّة لا يمكن أن توصف إلا بأنها قمّة العجز .. والارتجال .. والإرجاء. وهل يُتوقع من اجتماع كهذا إلا أن يتمخض عن هذه النتائج البخيسة. نتيجة واحدة كانت واضحة وهي مقدار عزلة الزعماء العرب عن الشعوب العربية، وعدم اكتراث الجماهير لهذه القمّة .. حقيقة أدركها كل المتابعون وياليت الزعماء العرب يدركونها أو يحسون بها.

انفضت قمة سرت دون أن يسأل الزعماء العرب عن وثائق التفويض التي يحملها رئيس القمة ووزير خارجيته ..  ما هي الصفة التي تخول معمر القذافي أن يترأس القمة .. فهو يدعي ويصر على أنه ليس رئيسا للبلد المضيف “ليبيا” .. فبأي صفة يحضر القذافي مؤتمر القمة ويترأسه؟ ..

سأل صحافي أحد أعضاء الوفود العربية الحاضرة في القمة، لماذا جاءت النتائج مخيبة حتى لأدنى أدنى الآمال؟ .. فكانت الإجابة حرفيا .. وماذا كنت تتوقع من قمة يترأسها القذافي الذي لا يملك حتى شرعية الحكم في بلاده، ولا يثق فيه أحد من الرؤساء والملوك لسوابق تعاطياته معهم، وماذا كنت تتوقع من قمة يرأس مجلسها الوزاري وزير خارجية لا يملك من المؤهلات إلا خلفيته البوليسية القمعية، وماذا كنت تتوقع من قمة تديرها جامعة أمينها العام هو عمرو موسى الذي لم يعد يجيد حتى الكلام، وماذا كنت تتوقع من قمة جاؤوها لأداء طقوس باتت ثقيلة على نفوسهم، وللخروج

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.