المرجعية الدستورية .. وكيف تتحقق

لا شك أن الاستحقاق الدستوري بات يشكل أهم مفردات المرحلة الانتقالية، كما أنه يمثل الركيزة الرئيسة لبناء الدولة الليبية الجديدة التي نريدها مبنية على المرجعية الدستورية، وعلى سيادة القانون، وعلى ممارسة السلطة من خلال مؤسسات تتولى مهامها عن طريق التخويل الشعبي، وتخضع لرقابة ومحاسبة الأمة، وتنضبط صلاحياتها بموجب الدستور.

هذه ورقة تحاول أن تسلط الضوء على مسألة غاية في الأهمية، وهي: “المرجعية الدستورية، وكيف تتحقق”

وهو موضوع واسع ومتشعب ومهم جدا، يحتاج بحثه إلى وقت أطول، ولهذا فستكون هذه الورقة مركزة وملخصة، وبمثابة رؤوس أقلام للمباحث التي يحتويها الموضوع. ويحدوني الأمل في أن تكون هذه الورقة جزءا من حوار يمتد بيننا حول الدستور: أهميته وما يقدمه للأمة وللحكومة .. والشروط الواجب توافرها في الوثيقة الدستورية. وهو حوار لا غنى عنه في مضمار التطور الدستوري للأمة الليبية، ينبغي أن يبدأ ويتواصل، نراجع من خلاله تجربتنا الدستورية السابقة، ونستطلع تجارب غيرنا من الأمم، ونؤسس وفاقا وطنيا حول المطلب الدستوري، لا من ناحية المبدأ فحسب، ولكن ليشمل كل النواحي المحيطة بالمسألة الدستورية.

وفي البداية ينبغي الإشارة إلى أمرين، أرى أن من الضرورة بمكان أن يكونا حاضرين أثناء أي بحث أو حوار حول المسألة الدستورية في ليبيا:

أولا: أن الحكم الهمجي المنهار قام أساسا على إلغاء الدستور ومقاومة المطالبة به ثم تسفيه الفكرة الدستورية من أصلها. تم ذلك على مدار سنوات حكمه العجفاء. ولهذا فلا بد أن ندرك أن هذا الحكم قد ترك بصمات أثّرت على رؤية الناس وتقديرهم لأهمية الدستور، فاختلفت نظرتهم إلى مكانة الدستور ضمن الأولويات التي تعترض بناء الدولة، كما اختلفت نظرتهم إلى أهمية ضبط الآلية التي يتم بها صياغة مسودة الدستور. بل إنك لا تعدم من يقول بأن الدستور كمالية وليس ضرورة أساسية. هذه البصمات ناشئة عن حجم حملات التجهيل المقرونة بالقمع التي مارسها الحكم المنهار لمدة أربعة عقود.

ثانيا: أن أطروحات بدأت تنشأ وتعمم، منها ما يقول بإمكانية صياغة مسودة دستورية في مدة زمنية لا تكفي حتى للاتفاق على الأسس التي ينبغي أن ينبني عليها دستور الدولة، ومنها ما يقول بإمكانية صياغة مسودة الدستور من قبل لجنة معينة (ومن يعينها؟)، ويستبعد بالتالي انتخاب الجمعية التأسيسية، ومنها ما يخلط خلطا شائنا بين الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الانتقالي ومسودة الدستور المرتقبة التي ستكون الوثيقة الأولى نحو الدستور الدائم، ومنها ما يريد بطريقة مباشرة أن يجعل مسألة التطور الدستوري مقصورة على “النخب” وعلى حملة الشهادات القانونية ويبعد عنها عموم الأمة الليبية، ومنها ما يقدم نصوصا جاهزة من إعداد شخص أو عدة أشخاص تطرح على أنها تصلح لأن تكون مسودة للدستور. وواضح أن هذه الأطروحات تخل إخلالا جوهريا بما تعنبه الوثيقة الدستورية، وما تتطلبه صياغتها من خطوات وآليات، وتخل بمفهوم العلاقة بين الأمة ودستورها، وما ترتجيه الأمة من هذا الدستور.

هذا يملي علينا أن نسعى إلى تكوين فهم عميق وشامل لأهمية الدستور ودوره في الحياة السياسية للأمة، حتى نتمكن من تعميق وعينا بالدستور، ومن مواجهة الاستحقاق الدستوري بطريقة تكفل للأمة المشاركة الفعلية الواعية في أي تطور دستوري جديد.

تمهيد

كثيرا ما يجري الخلط بين مصطلحي العقد الاجتماعي، والقانون الدستوري. وهما وإن كانا مختلفين، إلا أنهما متداخلان ويكمل أحدهما الآخر.

وإذا ما نظرنا إلى كل دولة لوجدنا أنها نسيج يربطه عقد اجتماعي، قد يكون مكتوبا أو متعارفا عليه. وقد تقرر اعتبارات التاريخ والجغرافيا هذا العقد، وقد تقرره اعتبارات الأعراق والانتماءات والمصالح المشتركة، أو قد تقرره اعتبارات سياسية متنوعة. ومن هنا نجد فقهاء القانون يعتبرون “العقد الاجتماعي الأداة التي التزم أفراد المجتمع بمقتضاها بالرابطة المشتركة وانتظموا فيها”، أي بمعنى آخر فإن العقد الاجتماعي هو المؤسس للدولة.

أما الدستور، فيذهب فقهاء القانون بشكل عام، وفقهاء القانون الدستوري بشكل خاص إلى أن دستور الدولة “يمثل الإطار العام لكل من شرعيتها ومشروعيتها ، فهو الأداة التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها، وتحدد السلطات، وكيفية تكوينها واختصاصها والعلاقة فيما بينها، كما تبين الحقوق والواجبات”.

وباختصار فالدستور هو “القانون الأساس الذي يكون ركيزة لنشوء الدولة القانونية وأساساً لسيادة القانون، وحائلا دون ممارسة الاستبداد والانحراف بالسلطة”، فالدستور ينظر إليه على أنه أسمى من القوانين العادية، وهذا السمو هو الضمانة لحقوق الأفراد وحرياتهم.

مما تقدم، نستطيع أن نرى العلاقة بين العقد الاجتماعي والدستور، فالأول تولى إنشاء الدولة والثاني تولى تنظيمها. ولهذا يقول بعض فقهاء القانون: بأن الدستور المدون هو تجديد لذلك العقد وترسيخ له.

وفي الحالة الليبية، فقد تمثل العقد الاجتماعي في اتفاق الليبيين على إقامة دولة ليبيا بحدودها المعروفة، ثم في اتفاق الجمعية الوطنية التأسيسية في 2 ديسمبر 1950 على إصدار قانونين أساسيين حول شكل الدولة ونظام الحكم. ثم جاء إقرار الجمعية الوطنية التأسيسية للدستور الليبي في 7 أكتوبر من عام 1951، ليؤسس الدولة وينظمها ويحدد الأسس والعلاقات بين أجهزة الحكم بعضها بعضا وعلاقتها بعموم الأمة الليبية.

وإذا كان الانقلاب العسكري قد مثل تعديا على مؤسسات اكتسبت شرعيتها من الدستور، فقد أدى إلغاء الدستور إلى تغييب المرجعية الشرعية نفسها. النتيجة لم تقتصر فحسب على استبداد الحكم وانحرافه بالسلطة الوجهة غير الشرعية، ولكنها شملت علاوة على ذلك تكريس وتقنين وممارسة العنف والقمع للانفراد بالتشريع والقرار، وللحيلولة دون مشاركة الأمة الليبية في كافة القرارات سواء تلك التي تشكل حاضر ومستقبل الدولة، أو التي تعني بشؤون المواطنين في الداخل، أو المتعلقة بالعلاقات الدولية. ليس هذا فقط، بل إن الحكم اعتمد سياسة تسفيه الدستور، والاستهزاء بمكانته، وقمع كل المطالبين به، ورفض كل الأدوات والآليات التي يمكن أن تقود إلى العودة إلى الشرعية الدستورية.

على هذه الخلفية أسست المعارضة الليبية –منذ انطلاقها- مطالبها وأهدافها، وصاغت هذه المطالب بعدة صيغ، تتفق جميعها في مسألتين:

الأولى: ضرورة انتهاء الحكم الهمجي. باعتباره حكما فاقدا للشرعية منذ استيلائه على السلطة، ولاتصاف ممارساته في غياب هذه الشرعية بالديكتاتورية والقمع والقهر، ومصادرة وانتهاك حقوق وحريات المواطن الأساسية.

 الثانية: ضرورة العودة بالبلاد إلى الشرعية الدستورية.

وقد تحقق الهدف الأول، أوعلى وشك أن يتحقق بفضل الله تعالى ثم بفضل ثورة فبراير المباركة، لكن الهدف الثاني مازال يتطلب منها جهدا جماعيا مكثفا، وحكمة تتجاوز المصالح الضيقة، وحوارا مفتوحا شفافا، واستيعابا لكل الطيف السياسي والشرائح الاجتماعية للأمة الليبية. إنه استحقاق لا يقبل الاقصاء، ولا يقبل الانفراد، ولا يقبل التعجل.

وحين نتحدث عن “الشرعية الدستورية”، فنحن نعني استناد الحكم القائم على الدستور لاكتساب سلطة مشروعة لممارسة الحكم، أي ضرورة وجود دستور للدولة يقرر شكل الدولة، وينظم شؤون الحكم، ويحدد العلاقات، ويقرر الحقوق والواجبات، ويكون وثيقة حاكمة على كافة القوانين والتشريعات، ويشكل مرجعية يتحاكم إليها أطراف العقد الاجتماعي الذي تكونت على أساسه الدولة.

لكن من أين تستمد الوثيقة الدستورية قوتها في منح الشرعية للحكومة، وفي إرساء وصيانة القواعد والضوابط، وفي صفتها الحاكمة على القوانين والتشريعات؟

وبسؤال آخر كيف يمكن للدستور أن يشكل مرجعية للأمة؟

وهل كل وثيقة دستورية يمكنها أن تحوز على هذه المرجعية؟

في الواقع فالوثيقة الدستورية في حد ذاتها –مهما كانت متانتها-، لا يمكنها أن تشكل مرجعية ما لم تكن نابعة من الأمة، معبرة عن إرادتها الحرة، حائزة على قبولها، مجسدة لمصالحها. أو بمعنى آخر محققة لإعمال مصدرية الأمة، كشرط لترسيخ مرجعية الدستور، وهذا لا يتحقق إلا بتوافر جملة من الشروط والأسس التي تشمل كل ما يتعلق بالوثيقة الدستورية، وعلى الأخص في الجوانب التالية:

  1. آليات وأدوات وضع وإقرار الدستور.
  2.  محتويات الوثيقة الدستورية.
  3. وعي الأمة بمكونات الدستور وبمكانته.
  4. احترام وصيانة وحماية الدستور.

أولا: آليات وأدوات وضع وإقرار الدستور:

فيما يتعلق بآليات وأدوات وضع وإقرار الدستور، يجب أن يراعى فيها تحقيق الإرادة الحرة للأمة ومشاركتها في وضع الدستور وإقراره، وعلى الأخص في ثلاثة أمور:

أولها: أن تتم صياغة الدستور من قبل جمعية تأسيسية تنتخبها الأمة في اقتراع سري تتوافر له كل شروط النزاهة والحيدة، وتتاح فيه الفرص لكل من يأنس في نفسه أو في نفسها الأهلية بالترشح، ويتاح فيه الحق لكل مواطن ومواطنة ممن بلغوا السن القانونية للإدلاء بأصواتهم. وغني عن القول فإن أية محاولة لوضع الدستور من قبل شخص أو حزب أو جماعة بدون أن يتوافر لها شرط التكليف الشعبي المباشر سيكون منقصة تعصف بمرجعية الدستور من أساسها. مما سيعرقل حتما مسألة التطور الدستوري.

ثانيها: أن تحوز الوثيقة الدستورية على قبول الأمة، وذلك بأن يتم طرح مشروع الدستور على الأمة لإقراره في استفتاء عام. هذا الاستفتاء ينبغي التعامل معه على كونه استفتاء تأسيسيا تتخذ بصدده كافة التدابير التي تكفل شموليته ووضوح مادته ونزاهته، وتُطمئن الأمة على نتائجه، حتى لا يبقى شك في سلامة هذه النتائج وفي كونها تمثل الإرادة الحرة للأمة، كما تتخذ فيه التدابير التي تيسر المشاركة في الاستفتاء للمواطنين والمواطنات في كل المناطق . ومن المهم أن يكون واضحا للمستفتين المآل الذي سوف تصير إليه الأمور في حالتي إقرار مشروع الدستور أو عدم إقراره، والنسبة المطلوبة لإقراره والمصادقة عليه.

ثالثها: مشاركة الأمة في كافة مراحل إعداد الوثيقة. وبدون شك فإن عملية التوصل إلى وثيقة دستورية تلبي متطلبات الأمة ليس بالأمر الهين أو البسيط، ولن يكون في الإمكان تحقيقه بمجرد اختيار جمعية تأسيسية – مهما حسن هذا الاختيار-، ولكن الأمر يتطلب مشاركة شعبية كاملة. هذه المشاركة يمكن تحقيقها عن طريق انتهاج أسلوب الحوار في كافة المراحل (مرحلة الإعداد لانتخابات الجمعية، وأثناء الانتخابات نفسها، وفي مرحلة انعقاد الجمعية ومداولاتها، وبعد إقرار الجمعية النص النهائي لمشروع الدستور، وصولا إلى الاستفتاء). وينبغي إتاحة المشاركة في الحوار أمام كل الشرائح والفئات والمنظمات السياسية والمهنية، وألا يكون مقصورا على النخب فقط، أو على من تختارهم السلطة الانتقالية. هذا الحوار من شأنه أن يحقق عدة مقاصد تخدم كل مراحل إعداد الدستور وإقراره، وتخدم النص الدستوري نفسه، كما تؤدي إلى تأسيس وعي شعبي بالدستور وبأهميته.

ثانيا: محتويات الوثيقة الدستورية:

الأساس الثاني لمرجعية الوثيقة الدستورية، يكمن في المحتوى، وفي هذا الصدد ينبغي للنص أن يحقق جملة من المتطلبات:

أولها: ينبغي أن يكون نابعا من الأمة، وذلك بأن يستند على المرجعية العليا الأساس للأمة؛ فلا يمكن أن تتم صياغة الدستور عن طريق استيراد نصوص دون إعمال النظر فيها، ودون وزنها بميزان انسجامها مع طبيعة الأمة وعقيدتها وتركيبتها ونسيج المجتمعات والأعراق المكونة لها. إن إغفال هذه الحقائق وتجاهلها كفيل بأن يجعل من الدستور نصوصا غريبة تفتقر إلى الجذور، ولن يتأتى ارتباط الأمة به وحرصها عليه ودفاعها عنه.

 ثانيها: ينبغي أن يكون الدستور محققا لمصالح الأمة في حياة سياسية مستقرة، وذلك باشتماله الضوابط والنظم التي تُعرِّف الحقوق وتكفلها، وتنظم العلاقة بين العناصر والأدوات والآليات التي تدير وتسير شؤون الحكم، وتحول دون نزعات الاستبداد والاستئثار بالحكم، وتنظم أسلوب التداول السلمي للسلطة، وتحقق المساواة بين المواطنين.

ثالثا: ينبغي أن يكون الدستور محتويا على آليات وضوابط تحقق سموه على كافة القوانين، وتحقق إعماله وتنفيذه، وأن يشتمل على آليات تكفل حمايته وصيانته، كما ينبغي أن يشتمل على آليات مراجعته وتعديله.

ثالثا: وعي الأمة بمكونات الدستور وبمكانته:

الأساس الثالث لمرجعية الوثيقة الدستورية، يتعلق بضرورة تكوين وإدامة وترسيخ الوعي بمكونات ومكانة الدستور بين كل سلطات الحكم، وكذلك في الأوساط الشعبية. هذا الترسيخ يتم بإعمال الدستور واحترامه، وبتكوين ثقافة دستورية لدى كل شرائح المجتمع، وباعتماد هذه الثقافة في مراحل التعليم، ومن خلال الوسائط الإعلامية المختلفة. الوعي يعزز موقع الدستور ويرسخ مرجعيته، وغياب الثقافة والوعي بالدستور تؤديان إلى إهماله وتجاوزه، بل إن شعبا لا يلم بمكونات الدستور ولا يدرك أهميته لن يصر على إعماله وسيكون عرضة للتفريط فيه بكل سهولة.

رابعا: احترام وصيانة وحماية الدستور:

الأساس الرابع لتحقيق مرجعية الوثيقة الدستورية، يكمن في احترام وصيانة وحماية الدستور. إن الدستور وحده لا يستطيع أن يحمي نفسه، ولا يمكن لأية نصوص مكتوبة –مهما بلغت قوتها- أن تقدم وحدها حماية للدستور. لكن الدستور يستمد حمايته وصيانته من أمرين:

الأول: إرادة الأمة بأكملها في إعمال الآليات المنصوص عليها لاحترام الدستور وحمايته.

الثاني: تعاهد الأمة بكل مكوناتها على حماية الدستور وصيانته.

وغني عن القول فإن هذه الإرادة والتعاهد تستمدان قوتهما من تحقق كل الأسس والشروط التي سبق الحديث عنها (أولا – ثالثا).

خاتمة

وفي الختام لا بد من إعادة التأكيد على أهمية الحوار الجاد بين أبناء الأمة الليبية أثناء المرحلة الانتقالية؛ حوار يتم من خلال الحراك السياسي والإعلامي الذي انطلق مع بواكير انتصارات ثورة فبراير، وهو حراك لم يطلب إذنا من أحد، ولا ينبغي السماح لأحد أن يحاول وأده. وهو حتما حراك يستهدف المشاركة في التطور الدستوري المنتظر، بل إنه يستهدف بدايةً المشاركة في صنع مسودة الدستور، بدءا من تحديد آليات صياغة هذه المسودة، والمشاركة في تشكيل هذه الآليات وفي عملها الذي ينتهي بإصدار المسودة وعرضها على الأمة الليبية للاستفتاء العام. وسيكون من حق كل الليبيين أن يعبروا عن إرادتهم بكل حرية وبدون أية كوابح.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.