التعويضات الإيطالية وملف المعتقلات الجماعية

مرة أخرى يدور الحديث عن قرب التوصل إلى اتفاق تقوم إيطاليا بموجبه بالتعويض عن الفظائع التي ارتكبتها أثناء استعمارها لليبيا خلال القرن الماضي. كل ما سمعناه حول هذا الموضوع معلومات وردت على لسان سيف القذافي ضمن تبجحه بهذا “الإنجاز” الذي لم نسمع شيئا عن تفاصيله من الجهات ذات الاختصاص في حكم القذافي ولا في الحكومة الإيطالية.

ما رشح من معلومات تؤكد أن هذه التعويضات ستكون في حدود مليار دولار فقط وستتم في صورة عينية بقيام  شركات إيطالية بإصلاح الطريق الساحلي الذي يمتد عبر الأراضي الليبية دون أن تحدد طول الطريق التي يجري الحديث عنها، وما إذا كان المعني كل المسافة من رأس اجدير إلى مساعد أم بعضها، ولا مواصفات هذا الإصلاح. إن صح هذا الأمر وهذا المبلغ، فسيكون ذلك أبخس تعويض في التاريخ، وسيكون أقذر مقايضة تتم على حساب الشعب الليبي الذي وضع على مائدة اللئام بكل ما تعنيه الكلمة.

ولقد سبق لي أن كتبت مقالا حول هذا الموضوع، أثرت جملة من التساؤلات المشروعة التي ينبغي للمفاوض الليبي أن يضعها نصب عينيه حتى لا يتحول الموضوع وكأنه منة أو إعانة تقدمها إحدى الدول الأوروبية لدولة إفريقية محتاجة، أو أنه من قبيل الإحسان ، وحتى لا تكون عملية إصلاح هذا الطريق، وهذه القيمة المالية المذكورة هي كل ما ينبغي على إيطاليا تقديمه تعويضا عن استعمارها الاستيطاني الغاشم الذي طال ليبيا أرضا وشعبا، وحتى لا يتحول الأمر إلى مجرد تبجح من ابن القذافي تضيع فيه حقوق الشعب الليبي، ويقفل هذا الملف الدامي بتعويضات بخسة هي لفائدة الشركات والخزانة الإيطالية في المقام الأول.

إن موضوع التعويض عن فظائع الاستعمار الإيطالي في ليبيا لا ينبغي أن يوضع في أيدي عابثة لا تبتغي من ورائه سوى التبجح به كأنه إنجاز ضخم أمام الرأي العام الليبي، ولبناء هالة كاذبة أخرى في مسلسل خداع الشعب الليبي، وفي نفس الوقت اتخاذه وسيلة لتبييض الوجه مع الطليان وحلفائهم.  كان ينبغي أن تدار أمور هذا الملف بكل شفافية وعلنية ومن قبل أخصائيين، كما كان ينبغي التحضير الجيد لهذه المسألة بإعداد الملفات التي تحتوي تفاصيل الأضرار التي لحقت بالشعب الليبي. وكان ينبغي إشراك الجهات الاعتبارية التي يمكنها أن تنوب عن جوانب الصالح العام للشعب الليبي، علاوة على مشاركة ممثلين عن المتضررين مباشرة سواء في ذواتهم أو ذويهم. هذا الموضوع هو موضوع حكومات وليس موضوع “لجان خيرية”، وهو موضوع حقوق وليس موضوع استجداء، وهو موضوع استحقاقات وليس موضوع مقايضات .

إن التساؤلات لا تزال مطروحة وبكل قوة: هل القيمة الكلية لمشروع إصلاح الطريق الساحلي تعتبر مجزية ومكافئة للتعويضات الحقيقية التي تترتب على ثلث قرن من أعتى أنواع الاستعمار الاستيطاني؟ هل هذه التعويضات تأخذ في الاعتبار الجرائم السياسية والإنسانية والاقتصادية التي ارتكبنها إيطاليا ضد الليبيين؟ ثم ما الثمن الذي تريده إيطاليا لقاء هذا التعويض البخس؟

للإجابة على هذا السؤال ينبغي طرح الملفات التي يجب أن يتم التعويض عنها، وهي ملفات كثيرة يتطلب إعدادها جهدا ووقتا وخبرة في تجميع مادتها والمعلومات الكاملة عنها. من هذه الملفات:

  1. عمليات النهب المنظم المستمر الذي قامت به إيطاليا، ومصادرة أراضي وممتلكات الليبيين والاستيلاء عليها.
  2.  قيام الشيشليان باستغلال الأراضي والقدرات والإمكانات الليبية لمدة ثلث قرن مع حرمان الليبيين منها.
  3. الحرب الوحشية التي شنتها إيطاليا ضد الليبيين واستخدامها لكل أنواع الأسلحة ضدهم، وما نتج عن هذه الحرب من ضحايا وكوارث.
  4. عمليات القتل الوحشي التي مارستها إيطاليا عن طريق الإعدامات العلنية الجماعية لمواطنين ليبيين.
  5. تجنيد الليبيين غصبا ودفعهم إلى حروب إيطاليا في الصومال والحبشة وأريتريا  وفي الحرب العالمية الثانية، عشرات ألوف الليبيين جندتهم إيطاليا وآلاف منهم لم يعد من هذه الحروب.
  6. نفي أعداد كبيرة من الليبيين إلى منافي في جزر ومواقع إيطالية، منهم من عاد مثقلا بالأمراض النفسية والجسدية، ومنهم من لم يعد ولم يعرف مصيره حتى الآن.
  7. نصب السياج على الحدود الليبية الشرقية وفرض الحصار على الناس وتجويعهم بغية السيطرة عليهم وقهرهم، وما ترتب عن ذلك من معاناة ومجاعات وأمراض ووفيات.
  8. اضطرار أعداد كبيرة من العائلات والقبائل الليبية إلى الهجرة هربا من القهر الفاشيستي، وما تعرضوا له من معاناة خلال اغترابهم خارج البلاد.
  9. ملايين الألغام التي زرعتها إيطاليا في الأراضي الليبية هي وحلفاؤها الألمان إبان الحرب العالمية الثانية. ضحايا هذه لألغام يعدون بعشرات الألوف بين وفيات ومعوقين في مناطق طبرق والبردي والبطنان ومسوس وانتيلات والجبل الأخضر وبنغازي وغيرها من المواقع التي بعثر المحور فيها الألغام لحماية جنوده وتكريس احتلال ليبيا، هذا علاوة على ما سببته هذه الألغام وتسببه حتى الآن من تعويق لكثير من مشاريع التنمية، وما تكبدته الخزانة الليبية من مصاريف لإزالة الألغام من بعض المناطق التي قضت الحاجة إلى تطهيرها. مسؤولية إيطاليا وحلفاؤها تتضاعف إذا ما عرفنا أنها هي من رفضت تزويد ليبيا بالخرائط التي تحدد مواقع هذه الألغام.
  10. ويبقى ملف المعتقلات الجماعية أهم وأخطر الملفات وأكثرها بشاعة ودموية، وهو ملف مهمل في حين يستحق من البحاث الليبيين أن يولوه اهتمامهم، ويقوموا باستقصاء كافة حقائقه ومعلوماته، ويستحق من المفاوض الليبي أن يلم بتفاصيله وأن يجعله حاضرا على طاولة المفاوضات.

قد نجد كثيرا من الليبيين لا يعلمون شيئا عن المعتقلات الجماعية التي أقامتها إيطاليا و حشرت فيها الغالبية العظمى لسكان منطقة برقة وعرضتهم للتجويع ولشتى أنواع الأمراض المعدية، كما عرضتهم فيها لشتى أنواع التعذيب والقهر والانتقام. ملف المعتقلات الجماعية من أهم الملفات التي ينبغي لنا أن نوجه لها اهتمامنا لأسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها:

  1. أن الشعب الليبي هو أول من تعرض لعملية الاعتقال الجماعي في القرن العشرين إن لم نقل على الإطلاق. هذا يعني بشاعة الجريمة ومخالفتها للقواعد والقوانين والأعراف الدولية.
  2. أن المعتقلات التي أقامتها إيطاليا تتوزع على مناطق متعددة، عرف معظمها بأنها صحراوية وغير قابلة للحياة فيها ما يجعل هذه المعتقلات وسيلة استخدمتها إيطاليا للإبادة الجماعية.
  3. أشهر المعتقلات كانت في البريقة، والعقيلة، وقمينس، والمقرون، وسوسه. كما أحيطت بعض المناطق الأخرى بسياج شائك وحصر السكان داخله، كما حدث في شحات.
  4. أن الغالبية العظمى من سكان برقة هجروا من مناطق عيشهم الأصلية إلى مناطق تبعد مئات الكيلومترات، كما حدث مع بعض القبائل التي تم تهجيرها من طبرق وغيرها إلى العقيلة.
  5. أن التهجير تم بإجبار السكان على السير على الأقدام أو باستخدام دوابهم ولم   توفر لهم وسائط مواصلات كالسيارات، فكان على المهجرين قطع مئات الكيلومترات سيرا على الأقدام.
  6. عملية التهجير لم تشمل الناس فقط، وإنما شملت مواشيهم وحيواناتهم التي نفق معظمها في الطريق، وتكفلت ظروف المعتقلات بالقضاء على ما تبقى منها.
  7. أن المصائب والكوارث التي ترتبت على الزج بالسكان في هذه المعتقلات هي من الضخامة بحيث تتطلب مجلدات لوصفها وإحصائها، ولكن يكفي للتدليل عليها الأهوال التي وصفها من حضر “رحيل النواجع” كما كانوا يسمون التهجير، الحزن والآلام التي اعتصرت أفئدتهم لمغادرة “الموكر”، وتشتيت الأسر، ونفوق ماشيتهم وإبلهم، مات كثيرون أثناء الرحلة الشاقة الطويلة، ووصل معظمهم وهو في آخر رمق. أما في المعتقلات، فقد كانت الأحوال والمعاناة أبلغ من أن يستوعبها وصف: التجويع، والأمراض الفتاكة، وقهر الفاشيست، والإعدامات العلنية والقتل. يحكي بعض الذين هجروا عن أعداد الجنازات اليومية في المعتقل بسبب المجاعة المفروضة على المعتقلين، وبسبب التعذيب والقتل وبسبب الأمراض الفتاكة التي فشت فيهم مع تغييب أية رعاية صحية. يحكي بعضهم عن أسر كاملة لم يعد منها إلا شخص أو شخصان، عن أطفال فقدوا كل ذويهم (الأب والأم والعم والقريب) واحتضنتهم أسر لا تمت لهم بصلة. يحكي من عاصر هذه المعتقلات بأن أكثر من نصف من هجر لم يعد، وأن الوفيات بين من ولد في هذه المعتقلات قد بلغت نسبا مخيفة.
  8. أن إيطاليا استخدمت أعدادا كبيرة من المعتقلين في أعمال السخرة، بما في ذلك –ويا للسخرية- في مد الطريق الساحلي الذي هو اليوم مجددا محور “التعويضات الإيطالية”.

 

ملف المعتقلات الجماعية الدامي ما زال مغيبا: عن الإعلام، وعن البحث التاريخي الجاد، وعن الاستقصاء العلمي. والأدهى فإنه مغيب عن طاولة المفاوضات. ولعل في هذا المقال دعوة إلى كل ليبي أن يساهم بما يستطيع من جهد في تجميع وتوثيق المعلومات حول المعتقلات الجماعية التي أخضع لها المواطنون الليبيون في منطقة برقة. كما أنه دعوة للمطالبة بتعويض ورثة المواطنين الذين اعتقلوا في هذه المعتقلات عن معاناتهم وممتلكاتهم وعن الشهداء الذين غيبوا في رمال العقيلة والبريقة وفي غيرها من المعتقلات.

ينبغي علينا السعي الجاد للحيلولة دون أن تستخدم إيطاليا بالتآمر مع حكم القذافي هذه التعويضات الزهيدة البخسة التي يجري التلويح بها مدخلا لقفل ملف الاستعمار الإيطالي وإنهاء مطالب الليبيين بالتعويض إلى أبد الآبدين، كما ينبغي ألا يتحول إلى باب لحصول إيطاليا على حق تنفيذ مشاريع في ليبيا بمبالغ فلكية وعن طريق الممارسة المباشرة بعيدا عن أجواء المنافسة التي تتيح لليبيا خيارات أفضل، وألا يتحول كل ذلك إلى بقرة حلوب يستغلها الغيلان للحصول على عمولات من الشركات الإيطالية.

جرائم إيطاليا الفاشية لا يكفر عنها أي تعويض كان مهما بلغت قيمته إلا أن يكون تعويضا تتحقق فيه الأسس التالية:

اولا: أن تكون قيمة التعويض تتناسب مع ما ارتكبته إيطاليا خلال ثلث قرن من استعمارها لليبيا، تعويضات تغطي كل الملفات وكل الجرائم، وخاصة جرائم المعتقلات الجماعية.

ثانيا: أن تكون التعويضات المادية على شكلين: أولهما للمتضررين مباشرة أو لذويهم وورثتهم، وهذا ينبغي أن يدفع نقدا وبصورة مباشرة، والنوع الثاني التعويض العام للشعب الليبي كله، والذي يمكن أن يتم نقدا أو عن طريق مشاريع بمواصفات تخدم مصلحة ليبيا.

ثالثا: أن يصحب ذلك اعتذار رسمي يشتمل على الاعتراف بالجرائم المرتكبة من ناحية، وأن تقوم إيطاليا بتقديم قوائم بأسماء الضحايا وتعويضهم، وعلى الأخص:

  1. أسماء الذين تم إعدامهم، والذين قتلوا في المعارك، وكذلك الذين قالوا أو ماتوا في معسكرات الاعتقال الجماعية.
  2. قوائم الذين سجنوا في السجون العادية، والذين اعتقلوا في معسكرات الاعتقال الجماعية.
  3. أسماء المجندين إجباريا، وأسماء من قتل منهم في حروب إيطاليا في الحبشة والصومال وأريتريا والحرب العالمية الثانية.
  4. أسماء من اضطرتهم إيطاليا للنزوح والهجرة خارج ليبيا.
  5. أسماء الليبيين الذين نفتهم إيطاليا خارج ليبيا وأخضعتهم للاعتقال في عدد من الجزر والمدن الإيطالية، وتتبع آثار من لم يعد منهم والكشف عن مصيره.
  6. أسماء المتضررين من جراء الألغام، وتعهد إيطاليا بتطهير المواقع من الألغام وتقديم خرائط كاملة عنها.

 

هذه القوائم والمعلومات متوافرة في ملفات الحكومة الإيطالية والكشف عنها يؤكد حسن النوايا كما أنه يحقق مقاصد إنسانية واضحة. كذلك يقع على السلطات الليبية إعداد القوائم الخاصة بها وحصرها والمطالبة بأن تشملها التعويضات.

ينبغي أن يقرن ذلك بوضع المصالح الإيطالية في ليبيا بصفتها أكبر الشركاء التجاريين لليبيا على المحك ولخدمة المطالب الليبية يالتعويضات. لكن هذا كله لا يتم بالتبجح الفارغ، ولا يتم باستغلال معاناة الليبيين خلال سنوات الاستعمار البغيضة لتحقيق هالات زائفة وادعاء إنجازات وهمية. هذا لا يتم إلا بوجود حكومة وطنية ترعى مصالح الشعب الليبي وتحافظ عليها وتطالب بها، وليس هذا الحكم الذي لا يهمه إلا أن ينحر مصالح الشعب الليبي على مذبح الأهواء والأطماع، وبقدمها لقما سائغة في سبيل أن يستمر متحكما في قدرات ليبيا ومصير شعبها.

 

تعليق واحد

كتبه إبراهيم مكحال بتاريخ 2012/10/05 عند الساعة 20:23. رد #

أين التعويضات التى منحتها إيطاليا لليبين
علما بأن أسماءهم فى مركز جهاد الليبين
أحضارتها إطاليا إلي ليبياحتى لايتم التلاعب
بالأسماءوالاعدادفأناء ذهبت إلى تلك المنضومة
فبمجرد أن تعطى الاسم تضهر معلومات كتبها الطليان وبدون تلاعب

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.