التراخي في إقامة العدل

يُفترض أن يحظى التعامل مع رموز الحكم المنهار بأولوية عالية وباهتمام خاص، لما يشكله ذلك من خطورة بالغة، واعتبارات أمنية وقضائية ومالية فائقة الحساسية، إضافة إلى الاعتبارات العاطفية والحقوقية الأخرى التي لا تقل أهمية. كان على السلطات الانتقالية أن تتخذ من الإجراءات والتدابير ما يكفل سرعة التعامل مع هذا الملف الخطير. لكن لا يخفى أن أساليب التعامل مع هذا الملف  شكّل أحد أكبر الإخفاقات التي شهدناها منذ تفجر الثورة الليبية.

فقد رأينا عددا من أكابر مجرمي الحكم المنهار يقبض عليهم ثم يطلق سراحهم؛ يتجولون بكل حرية أو يوضعون في بيوتهم في إقامة مريحة، وبعضهم تمكّن أو مُكّن من الهرب إلى دولة من دول الجوار. بينما كان من الواجب التحفظ على رموز الحكم المنهار بمجرد تحرير كل مدينة من المدن، وإبقائهم رهن الاحتجاز إلى أن يتم البت في أمر كل منهم، لكننا رأينا أن طرق التعامل مع بعضهم كانت مستفزة للمشاعر، كما هو الأمر مع سيف أكبر المطلوبين للعدالة.

أسماء كثيرة تتردد في الشارع الليبي عن عناصر من أكابر مجرمي الحكم المنهار تمكنوا من الهروب، بعضهم بعد أن أطلق سراحهم بعد أن كانوا رهن الاعتقال، فعلى سبيل المثال لا الحصر تدل المعلومات أن السنوسي الوزري وهدى بن عامر ويوسف الدبري وغيرهم تمكنوا من الهرب بعد أن كانوا رهن الاحتجاز، فيما أفلت آخرون نظرا لعدم إحكام القبضة الأمنية عليهم. عندما يطلق سراح مصطفى الخروبي ويسمح له بالبقاء في منزله تحت إقامة لا تخضع للمعايير الدقيقة للجبرية، فقد يحق لنا أن نتوقع أنه هو الآخر سيفلت ويتمكن من الهرب إلى دولة أخرى. ولا يستطيع الإنسان إلا أن يشعر بالحسرة وهو يستعيد سيناريو تهريب عبدالسلام جلود وتأمينه وإبرازه كبطل في حين أن تاريخه مرتبط أيما ارتباط مع شريكه معمر القذافي خاصة في ملفات اللجان الثورية التي كان هو مؤسسها ورئيسها، علاوة على مشاركته في كثير من الجرائم التي ارتكبتها أجهزة الحكم المنهار، أما الملف المالي فحدّث ولا حرج .

وبدون أي مبرر تم ربط تأخير التعامل مع الجرائم التي ارتكبها هؤلاء بتعطل مرفق القضاء. تعطل مرفق القضاء –على ما أنتجه من مشاكل ومصائب- لم يكن ليحول دون الشروع في تشكيل هيئات –في مرحلة مبكرة- لمباشرة التحقيق الفوري مع المعنيين، خاصة أن ليبيا لا تفتقر إلى القانونيين المتخصصين الذين يمكنهم القيام بالمهمة على خير وجه وبكل ما يتطلبه الأمر من حرفية. إن مباشرة التحقيق الفوري كان مهما جدا لتحقيق عدة أهداف، من أهمها الحصول على معلومات حيوية مبكرة تتعلق بالجرائم المرتكبة في كل المجالات، وتمكّن في نفس الوقت من الحصول على أدلة إضافية تتعلق ببقية المطلوبين للعدالة، وتمكّن من أن يكون للقضاء الليبي قضية ضد هؤلاء. بدون أن يكون لنا قضية ضد هؤلاء فستكون حركتنا محدودة جدا وقد نواجه باتهامات دولية بإساءة التعامل معهم.

أما الملف الأكثر حيوية واستعجالا فهو الذي أصبح جامدا لا حراك فيه، وهو ملف الهاربين من أعوان الحكم المنهار والذين تزدحم بهم دول الجوار ويتوزعون على دول أوروبية وإفريقية. بالإضافة إلى كونهم هاربين من وجه العدالة الليبية، فهم من مرتكبي جرائم القتل والنهب والسرقة وإذلال الليبيين، بل إن عددا كبيرا منهم قد شارك فعليا في حملة الإبادة الجماعية التي شنها القذافي ضد الشعب الليبي. هؤلاء يسيطرون على مليارات الدولارات من الأموال المنهوبة يسخرونها للعيش الرغد ولحماية أنفسهم، كما يستخدمونها في التآمر على بلادنا بغية زعزعة الاستقرار ومحاولة إدخال بلادنا في نفق مظلم.  حتى الآن لم نر أي تحرك يذكر في هذا الملف بالغ الخطورة، وكلنا يعلم أن التراخي في التعامل معه قد أضاف مصاعب حقيقية فعلية؛ تتمثل في أن هؤلاء قد تمكنوا بالفعل من اتخاذ إجراءات تكفل مضاعفة العراقيل للوصول إلى الأموال التي نهبوها، كما تمكنوا من تحسين فرصهم في الإقامة بهذه الدول بصورة أو أخرى. كان من المفترض أن يُخضع هؤلاء لإجراءات قضائية يترتب عنها مذكرات اعتقال وجلب تسلم إلى الدول المعنية وإلى البوليس الدولي، وكان من المفترض أيضا ان يتم استخدام الدبلوماسية الليبية للضغط على هذه الدول من أجل تسليم المتهمين إلى القضاء الليبي، مع التلويح بإمكانية تأثر العلاقات سلبا مع هذه الدول إن هي لم تستجب للمطالب الليبية المشروعة.

هذا كله لم يتم، فليس ثمة أي تحرك جاد للمطالبة بتسليم أكابر مجرمي الحكم المنهار للمثول أمام القضاء الليبي بخصوص جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعب الليبي، أو المطالبة بتجميد الحسابات والعمل على استعادة مليارات الدولارات التي نهبوها. الملف يحوي أسماء معروفة بالتورط في جرائم القتل والقمع والإرهاب بحق الشعب الليبي، ومتورطة أيضا في نهب ثروات ليبيا، ومتورطة أيضا في قيادة عصابات الكتائب التي أثخنت فينا قتلا وجرحا، وتركت قروحا لا تندمل نتيجة للاعتداء على أعراض الحرائر الشريفات. من أمثال هؤلاء الخويلدي الحميدي وابنه ودورهما معروف في قيادة عصابات كتائب الحكم المنهار، وفي نهب المليارات من المال العام. والطيب الصافي ودوره معروف ومثبت في الوقوف ضد الشعب الليبي ومشاركة القذافي في حربه الشرسة ضد الليبيين، والسنوسي الوزري  والبغدادي المحمودي وعبدالله منصور وأحمد قذاف الدم وأولاد القذافي محمد والساعدي وهانيبعل وعائشه ….. والقائمة تطول.

التراخي في التعامل مع مجرمي الحكم المنهار لا يقود فقط إلى تعطيل العدالة وتأخير نفاذها، ولكنه قد يقود إلى حرمان العدالة الليبية بصورة نهائية من أن تأخذ مجراها تجاه هؤلاء، بل ويمكن أن يضعها في دائرة الاتهام بالتجاوز. فبموجب قرارات مجلس الأمن الدولي أصبح العالم –ممثلا في مجكمة الجنايات الدولية- شريكا لنا في مقاضاة مجرمي الحكم المنهار. والعالم يطالبنا بألا  تتجاوز مدة الاعتقال القدر المتعارف عليه، ويطالبنا بأن يُراعى في طرق وظروف الاحتجاز كل الشروط المتعارف عليها دوليا. دون أن نلتزم بذلك فنحن معرضون إلى أن نفقد مصداقيتنا وقد نكون نحن المتهمين. علاوة على ذلك، فإن العالم كي يحترم حقنا في مقاضاة من أجرم فلا بد أن يلمس إرادة حقيقة في هذا الاتجاه مدعومة بإجراءات قضائية فورية ومشروعة، أما إذا ما استمر الحال بهذا التراخي فقد تنعدم فرص مثول هؤلاء المجرمين أمام القضاء، ولن نسطيع استعادة أي من الهاربين. ومن يدري فقد يكون في إمكانهم أن يضعوا ليبيا بأسرها أمام محك صعب وامتحان عسير. ومن يدري فقد ينطبق علينا -حينها- المثل العربي القديم: (الصيفَ ضيّعت اللبن).

الأوساط تتحدث أن هناك مسودة قانون يعني بالعدالة الانتقالية كانت جاهزة منذ أشهر. نفس الأوساط تتحدث أن هذه المسودة قد طمرت في أحد الأدراج وأن إمكانية خروجها إلى النور باتت بعيدة الاحتمال. هذا يطرح أسئلة صعبة قد لا تستطيع الكلمات أن تصوغها. وقد تكون الإجابة أيضا صعبة ومفجعة.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.