المؤتمر الوطني بين مطارق وسندان

الانفلات الذي تمخض عن الاعتصام الذي قام به عدد من أفراد اللجنة الأمنية العليا أمام وفي داخل مقر المؤتمر الوطني العام على خطورته الشديدة على أمن وسلامة الأعضاء الذين انتخبهم الشعب، وتأثيره على قدرتهم على متابعة عملهم وعلى حرية قرارهم، فإنه في نفس الوقت يدل دلالة لا شك فيها أن المؤتمر مستهدف بغرض عدم تمكينه من إنجاز الاستحقاقات المطلوبة منه. يكفي أن جلسة المساء لم تنعقد لاقتحام المعتصمين من بعض أفراد اللجنة الأمنية العليا لحرم المؤتمر واعتدائهم على عضوين على الأقل بالضرب وتحطيم سيارة أحد الأعضاء وترويع بقية الأعضاء وتهديدهم، حيث أصبحوا محصورين داخل المؤتمر وأصبح خروجهم غاية في الخطورة.
من حق المواطن أن يعبر عن وجهة نظره بكل السبل السلمية التي منها الاعتصام والتظاهر، لكن هذا الحق يتوقف وينتهي إذا ما انتهك حقوق الآخرين، وهذا الحق ينتهي أيضا إذا فقد الاعتصام صفة السلمية وتحول إلى العنف. ليس من حق أي شخص أو مجموعة أشخاص أن يتبعوا أسلوب التهديد لتحقيق أغراضهم بل أن يستخدموا العنف الذي يضر بحياة الآخرين أو يروعهم. هذا تماما ما يحدث من حين لآخر أمام مقر المؤتمر وداخله؛ فتحت ستار الحرية وحق التظاهر والاعتصام حدثت تجاوزات خطيرة أساءت للدولة قبل أن تسيء إلى أعضاء المؤتمر، وأحدثت خروقا وانتهاكات لحقوق الآخرين، بمن فيهم الأفراد القليلين الذين يحرسون مقر المؤتمر، وبمن فيهم موظفوا المؤتمر وأعضائه. هذا أمر في غاية الخطورة، وفي غاية الاستفزاز. فهل من حق المعتصم والمتظاهر أن يصب جام غضبه على حارس أو موظف أو عضو من أعضاء المؤتمر ويستخدم العنف ضدهم؟.

هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذه الحادثة، وفي أكثرها كانت جلسات المؤتمر تتعطل. لكن الحادثة الأخيرة لم يقم بها مواطنون عاديون، بل قام بها أعضاء في جهة أمنية يُفترض أن تصون الأمن لا أن تبدده، وأن تحمي لا أن تهدد. قام هؤلاء باعتصام صاخب استخدمت فيها سيارات ومعدات هي ملك للدولة، ولا أدري هل كان السلاح أيضا حاضرا في أرتال السيارات التي وصلت وأحاطت بمقر المؤتمر. لم ينته الاعتصام حتى اقتحم المعتصمون مقر المؤتمر واعتدوا على عضوين على الأقل بالضرب، وسمع أعضاء المؤتمر تهديدات توجه لهم من المقتحمين.

المشكلة أن مطالب هؤلاء هي عند الحكومة وتحديدا عند وزارة الداخلية وليست عند المؤتمر. مطلبهم باختصار هو رفضهم لقرار وزير الداخلية القاضي بضم اللجنة الأمنية العليا إلى قوات الأمن بوزارة الداخلية ورغبتهم في أن يستمر وضعية اللجنة -كما هو عليه في السابق- غير محددة التبعية لأي جهة رسمية. لكنهم فضلوا أن يأتوا للمؤتمر بدل أن يذهبوا إلى الوزارة المختصة. هل لأن المؤتمر يفتقر إلى التأمين؟ ولأن الوزارة والحكومة محمية؟ أهكذا يزج بأعضاء المؤتمر في فوهة المدفع دون أن توفر لهم الحماية اللازمة؟. الغريب .. الغريب في الأمر أنه بينما كان أعضاء المؤتمر يواجهون التهديد والحصار، كان أحد قيادات اللجنة الأمنية العليا يشارك بل ويلقي خطابا في احتفالية وزارة الداخلية بمناسبة ذكرى الاستقلال التي جرت في نفس اليوم، وكانت طوابير منتسبي اللجنة الأمنية العليا تشارك في الاستعراض العسكري الذي أقيم بالمناسبة. لقد أصبح المؤتمر وأعضاؤه هدفا لكل اعتصام حتى فيما لا يقع في اختصاصه، وهذا يخل بدرجة أساسية بالجدوى من الاعتصام نفسه الذي ينبغي أن يوجه إلى الجهات المعنية حتى يكون مجديا وفعالا. كما أن معظم هذه الاعتصامات تخرج عن طبيعتها السلمية حين ينقلب الأمر إلى استباحة حرمة المجلس، وإلى استباحة حق الأعضاء أن يتداولوا في القضايا المطروحة أمامهم في مناخات من الحرية والأمن بعيدا عن أساليب التهديد وليّ الذراع.

لم يكن هذا الأمر وليد ساعته بل إن استهداف المؤتمر كان قائما منذ فترة وعلى عدة أصعدة. لقد تعرض أعضاء المؤتمر للتجريح والسخرية والتطاول بطريقة فيها التعميم، وفيها الخروج عن الذوق والأدب، وفيها تحميل المؤتمر أمورا ليست من اختصاصاته ومحاسبة أعضائه اعتمادا على هذا التحميل الجائر، وفيها رفع سقف المطالب من المؤتمر بطريقة تعجيزية، وفيها استخفاف بكل ما يتم من إنجاز والتفليل من شأنه. حفلت مواقع التواصل الاجتماعي بكثير من عدم الموضوعية عند الحديث عن المؤتمر وعن أعضائه. وفي هذا الخضم انخرطت أدوات إعلامية ليبية في حملة شرسة ضد أعضاء المؤتمر وضد أدائه بطريقة تفتقر إلى أبسط قواعد المهنية الصحفية وإلى التجرد والإخلاص الوطنيين وإلى المصداقية في نقل المشهد. هناك فارق كبير بين النقد البناء والهدم الممنهج، وهناك فارق كبير بين فن الكاريكانير الملتزم الهادف وبين عفن القذف والتشهير والسخرية والاستهزاء.

المؤتمر الوطني أعلى سلطة في البلاد وتختص بأمور متعددة منها السيادية والتأسيسية والتشريعية والرقابية، هذه الاختصاصات تجعل المؤتمر بمثابة وجه البلاد مع الخارج، ورقابة الشعب على حكومته، والمؤسسة التي تضع القوانين التي تحكم حياة الناس. مهام غاية في الخطورة والأهمية، وينبغي أن يكون أعضاء المؤتمر على مستوى هذه المهام. يتحملون تبعاتها ويؤدونها كما ينبغى أن تؤدى. يستحقون أن يوجه لهم النقد البناء إن أخطأوا دونما تعميم أو استثناء، ولكنهم أيضا يستحقون التأييد والنصرة إن هم أصابوا. قبل كل ذلك أن يوفر لأعضاء المؤتمر الإمكانات التي تجعلهم قادرين على مواجهة هذه المهام والقيام بها على أكمل وجه. لعل أهم هذه الإمكانات تكمن في توفير الأمن والاحترام وعدم تعريضهم للقذف والسب الذي باتوا يتعرضون له منذ الأسبوع الأول لانعقاد المؤتمر.

وفي النهاية لا ينكر أحد أن أوجه قصور تحيط بعمل المؤتمر، بعضها من أعضاء المؤتمر أنفسهم، ولكن جلها ومعظمها راجع لحجم التحديات التي يواجهها المؤتمر، ولقلة الإمكانات المتاحة لأعضائه. هذه المعادلة الصعبة كان يمكن حلها إذا ما غلّبنا الموضوعية في حكمنا على أداء المؤتمر بحيث يتبين الغث من السمين، وبحيث يمكن التسديد والتصحيح، وبحيث يمكن أن نقول للمخطيء أخطأت وللمصيب أصبت دون التعميم المخلّ بالعدل والإنصاف، ودون استجلاب كل ما يحفل به قاموس اليأس من مصطلحات، ودونما حاجة إلى استخدام العبارات الخارجة عن المألوف. وهي ممارسات تتم من قلة نشطه، بينما تبقى الأغلبية صامتة تتفرج.

لقد آن للأغلبية الصامتة أن تمارس دورها وحقها وواجبها في مساندة المؤتمر ودعم مهمته: بالنصح والتسديد، وبالمتابعة والنقد، وبالدفاع عن أعضاء المؤتمر وحمايتهم.

4 تعليقات

كتبه peace بتاريخ 2013/01/05 عند الساعة 18:12. رد #

تقريبا سبب الاستهداف واضح لانكم تعتبروا السلطه العليا فى الدوله وكانوا يبوا يلفتوا النضر .. محاكمة رؤوس الفساد فى الدوله مهم علشان تنضف البلاد وما ايصيرش الى صار … تمكين حقوق المواطنه والواجبات للفرد مهم جدا نعذرهم شويه على الاسلوب الهمجى الى يتبعوا فيه البعض لانهم مش متعودين على انهم يطالبوا بحقوقهم وبعد ما عطوهم الفرصه الاقليه استغلت الوضع بطريقه همجيه … ياريت ايكون فىه ورش عمل توصل لى كافة المواطنين بيش يفهم المواطنه الفعاله ويعرفوا حقوقهم وواجبتهم بيش ايصير الاصلاح … تحياتى لصاحب المقاله استاذ ابراهيم صهد وان شاء الله موفقين

كتبه آمال المنصورى / لندن بتاريخ 2013/01/05 عند الساعة 19:20. رد #

للأسف يا أستاذ أبر أهيم بعضا من أصناف الشعب الليبي يمزجون ما بين الحرية و الفوضي و ما بين النقذ البناء ألذى من شانه أن يجعل الحاكم يراجع نفسه من اجل تصحيح مسار قرارته في صالح الشعب و ما بين النقذ ألذى يحمل القذف في الشرف و العرض و مصداقية المسؤؤل بالإضافة إلى اقتحام حياته الخاصة .. شعب ليبيا تعود على القمع و الظلم ليس فقط من القذافي الطاغية و لكن حتى من ضمن أفرا أسرة كل عائلة عاشت قهر و ظلم بسبب سياسة القذافي ألتى انعكست بشكل سلبي علي المجتمع الليبي ثقافيا و سلوكيا و حتى اجتماعيا .. فنجد النقذ ألذى يلحق الأذى بالشخص موجود حتى ضمن الأسر الليبية .. تركة القذافي للشعب الليبي ألتى اكتسبت من خلال مرضه النفسي تركت أثرا سلبيا علي نفسية كل شخص .. فالعنف و لظلم و الضرب و الانتقاذ اللاذع الغير بناءا بدا يطبق في المدارس الابتدائية منذ أكثر من ٤٠ عاما .. كل ما استطيع أن أقوله هو أن يمن الله علينا بالصبر و أن ندرك أخطائنا تجاه كل من يعمل من اجل الوطن قبل أن نبكي علي اللبن المسكوب و تذهب البلاد في فوضى و حرب أهلية .. حينها فعلا يكون قد فات الوقت لنصحح مسار الثورة لان حينها لن يكون إلا استعمارا جديدا بتدخل أجنبي تحت اسم حفظ السلام في المنطقة ..

كتبه د. خديجة الشريف بتاريخ 2013/01/05 عند الساعة 21:30. رد #

أخى الفاضل الأستاذ إبراهيم صهد
إننى أصدّقك فى كل كلمة قلتها بل إنك عبّرت عما بدأت فى كتابته قبل أن أقرا مقالتك وتوقفت حيث وجدتك تقول ما أريد قوله، نعم يا سيدى هناك من يريد هدم ما بناه المخلصون، يريد أن يقف حجر عثرة فى طريق كل إصلاح وبناء وترميم ما أفسده اللانظام المندحر، هؤلاء سخّروا أنفسهم المفسدة لتحطيم كل المجهودات الخيرة للنهوض بليبيا من الحفر (التى دفعها إليها هؤلاء المفسدون) والتقدم بها إلى مصاف الدول المتقدمة، أخذوا العهد على أنفسهم بأن يقوموا بكل جهدهم بالتظاهر والاعتصام والاقتحام والتهديد والوعيد لإيقاف أعمال المؤتمر لتأكدهم من وجود عناصر خيرة تعمل جاهدة وبإخلاص من أجل مصلحة ليبيا والليبيين، وبالرغم من زرعهم لبعض أعضائهم وممثليهم داخل المؤتمر إلا إنهم لم يكتفوا بهذا وأخذوا فى المزيد من الأعمال التخريبية وعرقلة الأعمال الإصلاحية
أخى الكريم لقد اختاركم الشعب لتمثلوه وتعملوا من أجله ولقد قبلتم بهذه المسئولية الشاقة وما عليكم إلا الاستمرار فى هذا الجهاد متسلحين بالإيمان وحب الوطن وحب الشعب وسيؤيدكم الله بنصر من عنده مهما بلغت محاولات المفسدين أعداء الله والوطن والشعب واعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، حفظكم الله بعينه التى لا تنام ودحر أعداء ليبيا وانتقم منهم شر انتقام عاجلا وليس آجلا

كتبه باسم الثلثي بتاريخ 2013/01/05 عند الساعة 21:53. رد #

أوافقك السيد إبراهيم في مجمل المقال، لكني أتساءل، وقد أكون مخطئاً: أتذكر عمر حميدان يصرّح قائلاً أن الرئاسة للمؤتمر الوطني وأن الحكومة التنفيذية ما هي إلا أداة للمؤتمر. هذا انتهاك صارخ لمبدأ الفصل بين السلطات (كما هو متمثل في اختصاص تعيين السفراء دون ترك ذلك للخارجية). فإذا كان هذا هو الوضع فعلى المؤتمر وحده يقع اللوم حين تخطئ الحكومة التنفيذية.

كان الله في عيونكم وسدد خطاكم في خدمة هذا الوطن.
مع احترامي.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.