العزل السياسي – المفاهيم والدواعي والتحديات

العزل السياسي مصطلح وإجراء يصاحب الثورات والتغييرات السياسية الكبرى. حتى غدا العزل السياسي أحد المفردات الملاصقة للثورة.

لا غنى لأي ثورة من تطبيق العزل السياسي، بدون ذلك لن تتمكن الثورة من تحقيق كل أهداف ومقاصد التغيير الشامل. وبدون ذلك يستمر الماضي بممارساته ورموزه وسياساته من التغلغل في المشهد السياسي والاقتصادي، بل قد يتمكن من إعادة وترسيخ هيمنتة بصورة جزئية أو كلية على مقدرات الأمة.  بدون تطبيق العزل السياسي تصبح الثورة رغم ما حوته من تضحيات وزخم قاصرة على أن تكون ثورة تغيير شامل كما أرادها الثوار وكما أرادتها الأمة.

هناك مفهوم شائع يُصنّف العزل الساسي على أنه عقوبة، وهو مفهوم خاطيء. وعلى هذا المفهوم الخاطيء يتم تأسيس استنتاجات بعيدة عن واقع وحقيقة العزل السياسي، وتقود هذه الاستنتاجات في النهاية إلى وضع العراقيل أمام أي تشريع يتعلق بالأمر. يقولون طالما أن العزل السياسي عقوبة فلابد من وجود جريمة وإجراءات قضائية … إلى غير ذلك من الأمور التي تجعل العزل السياسي أمرا مستحيل التطبيق، أو أن تطبيقه ستكتنفه عوارض تجعل الأمر كقلته.

أما حقيقة الأمر فإن الجرائم المرتكبة بحق الشعوب لا تعالج بالعزل السياسي، وإنما بوقوف المتهم أمام القضاء الذي يكون له كلمة الفصل: إما الإدانة والعقاب أو البراءة. ولكن لا بد من القول أن حكم المحكمة بالبراءة من التهم المنسوبة لمتهم ما لا يعني انتفاء إمكانية تطبيق العزل السياسي على هذا المتهم إذا ما توافر انطباق معايير وموجبات العزل السياسي عليه لأن الأمرين مختلفان؛ فكل من أدين في جريمة من الجرائم ضد الشعب والدولة ينطبق عليه بالضرورة موجبات العزل، والبراءة تعني إعفاءه من المسؤولية عن الجريمة فقط، ولكنها لا تخلي الطرف من موجبات ومعايير العزل السياسي.

ومن هنا فينبغي القول بأن العزل السياسي ليس عقوبة، وإنما هو إجراء احترازي يهدف إلى منع من تنطبق عليه المعايير الموجبة للعزل السياسي من التصدي لإدارة الشأن العام وتولي الوظائف العمومية الرئيسة لمدة زمنية يحددها القانون، وبالتالي منع هؤلاء من نقل وتكرير الممارسات والسياسات التي كانت سائدة قبل الثورة، ووقف تغلغلها في جسم الثورة وفي مكونات الحكم الجديد. وبمعنى آخر الاحتراز من أن تعود الأمة إلى نفس الحالة والأوضاع التي كانت عليها قبل الثورة.

مرة أخرى ينبغي أن يكون واضحا أن العزل السياسي لا يعني حرمان المعزول سياسيا من مزاولة حياة طبيعية، ولا منعه من ممارسة العمل الذي يتسنى له، فقط فإن المعزول سياسيا لا يسمح له بإدارة الشأن العام من مواقع مؤثرة على مسيرة الدولة الجديدة، ولفترة زمنية محدودة بحيث تُعطى للثورة والدولة الجديدة الفرصة لصياغة حياة سياسية واقتصادية خالية من عوامل الفساد والإفساد، ومن الممارسات التي كانت سائدة. هي فرصة أيضا للمعزول سياسيا أن يتأقلم مع الأوضاع الجديدة ويتخلص مما تعلمه من ممارسات نتيجة لارتباطاته بالحكم الماضي.

العزل السياسي يتم إقراره على هيئة تشريع يصدر عن السلطة التشريعية. على مدار سنة ونصف كان المجلس الوطني الانتقالي يتولى هذه السلطة. لكن المجلس لم يُشرّع للعزل السياسي، بل كانت ممارسات وسياسات كل من المجلس الانتقالي والمكتب التنفيذي والحكومة الانتقالية تنحو إلى عدم الاعتداد بالعزل السياسي، وبالتالي لم نر أي تشريع يصدر بالخصوص. بل إن كل ملف العدالة الانتقالية تُرك يراوح بين أدراج النسيان وأدراج الإرجاء، رغم المطالبات الشعبية المتنامية.

المسألة الآن من اختصاص المؤتمر الوطني العام لكونه السلطة التشريعيية المنتخبة من الشعب الليبي، غير أن الأمر يواجه جملة من التحديات التي قد تعيق صدور تشريع قانون العزل السياسي أو على الأقل قد تؤدي إلى صدوره بصورة ضعيفة قد تخل بمقاصده وأهدافه. من أهم هذه التحديات:

  1.  تفصلنا عن الثورة والتحرير مدة زمنية طويلة، ما يجعل دفق الثورة وزخمها وشعاراتها وركائزها غير حاضرة بالطريقة التي تعزز وتقوي فرص صدور قانون العزل السياسي.
  2. إن المدة التي مرت منذ انطلاق الثورة، وتراخي السلطات الانتقالية في تجسيد روح الثورة قد مكنت –للأسف الشديد- عناصر الحكم المنهار من ترسيخ معطيات على المشهد، منها تغلغل هذه العناصر ومن يشايعها إلى مفاصل الدولة، هذا مكنها من وضع عراقيل وعقبات أمام العزل السياسي.
  3. صعوبة الاتفاق في أوساط المؤتمر الوطني على موجبات العزل السياسي، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار التركيبة الحالية للمؤتمر.
  4. صعوبة الاتفاق على معايير انطباق العزل السياسي. بالرغم من أن المطلوب وضع معايير عامة وغير مفصلة على حالات بعينها … معايير مجملة لا تُفاضل ولا تستثني، إلا أننا سنرى أطرفا تلجأ إلى مقاومة معايير تحت ذريعة الخشية من انطباقها على شخصيات تتبع أو تهم هذه الأطراف.

لقد سبقتنا شعوب بثوراتها، ليس فقط في المنطقة العربية ولكن في أنحاء شتى من العالم، وإذا ما أعملنا البحث لوجدنا أن العزل السياسي قد طبق في معظم الثورات إن لم نقل جميعها، ولوجدنا أيضا أن تطبيق العزل السياسي كان له آثار جوهرية على تحقيق مقاصد وأهداف الثورات، كما أنه قد أدى إلى تسريع وتيرة التغيير والتقدم، كما ساعد على ترسيخ ونشر الاستقرار والسلم الاجتماعي.

في ليبيا تأخرنا كثيرا في تشريع العزل السياسي، ولهذا نواجه ما نواجهه من اختلال في الثقة وتباعد الشقة بيننا وبين الاستقرار والسلم الاجتماعي. تعود ممارسات وألاعيب حكم المقبور لتشكل حزمة العلاقات، وتستمر قوانينه في النفاذ، ونجد أنفسنا محكومين بمرجعية عملنا على إسقاطها ودفعنا في سبيل ذلك أكثر من 30 ألف شهيد. نحتاج إلى تجسيد مطلب الثورة الأساس وهو إسقاط حكم الطاغية، وتجسيد شعارنا بأن دم الشهداء ما يمشيش هباء. نعم نحتاج أن نعمل جميعا من أجل تشريع العزل السياسي وإصدار قانونه، لكن هذا يجب أن يكون محكوما بتغليب المصلحة الوطنية العليا، وأن تصاغ الموجبات والمعايير بما يخدم هذه المصلحة.

8 تعليقات

كتبه رامي شنشن بتاريخ 2012/12/24 عند الساعة 00:03. رد #

على من ينطبق قانون العزل السياسي … قصدي من هم الاشخاص والمناصب التي يمكن ان نقول انهم ينطبق عليهم العزل السياسي ..شكرا

كتبه خالد الصارى بتاريخ 2012/12/24 عند الساعة 00:23. رد #

بدون شك العزل السياسى او إبعاد كل من يحسب على منظومة عهد الطاغيه على جميع مستوياتها من إدارة اى مؤسسه من مؤسسات الدوله هو مطلب شعبى و لا يمكن الوفاء لدماء الشهداء بدون تطبيق هدا القانون. لكى لا يستغل هدا القانون من قبل بعض الفئات لاقصاء جماعات اخرى يجب أعداد قوائم بأسماء الأشخاص الدين يشملهم العزل السياسى على مستوى المناطق و على مستوى الوطن و يجب ضمان كرامة الشخص المعزول و عدم اعتباره عقاب بل استحقاق للمرحله

كتبه alaa mokhtar بتاريخ 2012/12/24 عند الساعة 00:32. رد #

بارك الله فيك استاذ ابراهيم .. ويجب وضع اسس لمعايير العزل السياسي وعرضها على الشعب واجراء استفتاء عليه .. فلربما كانت معاييره في مصلحة حزب معين دون حزب اخر …

كتبه مصطفى الساحلى بتاريخ 2012/12/24 عند الساعة 00:34. رد #

لقد حكم القدافى ليبيا من خلال 500 فرد كانوا على راس اهم المؤسسات التابعة له مادا لو احضرنا اسماء هؤلاء جميعا وقمنا بعزلهم وابعادهم عن تلك المناصب الحساسة وبالامكان ان نضيف لهؤلاء اكبر مساعديهم انداك ربما يصل العدد الى 10000 وننهى بدلك مشكلة العزل السياسى , مع الاخد فى الاعتبار استصدار تشريعات وقوانين صارمة بالمحاسبة والمسألة لمن سيحل محلهم قبل القيام بتنفيد قانون العزل السياسى

كتبه khaled بتاريخ 2012/12/24 عند الساعة 00:36. رد #

الله يعطيك الصحه استاذ ابراهيم و يحفظك لابد ان الشعب يفهم دوره لكن التذكير ضروري تحياتي لك استاذنا

كتبه ابن ليبيا بتاريخ 2012/12/24 عند الساعة 00:45. رد #

السلام عليكم دكتر صهد.. نعم العزل مطلوب و بشدة، ولكنا لا نريد أن نرى عزلا مفصلا يراد منه عزل خصوم تيار معين. فالأخوان المسلمين مثلا هم من أشد الداعمين للعزل السياسي و لكنهم يؤكدون فقط عىلى من تولى منصبا قياديا في حكم الطاغية!! فلو رجعنا إلى الخلف إلى زمن ظهور (زيف الأحلام) لوجدنا أنهم كانو يباركون توجهاته و شخصيات معروفة منهم كانت تسانده و شاركت في عمليات المراجعات للجماعات الإسلامية المسجونة في السجون اللييية و كل تلك المسرحيات كانت فقط لتوريث ( المعتوه زيف ) خلفا لأبيه. فهل ذلك التوريث لا يحتسب كضربة للوطن؟! و ألا يعني جريمة في حقه؟! خلاصة قولي نحن نريد عزلا يراد منه صالح الوطن و لانريد عزلا لتصفية حسابات أطراف مع بعضها، فعندما أرى التشهويه الممنهج لشخصيات عاصرت الثورة من بداياتها أتوجس خيفة من هذا القانون الذي إن لم يشرع بالشكل المطلوب فتداعياته لن تكون طيبة علي الوطن. وفقكم الله وسدد خطاكم لما فيه صالح الوطن.

كتبه حمزة احمد عبدالله محمد الدرسي بتاريخ 2012/12/24 عند الساعة 11:59. رد #

بالفعل يجب تطبيق العزل السياسي وفي اسرع وقت وعلى المؤتمر الوطني ان يشرع في ذلك لان هذا من مسؤوليته وهو ايضا المسؤول الاول امام الشعب ودماء الشهداء لاننا ومن بداية الثورة مطلبنا كان واضحا وهو اسقاط النظام نحن اسقاطنا رأس النظام ولا زال جسده واطرافه باقية الى الان سواء في المؤتمر الوطني وفي مفاصل الدولة الاخرى ومن هنا استاذ ابراهيم يجب ان تعمل انت والشرفاء امثالك على اصدار القانون العزل السياسي الذي يعتبر احقاقا لحق من حقوق ثورة السابع عشر من فبراير

كتبه عبدالله النفوسي بتاريخ 2012/12/24 عند الساعة 21:30. رد #

اخي المناضل ابراهيم صهد نشكرك على المقال و نؤكد على ما جاء فيه و ان العزل السياسي هو احد ضمانات نجاح الثورة و بدونه يكون نظام المقبور لا يزال قائما فالشعب ثار ضد النظام برمته و ليس ضد رئيسه فقط . لقد قام المردوم بسجن جميع الموظفين الرئيسيين و جميع كبار الضباط لفترات طويلة امتدت لسنوات كما اجبر الكثير على الاستقالة و التقاعد المبكر حتى يضع من شاء في دائرة القرار . لذا اقول ان تفتح الحكومة باب الاستقالة و التقاعد الاختياري و ان يتم تسريح رؤساء الادارات و الوكلاء العامون و الاعلان عن وظائفهم و تعيين دماء جديدة من ضمنها الا يكون قد عمل مع النظام السابق و باقي شروط النزاهة و يتم تعميم الاجرار على جميع الادارات العامة بما فيها مدراء المصارفو شركات الاستثمار و الصناديق السيادية و امراء الكتائب و مأموري الضرائب ورؤساء الجامعات و كذلك القضاء . و اذا تعذر وجود شخص او اشخاص نظيفة كفؤة محلية فلا مانع من تعيين خبرات اجنبية بما فيها القضاء كما كان عند تأسيس الدولة الليبية و لا يزال يعمل به في دول الخليج . و بالنسبة للرؤوس الكبيرة كالوزرار فيجب استبعاد كل من كان وزيرا او سفيرا بدون استثناء مهما كان توقيت انشقاقه و مهما قال او عمل اثناء الثورة و الذي لا يجب ان بمن علينا به . يجب محاسبة كل من تقلد منصبا في المكتب التنفيذي بما فيهم جبريل و المجلس الانتقالي و حكومة الكيب جميعها ومراجعة كل القرارات و التعيينات و التي صدرت بالمجاملة او ااتهديد و خصوصا في السفارات و ووظائف الاستثمار و المال . ارجو ان انبه حضرتكم بضرورة متابعة ملفات الاموال المنهوبة و البحث فيها بصورة سريعة ودقيقة و جدية و تكليف مجموعات من الليبيين ذوي الوطنية و نظافة القلب و اليد و العمل على الغاء التعيينات التي قام بها محمود جبريل في كل فروع الاستثمار لوجود شبهة بها و مؤامرة لسرقة اموال ليبيا و حكمنا بها مستقبلا من قبل هذا الرجل و عصابته و نفس الشئ ينطبق على السفراء الذين عينهم و بالذات من قرابته و قبيلته و باقي العصابة .

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.