نزع السلاح والقضية الأمنية

الملف الأمني هو أكثر الملفات أهمية، كما أنه يعتبر أكثر الاستحقاقات حساسية وتعقيدا، ولذا ينبغي أن يحظى بأولوية مطلقة، وأن يعالج بما يستحق من حكمة وتأني وصبر.

عندما نتحدث عن الأمن تقفز الأذهان –بصورة تلقائية- إلى السلاح المنتشر في مدننا وأريافنا، بكل الأحجام والأصناف، والذي باتت تتداوله وتتناقله أياد كثيرة. هو حقيقة بات يشكل مصدر قلق وتوجس، وباتت الأصوات تتحدث عن مصطلح واحد هو (نزع السلاح).

لكن الملف الأمني يحوي مفردات كثيرة أخرى، لا تقل أهمية، وكلها تشكل مصدرا للقلق والخطر، وينبغي أن تحظى باهتمام بالغ وبإجراءات فورية. أكثر من ذلك سوف يتضح لنا من التعامل مع بعض مفردات الملف الأمني أن مصطلح (نزع السلاح) بهذا الإطلاق قد يخل إخلالا جوهريا بكثير من هذه المفردات وربما يجعل التعامل معها في حكم الاستحالة.

من المهم –قبل أن نطالب بنزع السلاح- أن نقيم الموقف الأمني تقييما صحيحا مؤسسا على المعطيات والحقائق المحيطة بالمشهد الليبي. لا تأخذنا فرحة الانتصار وإسقاط الطاغية بعيدا عن الحقائق والمعطيات التي – لبداهتها ووضوحها- كثيرا ما يجري القفز عليها وعدم إعطائها ما تستحق من مكانة وأولوية في أبجديات تقييم الموقف، ومن ثم في صنع القرار واتخاذ التدابير ورسم السياسات.

أهم هذه المعطيات أن البلاد –بالرغم من الإعلان الرسمي عن تحريرها- ما زالت في حقيقة الأمر لم تتجاوز المخاطر التي تهدد أمنها وسلامتها، نرى ذلك جليا في الأمور التالية التي ينيغي النظر إليها كمجموعة من العوامل التي تتداخل وتتشابك :

أولا: فلول الحكم المنهار.

ثانيا: أوضاع أمننا الوطني.

ثالثا: أوضاع أجهزتنا ومؤسساتنا الدفاعية والأمنية.

أولا: فلول الحكم المنهار. نجد الظواهر والمظاهر التالية:

  • فلول الحكم المنهار ما زالت تتواجد مطلقة السراح بأعداد كبيرة في البلاد؛ إما مختبئين في أماكن غير معروفة، أو معروفة أماكنهم. بقاء هؤلاء دون احتجازهم والسيطرة عليهم والشروع في التحقيق معهم يشكل خطورة كبرى. إذا كنا لا نعرف أن كثيرين منهم ينتظر السوانح ليصيبنا في مقتل فهذه مصيبة، أما إذا كنا نعلم ولا نفعل شيئا فالمصيبة أعظم. جزء من المخاطر يكمن في إمكانية تكتل هؤلاء لضرب الثورة، وإمكانية قيامهم بعمليات لزعزعة الاستقرار وعرقلة تطور البلاد، كما أن بقاءهم على الحالة الراهنة من شأنه أن يوجد حالات من الشك وانعدام الثقة تتولد من الإحساس بأن في الأمر شيء من التسيب إن لم يظن بعضنا ظنونا أخرى. إن الضرورة تتطلب عددا من الإجراءات أهمها: حصر الهاربين وتشكيل فرق للتقصي والكشف عن مخابئهم، والتحفظ عليهم في أماكن آمنة تمنع هروبهم وتحميهم من أية ردود فعل غاضبة، والشروع في التحقيق الفوري معهم.
  • وجود أبناء القذافي وعدد من المقربين ورموز الحكم المنهار في عدد من الدول المجاورة وغير المجاورة، منها مصر وتونس والنيجر والسودان (دارفور) وتشاد والجزائر وقطر .. وغيرها، مع توافر كميات كبيرة من الأموال في حوزتهم، علاوة على تحكمهم في حسابات مصرفية في الخارج. لا حاجة للقول أن هؤلاء لن يتخلوا عن مطامعهم في ليبيا، كما لن يتخلوا عن متابعة مساعيهم للانتقام من الليبيين بشتى السبل، ومحاولة تقويض الاستقرار والأمن. إن عدم المطالبة بهؤلاء، وإن عدم إدراجهم في قوائم البوليس الدولي (الانتربول) أمر غير مبرر على الإطلاق، كما أن تأجيل البحث فيه يعد تسويفا لا يخدم إلا هؤلاء الذين هربوا بعد أن أثخنوا في الليبيين تقتيلا، واستخدموا الأسلحة الفتاكة لإجبار الليبيين على الرضوخ الذليل. ولذلك ينبغي على الدبلوماسية الليبية متعاونة مع أجهزة العدل إثارة هذه القضية مع مختلف الدول وتقديم القوائم إلى البوليس الدولي، بل إن الضرورة تقتضي تشكيل لجان وأجهزة تُعنى بهذه المسألة . إن هذه قضية عاجلة لا تحتمل التسويف. وينبغي ألا ننسى أن هؤلاء –بالإضافة إلى ما يشكلونه من مخاطر على الوطن- هم المسؤولون عن أنهار الدماء التي سالت، والحرائر اللائي اغتصبن، وآلاف الشباب الذين أصبحوا من ذوي الاحتياجات الخاصة، وغير ذلك من المصائب التي خلفتها حربهم الشرسة ضد الشعب الليبي. إن ترك أشخاص مثل الخويلدي الحميدي، وأحمد قذاف الدم، والطيب الصافي، وموسى كوسا، والساعدي ومحمد وهانيبعل وعائشة القذافي … وغيرهم دون متابعة هو أمر في غاية التسيب. إن المعلومات التي تتوارد تؤكد أن كثيرين من هؤلاء يقومون بأعمال وتدابير من شأنها الإضرار بأمن ليبيا. هذا علاوة على أن مكان أخطر مجرمين (سيف القذافي وعبدالله السنوسي) غير معروف على وجه التحديد، هل هما داخل ليبيا أوخارجها.
  • بعض رموز الحكم المنهار ممن أعلنوا انشقاقهم –بعدما لاحت بوادر الانهيار- دون أن يقدموا شيئا فعليا للثورة، ما زالوا يتحكمون في حسابات مصرفية ذات أرصدة ضخمة في خارج البلاد، وإمكانية استخدام هذه الأرصدة للإضرار بأمن ليبيا. إن هذه الأموال منهوبة من خزانة الشعب الليبي ابتداء وينبغي العمل على استعادتها، الأمر الذي يرتب الشروع الفوري في التحادث مع الدول التي يقيم بها هؤلاء، والدول التي توجد بها الحسابات، والشروع في إجراءات قانونية لاستعادة هذه الأموال والحيلولة دون استخدامها لضرب الثورة. مرة أخرى إن هذا الموضوع يتطلب تشكيل لجان وأجهزة –دون أي إبطاء- لمتابعة هذا الملف، واتخاذ الإجراءات المناسبة حياله.

 

ثانيا: أوضاع أمننا الوطني. نجد المعطيات التالية:

  • عدم توافر حماية كافية لحدودنا البرية والبحرية التي تمتد آلاف الكيلومترات. هي حدود مفتوحة بكل ما تعنيه الكلمة، سواء للتسرب من البلاد أو إليها. سواء لإدخال عناصر مخربة أو أسلحة، أو تسهيل هروب فلول الحكم المنهار، أو حتى تهريب السلاح والذخائر إلى خارج البلاد وتوريطنا في قضايا مع دول الجوار. كلها تشكل مخاطر حقيقية ينبغي عدم تجاهلها.
  • عدم توافر حماية كافية للمنشآت النفطية (حقول وموانئ وأنابيب)، وهي المنشآت التي يعتمد عليها الاقتصاد الليبي، ويترتب على أمنها حياة الليبيين ومعايشهم.
  • تعاني المنافذ البحرية والبرية والجوية من عدم وجود الكوادر الكفؤة القادرة على التعامل مع الدخول غير المنضبط للبلاد. هذا يعني أن أعدادا من الأجانب قد يكونون في البلاد بصورة غير شرعية، أو بصورة مضرة.
  • إن المعلومات تشير إلى أن البلاد اصبحت تعج بأعداد من عناصر مخابرات الدول الأجنبية، وهذا أمر خطير جدا خاصة مع غياب المتابعة الأمنية لهؤلاء وعدم توافر الكوادر الكفؤة لهذه المتابعة.
  • عدم توافر حماية كافية للمنشآت والمؤسسات الحيوية، بما فيها مقار الدولة والمصانع ومصادر مياه الشرب وغيرها.

هذه العوامل المذكورة أعلاه يترتب عنها مخاطر هائلة على أمن ليبيا خاصة مع وجود المتربصين داخل البلاد وخارجها. وخاصة مع حالة أجهزتنا الدفاعية والأمنية. السؤال الذي ينبثق عن هذه المسألة هو لماذا لم يتم تشكيل وحدات من الثوار وتكليفهم بتسيير دوريات لحماية الحدود، وحماية المرافق النفطية؟

 

ثالثا: أوضاع أجهزتنا ومؤسساتنا الدفاعية والأمنية.

نجد المعطيات التالية التي هي ليست خافية على أحد:

  • عدم وجود جيش وطني قادر على حماية البلاد والدفاع عن حدودها. إن المساعي التي بذلت حتى الآن لم تكن كافية، وكانت تعترضها عقبات بعضها مصطنع، وبعضها من دوافع مصالح شخصية. ينبغي ان يحظى تشكيل وحدات الجيش بما يستحقه من أولوية واهتمام بالغين.
  • عدم وجود قوات أمن قادرة على صيانة وحفظ الأمن في مختلف المواقع والمرافق. هناك نقص في الكوادر، وهناك عزوف من رجال الأمن للعودة إلى مواقعهم لأسباب عديدة، بعضها يمكن التغلب عليه.

وفي هذا الصدد، وحتي يمكن التسريع بإعادة بناء قدرات الدفاع والأمن الوطنيين، فإن هناك تساؤلات تطرح:

  1.  لماذا لا تجري الاستعانة بالضباط وضباط الصف القدماء الذين خدموا أثناء العهد الملكي أو حتى أثناء العهد المنهار ممن لم يتورطوا في أذية الشعب الليبي، إما بإعادتهم للخدمة العسكرية أو بصفة مستشارين أو في مهام إدارية أو لوضع برامج التدريب والتأهيل. أعلم أن مشكلة تعترض هذه المسألة وهي ما هية الرتب العسكرية التي يعادون بها إلى الخدمة، خاصة مع السوابق السيئة التي شهدناها بترقية أشخاص بحيث يتخطون عددا من الرتب. لكن يمكن إيجاد حلول مناسبة لهذه المسألة.
  2.  ولماذا لا يتم دعوة كل الجنود الذين سبق لهم أن عملوا بالجيش والأمن للعودة إلى الخدمة –حتى ولو لفترة محدودة- على أن تقدم لهم الحوافز المناسبة. هؤلاء يمكنهم أن يشكلوا الوحدات الإدارية والخدمات بحيث يفرغوا الشباب للمهام القتالية والميدانية.
  3. ولماذا لا يتم تحفيز الثوار بأن ينخرطوا في الجيش النظامي وفي قوات الأمن، ولو لفترات محدودة، وتقديم الحوافز المادية والمعنوية المناسبة لهم، بما في ذلك احتساب ذلك من الخدمة الوطنية الإلزامية، وتقديم حوافز الإيفاد لاستكمال تعليمهم.
  4. ولماذا نجد إشكاليات في تشكيل رئاسة الأركان العامة، وإدارات الأمن، وغياب المعايير لاختيار القيادات المختلفة.

إن إلإسراع بإعادة تشكيل الجيش وقوات الأمن عملية غاية في الأهمية للتمكن من حماية الوطن والمنشآت الاستراتيجية والحيوية، بل وإشعار المواطن بالأمن والطمأنينة.

 خاتمة:

هذه هي المعطيات التي ينبغي أن نتعامل معها قبل أن نرفع شعار (نزع السلاح) بهذ الإطلاق. ينبغي أن نكون قد أمنا حدودنا، وسيطرنا على فلول الحكم المنهار الكامنين بالداخل أو الهاربين إلى الخارج، او على الأقل أن يكون لدينا الإمكانات للتصدي السريع لهم، وأن تكون لدينا أجهزتنا الأمنية والدفاعية القادرة. إذ أن نزع السلاح يعني بالضرورة عودة الثوار إلى بيوتهم. فكيف سيكون الحال حينذاك إذا طرأ ما يستدعي حمل السلاح مجددا، هل سيكون في الإمكان دعوة الثوار للعودة إلى الميدان بالسرعة التي يتطلبها الأمر؟، وأين سيجدوا سلاحهم؟ الأمر حينذاك سيكون صعبا وقد يكون متأخرا.

أنا لست مع رفع مصطلح (نزع السلاح) بهذا الإطلاق، ولكنني في نفس الوقت لست مع حالة التسيب والفوضى التي يتم بها التعامل مع السلاح. هو نفسه السلاح الذي سعينا جميعا أن يكون بين أيدينا لندافع به عن أنفسنا، ولندفع ما واجهناه من عدوان سافر. ينبغي ألا يتحول إلى مصدر للخلاف بيننا، والأكثر ينبغي ألا يتحول إلى مصدر لتهديد أمننا وترويعنا. المطلوب هو إجراءات سريعة لضبط السلاح وتقنين حمله واستخدامه. ومطلوب الانضباط الكامل في استخدام الذخائر المفرط الذي تسبب في كثير من المآسي، والذي كان مصدرا لترويع الناس. ومطلوب تنظيم الثوار وإتاحة المجال لهم ليكونوا –حقيقة- جزءا من المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية، وأن تسند إليهم مهام قيادية. وكما قاتل الثوار لدفع غائلة الطغيان، فهم قادرون أيضا على أن يساهموا في حماية البلاد والمنشآت الحيوية، وهم قادرون على أن يكون سلاحهم درعا للوطن لا تهديدا للمواطن.

ملف السلاح ينبغي التعامل معه بكل جدية، وبأساليب تكفل السيطرة، هذا لا يتم بالإعلان أو بإصدار الأوامر، بل باتخاذ الإجراءات والتدابير التي تستقطب الثقة وتؤدي إلى إشاعة الاطمئنان بأن ثورة السابع عشر من فبراير لن تسرق أو توجه وجهة غير وجهتها وأن دماء الشهداء لن تذهب هباء. هذه الإجراءات والتدابير من ضمنها ومن أهمها إسناد الأمور إلى شخصيات معروفة بالنزاهة وعدم التورط مع الحكم المنهار، وأيضا إتاحة الفرصة أمام الليبيين بكل توجهاتهم وشرائحهم للمشاركة في مجريات المرحلة الانتقالية تشاورا وصنعا للقرار.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.