من الذاكرة : مع الدكتور “إيميل سان لو”- رجل الموقف التاريخي الصعب – الحلقة الخامسة

استمر السيد “سان لو” يحدثني عن الأيام التي سبقت عرض مشروع القرار على الجمعية العامة، واتصالاته التي استمرت مع الدكتور علي العنيزي. فأوضح بأنه اتفق مع شنيب والعنيزي على أن يتم التقليل من الاتصالات إلا للضرورة حتى لا يتم لفت انتباه أحد، خاصة وأن الوفد الإيطالي كان نشطا في تجسسه على حركة واتصالات الوفد الليبي. وما دعاني إلى أن أطلب منهما ذلك أن المندوب الإيطالي قد حاول أكثر مرة أن يجس نبضي بطريقة مباشرة، وعن طريق مندوبين آخرين لدول أمريكا اللاتينية، الذين صارحوني باهتمام المندوب الإيطالي باتصالات العنيزي التي كانت في الغالب تتم في المقهى. لكن صديقي الدكتور العنيزي لم يتقيد بطلبي، خاصة عندما كنا نقترب من موعد عرض المشروع على الجمعية العامة، كان يلتقي بي في الردهات أو الممرات ويقف ليتحدث معي، وفي كل مرة كان يذكرني بما اتفقنا عليه خاصة وأن الاحتمالات تبدو كبيرة أن يكون صوتي حاسما.

لا أنسى ابتسامة “سان لو” وهو يتحدث عن إلحاح الدكتور العنيزي، فقال لم يعد العنيزي يتركني وحدي، كان يأتيني في المقهى، ويفتعل المصادفة للالتقاء بي، وفي كل مرة كان يقول لي: لا تنسى يا صديقي أن مصير شعب بأكمله سيتقرر، ولا بد أن يكون صوتك في جانب هذا الشعب. وكنت في كل مرة أطمئنه ما أمكنني، لكنه كان يزداد إلحاحا كلما اقتربنا من يوم التصويت. وكانت مناورة الدول المعارضة للمشروع تتبلور في خطوة طلب تصويت منفرد على فقرة الوصاية الإيطالية في المشروع، وكانوا يأملون أن سقوط الفقرة سيؤدي إلى حجب تأييد دول أمريكا اللاتينية للمشروع، هذه المناورة كان يُخطط لها بتكتم شديد بين بعض الدول الإسلامية ودول المنظومة الاشتراكية. ولما لم أكن قادرا على تقديم نصح مباشر لهذه الدول فقد طلبت من الدكتور العنيزي أن يبلغ هذه الدول بأهمية التركيز على الممتنعين بإبقائهم في دائرة الامتناع أو جذبهم إلى دائرة رفض الوصاية الإيطالية، فقال لي أنه قد تحدث بذلك فعلا إلى المندوب العراقي والباكستاني وأنهم يتابعون ذلك.

يوم اجتماع الجمعية العامة كان يوما حافلا، وكانت الوفود المتبنية للمشروع متأكدة من نجاح مشروعها بما لديها من أصوات مؤكدة (بحساب صوت هايتي)، ولهذا فكان همها التركيز على الممتنعين وتثبيتهم. أما الدول المعارضة فلم يكن لديها سوى بصيص أمل في أن يتغير بعض الممتنعين إلى معارضة المشروع. ضحك الرجل طويلا وهو يقول بأن العنيزي أصبح “مزعجا” في ذلك اليوم، فقد وجدته ينتظرني في المدخل، ولم يستطع أن يخفي فرحته عندما رآني كأنه كان يخشى من تغيبي، وهمس عندما مررت بجانبه “سيطلبون تصويتا منفردا على الوصاية الإيطالية، هذه فرصتنا”. وطيلة الساعات التي سبقت الاجتماع ظل العنيزي يتبعني كظلي، لكنني لم أتضايق رغم كل شيء، فقد نشأت علاقة حميمة بيني وبينه، وحسبت أن ذلك كان إخلاصا من الرجل لقضيته. حتى قبيل التصويت، استمر العنيزي يمر قريبا من مقعدي في الجمعية العامة كأنه يريد أن يذكرني بوجوده، أو أن يتأكد من وجودي.

جاءت اللحظة الحاسمة، حين عرض القرار على التصويت، وأعلن عن طلب التصويت الجزئي على فقرة الوصاية الإيطالية على طرابلس، طرحت الفقرة للتصويت، فصوتت ضدها، وكما تعرف فقد كان صوتي المعارض هو الفارق وهو الذي أسقط تلك الفقرة ومن ثم المشروع برمته. بمجرد أن أدليت بصوتي شعرت براحة –حتى قبل إعلان النتيجة- لأنني فعلا كنت أخشى أن ينتابني تردد أو ضعف، لكن بعد أن صوتت فعلا فقد أصبح كل شيء خلفي، وعندما أعلنت النتيجة بسقوط الفقرة شعرت بسعادة غامرة وغرقت في مقعدي.

صمت السيد “سان لو” وكأنه قد غرق في ذكرياته، أو ربما بدا لي وكأنه يستعيد تلك اللحظة. ولم أستطع أن أخفي تلهفي فقلت له ماذا حدث بعدئذ؟ وكأن السؤال فاجأه فأعاد السؤال على مسمعي، ثم قال كانت مفاجأة للجميع، الدول المؤيدة والممتنعة على حد سواء. المندوب الإيطالي والفرنسي لم يخفيا حنقهما علي، أما المندوب البريطاني فأبلغني بطريقة باردة أنه مندهش Astonished من تغير تصويتي، وزملائي في أمريكا اللاتينية تساءلوا ما الذي تغير؟. جاءني المندوب الباكستاني وقال لي أنت سيد الموقف الليلة، أما الليبيون فقد كانت فرحتهم غامرة وحرصوا على اللقاء بي مجتمعين وشكروني على الموقف. كان العنيزي أكثرهم صخبا وهو يبتسم ويحتضنني ويعتذر لي إن كان قد ضايقني، ثم أردف دعنا يا صديقي نحتفل على طريقتنا.

وأنهى سان لو حديثه قائلا، قبل نهاية دورة الجمعية لذاك العام، تلقيت برقية من حكومة هايتي بعزلي من منصب المندوب الدائم في الأمم المتحدة، ثم اغرورقت عيناه وهو يقول، يا صديقي لقد كنت سعيدا عندما صدر قرار الأمم المتحدة في الدورة التالية بمنح ليبيا الاستقلال، كنت أخشى أن يواجه الاستقلال مناورة أخرى، وكنت سعيدا جدا حين أعلن الاستقلال فعلا، فقد كنت أخشى أن يعجز الليبيون عن اغتنام الفرصة، أو أن تحول حوائل دون تحقيق الاستقلال .

قلت له، هناك سؤال يدور في ذهني، وأرجو أن تسمح لي بطرحه، هل شعرت يوما ما بالندم أو ما يشبه ذلك طيلة هذه المدة؟

أطرق “سان لو” طويلا قبل أن يجيبني، وعندما رفع رأسه كان وجهه مليئا بالانفعالات، وكانت الدموع قد فاضت من عينيه، وقال نعم يا صديقي سوف أجيبك وبكل صراحة. لا لم أشعر بالندم مطلقا، ولكن مرت بي أوقات كنت أطرح على نفسي السؤال هل كانت النتيجة تستحق ما قمت به وما ترتب علي أن أواجهه من مصاعب؟. أنا بشر يا صديقي وقد مررت بظروف صعبة جدا، لم أفقد منصبي فقط، بل فقدت مستقبلي الدبلوماسي كله، بل لا أبالغ إن قلت لك إنني كنت قبل هذا الموقف أحد المرشحين القلائل لدور سياسي بارز في بلدي. كل ذلك فقدته بسبب موقفي، ثم واجهت بعدئذ ظروفا معيشية صعبة للغاية لا أريد أن أخوض فيها ، لكنها كانت تضغط على وتضع أمامي التساؤل المرة تلو الأخرى، وكنت دائما أعلل نفسي بأن ما قمت به كان استجابة لضميري، وأن شعبا بأكمله ينعم بالحرية جراء ذلك. لكن السؤال كان يطل بين الفينة والأخرى إلى أن تكفلت زيارتي التي قمت بها إلى ليبيا بوضع حد لهذه التساؤلات. وأوضح “السيد سان لو” في تلك الزيارة لقيت من الحفاوة والترحيب والتكريم ما أعجز عن وصفه، وكان التكريم على المستويين الرسمي والشعبي، بل إن بلدي “هايتي” قد نالها من التكريم الشيء الكثير، لكن أكثر شيء أذهلني حقا، هو ما شاهدته من بواكير نهضة حقيقية خاصة في مجال التعليم رغم قلة إمكانات البلد آنذاك، ولعل أهم انطباعاتي عن ليبيا قد تكونت من خلال زيارتي للجامعة الليبية وللمدرسة الثانوية في بنغازي، وما شاهدته فيهما من تباشير لمستقبل مشرق ينتظر البلد، فالاستثمار في المواطن يبشر بمردود طيب. يومها تعزز لدي الشعور بأنني كنت محقا عندما خالفت تعليمات حكومتي، ومن يومها لم تعد أية تساؤلات تراودني حول موقفي ذاك. لقد رأيت نتيجة طيبة، ربما أكثر مما توقعت . ثم صمت طويلا وقال: ولكن ذلك كله أصبح ماضيا يا صديقي، بعدما أعلن النظام الجديد عدم الاعتداد بالاستقلال، وبأنه مزيف، لقد غدا حدث الاستقلال في ذمة التاريخ، ولولا نتائجه لما أمكن التنكر له، أية مفارقة هذه يا صديقي[1]!!!.

عندما وصل الرجل إلى نهاية حديثه، كنت مشغولا عنه بمغالبة مشاعري، وبمغالبة ذلك الكم من التساؤلات التي تبدأ بماذا لو؟، ثم لا تعرف نهاية. كانت تزدحم في ذهني صور من الماضي: بشخصياته العظيمة التي لفرط تواضعها لم نفيها شيئا من قدرها، بل وعافها بعض ممن نصبوا أنفسهم نخبا وطعنوا فيها ما شاءت لهم أقلامهم وألسنتهم، وبإنجازات عملاقة كانت العيون في عمى عن أن تراها حُسبت على أنها من سقط الصراع الدولي ولم تحسب من ثمار إخلاص وتفان مواطنين لا يملكون إلا هذا الإخلاص والتفاني. صور من الماضي حين كان الاستقلال والمصير والمستقبل في مهب الريح، وحين كانت مؤامرة بيفن ـ سفورزا حية تسعى، نسجتها أعتى قوى الاستعمار ونفخت فيها المصالح الدولية، ووقف خلفها أقوى تكتل دولي آنذاك، كيف تهاوت هذه المؤامرة وكيف قتلت الحية، ومن قتلها؟. كانت هذه الصور تزدحم في رأسي وأنا أنظر إلى هذا الرجل “سان لو” الذي لم تخل نكات بعض العابثين من اسمه وموقفه.

 فجأة بدا الرجل أمامي عملاقا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. نظرت إليه وقلت: كنت أعرف دورك، ولكنني لم أكن أظن أنه كان بهذا الحجم، ولا أظن أننا في ليبيا نعرف حجم دورك على حقيقته، وشددت على يده وقلت له إنني لا أجد العبارات المناسبة لأثمن موقفك، سوى أنه موقف تاريخي لا يتكرر صنعته شخصية فذة لا تتكرر.

خاتمة:

في ديسمبر 1971 انتهت أعمال الدورة السادسة والعشرين للجمعية العامة، وانتهى انتدابي للعمل بالبعثة، وعدت إلى عملي بالسفارة الليبية في واشنطن. تحادثت مع السيد سان لو هاتفيا مرات قليلة، فقد كان كثير الأسفار في تلك الفترة. غبت عن الاتصال به فترة من الزمن، وعندما اتصلت به وجدت هاتفه مقطوعا.

في عام 1972 ومع بداية الدورة السابعة والعشرين للأمم المتحدة جرى نقلي للعمل بالبعثة الليبية. وقد استغربت لأنني لم ألتق السيد سان لو في اجتماعات الجمعية العامة، فسألت المحاسب عن السيد سان لو وهل سيأتي لاستلام مخصصاته؟ أم أنها ترسل له بريديا. فنظر إلي مستغربا وقال ألم تسمع؟ … لقد توفي السيد سان لو.

جاءت ابنته إلى البعثة بعد وفاته بأسابيع وأخبرتهم بوفاة والدها.

وعلمت أن المساعدة التي كانت تقدم له قد توقفت.

انتهت حياةالدكتور إميل سان لو، وانتهت علاقته بليبيا إلا ما يحفظ التاريخ، وما يحفظ أبناء ليبيا.


[1]  كان يقصد لولا الاستقلال لما كان هناك جيش ليبي يقوم بعض ضباطه بانقلاب عسكري ويتنكرون للاستقلال ويصفونه بشتى النعوت

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.