من الذاكرة : مع الدكتور “إيميل سان لو” – رجل الموقف التاريخي الصعب -الحلقة الثالثة

كان مفتاح المشروع البريطاني يكمن في الفقرة التي تنص على وصاية إيطاليا على طرابلس، فهذه الفقرة هي أقوى حلقات المشروع وأضعفها في نفس الوقت. فهي تضمن تأييد كتلة أمريكا اللاتينية، وبدون هذا التأييد فإن المشروع مصيره حتما إلى عدم الإقرار وهذا هو مكمن الضعف الذي تشكله هذه الفقرة.

 كانت الاستراتيجية التي اعتمدتها الدول المعارضة لمشروع القرار تكمن في محاولة حرمانه من تأييد دول أمريكا اللاتينية عن طريق إسقاط الفقرة (ج) التي تقرر وصاية إيطاليا على طرابلس، وذلك بطلب تصويت منفرد على تلك الفقرة. كانت هذه الاستراتيجية مبنية على مظنة أن تقوم بعض من الدول الممتنعة عن التصويت بالتصويت ضد الفقرة باعتبار أن الوصاية الإيطالية يمكن أن تلقى معارضة أكبر من المعارضة التي يواجهها المشروع نفسه [1].

كان مشروع القرار البريطاني يتطلب حصوله على ثلثي الأصوات لإقراره[2]، وهذا كان يسري على أي تصويت منفرد على الفقرات. وعندما عرض مشروع القرار على الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 17 مايو 1949، قامت عدة دول بطلب إجراء تصويت منفرد على الفقرة (ج) المتعلقة بالوصاية الإيطالية[3]، فكانت نتيجة التصويت (33) صوتا مؤيدا، و(17) صوتا معارضا، وامتناع (8) دول عن التصويت. وبهذه النتيجة لم تحز الفقرة على أغلبية الثلثين المطلوبة، وكان الفارق صوتا واحدا.  يجدر أن نلاحظ أن الدول الحاضرة والمصوتة كانت 50 دولة وأن الأغلبية المطلوبة  كانت 34 صوتا. وقد لوحظ أن كل الدول قد صوتت تبعا لتصويتها في اللجنة السياسية فيما عدا صوت واحد تحول من التأييد إلى المعارضة هو صوت دولة “هايتي” الذي أدلى به الدكتور “إيميل سان لو”. ويلاحظ أيضا أنه لو قام “سان لو” بالتغيب عن التصويت، أو امتنع عن التصويت فإن الأغلبية المطلوبة ستكون 33 صوتا في الحالتين، أي أن المشروع كان سيجاز، إذ أن الدول الحاضرة المصوتة ستكون 49 دولة.

 كان ذلك -بحسب كل التقارير- مفاجأة لم تكن تتوقعها الأوساط في الأمم المتحدة، بما فيها الدول المعارضة للمشروع. سقطت كل “السيناريوهات والفرضيات” التي بنيت عليها الاستراتيجيات وكان الحسم لمفاجأة “سان لو” غير المتوقعة. ثلاثة فقط كانوا يتوقعون هذه المفاجأة: “سان لو” كان يعرف أنه قد عقد العزم على معارضة مشروع القرار. “عمر فائق شنيب” و “علي نور الدين العنيزي”  كانا يتوقعان ذلك، مع شيء من التوجس والقلق في ألا يلتزم السيد “سان لو” بوعده الذي قطعه لهما[4].

 بسقوط فقرة الوصاية الإيطالية أصبح مشروع القرار البريطاني آيلا للسقوط، إذ لم يعد لدول أمريكا اللاتينية أية مصلحة فيه، علاوة على ما اعترى النص من ثغرات لم تعد قابلة للرتق[5]. وعندما طرح المشروع للتصويت كانت نتيجة التصويت (14) صوتا مؤيدا، و(37) صوتا معارضا، وامتنعت (7) دول عن التصويت ، أي أنه لم يحصل حتى على الأغلبية البسيطة. وهكذا جرى دفن مشروع “بيفن ـ سفورزا”.

 على إثر سقوط هذا المشروع، بادر الوفد العراقي بتقديم مشروع قرار يقضي بمنح ليبيا الاستقلال فورا، وتقدمت دول أخرى بمشاريع لإبقاء القضية الليبية حية، غير أنها رفضت جميعا، وقبل اقتراح من بولندا يقضي بإحالة القضية الليبية إلى الدورة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة.

 وخلال الدورة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة لم تعد مشاريع الوصاية تجد قبولا، وساعدت التطورات التي جرت في ليبيا نفسها ، من ذلك إعلان استقلال برقة، وقيام اتصالات أدت إلى إزاحة الخلافات القائمة بين مختلف الأطراف في ليبيا، وكذلك تطور حدة تنافس المعسكرين الدوليين على توفير ظروف ملائمة للتوصل لاتفاق الدول على منح ليبيا استقلالها، وتمخضت تلك الدورة على قرار الجمعية العامة رقم (289- الدورة الرابعة) والذي يقضي بمنح ليبيا استقلالها.

 أسئلة كثيرة اضطرمت في رأسي حول موقف الدكتور “سان لو” من القضية الليبية. وهي أسئلة لم أجد إجابات لها في ملفات الدورة الثالثة للجمعية العامة عند بحثها لبند “مسألة المستعمرات الإيطالية”.

 وهكذا صرت أتحين الفرصة المناسبة للالتقاء بالسيد “سان لو”، حتى أستطيع أن أطرح عليه تلك الأسئلة، فهو الوحيد الذي يستطيع أن يجيبني عليها. وقد التقيت به عدة مرات في الجمعية العامة عندما كانت تنظر قضية “مقعد الصين في الأمم المتحدة”[6]، وكان يتابع بعض الجلسات، وكان يجلس دائما في ركن قصي من المقاعد الخلفية في قاعة الجمعية العامة، قال لي إنه يفضل أن يرى المشهد برمته، وهذا ما يتيحه له هذا الموقع القصي. وعندما سألته ماذا يتوقع نتيجة هذه المناقشات، وهل سيتم طرد الصين الوطنية وتحل محلها الصين الشعبية؟ قال لي بالنسبة له فإن الأمر لا يعدو أن يكون “فيلما قديما” شاهده عدة مرات، ولكن هذه المرة يوجد به عنصر جديد ومهم، وهو أن المناقشة تأتي بعد أن تبادلت أمريكا والصين الشعبية زيارات على مستوى عالي، منها زيارة هنري كيسنجر “مستشار الأمن القومي” إلى بكين في يوليو 1971.  وقال إنه  يريد أن يرى أثر ذلك وكيف سيستخدم الفرقاء هذا العنصر، وكيف سيكون تأثيره على مواقف الدول. وقال لي بأنه يعتقد أنه نتيجة لهذه التطورات فإن الصين الشعبية أمامها فرصة طيبة لم تتوفر لها من قبل، وأن هذا الملف قد يقفل في هذه الدورة.[7]

 لم تكن هذه اللقاءات العابرة مع سان لو مناسبة كي أطرح عليه تساؤلاتي، وإن كنا قد تحدثنا بصورة سريعة عن قضية استقلال ليبيا، وكنت أكرر له تثميني لموقفه ورغبتي في معرفة تفاصيله. في أحد هذه اللقاءات اقترحت عليه أن نتناول طعام العشاء سوية لنتحدث بصورة أوسع عن  دوره في قضية استقلال ليبيا، وذكرياته عن زيارته للبلاد.

 وهكذا كان لقائي مع الدكتور “إيميل سان لو” على طعام عشاء في مطعم صغير يدعى ” مطعم الشجرتين” (Bair Trees). عندما اقترحت عليه المطعم، قال لي كيف عرفت أنني أحب هذا المطعم؟، فضحكت وقلت له إنها رمية من غير رامي، وسعيد بأنني أصبت هدفا كنت أقصده فعلا، فأنا أريد أن أدعوك بالفعل إلى مطعم تحبه، ولكن الواقع هو أنني حديث عهد بهذه المدينة، وهذا المطعم هو الوحيد الذي علق اسمه في ذهني نظرا لقربه من مقر البعثة الليبية ومن مقر الأمم المتحدة،، فضحك كثيرا وقال أنا أيضا لا أعرف الكثير عن هذه المدينة بالرغم من أنني أعيش بها منذ فترة طويلة.

 عندما وصلنا إلى المطعم قلت للدكتور “سان لو” بأن إطلاعي على ملفات القضية الليبية في الأمم المتحدة لم تزدني إلا تعطشا للإلمام بتفاصيل دوره، وقلت له لك أن تتخيل كل أدوات الاستفهام وتعلم تماما أنها تدور في ذهني، وأن الجوع الذي لا أشك أنه ينهشنا بعد يوم طويل، لا يساوي شيئا أمام ما يساورني من تعطش لمعرفة التفاصيل التي أريد أن أعرفها منه هو دون غيره.  وعندما قلت له هل تمانع في أن أدون ملحوظات؟، ضحك وقال لي يبدو أنك لن تتعشى إذن .. فأنا أتحدث كثيرا، واستمر يضحك وهو يقول لي: هل تعرف أنك جعلتني أعود لدفاتري القديمة التي كنت أدون فيها ملحوظاتي أيام كنت مندوبا لهايتي في الأمم المتحدة حتى أستعين بها على إجابتك لما تريد من معلومات، وهناك أجزاء من تلك الدفاتر لم أكمل مراجعتها بعد. وضحك طويلا وهو يقول وهكذا ترى أنك قد أعطيتني واجبا منزليا، ولن يسعفك إذن عشاء واحد لتعرف كل التفاصيل . وفعلا استمر الحوار مع الدكتور سان لو على مدى ثلاثة لقاءات، وقد رجعت في صياغة مضمون الحوار إلى الذاكرة واستعنت بملاحظات كنت قد دونتها.

 عندما بدأ حديثه بدت ملامح الجدية على وجهه، وقال لي بأن القضية الليبية قد شكلت الصدمة الثانية التي واجهها في عمله الدبلوماسي، أما الصدمة الأولى فكانت قرار تقسيم فلسطين. كان العالم قد خرج من الحرب العالمية الثانية، وكانت الأمم المتحدة ما زالت تحبو، ولكنها كانت تبشر في ميثاقها بنظام دولي جديد يرسي قوائم العدل والمساواة بين الأمم، لكن المسألة الفلسطينية والقضية الليبية قد كشفتا له أن ممارسات أعضاء الأمم المتحدة تتناقض مع الميثاق بشكل صارخ، وأن نيران الحرب الكونية التي ما زالت ذيولها مستمرة آنذاك لم تعد تشكل أي رادع، وأن الحرب الباردة قد أصبحت تنذر بأنها ستكون أشد ضراوة وضررا. كان سان لو  يتحدث بهدوء لكن عضلات وجهه كانت تعبر عن انفعالات تضطرم في نفسه. ثم ابتسم وهو يقول ستعلمك التجارب أن الميثاق لا يساوي شيئا إن لم يسانده عزم من الدول الأعضاء على تطبيقه نصا وروحا، ولعل هذا ما حال دون نجاح الأمم المتحدة في معالجة المشاكل والقضايا الكبرى التي عرضت عليها، خذ مثلا قضية فلسطين، إنها تزداد تعقيد يوما بعد يوم، ولم ينفذ أي من القرارات الصادرة بخصوصها سوى قرار التقسيم . وقال وهو يبتسم: ربما الظروف الآن أفضل فهناك تكتلات أصبحت تشكل ضغطا مناسبا، هناك مجموعة عدم الانحياز ومنظمة الوحدة الإفريقية والدول العربية وغيرها باتت تشكل تجمعات مهمة، ولكن تأثيرها ينحصر في إطار الجمعية العامة التي لا تمتلك قراراتها قوة التنفيذ إلا إذا أرادت القوى الكبرى التي في المقابل تسيطر بقرارات النقض التي تمتلكها على قرارات مجلس الأمن.

 كان وجهه يعبر عن أسى حقيقي مما واجهه خلال سنواته في الأمم المتحدة، وأوضح بأن الذين عاصروا بدايات الأمم المتحدة من مندوبي دول العالم الثالث واجهوا خيبة أمل كبيرة في أن تكون قيم الحق والعدل هي السائدة، أو أن تكون هذه المنظمة دوحة للسلام والأمن والعدل، وقال لقد كانت المصالح –وستظل- تطل بكل ما تحمله من أنياب لتنهش كل ترتيبات دولية وتفرغها من محتواها.

 كنت مستمتعا باسترسال السيد سان لو في حديثه وما يقدمه لي من خلاصة تجربته، ومن ثم فقد كنت أتابع حديثه بكل اهتمام، وكنت في الوقت نفسه أرغب في أن يعود بحديثه إلى القضية الليبية. وكأنه عرف ما يعتمل في نفسي، فقال لي، سوف نعود إلى الحديث عن القضية الليبية أمام الجمعية العامة. لقد قلت لك بأن قرار تقسيم فلسطين والقضية الليبية كانتا صدمتين لي فيما كنت أعلقه من آمال على المنظمة الدولية الوليدة. مع قرار التقسيم حاولت وفشلت أن أقنع حكومتي بالتصويت ضد المشروع أو على الأقل الامتناع عن التصويت. وعلى أية حال فلم يكن صوت هايتي ليغير شيئا، ذلك لأن القرار كان سيجاز على أية حال، فاكتفيت بموقف احتجاجي هو ضد حكومة هايتي أكتر منه أي شيء آخر، وهو موقف أثار استغراب الوفود في الجمعية العامة، لكن لم يكن له أي أثر سوى تكوين مشكلة لي مع حكومة بلادي، وربما تكوين سابقة في الأمم المتحدة عندما كان حديثي بمثابة تنديد بموقف حكومتي. أما فيما يتعلق بالقضية الليبية فقد ساعدتني جملة من الظروف على أن يكون موقفي إيجابيا ومؤثرا.

==========================

يتبع … الحلقة الرابعة

==========================


[1]      لأسباب كثيرة منها أن إيطاليا كانت الدولة المستعمرة، وكان سجلها غاية في السوء أثناء استعمارها للبلاد، وأنها دولة مهزومة في الحرب العالمية الثانية وليس هناك مبرر لمكافئتها بمنحها وصاية على إقليم كانت تحتله ،  وأن الليبيين كانوا قد قاوموا الاحتلال الإيطالي، كما قامت المظاهرات والإضرابات في ليبيا رفضا للمشروع البريطاني وتنديدا بموضوع الوصاية الإيطالية، كذلك احتمال أن بعض الدول الممتنعة قد امتنعت عن التصويت تفاديا للحرج مع بريطانيا التي شكلت آنذاك مع أمريكا محورا مركزيا في المنظمة الدولية . لكن كل هذه الاعتبارات لم تجد شيئا أمام لغة المصالح.

[2]  أغلبية الثلثين مطلوبة لأن مشروع القرار يحتوي على “مسائل تتعلق بسير نظام الوصاية” التي تلزم المادة (83) من قواعد الإجراءات أن تقرر بهذه الأغلبية وليست بالأغلبية البسيطة. تتقرر النتيجة باحتساب أصوات الحاضرين المصوتين (مؤيد أو معارض) ، وهذا يعني عدم احتساب أصوات الممتنعين أو الغائبين عن التصويت

[3]    وذلك بموجب المادة 89 من قواعد الإجراءات التي تتيح تجزئة الاقتراحات ومشاريع القرارات أثناء التصويت

[4]    لم أتمكن من معرفة ما إذا كان بقية أعضاء الوفد الليبي قد علموا بذلك من عمر شنيب والعنيزي

[5]   أصبح المشروع خاليا من أي نص حول الوصاية على طرابلس، وقد حاولت بريطانيا إنقاذ مشروعها بأن تدخل فقرة جديدة على النص بإسناد الوصاية لها على طرابلس باعتبارها الدولة التي تتولى الإدارة، ولكن المشاورات أوضحت أن ذلك لن يسعف مشروع القرار.

[6]   كانت جمهورية الصين الوطنية (فورموزا، أو كما تعرف حاليا باسم تايوان) تشغل مقعد الصين في الأمم المتحدة، وكانت عدة دول تتبنى مطلب جمهورية الصين الشعبية بأحقيتها في هذا المقعد، وبرفض أن تمثل جمهورية الصين الوطنية بالمنظمة الدولية،  وهذا ما كانت ترفضه دول أخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية

[7]   وفعلا  فخلال تلك الدورة فشلت أمريكا في منع قرار يقضي بشغل جمهورية الصين الشعبية للمقعد في الأمم المتحدة، وقد تم ذلك خلال إحدى أطول جلسات الجمعية العامة وأكثرها صخبا ، وهي جلسة استخدمت فيها كل أنواع المناورات الإجرائية، علاوة على الضغوط السياسية التي لم تستطع أن تختفي وراء الكواليس، وكان مندوب أمريكا في الأمم المتحدة آنذاك الرئيس جورج بوش الأب، الذي استنفر كل الوفد الأمريكي، بل والوفود الحليفة لأمريكا لإسقاط القرار الذي تزعمت “تنزانيا” قائمة الدول التي تبنته، كما كان السفير البارودي في تلك الجلسة رأس الحربة في المناورات الإجرائية التي لم تجد نفعا رغم براعتها.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.