مخاطر تُهدد أمن الوطن

لا أعرف أحقيقة ما ينسب إلى النعامة من أنها تدس رأسها في الرمال عندما تحدق بها الأخطار، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تشنيعا بهذا الحيوان الفريد. لكن الذي أعرفه أن الأمر حقيقي في الحالة الليبية الراهنة. ذلك لأن تصرفات المسؤولين في السلطات الانتقالية الحاكمة تدل على أنهم إما لا يعون الأخطار المخيفة التي تحدق بالوطن وتهدد أمنه القومي، أو أنهم يتجاهلون هذه الأخطار ولا يلتفتون إليها، بل إننا شهدنا كيف ساهموا في صنع بعض هذه الأخطار بتصرفات ارتجالية.

الملفات كثيرة لن تستطيع هذه المقالة استيعابها والإحاطة بها، ولكننا سنطرح بعضها كأمثلة دالة على حقيقة الأخطار التي  يواجهها الوطن، وحقيقة تصرف السلطات الانتقالية تجاهها.

قد يكون الغزو المسلح للكفرة أكثر الأخطار وضوحا؛ انطلقت التحذيرات المبكرة من سكان الكفرة مستنجدين بتدارك الكفرة وحمايتها والدفاع عنها بقوة رادعة، وجاءت تحذيرات واضحة ومبكرة بأن هجرة مسلحة تتم إلى منطقة الكفرة. لكن المجلس والمكتب التنفيذي والحكومة الانتقالية لم يحركوا ساكنا. وعندما تفجرت أحداث الكفرة لم يجد المجلس والحكومة سوى الزعم والادعاء بأن الموضوع لا يعدو أن يكون خلافا قبليا. رغم تساقط القتلى والجرحى وتحول الكفرة إلى ساحة حرب حقيقية، استمر المجلس والحكومة في ترديد نفس المزاعم دون أن يدركا أنه حتى وإن كانت الحالة كذلك فإن الواجب يقضي بالمبادرة إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بوقف الاقتتال بين “القبائل” المتنازعة. لكن المجلس والحكومة اضطرا في النهاية إلى الاعتراف بحقيقة وجود العنصر الأجنبي المدعوم من وراء الحدود في الاقتتال الدائر، والذي كان –ومايزال- يهدف إلى السيطرة على الكفرة واحتلالها. لكن هذا الاعتراف جاء بعد أن توغلت مجموعات مسلحة إلى داخل الحدود، وبعد أن تم ترويع أهل الكفرة وتقتيل أعداد منهم. قد يكون الأمر هادئا الآن، لكن النوايا العدوانية التي تستهدف الكفرة ما زالت قائمة. ما زال بعض عناصر الحكم المنهار يتواجدون فوق الأراضي التشادية يدبرون مؤامراتهم ويديرونها، وما زالت أعداد كبيرة من تبو تشاد موجودين بهويات مزورة فوق الأراضي الليبية، مثلهم مثل المتسللين من منطقة دار فور الحدودية، كما لم تتخذ أي إجراءات لتفكيك المجموعة التي ساهمت بدور أساس في إشعال الفتيل، بل تركت بكامل عدتها وعتادها وإمكاناتها التي وفرها لها المجلس الوطني الانتقالي، لتعد العدة لكرة جديدة من أجل تحقيق أهدافها.

بالرغم من أن أحداث الكفرة قد شكلت قرعا مدويا لنواقيس الخطر، إلا أن الدرس لم يتم استيعابه على ما يبدو، ولم يتم تقييم المخاطر والنوايا التي تستهدف الكفرة، ولا مخاطر تداعيات هذه النوايا وآثارها الاستراتيجية على ليبيا بأكملها. كل المعطيات تفيد بأن الأراضي الواقعة بين الكفرة وجالو مستهدفة لأن تكون “أرض التبو”، هناك خرائط تم الحصول عليها تفضح هذا المخطط، ثم ما يعنيه هذا من السيطرة على موارد النفط في المنطقة، علاوة على السيطرة على موارد المياه التي أصبحت ليبيا كلها تشرب منها، وما يعنيه ذلك من الارتهان الكامل لإملاءات المسيطرين على تلك المنطقة، ولا ننسى ما يترتب عن ذلك من تهجير للسكان الليبيين. لماذا يتم تجاهل هذه الحقائق؟ وبالتالي لماذا لا تتخذ الإجراءات لحماية الحدود الليبية- التشادية؟ ولماذا لا يتم تفكيك المجموعة التي كانت رأس الحربة؟ لماذا تُترك هذه المجموعة تحاربنا بالإمكانات التي قدمها المجلس لها؟.

وقبل الكفرة كانت أحداث بني وليد. أصر وزير الدفاع على وصفها – هي الأخرى- بأنها كانت بين أطراف محلية متنازعة، بالرغم من أن صورا تم بثها توضح بما لا يدع مجالا للشك أن عصابات الحكم المنهار كان لها يد في ما حدث، وأنها تمكنت من السيطرة المؤقتة على أجزاء من المدينة، ورفعت علم القذافي، ورددت هتافات وشعارات من مخلفات الحكم المنهار. وانتهت أحداث بني وليد دون أي حسم، وهي مرشحة لأن تتكرر طالما أن العناصر التي أججتها وحركتها ما زالت في مواقعها، إن لم نقل بأنها قد تمكنت من خلال التسوية التي توصلت إليها مع وزير الدفاع من ان تحقق لأنفسها مواقع أكثر تقدما تمكنها من فرض مزيد من الشروط.

وإذا كانت أحداث الكفرة مدوية، وأحداث بني وليد مشاهدة، فإن حدودنا مع النيجر تشهد خروقات مستمرة –دون أن يلتفت لها أحد من المسؤولين في طرابلس- توغلت حتى وصلت إلى عدد من مدن الجنوب الليبي. التقارير واضحة ومتواترة على أن الأمر لم يعد تسللا فرديا وإنما أصبح هجرة منظمة بهويات مزورة. تتفاقم الأوضاع في تلكم المناطق. لا شيء يُفعل لتوقي هذا الخطر الداهم، ربما انتظارا لتأزم الموقف وسقوط الضحايا ثم وصف الأمر بأنه نزاع قبلي. الأمر خطير جدا خاصة بعد سيطرة طوارق مالي على المناطق الحدودية لمالي مع كل من النيجر والجزائر، ومع وجود عناصر من الحكم المنهار في النيجر.

ملفات أخرى لا تقل أهمية من حيث تأثيرها على الأمن القومي الليبي، وهي ملفات إما جرى إهمال التعامل معها أو تم التغاضي عن المخاطر التي تترتب عنها، منها:

أولا: ملف رموز الحكم المنهار الذين تم القبض عليهم، ثم جرى التهاون معهم بإطلاق سراحهم، ثم تسهيل هروبهم إلى الخارج. الأسماء كثيرة لأولئك الذين تمكنوا من الهروب من بين الأيدى، ولعل أخطر هذه الحالات هي حالة المدعو بشير صالح الذي كان يشغل منصبا من أخطر المناصب أهّله على الاطلاع على أدق التفاصيل والأسرار حول كل ممارسات وجرائم معمر القذافي في كل المجالات الحقوقية والمالية وغيرها، كما أنه كان شريكا في كثير من هذه الجرائم. كثيرون تمكنوا من الهرب ولا يقلون خطورة عن بشير صالح، لكن حالة بشير صالح أثبتت مدى التسيب والاستخفاف والتساهل الذي يتم التعامل به مع من أجرموا في حق الشعب الليبي، كما أثبتت عدم تقدير المخاطر التي يترتب عليها هروب هذا المجرم؛ فلم يعد هذا المجرم هاربا فقط ولكنه أصبح مستشارا لرئيس دولة النيجر الجارة والتي يزيد عداؤها لبلادنا يوما بعد يوم. فلماذا يُصبح هذا المجرم الهارب مستشارا لرئيس دولة إن لم يكن قد تمكن من الهروب بمليارات الدولارات وبأطنان الملفات من المعلومات، وإن لم يكن مجلسنا وحكومتنا بهذا الضعف والتراخي في مراعاة المصلحة الليبية العليا. وهل أدرك المجلس والحكومة الآن –بعد فوات الأوان- المخاطر الاستراتيجية التي سوف يشكلها مستشار الرئيس النيجري الجديد على أمننا القومي، وهل أدركوا كيف سيكون الأمر إن اجتمع مع غيره من عناصر الحكم المنهار المقيمين في النيجروتشاد والجزائر وغيرها من الدول.

ثانيا: الملف الثاني هو ملف مجرمي الحكم المنهار الهاربين والمقيمين في عدد من دول العالم، والتراخي في متابعتهم والمطالبة بتسليمهم. لقد ضاع وقت طويل وثمين جدا، ومع ذلك لم تقم  السلطات الانتقالية بإعداد قضايا وحيثيات تدعم مذكرات القبض والإحضار التي يُفترض –وإن كنت أشك في ذلك-  في أنها قدمت إلى جهات الاختصاص. المعلومات تدل على أن كثيرين منهم قد تمكنوا من تأمين أنفسهم بإقامات إما في الدول التي هربوا إليها أو في دول أخرى، كما تمكنوا من تحويل الأموال التي نهبوها في حسابات ومصارف لا يمكن الوصول إليها. وباختصار لقد تم إعطاؤهم الوقت الكافي كي تصبح عملية ملاحقتهم قضائيا غاية في الصعوبة إن لم تكن مهمة مستحيلة.

الملف الثالث: هو ملف مجرمي الحكم المنهار الذين ما زالول في ليبيا؛ بعضهم وجدوا الطريق من أوسع الأبواب ليعودوا إلى أكثر المراكز حساسية، وبعضهم يتجول طليقا في مختلف المدن، وبعضهم تُرك ليقيم في بيته تحت إقامة مريحة، وبعضهم تلقى كلمات الإطراء والثناء من أعضاء مهمين في المجلس الانتقالي، وأُغدقت عليهم أوصاف الثورية التي لا يستحقونها وخدمة الثورة التي لم يقوموا بها. حتى هؤلاء لم يراعي المجلس والحكومة العدل في التعامل معهم؛ بعضهم ارتكب من الجرائم ما يُحتّم التعامل معهم بكل حزم وممارسة أقصى الاحتياطات الأمنية، لكنه –رغم ذلك- يترك حرا أو في بيته. وآخرون كانت جريمتهم أنهم تابعوا القذافي إلى النهاية، وهي في حد ذاتها جريمة يحاسبون عليها، وهم رهن الاعتقال في المعتقلات، لكنهم لم يرتكبوا معشار الجرائم التي ارتكبها أولئك الذين نقلوا إلى الإقامة في بيوتهم. مثال صارخ على ذلك: مصطفى الخروبي وعبدالعاطي العبيدي. لماذا يقيم الخروبي في منزل معززا مكرما وهو المسؤول عن إحباط كثير من المحاولات التي جرت لإنقاذ البلاد؟ وهل نأمن ألا يهرب أو يٌهرّب؟

الملف الرابع: ملف سيف القذافي، المطلوب للعدالة الليبية وللعدالة الدولية في آن واحد، والذي يُعد بحق أخطر عناصر الحكم المنهار. إن الأسلوب المُتّبع في التعامل مع هذا المجرم الخطير يوحي بانعدام المسؤولية، وبعدم إدراك المخاطر التي تترتب على هذا الاسلوب، بل إن هذا الأسلوب قد يؤدي إلى هروبه أو تهريبه، وهو أدى فعلا إلى انتقادات كثيرة من المجتمع الدولي لتأخير التحقيق معه وبالتالي تأخير محاكمته.

هذه عيّنة من الملفات التي تثشكّل تهديدا بالغ الخطورة للأمن القومي الليبي، والتي لا تواجه بطريقة توحي أن المسؤولين يدركون خطورتها ويعملون على إبطالها. إن المسؤولية جسيمة، وإن المخاطر تهدد كيان الوطن وسلامة أراضيه.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.