حين يصبح التهريج فكرا

خطاب القذافي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كان فرصة ثمينة ليظهر القذافي على حقيقته الديماغوجية الهمجية بصورة أكثر وضوحا أمام المجتمع الدولي، وكانت مناسبة استثمرها أحرار وحرائر ليبيا في التعبير عن موقفهم الرافض لحكم القذافي على مسمع ومرأى من أعوانه ومسؤولي أجهزته القمعية وعملائه من أعضاء اللجان الثورية، كما كانت مناسبة كررت فيها أجهزة الإعلام –العربية خاصة- ممارساتها الخارجة عن كل أصول الحرفية الإعلامية.

وعلى أية حال فهي ليست المرة الأولى التي تهتم أجهزة إعلام عربية وأجنبية بشطحات القذافي وتفرد لها حيزا من التعليق والتندر والسخرية. لقد أصبح الإعلام يولي اهتماما بالديماغوجية والإثارة الرخيصة والخروج عن المألوف، ويقدمها على الموضوعية والعمل الرصين الجاد.

وليست المرة الأولى التي يعمد فيها القذافي إلى استخدام الأساليب الديماغوجية للفت الانتباه، وإلى خطف بعض المسائل والقضايا المثارة أصلا ومحاولة نسبتها لنفسه، وفي نفس الوقت يقوم بتفريغها من مضامينها من خلال هزلية الطرح وسخافة العرض وإساءة اختيار التوقيت.

لقد تابعنا كيف قامت قناة الجزيرة بتخصيص أكثر من أربعة برامج للحديث عن خطاب القذافي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتابعنا كيف لم يمارس مقدموا هذه البرامج الحيدة والموضوعية، كان ذلك أكثر وضوحا في برنامج “منبر الجزيرة” الذي أهمل عددا كبيرا من التعليقات المرسلة عن طريق البريد الالكتروني لأنها تنتقد أداء القذافي أمام المنظممة الدولية، فيما حرصت مقدمة البرنامج على إضافة عبارة “على حد قوله” إلى كل تعليق غير مؤيد للقذافي، بينما اعتبرت التعليقات الأخرى مسلمة لا تحتاج منها إلى تذييلها بنفس العبارة، بل إن عنوان حلقة البرنامج كانت في حد ذاتها مؤشرا على الانحياز الكامل وإطراء مسبقا لما جاء في خطاب القذافي. بالإضافة إلى هذه البرامج الأربع، فقد كانت التغطية الإخبارية للخطاب مطولة، فيما امتنعت قناة الجزيرة أن تعطي أية تغطية للمظاهرة التي قام بها حشد كبير من الليبيين والتي لم يغب عنها لا مراسل ولا كاميرات الجزيرة التي قامت بالتصوير فيما أجرى المراسل عددا من المقابلات مع المتظاهرين. اختارت إدارة القناة في الدوحة ألا تغطي المظاهرة وألا تذيع المقابلات المصورة وأن تخصص أربعة برامج تدور حول خطاب القذافي بطريقة خلت من أية حرفية إعلامية.

وتابعنا أيضا مساعي الإعلام العربي –على وجه الخصوص- الرامية إلى نسبة بعض الأمور والمسائل المطروحة في الأوساط الدولية –وبعضها مطروح منذ سنوات- إلى “عبقرية ” القذافي، وكأنه هو صاحبها ومنشؤها، وكأنه هو الوحيد الذي اكتشف الخلل ويحمل في عباءته الحلول النهائية لكل ما يعترض العالم. نأخذ مسألتين على سبيل المثال لا الحصر تحاول أجهزة الإعلام العربية نسبتها للقذافي.

أولها: مسالة حل القضية الفلسطينية على أساس إقامة دولة واحدة يتعايش فيها الفلسطينيون والإسرائيليون. هذا الطرح لم يعد مجديا، فضلا عن أنه قديم قدم خطاب السيد ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، حيث طرح حل إقامة دولة واحدة يتعايش فيها الفلسطينيون والإسرائيليون، فقال:

“فلنعمل معاً على تحقيق الحلم في أن أعود مع شعبي من منفاي  لأعيش مع هذا المناضل اليهودي ورفاقه، ومع هذا المناضل الراهب المسيحي وإخوانه في ظل دولة واحدة ديمقراطية يعيش فيها المسيحي والمسلم واليهودي في كنف المساواة والعدل والإخاء”.

ولم تتوقف المطالبة بالدولة الديمقراطية الواحدة عند انتهاء خطاب عرفات، وإنما أصبح هذا المطلب من أساسيات عمل منظمة التحرير الفلسطينية في المحافل الدولية لفترة طويلة أعقبت الخطاب، ولم يتوقف إلا بعد أن بدأت تلوح في الأفق بوادر مشروع الدولة الفلسطينية. كان لهذا الطرح ما يبرره آنذاك في وقت كان الحديث عن الدولة الفلسطينية مغيبا بالكامل، وغير مقبول من قبل كثير من دول العالم ، بل في وقت كانت فيه القضية الفلسطينية مغيبة عن جداول أعمال الجمعية العامة لسنوات طويلة، كانت المنظمة الدولية خلالها تناقش بنودا تتعلق بشؤون اللاجئين من خلال تقارير “وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين” كما تناقش الأوضاع في الأراضي المحتلة نتيجة لحرب يونيو 1967 من خلال تقارير لجنة مشكلة لهذا الغرض، لم تسمح لها إسرائيل –على أية حال- بدخول الأراضي المحتلة. حينها لم تكن قضية فلسطين على جدول الأعمال. ولم تعد القضية الفلسطينية إلى جدول أعمال الجمعية العامة إلا خلال الدورة التاسعة والعشرين (1974) حيث نجحت الدول العربية مدعومة بدول عدم الانحياز والصين وكتلة أوروبا الشرقية في إدراج بند تحت عنوان “مسألة فلسطين”، كما نجحت في دعوة السيد ياسر عرفات ليلقي خطابه التاريخي أمام الجمعية العامة الذي طالب فيه بحل الدولة الواحدة.

ولذلك فيمكن القول أن اختطاف معمر القذافي لهذا المشروع يأتي في الوقت الغلط، وفي محاولة لإحياء الموات ربما بهدف تمييع وخلخلة بوادر اتفاق دولي على إقامة والاعتراف بدولة فلسطينية. بقي أن نقول بأن القذافي لم يزد من عنده شيئا على مشروع عرفات سوى اسم “اسراطين” كتسمية للدولة استقر عليه بعد أن حام كثيرا حول اسم آخر هو “فلسرائيل”.

أما ثاني هذه المسائل التي يحاول القذافي اختطافها ويحاول الإعلام العربي نسبتها إليه دون غيره، فهي ما ورد خلال خطابه حول إصلاح مؤسسات الأمم المتحدة.

موضوع إصلاح مؤسسات الأمم المتحدة مثار منذ أن تم تأسيس الأمم المتحدة، أثير في أكثر من مناسبة، ولم تخل دورة من دورات الجمعية العامة من بحث لهذا الموضوع، وهناك لجان مختصة تبحث في مختلف الجوانب القانونية والإجرائية للتعديلات المقترحة على مؤسسات الأمم المتحدة، خاصة الجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي، وحفلت كلمات عديد من رؤساء الوفود –خلال دورات الجمعية العامة المتعددة- بمطالبات لإحداث هذه التعديلات، بل إن كلمات رؤساء الدول والوفود –خلال الدورة الحالية- لم تخل من هذه المطالبات، وعلى سبيل المثال كلمة الرئيس الفرنسي والرئيس الإيراني ورئيس الوزراء الهندي وغيرهم. لكن الفارق بين مطالبات هؤلاء وبين ما قام به القذافي هو تماما الفارق بين الموضوعية والتهريج، وبين البحث عن الممكن والتحليق في الأوهام، وبين الرغبة في تحقيق هدف إصلاح الأمم المتحدة والرغبة في لفت الأنظار.

منذ إنشاء الأمم المتحدة أجريت عدد من التعديلات حول عضوية واختصاصات كثير من المؤسسات والأجهزة التابعة لها، استحدثت مؤسسات لم تكن موجودة يوم التأسيس، وفقدت مؤسسات أخرى أهميتها بتقلص الدور المناط بها مثل مجلس الوصاية.

الجمعية العامة ومجلس الأمن هما أهم مؤسستين في الأمم المتحدة، وقد كانت التساؤلات دوما تدور حول عدة مسائل أهمها:

  1.  صلاحيات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
  2.  تركيبة مجلس الأمن الدولي: عدد الأعضاء وموضوع حق النقض الذي تتمتع به الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن.

 

بالرغم من أن الجمعية العامة يُمثَل فيها كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، إلا أن صلاحياتها في مجال النزاعات الدولية محدودة، وقراراتها في كثير من الأحوال غير ملزمة. لكن القول بأن الميثاق يجعل من الجمعية العامة مؤسسة صورية (للديكور) وليس لديها أي اختصاصات هو قول قاصر ولا يحتاج إلا إلى إطلالة واحدة على الميثاق لإدراك المهام الكبرى المناطة بالجمعية العامة للأمم المتحدة في مجالات الأمن والسلم الدوليين، والتعاون الدولي في مجالات الاقتصاد والتنمية والفضاء الخارجي، والمسائل الإنسانية المختلفة كالتفرقة والفصل العنصريين، وقضايا الأقليات، وقضايا المرأة والطفولة والأسرة، وقضايا التحرر، والقوانين التي تحكم العلاقات الدولية. إن معظم الوكالات والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة كمنظمات التنمية، والتجارة، والأغذية، والبيئة، والعلوم والثقافة وغيرها تم إنشاؤها بقرارات من الجمعية العامة، وهي لهذا تقدم تقاريرها إلى الجمعية العامة ما يجعلها ذات صلة عضوية بها. الجمعية العامة هي التي تنتخب قضاة محكمة العدل الدولية، وهي التي تنتخب الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن، وتشارك مجلس الأمن في انتخاب الأمين العام للأمم المتحدة. بل إن الجمعية العامة لديها الحق في حالات يحددها الميثاق أن تتجاوز مجلس الأمن الدولي وتضطلع بدراسة قضية معروضة أمام المجلس وتتخذ بخصوصها قرارات ملزمة. وقد حدث ذلك مرتين على الأقل: الأولى عام 1951، أثناء الحرب الكورية حين فشل مجلس الأمن في التوصل إلى قرارات بالخصوص، والثانية عام 1956 أثناء العدوان الثلاثي حين استخدمت بريطانيا وفرنسا النقض لمنع قرارات تقضي بوقف إطلاق النار والانسحاب من الأراضي المصرية المحتلة. وفي كلتا الحالتين نجحت الجمعية العامة في التوصل إلى قرارات كانت ملزمة وتم تنفيذها. أما ما لا يدركه القذافي هو أن الجمعية العامة بأعضائها الذين يعدون 192 عضوا لن يكون في إمكانها التصدي لقضايا النزاعات القائمة والعاجلة التي تتطلب سرعة التشاور والتوصل إلى قرارات، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه مع 192 مندوبا لكل منهم الحق في المشاركة في المناقشة والإدلاء بآرائهم والرجوع إلى حكوماتهم. هذه هي إحدى المعضلات التي تواجهها مساعي تحسين أداء الجمعية العامة، وهي معضلة قابلة للحل باعتماد حلول إجرائية وقانونية يتم الاتفاق حولها. أما المعضلة الحقيقية التي تعوق تحسين أداء الجمعية العامة وتحول دون تمكينها من التدخل في حل القضايا والمنازعات التي يعجز مجلس الأمن في التوصل إلى حلول حولها –كما حدث في الحرب الكورية والعدوان الثلاثي- فهي معضلة غياب الإرادة الجماعية للدول الأعضاء في الجمعية العامة. هي نفس المعضلة التي جعلت من قرارات مجلس الأمن –في السنوات الأخيرة- تبدو أحادية التوجه. هذا الخلل يعود أصلا إلى أعضاء المنظمة الدولية لا إلى ميثاقها، فلم يعد للدول على اختلافها نفس الإرادة الي توافرت خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، بل إن دور المجموعات التي كانت مؤثرة تهاوت واندثرت، فلم يعد لمجموعة عدم الانحياز والمجموعة الآفرو-آسيوية دورها، وتهاوت وتفرقت كتلة أوروبا الشرقية وانتهى الاتحاد السوفيتي وأصبحت أمريكا القوة الوحيدة المؤثرة، وانعكس هذا كله على أداء كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن.

أما تركيبة مجلس الأمن الدولي فليست موروثة من زمن تأسيس الأمم المتحدة، فقد تم تعديل الميثاق عام 1965، وزيد عدد الأعضاء الغير دائمين من 6 اعضاء إلى عشرة أعضاء. وبدون شك فإن عددا كبيرا من الدول قد انضم إلى عضوية الأمم المتحدة ما يدعو إلى توسيع المجلس، وهو ما يجري التباحث بخصوصه منذ فترة ويجري ربطه بما إذا كانت هذه التوسعة ستشمل الدول دائمة العضوية أيضا أم سيتم حصرها في زيادة عدد من الأعضاء غير الدائمين.

ما يحول دون التوصل إلى اتفاق بالخصوص هو اختلاف الدول، وبالذات دول العالم الثالث حول من سيكون عضوا دائما عن إفريقيا وآسيا، وما الذي ينبغي على دول القارتين القبول به لقاء حصول كل منهما على مقعد دائم. أوروبا تريد مقعدا لألمانيا، والدول الصناعية تريد مقعدا لليابان، وكندا تطمح في أن يكون لها مقعد دائم. وفي آسيا تتصدر الهند المرشحين لمقعد دائم، قد يعرقل طموحها تنسيب اليابان إلى المجموعة الآسيوية، كما قد لا يمر هذا الترشيح بيسر للخلافات الهندية الباكستانية وللتحالفات المتوقعة في أوساط القارة. والأمر في أمريكا اللاتينية ليس محسوما للبرازيل –كما قد يتبادر إلى الذهن- فالأرجنتين هي الأخرى ترى أن من حقها ان يكون لها مقعدها الدائم. وفي إطار المجموعة الإفريقية تتصدر الترشيحات ثلاث دول هي نيجيريا وجنوب إفريقيا ومصر. لكن الأمر المطروح بشدة في أروقة الأمم المتحدة هو إضافة كل من ألمانيا واليابان والهند والبرازيل ودولة واحدة من إفريقيا. هذا هو الثمن الذي ستدفعه إفريقيا؛ القبول بإضافة أربعة مقاعد دائمة لقاء الحصول على مقعد واحد. وقد تكون جنوب إفريقيا هي أكثر الدول الإفريقية حظا في الوصول إلى المقعد الإفريقي الدائم وليست مصر كما يرغب العرب.

إضافة مقاعد دائمة سيرتب أيضا إضافة عدد من المقاعد غير الدائمة موزعة على المجموعات الجغرافية، ما سيجعل مجلس الأمن يتكون من عدد من الأعضاء قد يزيد على 25 عضوا، الأمر الذي يُخشى أن يؤدي إلى ترهل المجلس وزيادة إمكانيات استخدام النقض ومزيد من عرقلة قرارات المجلس، حيث سيكون من حق تسع أو عشر دول استخدام النقض بدلا من الأعضاء الدائمين الخمس الحاليين. ولهذا فقد طُرح في أوساط المنظمة الدولية وفي أكثر من مناسبة سؤال حول مدى إمكانية إلغاء النقض والاكتفاء بالعضوية الدائمة لبعض الدول، وهو أمر رفضته الدول دائمة العضوية بصورة قاطعة.

ولذلك فإن الحديث التهريجي الإرتجالي الذي انخرط فيه القذافي بخصوص إصلاح المنظمة الدولية فضلا عن كونه حديثا قاصرا جاهلا بكثير من المعطيات والتفاصيل فإنه لم يكن أول من يطرح إصلاح مؤسسات الأمم المتحدة كما تحاول الجزيرة إيهام مشاهديها.

بقيت نقطة تدل على مدى عبث القذافي واستهتاره، وهي وصفه لمجلس الأمن بأنه مجلس إرهاب في الوقت الذي تحتل فيه ليبيا مقعدا غير دائم حفيت أقدام الدبلوماسيين الليبيين وفتحت الحقائب ونثرت الملايين لتأمين الفوز بهذا المقعد، وسبق ذلك ولحقه انبطاح مخز شمل كل شيء.

لقد شاهدت الجمعية العامة –في تاريخها- بعضا من الممارسات غير اللائقة، لكنها في معظمها كانت من صغار الدبلوماسيين، أما رؤساء الدول فكانوا يحترمون أنفسهم ويتصرفون بالكياسة والحصافة احتراما لدولهم. ولقد كان خطاب عيدي أمين أمام الجمعية العامة بصفته رئيسا لمنظمة الوحدة الإفريقية مناسبة للتندر والسخرية، لكنه مع ذلك راعى أصول التخاطب ولم يقم برمي الأوراق في وجه رئيس الجمعية العامة، وكان خطابه معدا وجاهزا ولم يرتجله. أما القذافي فسيدخل تاريخ الجمعية العامة على أنه أكثر من اعتلى منبرها همجية وقلة أدب، وأكثر من استحق خطابه صفة التهريج، وأكثر من استحق السخرية والاحتقار والتندر.

ومن استخدام ديماغوجي لبعض المطالب الموضوعة فعلا على طاولة إعادة بناء مؤسسات الأمم المتحدة ومحاولة خطفها وتفريغها من محتوياتها،

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.