تدارك الخلل قبل فوات الأوان

عندما تم تأسيس المجلس الانتقالي المؤقت تم الاعتراف به وتأييده على أساس أنه مجلس انتقالي ومؤقت. استمد المجلس مشروعية حكم ليبيا من الشعب الليبي، وتأسيسا على حقيقة أنه ذو طبيعة انتقالية مؤقتة. كانت تسمية المجلس بالانتقالي تسمية تعوزها الدقة الدستورية بالنظر لعدم تحديد المرحلة الانتقالية بزمن: متى تبدأ ومتى تنتهي. هكذا اختلفت المفاهيم والتأويلات؛ من رأى أن المرحلة الانتقالية قد بدأت بالفعل من يوم تشكيل المجلس، ومن رأى بأن المرحلة الانتقالية لا يمكن أن تبدأ والبلاد ما زالت لم تتحرر بكاملها. ومع اختلاف التأويلات والتفسيرات ظل المجلس الوطني انتقاليا ومؤقتا خلال مرحلة التحرير واستمر بنفس الوضعية عندما بدأت المرحلة الانتقالية التي حددها الإعلان الدستوري  الذي أصدره المجلس نفسه.

بدون شك فإن تسمية المجلس في حد ذاتها حددت –خطأ- بداية المرحلة الانتقالية، وأعطت لمجلس كان يفترض أن يدير أزمة مهام إدارة مرحلة انتقالية، فوارق كبيرة بين مجلس يدير أزمة وآخر يدير مرحلة انتقالية؛ فوارق تكمن في طريقة وأسس تشكيل المجلس ومشروعيته التي يستمدها من الشعب الليبي تأسيسا على المهام المناطة به. ولهذا نجد الإشكالية التي ترتبت حتى قبل إعلان التحرير، وهي إشكالية حاول المجلس القفز عليها بإصدار الإعلان الدستوري الذي كان من أبرز إرساءاته تمديد فترة حكم المجلس عن طريق إضافة مدة افترض المجلس بأنها ضرورية لسن قانون انتخاب “المؤتمر الوطني” الذي يُفترض أنه سيكون بديلا عن المجلس الوطني الانتقالي في إدارة المرحلة الانتقالية.

 عمليا فإن المجلس الوطني الانتقالي قد قسم المرحلة الانتقالية إلى ثلاثة مراحل مستخدما فرض الأمر الواقع ثم تقنينه في نصوص الإعلان الدستوري. هذه المراحل:

الأولى: من تأسيس المجلس إلى التحرير.

والثانية: من التحرير إلى انتخاب المؤتمر الوطني المنصوص عليه في الإعلان الدستوري.

والثالثة: تمتد إلى إقرار الدستور الدائم وانتخاب الهيئة التشريعية.

وفيما مارس المجلس خلال المرحلة الأولى سلطة الأمر الواقع مستندا إلى مشروعية شعبية، وإلى تكاتف قوى الشعب الليبي لدعم المجلس، فإن ممارسته للسلطة خلال المرحلة الثانية تتم بناء على مد الأمر الواقع من خلال تقنين تضمنه إعلان دستوري صادر عن المجلس نفسه دون إعمال أية استشارة خارج أطر المجلس قبل أو أثناء صياغته، ما أدى إلى إثارة تساؤلات حول صلاحيات المجلس، وتقترب هذه التساؤلات حتى من أسس المشروعية التي يستند عليها المجلس لممارسة هذه الصلاحيات. أما دور المجلس خلال المرحلة الثالثة -التي هي في علم الغيب- فقد أصبح عرضة لتأويلات تتوافق وتتضارب مع نصوص الإعلان الدستوري الذي ينص صراحة على انتهاء دور المجلس بانعقاد الجلسة الأولى للمؤتمر الوطني. بعض هذه التأويلات تحاول أن تجد لأعضاء المجلس –إن لم يكن للمجلس برمته- دورا في المؤتمر الوطني.

تقسيم المرحلة الانتقالية بهذا الشكل أدى إلى خلق إشكالية حقيقية، أصبح المجلس الوطني يعاني منها، وأدت إلى توجس مشروع يمور به الشارع الليبي، وتم تفسير نصوص الإعلان الدستوري بأنها قد جاءت لرتق خلل لا لحل مشكلة دستورية، بل تم تفسير إملاءات الإعلان الدستوري على أنها جاءت لمد فترة سلطة المجلس الوطني الانتقالي.

المعضلة الأخرى تكمن في عدد وهوية ومهام أعضاء المجلس الوطني الانتقالي، هل هم يمثلون المدن؟ ومدى صلاحية مجالس المدن في اختيارهم واستبدالهم أو تعليق عضويتهم؟. حتى الآن شاهدنا المجلس الوطني يتوسع في العضوية بطريقة اعتباطية ما دعا إلى السؤال عن السقف الذي ينبغي ألا يتم تجاوزه في عضوية المجلس.

لكن تبقى مشكلة مهام واختصاصات المجلس الوطني الانتقالي تراوح بين التصور من ناحية والتقنين من ناحية ثانية والممارسة الفعلية من ناحية ثالثة. تساؤلات حول دور مهام المجلس: هل هي تشريعية أم تنفيذية؟ وهل يمكن لصلاحيات المجلس أن تتداخل وتطغى على الاختصاصات التنفيذية للحكومة الانتقالية ولغيرها من المؤسسات والسلطات؟. ففيما تنص المادة (17) من الإعلان الدستوري على أن: “المجلس الانتقالي هو أعلى سلطة في الدولة الليبية، ويباشر أعمال السيادة العليا، بما في ذلك التشريع ووضع السياسة العامة للدولة …….” وينبغي أن نراعي هنا أن اختصاص وضع السياسات العامة لا يمكن أن يندرج تحته أية مهام تنفيذية، بالرغم من ذلك رأينا المجلس الوطني الانتقالي يمارس مهام تنفيذية هي من صميم اختصاصات الحكومة الانتقالية كما تنص المادة  (26) من الإعلان الدستوري، بل إننا رأينا كيف طغت اختصاصات المجلس على اختصاصات المجلس المحلي لمدينة بنغازي، حتى أن رئيس المجلس المحلي وعدد من أعضائه اشتكوا من تفريغ المجلس المحلي من كل الاختصاصات وحرمانه من كل الإمكانات، في الوقت الذي كان على المدينة استقبال الأعداد من النازحين من سرت وتاورغا وغيرها من المدن علاوة على اللاجئين من سوريا. نلاحظ أيضا أن مصطلح “السيادة العليا” مصطلح يفتقر إلى الجذور الدستورية، فليس هناك تدرجات في ممارسة السيادة، كما أن هذا لا يمنح المجلس أية صفة تنفيذية.

لكن التساؤلات حول ممارسة المجلس للاختصاصات لا تقف فقط عند حدود الخلط بين التشريع و التنفيذ، لكنها تمتد لتشمل بعدا أهم وأخطر، وهو البعد الزمني الذي يتماس بصورة جوهرية مع التخويل الذي يُمّكن المجلس من ممارسة الحكم. فطبيعة المجلس الانتقالية والمؤقتة تحتم أن تكون القرارات والقوانين التي يصدرها لا تتجاوز المرحلة الانتقالية ولا تتعداها، كما لا تجيز للمجلس أن يعقد أو يصادق على أية معاهدات أو اتفاقيات ذات آماد بعيدة. بصورة أدق لا يجوز لسلطة انتقالية غير منتخبة أن تكبل البلاد بأية التزامات تتجاوز المرحلة الانتقالية. ومن هنا فقد تساءل الناس عن أحقية المجلس في إصدار قرار مجانية التعليم للمقيمين الأجانب، وقيامه بوعد دول بعينها في المساهمة بشكل أساسي في الإعمار، وما أشيع مؤخرا عن استقدام مليوني يمني للهجرة إلى ليبيا.

هذه هي الاعتبارات التي كان ينبغي مراعاتها، والتي نتج عن إهمالها وتجاوزها حالة الارتباك التي تسود حاليا، وحالة الاحتقان التي باتت تصبغ العلاقة بين المجلس والشارع الليبي، علاقة كانت تتصف بالتأييد الشعبي غير المحدود منذ أشهر مضت ولكنها لم تعد كذلك.

إن المجلس في أمس الحاجة لوقفة مراجعة شاملة على ضوء الاعتصامات التي تعم الآن مدننا، يستجيب للمطالب الحقوقية المشروعة لأن فيها تصحيحا لقيادته للبلاد، ويتوقف عن ممارسة الهروب إلى الأمام، بل يرجع كي يردم الهوة المتسعة التي باتت تفصله عن الشعب الليبي مصدر الشرعية التي يمتلكها المجلس.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.