السبب الحقيقي وراء تهديدات القذافي

لا أحد يصدق أن قرار سويسرا منع بناء المآذن كان هو السبب وراء الهجوم الذي شنه معمر القذافي ضد سويسرا؛ الذي وصل إلى درجة تحريض “المسلمين” بمقاطعتها ومحاربتها وإعلان “الجهاد” ضدها. من ناحية فإن مسألة الاستفتاء السويسري على موضوع بناء المنارات مرت عليه عدة أشهر من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن المسلمين في سويسرا يقومون بمتابعات قانونية طعنا في مشروعية ودستورية هذا الاستفتاء ونتائجه. قبل خطاب القذافي كانت هناك فرص كبيرة لنجاح الطعن، لكن خطاب القذافي وما ورد به من عبارات نارية سيكون وقودا تستخدمه القوى المناوئة للإسلام والمسلمين في أوروبا، وسيكون مبررا تستخدمه قوى التطرف  في دول أوروبية أخرى –علاوة على سويسرا- ليس فقط لوقف بناء المنارات ولكن أيضا للضغط على المسلمين الأوروبيين وتنغيص معايشهم. من ناحية ثالثة فلم يُعرف عن القذافي أي اهتمام بالشأن الإسلامي وبقضاياه، اللهم إلا في محاولاته الدائمة تسخير هذه القضايا لأجندته الخاصة ولعبثه الدائم، وإلا أين كان القذافي وشعب “البوسنا والهرسك” المسلم يُذبح على أيدي الصرب، وأين كان من الموقف الدولي المنادي بمقاطعة الصرب والتضييق عليهم لإجبارهم على التوقف عن جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية، موقف دولي شاركت فيه الغالبية العظمى من دول العالم. يومها كان القذافي الوحيد في العالم الإسلامي الذي كان يمد الصرب بإمدادات النفط وكان يتعاقد نيابة عنهم في أسواق السلاح لتوريد الأسلحة لهم. لسنا في حاجة إلى الخوض في تاريخ القذافي في إثارة الفتن والقلاقل في العالم الإسلامي وفي خذلان القضايا الإسلامية التي يدعي دوما أنه يناصرها بدءا من فلسطين وانتهاء بالفلبين، وسواء كان هذا الدور في جنوب السودان أو في دارفور .. في تشاد أو في لبنان .. أو في غيرها، فإنها كلها كانت –وما زالت- أدوارا تنضح بالخسة وتقطر بالإجرام وتقدم القضايا على مذابح الأهواء والخيانة.

كما لا يصدق أحد أن قضية هانيبعل –وحدها- كانت وراء هجوم القذافي في خطابه. صحيح أن القذافي لم يهتم يوما بما يواجهه الليبيون من تضييق ومن إهانة في بعض الدول وعلى حدودها وفي مطاراتها، وصحيح أيضا أن القذافي أقام الدنيا ولم يقعدها لأن ابنه ارتكب جريمة فوق أراضي دولة يحكمها القانون ولا تستطيع تجاوزه، وأن هذه الدولة تصرفت بموجب القانون. غير أن القذافي الذي تعود استخدام أراضي مختلف الدول مسرحا لجرائمه دون أن يعاقب عليها، وتعود أيضا على أن تغض الدول الطرف عن حماقات أبنائه، خاصة هذا الابن بالذات الذي ارتكب أكثر من حماقة في أكثر من بلد، القذافي الذي تعود أن كل شيء يمكن شراؤه وتداركه بالمال الليبي قد هاله أن يُخضع ابنه لإجراءات قانونية مستحقة؛ ولهذا قرر استخدام كل ما في جعبته وأن يزج بإمكانات ليبيا ومصالحها وسمعتها، وأن يستخدم كل أساليب الابتزاز اعتمادا على أن سويسرا دولة مسالمة من ناحية، وأنها تعتمد على النفط الليبي وتتعامل مصارفها بالودائع المالية الكبيرة رخيصة التكلفة سواء تلك الرسمية منها أو التي هربها القذافي وأعوانه ومن يدور في فلكهم، فقام بكل ما في جعبته للانتقام من سويسرا وإظهار نفسه ونظامه بموقع القوي المهاب، فقام بمحاولة المطالبة “بتفكيك” الاتحاد السويسري المثيرة للسخرية، فكانت محاولة عشوائية عابثة، سخرت منها كل الدول، ولم يستجب لها حتى مندوبه الدائم في الأمم المتحدة “جادالله عزوز الطلحي”، الذي أدى تردد في إثارة هذه المسألة في أروقة الأمم المتحدة إلى إنهاء خدماته التي استمرت من مواقع مختلفة طيلة حكم القذافي الأغبر؛ خدم فيها نظام القذافي بطريقة أخلت بكل المصلحة الوطنية وأضرت بإمكانات سقوط هذا الحكم حين كان الطلحي وجها ناعما يقدمه القذافي لخداع الناس ولحيازة القبول الدولي تارة، ويقوم بتقديم حلول لإنقاذ النظام تارة أخرى.

وبدون شك فقد سر القذافي وأرضى غروره أن يجنح رئيس الدولة السويسرية إلى الاعتذار وطلب الحلول السلمية، لكن بالتأكيد فقد صدمه إصرار سلطات مقاطعة جنيف على متابعة الإجراءات القانونية ضد ابنه هانيبعل، فعاد مجددا إلى التصعيد لكنه لم يبلغ ما بلغ في خطابه في بنغازي من التهديد والتحريض ضد سويسرا.

إذا كان الأمر يتعلق بقرار وقف بناذ المآذن، فلماذا  أجل القذافي كلماته العنترية أشهرا بعد القرار؟.

وإذا كان الموضوع ينحصر فقط في قضية ابنه هانيبعل فلم لم يقل ذلك في خطابه في بنغانفسهزي، وبحث بدلا عن ذلك عن غطاء آخر؟.

لكن في الواقع فإن ما أثار  القذافي حقيقة هو التصعيد الذي قامت به الحكومة السويسرية والذي يقضي بحظر الدخول إلى الأراضي السويسرية على أكثر من 180 شخصا من عناصر نظام القذافي، على رأس القائمة معمر القذافي وأسرته وكثيرين من المقربين منه. هذا القرار السويسري يحمل في طياته أبعادا أخرى تتجاوز مجرد حرمان الواردة أسماؤهم في القائمة من الدخول إلى الأراضي السويسرية. من هذه الأبعاد أن القائمة تشمل أسماء أصحاب الحسابات السرية في البنوك السويسرية، وهي حسابات بقيمة إجمالية تعد بالمليارات وليست الملايين، وطبيعة الحسابات السرية في هذه البنوك تقتضي التعامل المباشر مع أصحابها أو وكلائهم المعينين فعلا والذي يقتضي الحضور الفعلي ولا يغني عنه الطرق السائدة اليوم من السحب الالكتروني أو من خلال مصارف وسيطة. لهذا فلم يعن القرار حرمان هؤلاء من التنزه في الربوع السويسرية فحسب، بل حرمانهم من هذه الأموال المسر وقة من خزانة الشعب الليبي وقوت عياله، بل إن الإجراء يبلغ حد وضع يد السلطات السويسرية على هذه الأموال.

هذا البعد يقود إلى موضوع آخر، فالقذافي يعلم تمام العلم أن سويسرا لا يمكن لها أن تقوم بهذا الإجراء دون استشارة شركائها في الاتحاد الأوروبي وعبر المحيط الأطلسي ما يعني أن القائمة التي تحوي أسرته وأركان حكمه وبقية اللصوص المنتفعين قد تكون إحياءا وامتدادا لقائمة سبق للولايات المتحدة أن أبلغت بها معمر القذافي شخصيا على أنهم أشخاص لا يمكن أن يبقوا في السلطة إذا أريد لليبيا العودة الفعلية إلى الحظيرة الدولية.

قد يكون القذافي في أثناء خطابه في بنغازي يشعر بجنون الغطرسة حين قام فعليا باحتلال مدينة بنغازي بما جلبه من المرتزقة الأجانب كي يحتمي بهم ويقيم بهم احتفاله، وبما جيشه من مرتزقته المحليين الذين احتلوا أسطح العمارات وأقاموا المتاريس والبوابات، وبمختلف الإجراءات الأخرى التي ظهر منها مدى الخوف والرعب من التواجد في بنغازي وبين أهلها.

وقد يكون القذافي قد بلغ من الحنق مبلغا وهو يدرك تمام الإدراك حجم العزلة التي بلغها وهو ينظر أمامه فلا يرى إلا مرتزقة جلبهم ليشكلوا “كومبارس” في مسرح مغلق يؤدي فيه القذافي دور المهرج.

وقد يكون القذافي قد استخدم هذه القضية –كعادته- للتغطية على أجندته الحقيقية، واستخدم هذه العبارات والتهديدات الجوفاء لدغدغة مشاعر البسطاء من الناس كي يصفقوا له.

قد يكون الأمر هذا أو ذاك، لكن الحقيقة تبقى أن القذافي بتهديداته الرعناء الجوفاء التي لا تخيف أحدا قد أعطى دليلا آخر على وهم المراهنين من المنتفعين الدوليين على أن في الإمكان الركون إلى القذافي، وأن وعود حسن سيرته وسلوكه لا يختلف عن الماء الذي يتراءى في السراب. كما أن القذافي قد أعطى ذريعة تستخدمها أطراف التطرف في أوروبا وفي غيرها، وستكون ليبيا وشعبها أول من يدفع الثمن.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.