التطورات الحالية في ليبيا-الأسباب والأبعاد والنتائج

في البداية .. أود أن أشكر مركز الحوار على استضافتي هذه الأمسية.

 أتوجه بالشكر والتقدير على وجه الخصوص، إلى الأستاذ صبحي غندور ورفاقه، على جهودهم المتميزة، من أجل أن  تبقى شعلة هذا المركز متوهجة، وحتى يستمر في أداء دوره الهام.

لست غريبا عن هذا المركز، ولقد كنت من المتابعين لنشاطاته عندما انطلق منذ عدة سنوات، وحضرت كثيرا من ندواته وأمسياته السياسية والعلمية والثقافية والأدبية. ولقد كان هذا المركز –ولا يزال- بوتقة تتفاعل فيها الرؤى والآراء، وواحة مفتوحة أمام الجميع، ومنبرا قد نصفه –حقيقة لا مجازا- بأنه منبر من لا منبر له، فحين تسد الصحافة والفضائيات العربية أمام الرأي المخالف لتوجهاتها وارتباطاتها، وتقفل أمام الرأي المعارض للأنظمة القائمة، وخاصة تلك الأنظمة التي تلوح بالجزرة وبالعصا في آن واحد، نعم ففي حين تسد أمام المعارضة الليبية، وعلى الخصوص الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، أبواب ونوافذ التعبير العربية، فإن هذا المركز ظل منبرا يتسع للرأي والرأي المخالف.

 سأحاول الاختصار قدر الإمكان في عرض موضوع حوارنا هذه الأمسية.

 اختلف المتابعون للشأن الليبي في تقييم التطورات التي تشهدها العلاقات الليبية مع دول الغرب، وخاصة مع بريطانيا وأمريكا:

 بين المبالغة في وصفها وإطرائها، وتوقع إيجابيات قد تنسحب على المنظور الليبي برمته من جرائها.

وبين قادح لهذه التطورات باعتبار ما ترتب عنها من خسائر وأضرار، تجاوزت الحاضر لتشمل المستقبل أيضا، وتجاوزت الجغرافية الليبية لتشمل بأضرارها جغرافية سياسية أوسع، وكذلك باعتبار ما أرسته من سوابق قد يعتد بها في مضماري القانون الدولي والعلاقات الدولية.

وحتى نختصر، فإن مفاتيح هذه التطورات يمكن تحديدها فيما يلي:

  1.  تسوية قضية تفجير طائرة “بان أميركان” المشهورة بقضية لوكربي.
  2. تسوية قضية تفجير الطائرة الفرنسية “يو تي أي” فوق صحراء النيجر.
  3. استعداد النظام لتسوية قضايا مماثلة عن طريق الاعتراف بالمسؤولية، ودفع التعويضات.
  4. فتح البلاد أمام الاستثمارات الأجنبية، في الوقت الذي تبقى مقولات الكتاب الأخضر تلغي كافة الحقوق الاقتصادية للمواطن الليبي.
  5. تراجع النظام عن دعم منظمات وحركات دولية تصنف بأنها حركات إرهابية.
  6. تخلي النظام عن أسلحة الدمار الشامل.
  7. وقبل ذلك وبعده، محاولات النظام المستمرة الرامية إلى سلخ ليبيا عن محيطها العربي، بما في ذلك مساعيه المتكررة لتفكيك الجامعة العربية، وتهافته نحو تأكيد انتماء ليبيا الإفريقي على حساب انتمائها العربي.

وفي كل ملف من الملفات السابق ذكرها قدم حكم القذافي تنازلات متتالية لأطراف غربية، وهي تنازلات شملت:

  • تسليم مواطنين ليبيين للمثول أمام محكمة أجنبية في دولة أجنبية، وما ترتب على ذلك من إدانة أحد هذين المواطنين والحكم بسجنه مدى الحياة.
  • دفع تعويضات غير مسبوقة في التاريخ لضحايا الطائرتين (الأمريكية والفرنسية).
  •  الاعتراف بالمسؤولية عن تفجير طائرة بان أميركان فوق بلدة لوكربي، وهي مسؤولية في رأيي ستظل مخبأة لتلاحق ليبيا في أي وقت تشاء الأطراف المعنية.
  • قيام أجهزة حكم القذافي بالكشف عن الملفات المتعلقة بصلاتها مع منظمات مختلفة، وكذلك ما لديها من معلومات عن تنظيمات، مثل الجيش الجمهوري الإيرلندي، ومنظمات المقاومة الفلسطينية.
  • إهدار مليارات الدولارات في مستنقع النزاعات الإفريقية، تنفيذا لمطالب دولية.
  • التخلي عن أسلحة الدمار الشامل، والكشف عن الملفات والمعلومات ذات العلاقة بهذا الشأن.
  • التلويح بإمكانية السماح للولايات المتحدة وبريطانيا بإقامة قواعد عسكرية في الأراضي الليبية.

 وغني عن القول أن هذه التنازلات والإجراءات هي لتدارك أوضاع نشأت عن ممارسات وسياسات اختطها ذات النظام، وهي السياسات والممارسات التي اتصفت بالعبث وبالمقامرة بالوطن وإمكاناته وقدراته، وترتب عنها مواقف اتخذها المجتمع الدولي تجاه نظام العقيد معمر القذافي.

وكما اتصفت سياسات النظام وممارساته بالعبث والمقامرة بمقدرات الوطن ومستقبله، كذلك فإن هذه التنازلات تأتي بمثابة رهن لمستقبل البلاد، وإهدار للثروات الوطنية التي حرم منها المواطن الليبي طيلة خمسة وثلاثين عاما.

 ما نراه اليوم من نظام حكم القذافي لا يختلف عما رأيناه منه في السابق، فإهدار ثروات ليبيا على أعمال إرهابية عابثة، ثم إهدار أموال ليبيا في تعويضات عن هذه الأعمال وما نجم عنها من قتل ودمار، هما، في الواقع، وجهان لعملة واحدة توضح مدى العبث الذي يتصرف به القذافي في مقدرات الشعب الليبي وثرواته، ثم ما أنتجه كل ذلك من تكالب أطراف دولية على ليبيا طلبا للتعويض. في القائمة إضافة لضحايا لوكربي، وطائرة بان أميركان، وطائرة يو تي أي، تبرز مطالبات بالتعويض عن تفجير الملهى الليلي في ألمانيا، وعن مقتل الشرطية إيفون فليتشر، وعن ضحايا عمليات الجيش الجمهوري الإيرلندي، وحتى تشاد تعتزم رفع قضية. هذا هو جزء يسير من الورطة والارتهان الذي أوقع القذافي فيه ليبيا عن طريق هذه التنازلات.

ونفرد حيزا للحديث عن ملف أسلحة الدمار الشامل. وهو ملف آخر فتحه القدافي ولكنه حتما لم يعد يملك لا إدارة هذا الملف ولا قرار قفله. ما يجب التذكير به أن ليبيا لا تملك حقيقة برنامجا لأسلحة الدمار الشامل، وهي حقيقة كشفتها تصريحات الدكتور محمد البرادعي وعدد من الجهات المعنية بالأسلحة الشاملة، والتي وصفت البرنامج النووي الليبي بأنه إما غير موجود أصلا، أو أنه ما زال في بداياته، ولم يكن ينتظر أن يحقق أية نتائج على المستوى العملي في المستوى المنظور. كما كشف التفتيش الأولي الذي قامت به الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن البرنامج لا يزيد عن معدات ظلت في صناديقها لسنين طويلة، وعن وثائق ومعدات اشتريت من السوق السوداء وظلت حبيسة ملفات يعلوها الغبار والصدأ. الله وحده يعلم كم هي التكلفة التي تكبدتها ليبيا لشراء هذه المعدات والوثائق من السوق السوداء وعن طريق وسطاء الجشع. وكم سيكلفنا تفكيكها والتخلص منها.

كما كشف التفتيش أن مخزون ليبيا من الأسلحة الكيماوية يعد غير صالح للاستخدام نتيجة للتقادم.

ورغم ذلك كله فقد تم الترحيب  بقرار القذافي وتهافتت أطراف لتضخيمه وذلك لأسباب سياسية بحتة، تتلخص فيما يلي:

  • ما يتيحه القرار للأطراف المرحبة من وضع أفضل في الاستحقاقات الانتخابية الوشيكة.
  • تقديم مبررات للحرب على العراق، عن طريق وصف هذا القرار كنتاج لهذه الحرب.
  • الضغط على دول أخرى لتحقيق مرامي وأهداف سياسات الدولتين المعنيتين.
  • تسويغ إلغاء القيود الاقتصادية التي كانت تحول دون التعامل مع النظام الليبي.

 وهكذا رأينا نتائج واضحة وذات أبعاد لا تشمل ليبيا فقط وإنما تمس عددا آخر من الدول التي يمكن وصفها جميعا بالشقيقة والصديقة، نلخص هذه النتائج كالتالي:

  1.  إعطاء مبررات لإحداث مزيد من الضغوط على دول مثل سوريا وإيران ومصر لتتخلص مما لديها من برامج للتسلح، ولابد أيضا من ملاحظة أن إسرائيل ظلت مستثناة من أي مطلب في هذا الشأن، بل إنها كانت إحدى الأطراف المرحبة بالقرار والمطالبة بأن تحذو دول أخرى (تحديدا، سوريا وإيران) حذو ليبيا.
  2.  إحداث ضغوط على الباكستان وعلى برنامجها النووي المستهدف أصلا من الولايات المتحدة والهند وإسرائيل، وذلك بسبب ما كشفته الملفات التي سلمتها أجهزة حكم القذافي.
  3. وضع إسفين دائم بين إمكانات التعاون في المستقبل بين دول العالم الثالث عامة وخاصة في العالمين العربي والإسلامي عن طريق ما تم من نزع للثقة.

وإذا أدركنا شيئا من مغازي وأهداف الدول الغربية، فما هي أهداف حكم القذافي من وراء هذه التنازلات؟.

باختصار شديد فإن هدف البقاء في الحكم، هو الهدف المركزي الذي تمسك به العقيد معمر القذافي  طيلة الخمس وثلاثين سنة الماضية، وسخر لذلك كل إمكانات ليبيا وقدراتها، وكان هذا الهدف محور كل السياسات والممارسات الداخلية والخارجية. وقد أضاف القذافي –خلال العامين الماضيين- إلى هذا الهدف هدفا مكملا، وهو توريث السلطة في ليبيا لأحد أبنائه.

هذا الهدف وملحقاته يظل هو الدافع الذي دفع القذافي لتقديم هذه التنازلات والسير في هذا الطريق. ما يدعونا إلى القول بهذا هو أن كل هذه التطورات لم يصحبها أي تنازل أو تحرك نحو الوفاء بالاستحقاقات الوطنية الليبية، أو الاستجابة لمطالب الشعب الليبي والتي يأتي في مقدمتها الديمقراطية وحقوق الإنسان.

فبقدر ما رأينا النظام يعترف صاغرا بما ارتكبه في الإطار الدولي، وبقدر التغييرات الطفرية التي أحدثها على سياساته الخارجية، إلا أن ذلك لم يصحبه إلا مزيدا من إصرار النظام على سياساته وممارساته تجاه الشعب الليبي. آخر مرة عبر بها القذافي عن هذا المسلك كانت في خطابه الذي ألقاه أمام ما يسمى “مؤتمر الشعب العام”، في أوائل شهر مارس الحالي، ثم عزز ذلك عندما احتوت التشكيلة الوزارية الجديدة على مجموعة كبيرة من عتاة اللجان الثورية من ذوي السوابق الإجرامية بحق الشعب الليبي.

في داخل ليبيا لم يتغير شيء. ما زال القذافي يمارس الحكم بكل عبث واستهتار، وما زالت الهمجية سمة غالبة في السياسات والمرافق، وما زالت القوانين الجائرة المكبلة للحريات مطبقة وبكل حرفية، وما زالت الأجهزة القمعية تسوم الناس وتذيقهم كل أنواع القهر والإذلال، وما زال الكتاب الأخضر بمضامينه التافهة يصوغ لأمة كاملة حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما زال النهب المنظم المقنن لأموال ليبيا على أشده بعدما انضم إلى عصابة النهب كل أبناء القذافي الذين اقتسموا قطاعات الحياة في ليبيا، في حين لا يزال التقتير والتضييق على الليبيين الذين أصبحوا يعيشون تحت خط الفاقة، ما زالت المرتبات في ليبيا البترولية تتأخر لعدة أشهر، وانتشرت البطالة بدرجة مخيفة، وما زالت السجون مليئة بالسجناء السياسيين الذين تستخدم أبشع الطرق للتنكيل بهم داخل وبذويهم خارجها. السجين الوحيد الذي أطلق النظام سراحه كان بسبب تدخل مباشر وصريح وواضح من الإدارة الأمريكية.

في ليبيا، حكم ديكتاتوري همجي مارس –ولا يزال يمارس- أبشع صنوف العبث والاستهتار بمقدرات أمة، مستهينا بكل قيمها ومعتقداتها، مستخفا بكرامتها.

لقد أثبتت خمس وثلاثون سنة من حكم القذافي، وممارساته وسياساته، والفرص التي أتيحت له وضيعها على مذبح أوهامه في الزعامة، وشبقه للسلطة، أثبت كل ذلك أن لا صلاح ولا إصلاح يرتجى طالما استمر العقيد معمر القذافي على رأس السلطة في ليبيا. هذه القناعة هي التي تدعو المعارضة الليبية إلى التمسك بمطلب ضرورة انتهاء حكم القذافي كشرط لتحقق ما نبتغيه من إصلاح وعدل وديمقراطية واحترام لحقوق الإنسان.

————————————————–

* ألقيت هذه الكلمة أمام ندوة الحوار العربي في واشنطن بتاريخ 24/3/2004.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.