حول الاستحقاق الدستوري

ينشغل الليبيون حاليا بطرح وتناول مسألة الاستحقاق الدستوري. لكن الطرح في الوقت الراهن لا يتطرق إلى الدستور نفسه، بقدر ما يتركز على آليات وأدوات صنع الدستور وكتابته. بدون شك هذه الحوارات تتم في أجواء استقطابية حادة، وكل يعمل على حشد الشواهد والأدلة للانتصار لرأيه، كما أنها تضيف تعقيدات لا غنى عن التعامل معها وتفكيكها حتى يسهل إيجاد حلول لها. تبرز في مقدمة الأمور المطروحة موضوع “لجنة الستين”. لم يعد الأمر يتوقف عند كيفية تكوينها؛ هل تكون منتخبة من الشعب أو معينة من المؤتمر الوطني العام. لكن الحوار يتشعب ليطرح أسئلة كانت غائبة وهي أسئلة بالضرورة خلافية وذات تأثير أساسي على المشهد السياسي والتطور الدستوري. من هذه الأسئلة التي كانت غائبة عن المشهد ولم تعلن عن نفسها إلا مؤخرا هو: هل لجنة الستين تعد هيئة تأسيسية أم هيئة فنية لصياغة الدستور. ويترتب على هذا السؤال مسائل متعددة : أهمها المعايير التي تتطلبها عضوية اللجنة في حالتي التعيين أو الانتخاب، وكذلك مدى التعارض بين صفة اللجنة وآلية اختيارها. لم تعد مسألة لجنة الستين تنحصر في الكيفية المثلى للوصول إلى دستور مقر ومستفتى عليه من الشعب الليبي، بقدر ما توسع الأمر وامتد ليشمل “أجندات” سياسية ترغب أطرافها أن تضمنها هذا الدستور من خلال لجنة الستين. لقد أصبحت لجنة الستين في نظر أطراف كثيرة هدفا في حد ذاتها ينبغي العمل على التواجد فيها لتنفيذ هذه “الأجندة”، وإيجاد الآليات التي تضمن هذا التواجد.

وقبل أن أستطرد في حديثي، فلابد لي أن أوضح أنني لا أرى في مصطلح “أجندة” في عمومه وإطلاقه سبة أو أمرا سيئا، بل من حق الأطراف أن يكون لها “أجندة” لكن ما يهم بالتأكيد هو طبيعة ومحتويات ومفردات هذه “الأجندة”.

كما أود أيضا أن أؤكد أنني أرى بأن خيار انتخاب لجنة الستين قد يكون هو الخيار الأنسب في الوقت الراهن بسبب ما نراه من حدة استقطاب. فقط أضيف إلى هذا أن الانتخاب له تبعات والتزامات وإملاءات ينبغي الوفاء والتسليم بها.

بدون شك فإن الوفاء بالاستحقاق الدستوري يتطلب أمورا كثيرة أولها وأهمها ترسخ عامل الثقة بين مكونات الشعب الليبي من ناحية والمؤتمر الوطني العام بصفته السلطة الشرعية المنتخبة  والمخولة بمهام التأسيس والتشريع والرقابة من ناحية أخرى. ومن مندوحة القول أن هذه الثقة تتعرض الآن لامتحان عسير قد يكون طبيعيا نتيجة لبعض أوجه القصور التي شابت عمل المؤتمر، ولكنه يتعرض أيضا لحملة شرسة من الهجوم الممنهج على المؤتمر والتشكيك في كل قراراته والقذف بأي إنجاز يقوم به إلى سلة المهملات. هذه الحملات الممنهجة نراها تتكرر في عدد من وسائل الإعلام لا سيما بعض الفضائيات، وتتكرر أيضا على صفحات التواصل الاجتماعي. في هذه الحملات يتم تصوير مهام المؤتمر حينا كأنها تشمل كل شيء، ويحاسب على كل قصور تشريعي أو حتى ما يجري من قصور تنفيذي هو من مهام الحكومة الانتقالية والمؤقتة، بل إن المؤتمر أصبح يحاسب على الفترة كلها منذ تفجر الثورة على أنها فترة لم يُنجز فيها ما يتماشى مع التطلعات الشعبية بالرغم من أن هذه الفترة سابقة على تأسيس المؤتمر. في أحيان أخرى يتهم المؤتمر بتجاوز صلاحياته بالتدخل في الأمور التنفيذية. هذه الحملات تنكر على المؤتمر حتى شرعيته التي استمدها من صناديق الاقتراع ومن انتخابات أدلى فيها الليبيون بأصواتهم واختاروا. وقد تركزت هذه الحملات بالخصوص على الاستحقاق الدستوري، بالذات يجري التشكيك والطعن في أداء المؤتمر بخصوص هذا الاستحقاق، كما يجري تجاهل المعطيات الموضوعية حول هذا الاستحقاق. فما هي المعطيات؟ ولماذا يتم تجاهلها؟ وهل في الإمكان تجاوزها وتخطيها؟

لا بد من العودة إلى الإعلان الدستوري المؤقت، وإلى تسلسل معالجته للاستحقاق الدستور، وكيف تدرجت هذه المعالجة.

أولا: أرسى الإعلان الدستوري المؤقت عند صدوره بتاريخ 3/8/2011 أن المؤتمر الوطني العام هو المعني بالاستحقاق الدستوري، ومن مهامه اختيار هيئة تأسيسية لصياغة مشروع الدستور لعرضه على المؤتمر الوطني العام لاعتماده وطرحه على الشعب الليبي للاستفتاء العام. وقد ترك الإعلان الدستوري للمؤتمر تحديد عدد الهيئة وكيفية تشكيلها للمؤتمر الوطني العام. وعلى هذا الأساس حدد الإعلان الدستوري المدة اللازمة لإنجاز الاستحقاق الدستوري (30 يوما لتشكيل الهيئة، و60 يوما كي تقوم الهيئة بصياغة مشروع الدستور).

ثانيا: في محاولة لحل الإشكالية التي نشأت عن توزيع مقاعد المؤتمر الوطني العام، قام المجلس الوطني الانتقالي بإصدار تعديل للإعلان الدستورى بتاريخ 13/3/2012 محددا عدد الهيئة التأسيسية بستين عضوا يعينها المؤتمر الوطني العام من خارج أعضائه. ولم يُحدث هذا التعديل أي تغيير في المدة التي حددها سابقا بالرغم من أن الفارق واضحا بين الحالتين.

ثالثا: قبيل يوم انتخاب المؤتمر الوطني العام بحوالي 24 ساعة وتحديدا بتاريخ 5/7/2012، استحدث المؤتمر الوطني العام تعديلا آخر على الإعلان الدستوري يقضي بانتخاب هيئة تأسيسية بطريق الاقتراع الحر المباشر من غير أعضائه، ويتولى المؤتمر الوطني العام تحديد معايير وضوابط انتخابها. ومرة أخرى لم يغير التعديل في الوعاء الزمني اللازم لهذا الاستحقاق بالرغم من أن هذا الاستحقاق سيتم الإيفاء به بالانتخاب الأمر الذي يحتاج إلى وعاء زمني أطول، بالنظر لما تتطلبه الانتخابات من تدابير مثل إصدار قانون الانتخاب وتحديد الدوائر وتوزيع المقاعد عليها والترشح وزمن الطعون وحملات المرشحين … وغيرها من التدابير. هذه التدابير والوعاء الزمني اللازم لها لم يحسب حسابها في التعديل الدستوري.

رابعا: بعض الأطراف تتحدث عن قدسية التعديل الدستوري الصادر بتاريخ 5/7/2012، الذي يقضي بانتخاب الهيئة التأسيسية، وضرورة تفعيله، بهذا الخصوص لا بد من التوضيح أن هذا التعديل يواجه طعنا أمام المحكمة العليا بعدم دستوريته، بدعوى أن إصداره قد تم بدون دعوة المجلس الوطني الانتقالي للانعقاد، ومع عدم توافر النصاب القانوني الذي يسمح بطرح مثل هذا التعديل نا هيك بإقراره. هذا الطعن لم تبت المحكمة العليا فيه بعد. هذا يعني أن المحكمة العليا قد تحكم بعدم دستورية التعديل وببطلانه.

هذا هو التسلسل الذي تمت به معالجة الاستحقاق الدستوري من خلال الإعلان الدستوري المؤقت، وواضح تماما ما حدث من قصور لهذه المعالجات تتمثل فيما يلي.

  1. عدم مراعاة تعديل الوعاء الزمني الذي ترتب عن هذه التعديلات الدستورية، وهذا يضع المؤتمر الوطني في معضلة حقيقية، تكمن في كيفية الوفاء بانتخاب الهيئة التأسيسية دون المساس بالوعاء الزمني الكلي للمؤتمر. تزداد هذه المعضلة تفاقما مع حرص الشارع على أمرين متناقضين أولها انتخاب الهيئة والثانية عدم تمديد مدة المؤتمر.
  2. أن هذه التعديلات قد أحدثت جسما منتخبا هو بالضرورة يتبع في مهمته لجسم منتخب آخر دون أن تؤسس لأية ضوابط تحكم العلاقة بينهما. هذا فتح المجال على مصراعية للتأويلات والتفسيرات التي ذهب بعضها إلى حد القول بإنهاء دور المؤتمر الوطني العام في الاستحقاق الدستوري. وهذا مذهب خطير جدا لأنه ببساطة ينتهك الإعلان الدستوري المؤقت الذي يحدد اختصاصات ومهام المؤتمر الوطني العام.
  3. هذه التعديلات –خاصة التعديل الأخير- أحدثت خلطا لدى الرأي العام حول طبيعة الهيئة التأسيسية، هل هي هيئة فنية لصياغة الدستور، ما يعني ضرورة أن يكون أعضاؤها من ذوي الخبرة القانونية وخاصة في مجال القانون الدستوري، أم أنها غير ذلك الأمر الذي يجعل مهامها تتداخل مع مهمة المؤتمر الوطني العام في موضوع الاستحقاق الدستوري ويحدث هذا التداخل خلطا يؤدي إلى تنازع الصلاحيات ما يؤدي إلى  تعطيل  صدور الدستور.

هذه الاعتبارات كانت أمام المؤتمر وقادته إلى اتخاذ التدابير التالية:

  1. عدم انتظار الطعن الدستوري وإعادة المسألة برمتها إلى الشعب الليبي من خلال حوار مجتمعي لمعرفة الآلية التي يُتفق عليها لتشكيل الهيئة التأسيسية.
  2. سيشارك في هذا الحوار جميع أعضاء المؤتمر حسب دوائرهم.
  3. سيكون دور الأعضاء طرح الخيارات المتوافرة وشرح المزايا والعيوب دون أن يقوموا بالمفاضلة بينها، بل يٌترك ذلك للشعب.
  4. من مهام الأعضاء أن يحددوا الاستحقاقات المترتبة على كل خيار.

 

وفي الختام فيجدر التأكيد على أن الدستور وثيقة هامة جدا، ينبغي أن توضع بعناية فائقة يسخر لها الوقت وتوفر الإمكانات والعقول، كما تهيء لها أجواء الثقة بين كل الأطراف المعنية بعملية صياغة الدستور. بمعنى آخر ينبغي أن لا نستعجل في وضع الدستور، وينبغي ألا يكون الوفاء بهذا الاستحقاق المهم خاضعا للمشاحنات والاستقطاب الحاد.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.