إبراهيم عبد العزيز صهد..
تخرج من الكلية العسكرية الليبية عام 1963، وكان ترتيبه الأول على دفعته (الدفعة الخامسة).
عمل ضابطا بالجيش الليبي خلال الأعوام 1963 – 1969 : مدرسا في مدرسة المخابرة، ورئيسا لجناح [...]
img>“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم” هيكل
أسهب السيد هيكل في الحديث عن الأهمية البالغة التي تلعبها الاستخبارات في مجريات الحروب ونتائجها. وهو في هذا لم يقدم جديدا، فقد عرف المتحاربون الأهمية القصوى للمعلومات، وكان التجسس من أقدم المهن التي احترفها الإنسان منذ أن عرف الصراع والحرب.
وقد أوضح السيد هيكل حقائق في هذا الصدد –نتفق معه حولها- تتعلق بالدور الذي لعبته الاستخبارات في حرب يونيو 1967، ولكنه غيَّب حقائق أخرى هي بنفس المستوى أو ربما تفوقها في الأهمية:
ورغم تسليم السيد هيكل بالفشل المصري الذريع في الحصول على معلومات عن العدو، والفشل في تقديم الحماية اللازمة للتراب والمعلومات المصرية من عبث الجواسيس الإسرائيليين، الذي يقابله نجاح إسرائيل في زرع “عشرات” العملاء والجواسيس في مختلف مرافق الدولة المصرية. رغم ذلك نجد السيد هيكل يقفز على السطوة الإسرائيلية في مجال المخابرات، في محاولة للزعم بأن الفضل في الانتصار الإسرائيلي راجع إلى المعلومات الاستخباراتية التي قدمتها لها أمريكا. والسيد هيكل، وهو يقفز على السطوة الإسرائيلية في مجال معركة المعلومات، إنما يناور في إطار حشد الحجج التي تكون بمستوى التمهيد والإطار لما أسماه “بالبصمة الأمريكية”.
ولقد قلنا في مقال سابق بأن الجواسيس الإسرائيليين على الأرض هم من قاموا بعملية اختراق كبيرة داخل مصر، وهم من جعل الطائرات الإسرائيلية تقوم بمهامها في الخامس من يونيو بأقل الخسائر وبأكبر درجات الدقة والنجاح. أما ما لم يتمكن هؤلاء الجواسيس من نقله إلى إسرائيل فقد تكفلت بالكشف عنه الصحافة والإعلام الناصري، ذلك أننا نعلم أن القيادة المصرية كانت تعد للمعركة وتخوضها من على صفحات الجرائد المصرية، خاصة الأهرام. بل إن السيد محمد حسنين هيكل شخصيا قد شارك في إعطاء العدو الإسرائيلي معلومات حيوية عن مواقع تمركز القوات في سيناء وعن قياداتها والأسلوب الذي تم اعتماده في تسلسل قيادة المعارك، بل أكثر من ذلك فإن السيد هيكل قد قدم للعدو الإسرائيلي –على طبق من صفحات الأهرام- شيئا أغلى من الذهب نفسه وهو الكشف عن نوايا القيادة المصرية.
وقد يظن أحد أن السيد هيكل يجهل خطورة تقديم معلومات عن النوايا التي كانت تعتزمها القيادة المصرية، وقد يخطئ أحد ويظن بالسيد هيكل الجهل بالخطورة القصوى لتزويد العدو بمعلومات عن تشكيلات القوات المصرية، وعن قياداتها، وعن تسلسل القيادة، وعن بعض المشاكل التي تدور في أوساط القيادات المصرية، بل وعن نوايا هذه القيادة. لكن السيد هيكل لم يترك مجالا لهذا الظن أو الخطأ، فقد أوضح –بكل جلاء- إدراكه وفهمه التام لما تشكله مسألة معرفة النوايا من معضلة أمام أجهزة المخابرات، وما يشكله تسربها إلى العدو من مخاطر. لنستمع لما يقوله السيد هيكل:
“المعلومات هنا في قضية الحرب المعلومات ليست قضية بسيطة المعلومات باستمرار قدامنا كل حاجة في أي حرب موجودة قدام الأطراف بمعنى أنه في أزمة موجودة تحذر وفي حشد جيوش ممكن يؤكد لي أنه نحن مقبلون على المعركة وممكن جدا أن تتسرب إلي أشياء حتى في الصحف عن الأهداف المطلوب تحقيقها لكن أستنى باستمرار عنصرا أساسيا جدا بيسميه العسكريون النوايا، أنا بأعرف قوة العدو اللي قدامي وبأعرف حشده وشايف قدامي أنصاره وشايف قدامي تصرفاته والصحف تعطيني معلومات كثيرة قوي ولكن ما حدث بيديني قدرا معينا عما ينوي هذا العدو أن يفعله بهذه القوى التي حشدها، بالضبط عاوز يعمل إيه؟ بالضبط عاوز ينفذ من أين؟ عاوز يضرب من أين؟ عاوز يتصرف إزاي في هذه اللحظة؟ وهنا اللي بيسموه باستمرار كل عسكريين أنه ممكن كل حاجة في الحرب ممكنة ومعروفة إلا حاجة واحدة بس يبقى فيها السر وهي نوايا العدو، ما الذي يريد هذا العدو أن يفعله بالتحديد؟ كيف؟
نعم … السيد هيكل لا يجهل الخطورة المطلقة التي ينطوي عليها الكشف عن النوايا للعدو:
يعلم أن الجواسيس قد ينجحون في الحصول على شتى أنواع المعلومات، لكن تبقى النوايا لغزا محيرا،
وأن طائرات الاستطلاع حتى نوع U2 –الذي أكثر الإشارة إليها- قد تستطيع تصوير مواقع كثيرة وغيرها، لكنها لا تستطيع أن تصور النوايا،
حتى التجسس الالكتروني يعجز عن التقاط ما لا يتم في فلكه أو عن طريقه.
هكذا تظل النوايا والمقاصد هاجسا دائما أمام المخططين، قد يمكنهم -في أحسن الأحوال- التخمين ووضع الاحتمالات المختلفة، وما يعنيه ذلك من الدخول في دائرة التغليب والموازنة بينها، والاضطرار لإعداد خطط متعددة لمواجهة هذه الاحتمالات. أما إذا عرف العدو النوايا، فسيقتصر همه على مواجهة هذه النوايا والاستعداد لها بما يعنيه ذلك من تركيز لكل القدرات والإمكانات والقوات اللازمة للتعامل مع هذه النوايا دون التفات إلى غيرها. يكتسب هذا أهمية قصوى مطلقة عند كل الدول لا سيما إسرائيل وما تمليه عليها جغرافيتها وعدد سكانها وإمكاناتها من محددات.
لكن حالة السيد هيكل لا تتوقف عند حالة صحافي أخطأ وهو يسعى للحصول على السبق الصحفي فقدَّم للعدو معلومات جوهرية وحيوية وحساسة وفي الوقت المناسب عن أمور هي بخطورة النوايا، فالسيد هيكل ليس صحافيا عاديا، وليس فقط رئيسا لمجلس إدارة الأهرام “الحكومية”، وليس فقط لأنه ماهر في تصيد المعلومات وتلقيها بإمكاناته الذاتية، ليس هذا فقط .. بل لأنه من أقرب المقربين للرئيس عبدالناصر، وبسبب ذلك فإن لديه حظوة، وقد نقول سطوة –ربما لم تتوافر لأحد غيره، وقد لا تتوافر في يوم من الأيام- لدى كل فروع الدولة المصرية، بما فيها شخصيات بوزن المشير عبدالحكيم عامر النائب الأول للرئيس والقائد العام للقوات المسلحة.
حتى ندرك هذه الحظوة أو السطوة لنقرأ ما قاله هيكل (ليسمح لي القراء على إيراد هذا الاقتباس الطويل والذي يحتوي على تكرار كثير، لكن مقتضيات الدقة تتطلب ذلك):
“وفي في ذلك الوقت وأظنه لازم يكون موجودا لغاية النهارده في ثلاث درجات من التلفونات للدولة، في التلفونات العادية ما كناش نستعملها في ذلك الوقت في واقع الأمر في الاتصالات يعني لكن في نوعين من التلفونات، في التلفون اللي بيسموه الـ BBX وهو التلفون اللي عليه كل المسؤولين وكل الوزراء بما فيهم الوزراء يعني وهذا في منه أظن حوالي مائتي خط أو حاجة أو 180، 200 خط، لكن في خط آخر وهو الخط المغلق كان عليه 12 عدة، 12 ماكينة وهو موجود عند رئيس الجمهورية، عند وزير الدفاع، عند مدير المخابرات العامة، عند مدير المخابرات العسكرية، عند رئيس الأركان، 12 خط، وزير الداخلية أيضا وأنا كان عندي خط، كان عندي خط وهذه دائرة مغلقة جدا،”
معنى هذا أن السيد هيكل كان أحد اثني عشر مسؤولا في الدولة ممن تشملهم الدائرة التلفونية المغلقة والأكثر أهمية وسرية في منظومة تلفونات الدولة المصرية. نُصاب بالذهول ونحن نسمع السيد هيكل يتحدث عن هذا بكل بساطة وكأنه أمر طبيعي أن يكون لصحافي موقع ضمن إثني عشر مسؤولا رفيعا في الدولة. ونُصاب بما هو أكثر من الذهول ونحن نستمع إلى هيكل وهو يسمي لنا بعض المسؤولين الآخرين الذين هم على هذه الدائرة المغلقة:
” الخط المغلق كان عليه 12 عدة، 12 ماكينة وهو موجود عند رئيس الجمهورية، عند وزير الدفاع، عند مدير المخابرات العامة، عند مدير المخابرات العسكرية، عند رئيس الأركان، 12 خط، وزير الداخلية أيضا وأنا كان عندي خط، كان عندي خط وهذه دائرة مغلقة جدا،”
لم يذكر لنا الخمسة مسؤولين الآخرين (ربما بسبب النسيان، وحتى لا نقول لأنه لا يعتبرهم بنفس القدر من الأهمية). ولهذا نسمح لأنفسنا بالتخمين، فقد نتعرف على بعضهم:
نأمل ألا نكون قد أخطأنا في التخمين، لكن مقصدنا من إيراد هذا الاقتباس من أقوال السيد هيكل هو ألا نسمح بالقفز على موقع هيكل في السلطة. هو ليس صحافيا فقط وإن كان يمارس الصحافة ويغيظ أقرانه بالسبق الصحفي الذي يلتقطه من الرئيس ومن غيره من متنفذي الدولة المصرية والمطلعين على أسرارها، بل هو في موقع ومكانة من التشاور وصنع القرار يتجاوز فيه نواب الرئيس وأغلب الوزراء، بمن فيهم رئيس الوزراء ووزير الإرشاد القومي ويتجاوز فيه أيضا رئيس مجلس الشعب، وغيرهم من المسؤولين الآخرين. هذا ليس فقط هو موقع السيد هيكل، بل إنه يتفرد عن هؤلاء جميعا، ويتفرد عن غيرهم من المسؤولين ورجال الدولة المصرية بميزة أخرى. لنقرأ ما قاله السيد هيكل:
” إلى جانب ده وبترتيب إضافي يعني كان في خط مباشر بيني وبين مكتب الرئيس، فهو كان بيتصل بي على هذا الخط اللي متصور أنه عنده أقصى درجات السرية ولذلك كان بيتكلم يعني أنا للنهارده ما أعرفش إلى أي مدى كان هذا الخط مخترقا”
مكانة لا شك تتجاوز جميع رجالات الدولة المصرية آنذاك، تجعله الأكثر التصاقا بالرئيس عبدالناصر بحيث أصبح يتداول معه في أخطر الشؤون ويستشيره فيما لا يستشير فيه غيره، وربما فيما لم يتداوله الرئيس مع نائبه الأول المشير عامر قائد عام القوات المسلحة فيما يتعلق بشؤون خطيرة مثل شأن الحرب، ومزاعم التدخل الأمريكي، وغيرها من الشؤون.
الصحافي المخضرم المشهور الأستاذ “ناصر الدين النشاشيبي” رافق هيكل وعمل بالقرب منه، فهو يعرفه حق المعرفة، وقد خصص فصلا كاملا في كتابه (حضرات الزملاء المحترمين)، للحديث عن هيكل وعلاقاته. يقول في هذا الكتاب مخاطبا هيكل:
” يا أخي ويا عزيزي ويا رفيق العمر الصحفي ، لقد ضاعت
بلدي في عهدكم وعلى يديكم فمن هو المسؤول؟. من ؟ من ؟ من ؟ كنت أنت المقرب الأوحد إلى عبد الناصر ، وكنت أنت المؤتمن الأوحد على كل أسراره وعلى كل قراراته قبل التنفيذ وبعد التنفيذ!…وكنت أنت المستشار الأول والأوحد والأكبر لكل نبضة فكر في عقله وتفكيره…فمن أضاع بلدي في غمرة قرار مرتجل أمر بإغلاق المضائق وطلب سحب القوات الدولية وجرّنا إلى الكارثة الأعظم في تاريخ العرب والإسلام ؟ “.
لسنا بصدد البحث عن إجابة عن تساؤلات النشاشيبي، ولكننا أوردنا هذا النص كدليل إضافي على مكانة هيكل وموقعه من الحكم الناصري، ومشاركته في القرارات المصيرية (قبل التنفيذ و بعد التنفيذ!) بصفته (المستشار الأول والأوحد والأكبر) للرئيس جمال عبد الناصر، وكان عليه أن يتحمل مسؤولية القرارات التي شارك فيها والتي جرّت إلى هذه الكوارث بدلا من أن يطل علينا من “الجزيرة” ليلعب دور المتفرج الشاطر.
ولكن لماذا نذهب بعيدا، فقد كفانا السيد هيكل نفسه مغبة التنقيب والبحث فقدم لنا إثباتا بعد الآخر عما نريد قوله وتأكيده. وإذا ما صدقنا رواية السيد هيكل لأحداث “الليلة الحزينة”، ليلة تنحى الرئيس عبدالناصر، وشخصيا أجد صعوبة في تصديق هذه الرواية. لكن إذا ما صدقنا هذه الرواية على علاتها الواضحة البينة، فإن القيادات المصرية وشخصيات الدولة وهياكلها، بل إن مصر كلها بمؤسساتها ورجالها قد اختزلت في تلك الليلة العصيبة في شخصين: عبدالناصر وهيكل، اختزلت مصر كلها في شخص رئيس منكسر يجد صعوبة في السيطرة على انفعالاته وأحاسيسه، يبدو معزولا في مقره، واكتفى بأن أعلن “استعداده لتحمل المسؤولية” وذلك بعد خراب مالطا “كما يقولون”، والآخر هيكل، صحافي يمارس دور المشارك في صنع القرارات دون أن يكون مسؤولا عن نتائجها. الإثنان يقرران كل شيء: الحاضر والمستقبل. وإذا كان موقع عبدالناصر -في تلك الليلة- معروفا فهو رئيس الجمهورية، وهو الذي يريد أن يعلن استقالته -إن كان حقا صادق العزم في التخلي عن الحكم-، وهو أيضا يتجاوز كل النصوص والمؤسسات الدستورية ويسمح لنفسه بأن يختار من يخلفه في قيادة مصر، ولم لا؟.. فهو القائد الملهم الذي اتخذ –منفردا- قرارات أخطر من ذلك بكثير. لكن أليس من الطبيعي أن نتساءل: ما هو موقع هيكل في تلك الليلة؟.
لعل أحداث تلك الليلة تتطلب وقفة خاصة كي نستبين كيف كانت الأمور تجري في مصر الناصرية، وكيف كانت الأمور تدار في قصر حدائق القبة في وقت كان مئات الألوف من الرجال يموتون ويؤسرون ويعانون فوق رمال سيناء،،، نعم .. قد نعود لهذا في وقت لاحق، لكن ما يعنينا هنا هو أنه حسب رواية السيد هيكل فإنه لم يكن كاتب خطاب التنحي فحسب ولكنه شارك في اتخاذ قرارات مصيرية، فهو الذي سمى زكريا محي الدين خليفة لعبدالناصر، دون أن يستشار الرجل أو حتى (يدولو خبر) !!. وإذا ما صدقنا رواية هيكل فقد تحول إلى حاكم مصر في تلك الليلة: عبدالناصر تنحى ونام بتأثير المنوم، ولكنه قبل أن ينام –وهو الذي ترك منصب الرئاسة ولم يعد له أن يأمر أو ينهى!!!!- أوعز إلى هيكل بضبط الأمور، وعدم السماح لأحد بإلقاء بيانات من الإذاعة بما في ذلك النائب الأول والقائد العام المشير عبدالحكيم عامر الذي لم يتنح عن مناصبه رسميا بعد. وحسب رواية هيكل فقد توالت الاتصالات به –هو دون غيره-، ومن هذه الاتصالات اتصال من المشير عامر يكاد فيه أن يرجو هيكل السماح له بإلقاء بيان استقالة من الإذاعة، وبحسب رواية هيكل، فقد وصل الأمر بقيام المشير بتخويل هيكل بكتابة نص يذاع على الناس تُعلن فيه استقالة المشير، ولا يوافق هيكل لأن المشير كان ممنوعا من أن يُعلن استقالته بحسب تعليمات الرئيس المستقيل الذي كان وقتها يغط في النوم. وبحسب رواية هيكل أيضا فقد وردت إليه اتصالات من رؤساء دول –كلهم موتى الآن-، والأغرب من ذلك ورود اتصال من السيد زكريا محي الدين الرئيس المكلف!!! نعم … بموجب رواية هيكل، انتهت كل المرجعيات في مصر وأمسى هو المرجعية في تلك الليلة الظلماء !! أصبح الحاكم الفعلي لمصر إلى أن ينتهي مفعول منوم الرئيس المستقيل !!!! وإلى أن تنهي قيادات الاتحاد الاشتراكي من ترتيب “المظاهرات العفوية” المطالبة بعودة الرئيس !!!
ما يهمنا هنا –من كل ما أورناه- هو التعرف على موقع هيكل في أجهزة اتخاذ القرار والتشاور في مصر في تلك الحقبة:
فهو ليس صحافيا فحسب، ولكنه ضمن 12 مسؤولا في مصر يشتركون في دائرة تلفونية مغلقة،
وعلاوة على ذلك فهو –دون غيره- لديه خط تلفوني مباشر وخاص مع رئيس الدولة،
وهو الشخصية الثانية –بدون منازع- في “الليلة الحزينة”،
وهو الذي تفرد –ولو لعدة ساعات- بضبط الأمور في مصر –خلال نوم الرئيس المستقيل- فأصبح قطب الاتصالات والقرار في تلك الساعات.
أبعد هذا كله يستطيع أحد أن يعفي السيد هيكل من المسؤولية، على الأقل عما يكتبه في الأهرام وغيرها، باعتبارها صادرة عن شخص ضمن الدائرة الضيقة للتشاور والقرار؟ ما هي آثار هذه الكتابات على الأمن القومي العربي؟ وما هي آثار هذه الكتابات على حرب يونيو؟ وهل قدمت معلومات للعدو؟ معلومات غاية في الحساسية .. عن القوات .. والقيادات .. وعن النوايا؟
إذا كانت الجماهير العربية –وكنت أحدها- تستمع لأحمد سعيد ومحمد عروق يذيعان بصوتيهما المجلجلين مقالات بصراحة التي كان هيكل يكتبها في الأهرام، إذا كانت الجماهير تستمع لهذه المقالات وتقرؤها بعاطفة “قومية” جياشة، ولا تتوقف لتعرف مدى صحتها ولكنها تتأثر بسحر الكلمات والعبارات المرصوصة التي برع فيها هيكل، إذا كان هذا حال الجماهير مع مقالات هيكل، إلا أن لمخابرات الدول شأن آخر معها، فهي تدرسها بعناية وتقرأ سطورها وما بينها وتخضعها لتحليل دقيق، ليس فقط لأنها من روائع الأعمال في تطويع الكلمات، ولكن لأنهم يعرفون بأنها تمثل نافذة مجانية على ما تفكر به القيادة المصرية، وأنها تشكل مصدرا للمعلومات الحساسة لا يكلف الحصول عليها سوى اشتراك في الأهرام أو ضبط مؤشر المذياع على صوت العرب بعد عصر الجمعة. وبدون شك فقد كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية -وغيرها- تبدي اهتماما بشخصية السيد هيكل وبدوره في النظام الناصري. هذا الاهتمام يدعوها إلى إخضاعه لتحليلات نفسية بغية معرفة ما ترغبه عن شخصيته واهتماماته وما يعتريه من ضعف وقوة وغير ذلك مما تحرص المخابرات على معرفته. ومن خلال هذه المعرفة الدقيقة لشخصيته فإن إسرائيل والدوائر الغربية قد عملت على تقديم معلومات إلى السيد هيكل وتسريبها إليه، وربما إلى غيره من الصحافيين المصريين، كي تجد هذه المعلومات طريقها إلى الصحافة المصرية وإلى دوائر صنع القرار في مصر، وإلى التأثير على الجماهير العربية.
قد يتهمنا البعض بالتجني على هيكل .. ونقول إلا إذا كان الرجل يتجنى على نفسه. لنقرأ ما قاله السيد هيكل حول بعض ما نشرته الأهرام، وهو رئيس تحريرها، بل إنه ينسب النشر لنفسه، لنقرأ:
“لكن أنا بدا لي من بعيد في حاجة مرتبكة، بدا لي من بعيد كصحفي أنه في قرار صدر بتعيين الفريق مرتجي قائدا للقوات، ونشرت في الأهرام أنه حتبقى تحته -وطبقا للي سمعته- أنه حتبقى تحته قيادات الجو والبر والبحر المخصصة للجبهة، وثاني، نفس اليوم طلب مني عبد الحكيم عامر كلمني في التلفون وقال لي أنت عملت لي مشكلة انشر أن كل القوات حتبقى تحت قياداتها، يعني الطيران حيشتغل تحت صدقي محمود والبحرية حتشتغل تحت سليمان عزت وأن قائد الجبهة حينسق”
لنقرأ أيضا ما قاله السيد هيكل:
“الحاجة الثالثة أنه في إشكال حصل في القوات وهو كان موجودا على صفحات الجرائد وأنا شخصيا في الأهرام عانيت منه في ذلك الوقت لأنه في الأول قيل لي ومن الرئيس عبد الناصر، قيل لي إنه في قائد أصلا مكلف بالخطة قاهر اللي هي كانت الخطة بتاعتنا وهو صلاح محسن، الفريق صلاح محسن وهو قائد القيادة الشرقية، ثم عين الفريق مرتجي قائدا عاما للجبهة، بقى في مشكلة تنازع اختصاصات، ولكن الحاجة المهمة أن الرئيس عبد الناصر لما قال لي على إنه في قيادة عامة موحدة الجبهة combined عمليات مشتركة، بيسموها العمليات المشتركة وهذا أضعف نوع نحن كويسين فيه، الإسرائيليون كويسين فيه، العمليات المشتركة بالمدرعات والطيران والبحرية والمشاة وكل القوات اللي بيسموها الـ Combined Operations العمليات المشتركة نحن مع الأسف الشديد مش كويسين فيه قوي، لكن اللي حصل في هذا الموضوع أن الرئيس قال لي أنا، قال لي إنه حيبقوا القائد العام للجبهة وهو مرتجي عنده تحت تصرفه قيادة الطيران المكلفة بالعمليات، قيادة البحرية التي قد تشترك والقوات البرية الموجودة ولكن فوجئت بعد كده أنه يبدو أن القادة تضايقوا وفوجئت بعد ذلك بالرئيس عبد الناصر نفسه بيكلمني ثم عبد الحكيم عامر بيكلمني بيقول لي إن قائد الطيران صدقي محمود يرى أنه هو يقود معركته بنفسه وقائد البحرية سليمان عزت بيروا أن البحرية تقود بنفسها وبالتالي فكرة الـ combined operations اللي أنا كتبتها في الأهرام عاملة حساسية وبالتالي لا بد أن إحنا نرجع نكتب خبر صغير قوي نقول فيه إن قائد كل سلاح سوف يتولى مسؤولية قيادة قوات سلاحه في هذه الحرب، أنا الحقيقة كنت مستغربا من هذا لكن على أي حال نشرنا الخبرين، الأهرام نشرت الخبرين، الأولاني ثم عدلناه بالخبر الثاني.”
بضع أمثلة فقط مما أورده السيد هيكل بنفسه في برنامج “مع هيكل”، ولو راجعنا كل ما قاله في هذا البرنامج لوجدنا الكثير من مثل هذه المعلومات الخطيرة والدقيقة منشورة على صفحات الأهرام. ولو راجعنا ما كتبه في مسيرته الصحافية لأصابنا الذهول من حجم ما يقدم من معلومات، وسبحان الله، يتفرد بها دائما السيد هيكل دون أقرانه. طبعا السيد هيكل لا يستطيع أن يدعي بأنه مجرد صحافي أُمر بأن ينشر فنشر. يعني حكاية “عبد المأمور أو حتى عبدٌ مأمور” ما تنفعش كعذر لهيكل:
وإذا ما أخذنا الأمثلة السابقة (فقط، وغيرها كثير) وتساءلنا: ما هي مصادر السيد هيكل؟ وما هي طبيعة المعلومات التي مررت إلى العدو، لوجدنا التالي:
“ونشرت في الأهرام أنه حتبقى تحته -وطبقا للي سمعته- أنه حتبقى تحته قيادات الجو والبر والبحر المخصصة للجبهة”
وفوجئت بعد ذلك بالرئيس عبد الناصر نفسه بيكلمني ثم عبد الحكيم عامر بيكلمني بيقول لي إن قائد الطيران صدقي محمود يرى أنه هو يقود معركته بنفسه وقائد البحرية سليمان عزت بيروا أن البحرية تقود بنفسها وبالتالي فكرة الـ combined operations اللي أنا كتبتها في الأهرام عاملة حساسية وبالتالي لا بد أن إحنا نرجع نكتب خبر صغير قوي نقول فيه إن قائد كل سلاح سوف يتولى مسؤولية قيادة قوات سلاحه في هذه الحرب، أنا الحقيقة كنت مستغربا من هذا لكن على أي حال نشرنا الخبرين، الأهرام نشرت الخبرين، الأولاني ثم عدلناه بالخبر الثاني.
“وكانت المفاجأة… مفاجأة الأيام العشرة العظيمة التى غيرت كل شىء فى الشرق الأوسط.
تقدم الجيش المصرى بقوة لم يتنبه لها راسمو الخطط الاستراتيجية فى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية… ولا تصوروا وجودها.
وتقدم بكفاءة كانت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أول من شهد بها وحاولت أمام المفاجأة الصاعقة أن تنسبها إلى تخطيط قديم محاولةً تبرير جهلها – مضيفةً إلى ذلك أنه لابد أن السوفيت شاركوا فى الإعداد لها! ”
ومع خطورة هذه المعلومات التي أوردناها في الأمثلة السابقة، وبينا أن خطورتها مستمدة من مصادرها ومن طبيعتها الاستراتيجية الحساسة، ولكن تسريبات السيد هيكل لم تتوقف عند ذلك، على خطورته، فليس هذا كل ما كشفه السيد هيكل، بل إنه كشف نوايا القيادة المصرية.
لعل مفتاح حرب يونيو 1967 هو من يوجه الضربة الأولى؟ من أجل ذلك عملت الدولتان أمريكا والاتحاد السوفيتي على مناشدة الطرفين بالطرق الدبلوماسية السرية وحتى بالطرق العلنية بعدم بدء الحرب. ومن أجل ذلك سعت مخابرات الدول –جميعها- لمحاولة معرفة نذر الضربة الأولى. سعت إسرائيل بكل ما أوتيت مخابراتها من قدرات لمعرفة نوايا مصر في هذا الصدد، وعملت في نفس الوقت على إخفاء نيتها بتوجيه الضربة الأولى، ونجحت في ذلك، فكانت الضربة مفاجأة استراتيجية. قبل يونيو 1967 بزمن ليس بالقصير –بحساب التخطيط العسكري- تأكدت إسرائيل من أن مصر لن تفاجأها بضربة جوية، وعلى هذا الأساس أخذت راحتها في اختيار توقيت أكثر ملاءمة لتوجيه ضربتها، حساباتها أصبحت تدور حول استعداداتها هي، وحول استباق أي جهد دولي قد يحول دون حرمانها من هذه الفرصة الذهبية، وباختصار فهي لم تعد في حالة سباق مع مصر: أيهما يوجه الضربة الأولى ويستفيد من عنصري المباغتة والمبادأة. ولكن كيف ومتى علمت إسرائيل بالنوايا المصرية؟
في مقالة بصراحه المنشورة في الأهرام بتاريخ 26 مايو 1967 تحت عنوان: “الصدام بالسلاح مع إسرائيل محتم .. لماذا؟” اختتم السيد هيكل مقاله بالعبارات التالية:
“وهنا يبرز سؤال حيوى:
- هل انتهت المسألة؟
لقد شرحت – أو حاولت أن أشرح فى الملاحظة الأولى من هذا الحديث – أن المسألة لم تنتهِ وإنما هى – بالكاد – بدأت لأنى على يقين من أن إسرائيل لعدة عوامل، فى مقدمتها العامل النفسى، لا تستطيع أن تقبل ما حدث حتى الآن وتسكت عليه…
لا تستطيع فى تقديرى..
معنى ذلك- وهذا هو قصدى من هذه الملاحظة الثانية فى هذا الحديث – أن الخطوة التالية لها، عليها هى الآن أن ترد. (يقصد إسرائيل)
وليس أمامها غير أن توجه ضربة وعلينا أن نكون فى انتظارها نقلل – كما قلت – إلى أقصى حد مستطاع من تأثيرها، ثم تكون لنا الضربة الثانية نشحنها بالتأثير إلى أقصى حد مستطاع.
وباختصار.
فإن مصر استعملت القوة وحققت أهداف هذه المرحلة بدون الالتجاء حتى الآن إلى السلاح.
وإسرائيل ليس أمامها الآن غير أن تلجأ إلى السلاح إذا أرادت استعمال القوة.
أى أن خط سير المواجهة الرهيبة الواقعة الآن بين مصر المعززة بقوى جماهير الأمة العربية، وإسرائيل المعززة بحماقة القوة الأمريكية – يفرض على مصر بعد كل ما نجحت فى تحقيقه أن تنتظر… حتى ولو كان انتظارها لضربة.
ذلك ضرورى أيضاً لسلامة خط سير المعركة خصوصاً من وجهة نظر دولية.
ولتبدأ إسرائيل!
ولتكن بعدها ضربتنا الثانية متحفزة… وقاضية!..”
أذكر أنني مع عدد من رفاقي ضباط مدرستي المخابرة والمشاة، في معسكر المرج، كنا نستمع لهذه المقالة في صوت العرب، وكنا نعي تماما معنى ما كتبه هيكل، وأن المبادأة قد أعطيت للعدو. دار جدال يومها: هل ما يقوله هيكل هو الحقيقة، أم أن هذا يقع ضمن تكتيكات الخداع المصرية. يومها غلّب أكثرنا التكتيك والخداع، لأننا لم نظن أن القيادة المصرية بهذا الغباء، ولم نظن أن النوايا يُعلن عنها هيكل على صفحات الأهرام. أذكر أن ضابطا واحد قال: لا أظن أنها (تكتيكه) ولكن خوفي منها (هتيكه).
نعم لم يكن ذلك تكتيكا ولكنه كان إفشاء مفضوحا وكشفا للعدو المتربص عن نوايا القيادة المصرية.
وللحديث بقية إن شاء الله