إبراهيم عبد العزيز صهد..
تخرج من الكلية العسكرية الليبية عام 1963، وكان ترتيبه الأول على دفعته (الدفعة الخامسة).
عمل ضابطا بالجيش الليبي خلال الأعوام 1963 – 1969 : مدرسا في مدرسة المخابرة، ورئيسا لجناح [...]
img>“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم” هيكل
نظرية التدخل الأمريكي: حقيقتها وكيف نشأت
نظرية الدور الأمريكي في حرب 1967 تعود إلى الساعات الأولى من الحرب، بل ربما سبقت اندلاع الحرب نفسها.
قبل الحرب كان الإعداد النفسي للجماهير العربية لتقبل نظرية الاعتداء الأمريكي. نجد ذلك في الإعلام المصري، خاصة فيما كانت إذاعة صوت العرب تبثه من تحريض للجماهير الليبية بمهاجمة قاعدة “الملاحة/ويلاس”، ونجده أيضا في كثير مما نشرته الأهرام والصحف المصرية الأخرى، بل وفي ما كتبه السيد هيكل نفسه.
لنأخذ على سبيل المثال ما أشار إليه السيد هيكل في مقال سبق اندلاع الحرب:
“كلمة الأهرام بتقول “سمعة ليبيا هي الموضوع!” وهنا ده موضوع مهم قوي لأن إحنا كنا قلنا خبر قبلها بيوم إنه في حركة عسكرية كبيرة جدا في مطار ويلاس في قاعدة ويلاس في طرابلس في ليبيا، وبنقول إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار، …………”
“فإحنا كتبنا وبمنتهى الأدب تعقيبا على وزير خارجية ليبيا السيد بشتي بنقول له إن الموضوع مش موضوع أنكم تقولوا إن سمعتكم في الميزان، مش موضوع أن تقولوا لا حصل ما حصلش، هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها.”
وبغض النظر عن أن السيد هيكل لم يقدم يومها أي إثبات لما كتبه في الأهرام لأنه تعود أن يكتب فُيصدق دونما حاجة لأن يقول لنا كيف عرف بأن “هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها.” في الوقت الذي لم يعرف الليبيون بهذه ال “حركة عسكرية كبيرة جدا في مطار ويلاس في قاعدة ويلاس في طرابلس في ليبيا، ……. إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار،” لكنها لم تلفت إليها ليس فقط أنظار الليبيين ولكن يبدو أيضا أن هذه الحركة (الكبيرة الملفتة للأنظار) لم تلتفت إليها حتى أنظارسفارات الدول المنتشرة في طرابلس بالقرب من قاعدة “الملاحة/ويلاس” بما فيها سفارة الاتحاد السوفيتي وسفارات دول حلف “وارسو”، لأن هذه الدول ببساطة شديدة لم تقل بأن سفاراتها في طرابلس قد لاحظت هذه الحركة (الكبيرة الملفتة للأنظار)، ولم تقل أي من هذه الدول بأن قاعدة “الملاحة/ويلاس” قد استعملت.
نعم .. هذا الحديث عن نظرية التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس” كان يتم حتى قبل اندلاع المعارك، والغاية منه هو إعداد الجماهير العربية، وخاصة الليبية، نفسيا لتقبل نظرية التدخل الأمريكي.
أما بمجرد حدوث الضربة الجوية الإسرائيلية فقد ابتدأت القيادات المصرية على مختلف مستوياتها تتحدث –حتى فيما بينها- عن نظرية التدخل الأمريكي، وتبحث عن أية شوارد يمكن استخدامها، بل وربما اختراع الشواهد والشوارد التي قد تعزز هذه النظرية. وفي هذا يخبرنا السيد هيكل بروايته للأحداث عن تلعثم المشير عبدالحكيم عامر في ردوده على أسئلة عبدالناصر حول الموقف، وكيف بدت المسألة وكأنها استجواب من عبدالناصر لنائبه عبدالحكيم عامر. وهو –على فكرة- موقف لم يحضره هيكل ولم يكن شاهدا على الحوار بين الرجلين ولكنه يسوق هذا الحوار بحرفية المسجلات الالكترونية زاعما أن الرجلين قد قالاه له هو دون غيره. لنستمع للسيد هيكل:
” لكن جمال عبد الناصر أظنه أنه بدأ يقلق لكن إلحاحه في ذلك الوقت على عبد الحكيم أنه تقريبا، الاثنان اتفقوا في روايتهم لي في الحوادث أن جمال عبد الناصر كان دائم التكرار بيقول لعبد الحكيم أنا عايز أعرف إيه هي الحقيقة، إيه التقارير، إيه الصورة الحقيقية لما جرى في الطائرات، كم حجم الخسائر؟ لأنهم بدؤوا يقولون كلاما، بدأ عبد الحكيم يقول، وأظن هنا في نقطة من النقط المهمة جدا أن عبد الحكيم بدأ يقول إن حجم الضربة الجوية أكثر مما تتحمله طاقة إسرائيل، هذه مش إسرائيل هذا حد ثاني، وبعدين حصلت حدة في الموقف، جمال عبد الناصر بيقول له الحد الثاني مين؟ بيقول له الأميركان. بيقول له الأميركان شوف أنا -وهذا ثابت من كل الروايات- قال له أنا لا أصدق في المعلومات اللي عندي -وأظن هنا كان غلطان جمال عبد الناصر- في المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي وعلى أي حال أنا مستعد أصدقك أن الأميركان دخلوا لكن أطلب منك حاجتين -ده كان قدام كل الناس اللي موجودين- أطلب منك إما أن تأتي لي بحطام طائرة أميركية ضربتوها وإما أن تأتي لي بطيار أميركي أسير وأما دون هذا فأنا مش مستعد أصدق حكاية الأميركان موجودين، وأنا لا أستطيع أن أطلع قدام الناس وأقول لهم والله الأميركان موجودين بدون أن يكون لدي دليل…”
حوار بين عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر يبين مستوى الارتباك والرغبة في البحث عن معاذير، كما يبين ما وصلت إليه العلاقة بين القائد الأعلى ونائبه من توتر. هذا الحوار يحدث بعد فترة وجيزة من الضربة الإسرائيلية، حين كان الوقت أثمن من أن يضيع في هذه المماحكات، لكن البحث عن قشة تدعم نظرية التدخل الأمريكي يستمر دون توقف، ودون حساب للوقت المطلوب لتدارك المعركة البرية في سيناء التي باتت القوات المصرية تواجهها وهي تفتقر إلى كل شيء وليس فقط الغطاء الجوي، بل وإلى القيادة المتفرغة لإدارة معركة يتعلق عليها مصير أمة بأكملها. لنستمع لما يقوله هيكل:
“التضارب في هذه النقطة عمل حاجة غريبة جدا، يحكي بغدادي على سبيل المثال يقول إنه اتصل له، في صدقي محمود بيقول إنه عنده ضابط في طيار قديم في الجنوب في الصعيد في قاعدة من قواعد الصعيد اسمه حسني مبارك شاف طيارة أميركية، بيقوم عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر بيقولوا الكلام ده مش معقول، فعبد الحكيم عامر يقوم يكلم هذا الضابط حسني مبارك في المطار بيكلمه بنفسه في وجود جمال عبد الناصر فهذا الضابط بيقول لا، أنا اللي شفتهم كانت طائرات إسرائيلية. الارتباك كان كده إلى هذا الحد كان كبيرا جدا إلى درجة أنه في وقت بيفوت وعمليات القوات البرية على وشك أنها ستبتدي،”
لم يتوقف السيد هيكل .. ولم يستطرد كما -عودنا- ويتساءل عن هذه الرواية .. هل كان العضو السابق لمجلس قيادة الثورة السيد “عبد اللطيف البغدادي” –المعروف بدقته- مخطئا في نقله عن صدقي محمود؟ .. أم أن صدقي محمود قد ذكر له هذه الحادثة فعلا نقلا عن أحد طياريه؟، وأن هذا الطيار قد تراجع عن زعمه لسبب ما .. أم أن الأمر كله كان مختلقا من أساسه؟، ولذلك فإن الطيار “حسني مبارك” قد أنكر علمه بالرواية وأنكر رؤيته لطائرات أمريكية حين قام كل من عبدالحكيم عامر وعبدالناصر بالاستفسار منه حول هذه المسألة. في وقت مصيري كهذا تحسب فيه الثواني قبل الدقائق، تتحول القيادات المصرية كلها (الرئيس ونائبه وكل قيادات القوات المسلحة … وربما سرت العدوى إلى بقية اركان الدولة بما فيها السفارات) تتحول لمتابعة أية شاردة قد تثبت نظرية التدخل الأمريكي. ولعل سؤالا استنكاريا منطقيا يفرض نفسه على هذه الأجواء –التي وضعنا فيها السيد هيكل-، ألم يكن طبيعيا أن يقدم صدقي محمود قائد الطيران تقاريره إلى القائد العام المشير عامر بدلا من أن يسمع هذا القائد العام تقارير قائد طيرانه عن طريق عضو سابق مبعد عن مجلس قيادة الثورة؟. وللأسف فإن هيكل لم يتوقف أيضا ويسأل -باستنكار- لماذا تحولت غرفة العمليات في تلك اللحظات المأساوية المصيرية الحرجة إلى مساحة ازدحمت بكل من هب ودب، ولماذا لم يعد لقائد الطيران من مهمة إلا الاتصال أو تلقي الاتصالات من أشخاص ليس لهم أي دور في سير المعركة لا على صعيدها السياسي ولا على الصعيد العسكري.
من الضروري جدا أن نعود إلى الحوار الذي دار بين عبدالناصر وعبدالحكيم عامر. في هذه المحادثة يقول الرئيس عبدالناصر بأنه لا يصدق المعلومات -أو ربما نقول الافتراضات- التي يقدمها المشير، ويقول صراحة: ” المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي” إذن فالرئيس عبدالناصر لديه معلومات تنفي التدخل الأمريكي، ويبدو واثقا جدا من هذه المعلومات … فيبدي عدم استعداده لإعلان تدخل أمريكا بدون أن يكون هناك دليل.
كان عبدالناصر يطلب أحد أمرين عجزت القيادة العامة أن تقدمهما: طائرة أمريكية أسقطت، أو طيارا أمريكيا أسر. وإذا ما صدقنا رواية هيكل فإن الرئيس عبدالناصر لم يصر على هذا المطلب طويلا، بل سرعان ما طرح ثقته في معلوماته التي تنفي التدخل الأمريكي وتنازل عن مطلب الطائرة المسقطة أو الطيار الأسير. تنازل عن كل ذلك واكتفى لتأكيد التدخل الأمريكي ببعض التقارير التي يقول هيكل بأنها قد جاءت من السفير المصري في باريس، والملحق العسكري المصري في طرابلس (وسنتحدث في الوقت المناسب عن هذه “التقارير” التي ذكرها هيكل، والتي يعلق عليها مرافعته لإثبات الدور المزعوم لقاعدة ويلاس). لكننا إذا ما استقرأنا الأحداث وراجعنا خطب عبدالناصر وتصرفاته بعدئذ لوجدنا أنه لم يستطع أن يقول صراحة –ولو مرة واحدة- بحدوث التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس”، وأن أقصى ما قاله عبد الناصر هو الإشارة التي وردت في خطاب التنحي الشهير:
“أن العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب؛ الأمر الذي يقطع بأن هناك تسهيلات تفوق مقدرته، وتتعدى المدى المحسوب لقوته، قد أعطيت له”.
معروف أن هذه العبارة المطاطة من صياغة السيد هيكل ضمن صياغته لخطاب التنحي الذي يقول السيد هيكل أنه استغرق منه بضع ساعات لإتمامه. ولا أحسب أن عبدالناصر كان سيكتفي بمثل هذه العبارة ويتوقف عندها لو كان مقتنعا فعلا ومتأكدا من التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس”.
وبدون شك فإن الأمر كان وقتها في غاية الخطورة والحساسية: الرئيس عبدالناصر يُلقي خطابا يعترف فيه بالهزيمة “النكسة”، في وقت حطمت فيه إسرائيل القوة العسكرية المصرية وقوات دول عربية أخرى، وباتت قواتها تحتل الضفة والقطاع والجولان وسيناء وتسيطر على الضفة الشرقية لقناة السويس، في ذلك الوقت لم يعد من القوات المسلحة المصرية أية قوة قادرة على إنجاز مهمات قتالية ذات معنى، اللهم إلا فرقة الحرس الجمهوري التي عُهد إليها بتأمين النظام الحاكم في القاهرة، وبات قادة هذه الفرقة يتلقون تعليماتهم مباشرة من الرئيس عبدالناصر –المتنحي عن الرئاسة-، أما الطريق الذي يربط بين مدن قناة السويس والقاهرة فلم تجد القيادة المصرية إلا طلبة الكلية الحربية لاستنفارهم لمراقبته والدفاع عنه!!!. في هذه الظروف الحرجة، لنا أن نتصور أن عبدالناصر لديه معلومات ووثائق حقيقية يُعتد بها تدين أمريكا وتفضح استخدامها لقاعدة “الملاحة/ويلاس” منطلقا لعدوانها على مصر ولا يكشف –في تلك الظروف المصيرية- هذه الوثائق!! .. ولا يقول صراحة أن مصر تلقت ضربة شاركت فيها أمريكا بقوتها الجوية المنطلقة من قاعدة “الملاحة/ويلاس”!!. أم أنه وقتها -وهو يبحث حتى عن القشة- كان يعرف أن الوثائق المزعومة التي لوح بها هيكل –إن كان هناك وجود لهذه الوثائق أصلا- لا تستطيع أن تصمد أمام أي اختبار.
كما أن العلاقات اللاحقة بين مصر وليبيا –حتى فيما تبقى من حكم عبدالناصر- لا تدل بأي شكل من الأشكال على مزاعم التدخل الأمريكي باستخدام الأراضي الليبية، وليس هناك أي دليل واحد أن مصر أثارت –بصورة رسمية- مع الحكومة الليبية هذه المسألة، أو أثارتها في أي محفل رسمي دولي.
بل ماذا يقول هيكل في أن الرئيس عبدالناصر والملك حسين كليهما قد أنكرا وجود أي تدخل عسكري أجنبي في الحرب وذلك أثناء مؤتمر القمة العربية الذي انعقد بعيد الحرب في الخرطوم. بل إن مصادر متعددة أشارت إلى أن عبدالناصر قد قدم شرحا تفصيليا في إحدى جلسات القمة قال فيه بأن الاتهام الوارد في بيان وزارة الخارجية المصرية الصادر يوم 6 يونيو لكل من بريطانيا وأمريكا بالمشاركة الفعلية في الهجوم الجوي الإسرائيلي كان بسبب خطأ في معلومات الرادار المصري وكذلك لأن الطائرات الإسرائيلية جاءت من البحر من اتجاه الأسطول السادس . واضح أن عبدالناصر -خلال هذا الشرح والتبرير- لم يشر إلى ليبيا أو إلى قاعدة “الملاحة/ويلاس” لا من قريب ولا من بعيد، لم يشر حتى إلى أنهم ظنوا أن الهجوم قادم من ناحية القاعدة، بل أشار إلى أن القيادة المصرية توهمت أن الطائرات أمريكية كونها قادمة من البحر من جهة الأسطول السادس.
وماذا يقول السيد هيكل في أن السفير السوفياتي بالقاهرة بادر يوم 6 يونيو وبعد صدور تصريح وزارة الخارجية المصرية المشار إليه بإعلام السلطات المصرية أن معلومات الاتحاد السوفياتي تنفي حدوث مشاركة أجنبية (لا بريطانية ولا أمريكية) .
وماذا يقول السيد هيكل في الرجاء الحار –خلال مؤتمر القمة في الخرطوم- الذي طالب به الرئيس عبدالناصر الدول العربية (التي لديها علاقات مع أمريكا) أن تتوسط لرتق علاقات مصر المقطوعة مع أمريكا، معترفا باستعجاله في قرار قطع العلاقات، هل هذا تصرف رئيس يعلم أن أمريكا قد اعتدت على بلده ولم تجف دماء الضحايا بعد.. وما زال العدو يرسخ احتلاله لسيناء والضفة والقطاع والجولان ؟…
وماذا يقول السيد هيكل في التصريح الذي أدلى به الملك حسين لوكالة “آسوشييتد بريس” في نيويورك بتاريخ 30 يونيو 1967 وقال فيه صراحة بأنه متأكد من أن الطائرات الأمريكية والبريطانية لم تشارك في المعارك. وهذا نص التصريح:
“On 30 June, King Hussein announced in New York that he was “perfectly satisfied” that “no American planes took part, or any British planes either”.
وترجمة التصريح: ” بتاريخ 30 يونيو أعلن الملك حسين في نيويورك أنه كان مقتنعا تماما أنه لا الطائرات الأمريكية ولا البريطانية قد شاركت”
إذن كانت نظرية التدخل الأمريكي موجودة ومثارة في الإعلام المصري قبل الحرب وأثناءها، وكانت الشغل الشاغل لدى القيادات المصرية السياسية والعسكرية، لدرجة أن الرئيس عبدالناصر أجرى اتصالا هاتفيا عمل فيه على إقناع الملك حسين بالادعاء بتدخل كل من بريطانيا وأمريكا. المكالمة اشتهرت وافتضحت لأن المخابرات الإسرائيلية التقطتها وأذاعتها في حينها بصوت الرجلين. وفي تلك المكالمة كان عبدالناصر يسأل الملك حسين عما إذا كانت بريطانيا تمتلك حاملة طائرات!!!. ويسأله هل “نقول أمريكا وبريطانيا وإلا أمريكا بس” ، ليس في المكالمة أي حديث عن الأراضي الليبية أو قاعدة “الملاحة/ويلاس” لا من قريب ولا من بعيد، بل إن الادعاء كان منصبا على حاملات الطائرات !!!.
أما بعد الحرب فقد سقطت بالكامل نظرية التدخل البريطاني، ولكن استمر الحديث عن نظرية الدور الأمريكي في الإعلام المصري، ولكن بدرجة من الخفوت التدريجي بعدما لم يوجد من المعطيات ما يثبت هذا التدخل.
وحده السيد هيكل الذي استمر –منذئذ وإلى يومنا هذا- يثير هذا الموضوع ويصر على أن الولايات المتحدة الأمريكية قد شاركت إسرائيل في توجيه الضربة الجوية مؤكدا بأن قاعدة “الملاحة/ويلاس” في طرابلس قد جرى استخدامها لانطلاق الطائرات الأمريكية المغيرة. ولعل أي متابع لأحاديث وكتابات السيد هيكل منذ حرب يونيو سيجد تكريرا لهذا الزعم، وسيلمس في نفس الوقت تناقضات في روايات هيكل المتعددة، كما سيجد أن هيكل قد فشل في تقديم أية قرائن حول مزاعمه بالخصوص، إلى أن طالعنا في برنامج “مع هيكل” بحديث –لم يخل هو أيضا من التناقضات – عن وثائق يدعي أنها تثبت وتسند زعمه باستخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدة “الملاحة/ويلاس” خلال حرب يونيو 1967.
وهذه المزاعم هي محور هذه المقالات، وسيكون لنا إن شاء الله حديث عن وثائق هيكل المزعومة.
“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم” هيكل
عاد الصحافي المصري المشهور السيد محمد حسنين هيكل إلى الحديث عن حرب يونيو/حزيران 1967 عبر برنامج “مع هيكل” الذي يبث من قناة الجزيرة الفضائية. وهي ليست المرة الأولى التي يتطرق فيها هيكل لمجريات هذه الحرب ويضمنها رؤاه الخاصة حولها، فقد سبق له أن تطرق إلى هذه الحرب من خلال المقالات والكتب المتعددة التي كتبها أو من خلال المقابلات الإذاعية والمرئية العديدة التي أجراها.
وقد يكون من الضروري أن أوضح منذ البداية أنني لست بصدد التعليق على كل ما أورده السيد هيكل في أحاديثه المتشعبة حول هذه الحرب، ذلك لأن هذا يتطلب جهدا ووقتا لا أدعي أنني احوز عليهما. إن تشعب المواضيع والأحداث التي طرحها السيد هيكل مع عدم وجود منهجية واضحة لهذا الطرح، تجعل مهمة من يقوم بالمتابعة والتعليق عسيرة ومضنية، خاصة مع قيام هيكل بتكرار طرح المواضيع والأحداث حسبما يروق له. ولهذا فقد لا نجد مندوحة من التكرار أيضا حسبما تمليه المواضيع المطروحة، ومقدما أستميح القراء عذرا إذا ما اضطررت إلى ذلك.
كما أنه من المناسب أن أعترف بصعوبة التعامل مع ما يقوله السيد هيكل أو يكتبه، فالرجل –كما هو معروف وذائع- يعد من أساطين تطويع الكلمة وتحميلها من المضامين ما لا يجرؤ عليه غيره، وهو أكثر من عرفنا -في عالم الصحافة العربية- براعة وحرفية في اختلاق واصطناع المصطلحات التي تسمي الأشياء بغير مسمياتها ويحتكر وحده تحديد ما تعنيه. وحتى أكون أكثر وضوحا أشير -على سبيل المثال لا الحصر- إلى مصطلحين صاحبهما السيد هيكل أحدهما انتشر وأصبح اسما على غير مسمى وهو مصطلح “النكسة” الذي أصبح اسما لأكبر هزيمة في تاريخ الحروب الحديثة سواء من ناحية حجم الأطراف التي خاضتها، أو من ناحية سرعة الحسم، أو من ناحية نتائجها الكارثية وآثارها بعيدة المدى على كافة المستويات والأصعدة. أما المصطلح الثاني، فهو “البصمة الأمريكية” الذي أورده وكرره في حلقات “مع هيكل”. وهذا المصطلح الأخير صاغه هيكل ليكون غامض الدلالة وزئبقي الخاصية، بحيث يجد المتعامل معه صعوبة في إدراك حدوده أو الوقوف على مضامينه، ويمكن للسيد هيكل أن يتملص في أي وقت مما عناه به، خاصة مع ما حفلت به النصوص المحيطة بهذا المصطلح من جرأة السيد هيكل –المعروفة- على الكلمات يطوعها كيف شاء.
وبدون شك فإن هيكل يشكل ظاهرة غير مسبوقة من ناحية ما يتاح له من منابر إعلامية لا تعرف حدودا ولا نضوبا، فربما هو الوحيد الذي يُعطى من الوقت دون حدود، ودون أن يتاح لأي كان أن يناقشه أو يسأله أو يعلق عليه. إذا ما نظرنا إلى كل البرامج في كل القنوات، فهذا هو البرنامج الوحيد الذي يمتد ساعة من الزمن ويتكرر أسبوعيا على مدى زمني غير محدد، يشاهد المتلقي ويستمع لشخص واحد: يقول ما يشاء .. وبالكيفية التي يريد دون أن يقاطعه أحد أو يتاح لأحد أن يناقشه أو يحاججه أو يناقضه وينتقده.. يتاح له بذلك مزيد من الانتشار ومن نشر آرائه وأفكاره ودعاواه. لهذا فإن أي رد على هيكل –إن أمكنه أن يخترق السدود- لن يحظى إلا بالحد الأدنى من البروز الإعلامي ما يجعله في عداد المهمل إعلاميا، ولا يحظى حتى بفرصة ضئيلة من الانتشار. هذه إحدى المعضلات التي يواجهها كل من يحاول التعامل مع كتابات وأحاديث السيد هيكل، وهذا هو أحد مظاهر فقدان التوازن المنشود في البحث عن الحقيقة وإذاعتها بين الناس.
ثمة أمر آخر أحسب أن علي إيضاحه منذ البداية، وهو أن السيد هيكل حرص في بداية أحاديثه المذكورة أن يحدد المعايير التي يريد من المشاهد أن يتقيد بها. سأتطرق إلى هذه المعايير كل في حينه، ولكن أحد هذه المعايير –الذي بدأ به هيكل أحاديثه- أنه أراد منا أن نحتكم إلى خمسة أعداد فقط من “الأهرام” للحكم على أداء الإعلام المصري عامة والأهرام خاصة، وبالأخص أداءه هو أثناء مشوار حياته في مهنة الصحافة، خاصة دوره إبان الحقبة الناصرية والتي تجاوز فيها دور الصحفي إلى دور المشارك في صنع القرار، وربما ما يمليه ذلك من ضرورة تحمل المسؤولية عن القرارات التي كان مشاركا فيها (استشارة أو دعما أو صياغة أو إيحاء ….).
خمسة أعداد فقط من الأهرام اختار هو من عناوينها ما شاء وترك ما لا يريد، وتغاضى وتجاهل عن المتن والمضمون المندرج تحت هذه العناوين. كما يريد منا –نحن المشاهدين- أن ننسى سنوات من الردح الإعلامي الدعائي الذي واكب الحقبة الناصرية كلها والذي قلب الحقائق وصاغ هالات من التبجيل والتأليه على شخصيات بعينها، كما وصم بالخيانة والعار كل من خالف أو كان له رأي آخر. يريد منا أن ننسى الدور غير البناء –إن لم نقل الهدام- الذي مارسته الماكنة الإعلامية الناصرية التي كان هيكل يلعب دور القطب والمحرك فيها. إعلام روج لسياسات فاشلة خرقاء، وأسقط دعوات التريث والتوازن، بحث عن المعاذير لهذه السياسات يوم ثبت فشلها، ولم يرحم من خالفها حتى يوم انهزمت هذه السياسات. إنه الإعلام الذي قسم العالم العربي إلى معسكر تقدمي وآخر رجعي، وهو الإعلام الذي جعل العالم العربي في غيبوبة كاملة عن معطيات مصيرية مثل نتائج حرب السويس عام 1956، التي غلفت في قالب انتصار مزعوم حتى اصطدم العالم العربي بهذه النتائج في عام 1967، وهو الإعلام الرسمي الذي نفذ -بحرفية تفوق بها حتى على نفسه- سياسات الحقبة الناصرية التي أوصلت العرب إلى ما كانوا عليه من تفرق وضعف عشية حرب يونيو، والتي أعطت إسرائيل الفرصة الذهبية لتحقيق انتصار ما زالت آثاره تتبدى، وما زالت الأمة تدفع أثمانه باهضة، وهو الإعلام الذي اختصر الهزيمة أو النصر في تنحي الرئيس أو عودته عن التنحي غاضا الطرف عن أشلاء الجيوش العربية المتنائرة وكرامة الأمة المهدرة.
نعم يريد هيكل أن ننسى كل ما حفل به الإعلام المصري ولا نتذكر إلا ما كان في أيام خمسة، بل وفي أعداد خمسة من الأهرام. لنقرأ ما قاله هيكل وهو يضع هذا المعيار ويحدده بخمسة أعداد من الأهرام لا غير:
“اعتقدت أن هذا الحديث ينبغي أن يكون توضيحا لهذا الموقف موقف الصحافة إزاء 5 يونيو وفي 5 يونيو سنة 1967 وأين كانت وماذا فعلت بالضبط في هذه المعركة؟ لأن هناك جدلا كثيرا جدا. قيل إنه في ذلك الوقت كانت الصحافة بتبشر الناس بأنهم ذاهبون غدا إلى تل أبيب وإنه جاء الوقت لإلقاء إسرائيل في البحر وإن نهاية إسرائيل قد اقتربت وقيلت أشياء كثيرة جدا …………
ولذلك أنا كل اللي جايبه معي النهارده هو أعداد الأهرام السابقة على يوم 5 يونيو الخمسة أيام من أول شهر يونيو”
ليس هذا فقط، بل إن هيكل يريد أن تكون هذه الأعداد الخمسة مقياسا وإثباتا لما يريد قوله ولما يهدف إليه من إخبار “جيل جديد من الشباب” بما “غاب أو غُيِّب” عنه من دور الصحافة المصرية:
“أريد أن أوضح لجيل جديد خصوصا جيل جديد من الشباب لم يكن معنا في تلك الأيام حقيقة لا بد له أن يكون على اطلاع عليها لأنها أظنها غابت أو غيبت عنه، غيبت عنه قصدا في اعتقادي”
لقد مر زمن تغيرت خلاله التيارات والعوامل المؤثرة، وخرج الوعي العربي من دائرة التنويم التي أخضع لها والتي لم يكن خلالها يسمع ويصدق إلا صوتا واحدا وينكر ما عداه . ومع تغير الزمن وتنامي الوعي استجدت مصادر للمعلومات، لم تكن متاحة أمام المواطن العربي، وهذا ما أزعج السيد هيكل، فعاد من جديد ليكرر الصياغة التي سبق أن قدمها –بدل المرة مرات- عن حرب يونيو/ حزيران 1967، ونظريته عن التدخل العسكري الأمريكي مدعيا –من جديد- أن أمريكا استخدمت قاعدة “الملاحة/ويلاس” الواقعة بملاصقة مدينة طرابلس والتي تبعد عن المدن الرئيسة المصرية بالمسافات التالية:
وسنتحدث عن سبب إيرادنا هذه المسافات في وقت لاحق.
بمجرد انتهاء حرب يونيو 1967، تهاوت أكذوبة استخدام قاعدة “الملاحة/ويلاس”، ولم تزد المعلومات التي تم كشفها منذئذ إلا التأكيد على أنها لم تكن سوى أكذوبة تخلى عنها جميع من شارك في إطلاقها. وحده السيد هيكل الذي ظل واقعا في معضلة عدم القدرة على تجاوز هذه الكذبة.
على ضوء ما ورد من ادعاءات في أحاديث السيد هيكل حول هذه المسألة وغيرها من المسائل التي يهمنا إبراز الحقائق حولها وإيضاحها، وإزالة ما علق بها من أكاذيب وأوهام، وما ران عليها من غبن نتيجة للصمت الرسمي الليبي إبان العهد الملكي، ونتيجة للادعاءات الباطلة التي وجد فيها انقلابيو سبتمبر ما يمكنهم أن يبرروا بها انقلابهم وأن يجدوا من خلالها الدعم من خارج الحدود.
من أجل ذلك كله تأتي هذه المقالة وما يتبعها إن شاء الله.