إبراهيم عبد العزيز صهد..
تخرج من الكلية العسكرية الليبية عام 1963، وكان ترتيبه الأول على دفعته (الدفعة الخامسة).
عمل ضابطا بالجيش الليبي خلال الأعوام 1963 – 1969 : مدرسا في مدرسة المخابرة، ورئيسا لجناح [...]
img>على أعتاب السنة الثالثة من عمر الثورة .. ونحن نودع عامين مضتا .. ونحتفل بالذكرى السنوية الثانية لانطلاقة الثورة المباركة .. نعاين مشهدا سياسيا يفرز إرهاصات متضاربة .. بعضها تطرح أجواء من الاحتفال والتذكر والاستعداد لمعاودة الانطلاق بروح جديدة تعالج الأخطاء وتضع منهجية لتجديد روح الثورة ولتصحيح المسار .. وبعض هذه الإرهاصات ترى مزج أفراح الثورة بممارسة حرية رفع المطالب والتحشد حولها لإحداث الضغوط السلمية المشروعة من أجل تحقيقها. يصاحب هذا كله تحركات مشبوهة لعناصر الحكم المنهار الموجوين خارج وداخل البلاد تثير القلق كونها تتهدد الثورة وتحاول زرع الفتنة، وكونها تسعى لإفساد أعراس الشعب الليبي بأعياد ثورته ولتخريب وحدتهم بغية إشعال ثورة مضادة يعود من خلالها ذيول الحكم المنهار للتحكم مجددا في مقدرات شعبنا.
اضغط هنا لقراءة تكملة المقالة »
“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم” هيكل
جـ) برقية السفير المصري في باريس
لا بد أن نعيد التذكير بأن نظرية التدخل الأجنبي في حرب يونيو 1967 كانت موجودة حتى قبل اندلاع الحرب، وكانت أجهزة الدعاية الناصرية تروج لهذه النظرية، وكان هيكل في مركز هذا الترويج وفي صدارته. ولقد رأينا ما ذكره هيكل في أحاديثه عما نشرته الأهرام قبل الحرب بهذا الخصوص، ورأينا أيضا مقدار الشراسة التي واجهت بها الأهرام تصريحات وتوضيحات وزير خارجية ليبيا الدكتور أحمد البشتي. أما بمجرد حدوث الضربة الجوية الإسرائيلية فقد ابتدأت القيادات المصرية على مختلف مستوياتها تتحدث –حتى فيما بينها- عن نظرية التدخل الأمريكي، وتبحث عن أية شوارد يمكن استخدامها، بل وربما اختراع الشواهد والشوارد التي قد تعزز هذه النظرية. وفي هذا فقد قام السيد هيكل بنقلنا إلى الأجواء التي سادت غرفة عمليات القيادة العامة وما كان يدور فيها من بحث محموم عما من شأنه أن يؤكد التدخل الأجنبي وعلى وجه التحديد التدخل الأمريكي انطلاقا من أن الضربة الجوية كانت أكبر مما هو متوقعا، وأن الخسائر كانت كارثية بمعنى الكلمة الأمر الذي سيصعب تبريره دون إقحام التدخل الخارجي وبوجه خاص التدخل الأمريكي.
وقتها لم يتوقف أحد للحديث عن الأسباب التي مكنت إسرائيل من توجيه هذه الضربة ومن ثم إحداث هذه الخسائر الكارثية التي حسمت المعركة منذ لحظاتها الأولى، بل إن جميع أولئك القادة بمن فيهم الرئيس عبدالناصر لم يستطيعوا –آنذاك- أن يدركوا أن تلك الضربة قد مكنت إسرائيل من حسم معركتها مع العرب لأجيال ولعقود ستلحق. لم يتوقف أحد ليتساءل كيف أمكن لإسرائيل أن تقوم بتلك الضربة لأن هذا من شأنه أن يضع كل أركان الحكم الناصري في دائرة المسؤولية التي ترتبت عن سنوات طويلة من الإهمال والتسيب والاستخفاف الذي اقترب من الخيانة. سيكون عبد الناصر أول المسؤولين بفشله في إعداد مصر لمعركة كانت متوقعة، ولسياساته التي حالت دون توافر إمكانات الاستفادة من الطاقات العربية وتوجيهها للمعركة، وعن سنوات من المعارك (الدانكشوتية) طالت على وجه الخصوص الأشقاء العرب، وعن قرارته التي اتخذها بالوقوع في شراك معلومات زرعتها أجهزة العدو؛ هذا إذا أحسنا النية بأنه وقع في شرك، وعلى أساس تلك القرارات اختلق الأزمة وألحقها بالتحشد الاستعراضي للقوات المسلحة المصرية والإداراة الاستعراضية الإعلامية لمعركة حربية، ولقراره الكارثي بحرمان مصر من المبادأة ومن فرص توجيه الضربة الأولى أو على الأقل توقي الضربة الإسرائيلية، والأدهى السماح لهيكل أن ينشر هذا القرار على صفحات الأهرام. أجل إن الأسباب التي مكنت إسرائيل من جعل تلك الضربة الجوية بتلك الضخامة كانت واضحة ومعروفة للقيادات المصرية سواء في رئاسة الجمهورية أو التي كانت موجودة في غرفة العمليات وقتها، لكن الاعتراف بذلك كان يعني الاعتراف بالسجل الطويل من الخطايا التي ارتكبها الحكم الناصري بدءا من ترك عملاء وجواسيس إسرائيل يمرحون في مصر في أوساط القوات المسلحة ذاتها وعلى الأخص في داخل قيادات القوات الجوية، مرورا بنشر أسرار تحركات القوات المصرية وتشكيلاتها وقياداتها على صفحات الأهرام، ومرورا بإلغاء حالة الطوارئ المعلنة، وعلى وجه الخصوص قرار وقف عمل الدفاع الجوي المصري في تلك الساعات الحرجة وذلك تأمينا للطائرة التي كانت تقل المشير عبدالحكيم عامر الذي كان في طريقه لزيارة إحدى القواعد الجوية في سيناء والتي كان من المفترض أن يتم تحويلها إلى مركز القيادة الأمامية.
لم يكن سهلا على أحد الاعتراف بذلك، فقد كانت كل أطراف القيادة المصرية مشغولة –في تلك الساعات الحرجة- بإبعاد التهمة، كل عن نفسه، بل إننا نرى -مما أورده السيد هيكل- أن عبدالناصر قد بدأ منذ الساعات الأولى للمعركة في تصفية حساباته مع المشير عبدالحكيم عامر؛ وكأن المعركة قد نشبت خصيصا لهذا الأمر!! لنقرأ ما قاله السيد هيكل:
” لكن جمال عبد الناصر أظنه أنه بدأ يقلق لكن إلحاحه في ذلك الوقت على عبد الحكيم أنه تقريبا، الاثنان اتفقوا في روايتهم لي في الحوادث أن جمال عبد الناصر كان دائم التكرار بيقول لعبد الحكيم أنا عايز أعرف إيه هي الحقيقة، إيه التقارير، إيه الصورة الحقيقية لما جرى في الطائرات، كم حجم الخسائر؟ لأنهم بدؤوا يقولون كلاما، بدأ عبد الحكيم يقول، وأظن هنا في نقطة من النقط المهمة جدا أن عبد الحكيم بدأ يقول إن حجم الضربة الجوية أكثر مما تتحمله طاقة إسرائيل، هذه مش إسرائيل هذا حد ثاني، وبعدين حصلت حدة في الموقف، جمال عبد الناصر بيقول له الحد الثاني مين؟ بيقول له الأميركان. بيقول له الأميركان شوف أنا -وهذا ثابت من كل الروايات- قال له أنا لا أصدق في المعلومات اللي عندي -وأظن هنا كان غلطان جمال عبد الناصر- في المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي وعلى أي حال أنا مستعد أصدقك أن الأميركان دخلوا لكن أطلب منك حاجتين -ده كان قدام كل الناس اللي موجودين- أطلب منك إما أن تأتي لي بحطام طائرة أميركية ضربتوها وإما أن تأتي لي بطيار أميركي أسير وأما دون هذا فأنا مش مستعد أصدق حكاية الأميركان موجودين، وأنا لا أستطيع أن أطلع قدام الناس وأقول لهم والله الأميركان موجودين بدون أن يكون لدي دليل…”
عبدالناصر الذي يصوره هيكل بأنه كان يبحث عن الحقيقة ويستبعد التدخل الأمريكي، والذي كان يؤكد في حديثه الموجه إلى المشير عامر بأن الأمريكان لا يمكن أن يكونوا مشتركين وفقا للمعلومات التي لديه: “معلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي” ومن حقنا أن نسأل لماذا لم تكن هذه المعلومات متوافرة أيضا عند القائد العام الذي كان عليه أن يقود المعركة؟! .. ونتساءل أيضا من أين هذه المعلومات .. ثم نلاحظ أن عبدالناصر يبدو واثقا من صحة معلوماته بأن الأمريكان “لا يمكن يكونوا داخلين في العملية دي” ويشدد على هذا في محاورته مع المشير عامر.. ثم يغير رأيه بعد فترة لا تتجاوز ساعات قليلة!!
عبد الناصر الواثق من عدم التدخل الأمريكي هو نفسه الذي قام –بعد ساعات قليلة- بالاتصال بالملك الحسين ليقنعه بتلفيق أكذوبة مشاركة بريطانيا وأمريكا في المعارك الجوية. الفارق بين الموقفين واضح: في الأولى كان المهم وضع المشير في موقف المساءلة؛ وهي –على ما يبدو- فرصة لم يسبق أن سنحت لعبد الناصر قبل هذا، أما في الثانية فهي محاولة لضرب عصفورين بحجر واحد: إشراك الملك الحسين في كذبة التخل الأمريكي-البريطاني، والقيام بعملية حفظ ماء الوجه لإنقاذ الهالة التي أحيط بها عبدالناصر وللتمهيد لإنقاذ حكمه من الانهيار بسبب هزيمة مروعة وكارثية في معركة طبل لها كثيرا واستخدمها لإذلال كل من حوله من حكام وشعوب ولكنه لم يفعل شيئا حقيقيا من أجلها. نقول هذا لنؤكد أن عبدالناصر في تلك اللحظات كان مشتركا بصورة فعلية للترويج لأكذوبة المشاركة الأجنبية. لكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن موقف الرئيس عبدالناصر قد تذبذب بين المطالب بإثباتات حقيقية ملموسة لتأكيد المشاركة الأمريكية، والمصدق لكل ما ورد إليه دون أي تمحيص، ثم قام بنفسه بفبركة الخبر الذي حاول أن يشرك الملك الحسبن في نشره، وقد كان خطاب التنحي قد شهد آخر مرة أشار فيها عبدالناصر بطريقة غامضة إلى موضوع مشاركة أطراف أخرى في المعركة. بعد ذلك تراجع الرئيس عبدالناصر عن هذه الادعاءات، ولم يعد يذكرها أبدا. وما ينبغي أن نكرر ذكره هو أنه لا الرئيس عبدالناصر ولا أي زعيم آخر قد أشار من قريب أو بعيد إلى استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدتها في ليبيا منطلقا للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية. وحده السيد هيكل الذي أطلق تلك الفرية ولم يستطع أن يتجاوزها أو يتراجع عنها، وهذا بيت قصيدنا وسبب مقالاتنا هذه.
ما نقله لنا هيكل عما كان يجري حينها في غرفة عمليات القيادة المصرية، يوضح أن هذه القيادة لم تكن منشغلة بتدارك المعركة البرية في سيناء التي باتت القوات المصرية تواجهها وهي لا تفتقر إلى الغطاء الجوي فحسب، بل وإلى القيادة المتفرغة لإدارة معركة يتعلق عليها مصير أمة بأكملها، لأن القيادة كانت منشغلة عن المعركة بإجراء اتصالات شارك فيها الرئيس عبدالناص والمشير عامر والفريق صدقي محمود بحثا عن قشة تدعم نظرية التدخل الأمريكي. فمن بقي لمواجهة الكارثة الحقيقية؟!!
لكن كل هذه الاتصالات باءت بالفشل في العثور على القشة المطلوبة: فلم يستطع أحد أن يفي بمطالب عبدالناصر بإثبات التدخل الأمريكي عن طريق حطام طائرة أمريكية أو طيار أمريكي أسير، كما عجزت الاتصالات عن الحصول على إفادة أي طيار مصري بأنه شاهد طائرة أمريكية في الأجواء المصرية في ذلك اليوم.
لكن، وبحسب رواية السيد هيكل، لم يمض ذلك اليوم .. بل لم تمض سوى ساعات حتى تحصلت القيادة المصرية على ما اعتبره السيد هيكل إثباتا للمشاركة الأمريكية في الضربة الجوية الإسرائيلية. لم يكن هذا الإثبات طائرة أمريكية أسقطتها الدفاعات الجوية المصرية .. ولا طيارا أميركيا أسيرا .. ولكن هذا “الإثبات” كان رسالة من السفير المصري في باريس، وأن الرئيس عبدالناصر بنفسه قد أخبر هيكل عن وصولها. هكذا قدم السيد هيكل هذه الرسالة “الإثبات” ضمن مرافعته البائسة:
“وبعدين الساعة السابعة، ستة ونصف سبعة كده كلمني بالتلفون، كلمني بالتلفون وقال لي على رسالة جاءت من باريس، السفير عبد المنعم النجار في ذلك الوقت هو سفيرنا في باريس، سفير الجزائر صديقه في باريس، سفير الجزائر قابل الجنرال ديغول رئيس الجمهورية الفرنسية في ذلك الوقت، والجنرال شارل ديغول هو من هو، فالجنرال ديغول بيقول للسفير، بيسأل سفير الجزائر عن آخر التطورات أو سفير الجزائر بيسأل الرئيس الفرنسي عن آخر التطورات، فالرئيس الفرنسي يقول لسفير الجزائر بيقول له.. وقف ديغول شوية كده وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”
“عبد المنعم النجار يبدو أنه وجد أن هذه المعلومات لا تستطيع أن تنتظر برقية فعمل حاجتين، الحاجة الأولانية أنه كلم في التلفون السفير محمد رياض وكيل وزارة الخارجية والمساعد الأول في ذلك الوقت لوزير الخارجية محمود رياض وقال له إنه حصل كذا وكذا وكذا، وقال له إنه تكلم في التلفون لكنه حيبعث البرقية، قدامي برقية عبد المنعم النجار، بيقول، قابل سفير الجزائر الرئيس ديغول، أبلغه بوجهة نظر الجزائر في قضية فلسطين واشتراك الجزائر في قواتها المسلحة في الحرب الدائرة وذلك بناء على تكليف من الرئيس بومدين، أشار ديغول بضرورة حل المشكلة جذريا مع مراعاة حقوق اللاجئين، يعتبر أن إسرائيل هي المعتدية وسوف يمتنع عن تقديم أي معونة تماشيا مع ما أعلنته فرنسا من قبل، كان هو ديغول قال إن فرنسا سوف تحدد موقفها من أي حرب مقبلة على أساس من يطلق الرصاصة الأولى، فهو هنا بيقول عارف الإسرائيليين أنه.. وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (كلمة أجنبية)، موقف فرنسا على الحياد وسوف تظل بعيدا في الوقت الحاضر حتى لا تزج في المشكلة، في مشكلة جاية في العالم العربي ولكنها سوف تكون إيجابية في الاشتراك في حل جذري عادل مستقبلا. الرئيس بيحكي لي هنا بيقول لي، الرئيس عبد الناصر بقى بيكلمني هنا وبيقول لي إنه هو بيشك، أنا بحقيقي أنا شفت الحيرة اللي أو بلاش أقول شفتها لأني ما شفتهاش لكن سمعت على التلفون، الحيرة عند رجل يجد موقفا لا تفسير له في رأيه، لا هو قابل أن ده جهد إسرائيل لوحدها مش قادر يخش فيه يدخل رأسه ولا يعقله لأنه ببساطة أكبر لكنه وبعدين عنده وزير الدفاع ونائب القائد الأعلى بيقول نفس الكلام بيقول إنه حاجة أكثر أنه لا، دول كانوا موجودين ومشتركين وعنده قائد الطيران مصر على أنه في جهد أميركي، أنه في جهد أميركي مباشر، وهنا أنا أظن أنه -ودي مسألة نقطة مهمة جدا- أنه هنا صدقي محمود كان في ذهنه أيضا موضوع سنة 1956، وهذه البرقية قدام جمال عبد الناصر ما كانتش كافية تغير رأيه لكن أقصد هذه البرقية ما كانتش عنده لما كلمني لكن كان عنده الرسالة اللي عبد المنعم النجار أبلغها لمحمد رياض علشان يديها لمحمود رياض واتصال محمود رياض لكي يبلغ بهذه المعلومات أن أميركا في اللعبة، موجودة في اللعبة نقلا عن الجنرال ديغول”
قبل أن نشرع في مناقشة المحتويات التي يزعمها هيكل لبرقية السفير المصري في باريس السيد عبدالمنعم النجار، ومحاولته -من خلال هذه البرقية- إقحام الجنرال شارل ديغول والزعم أن ما قاله ديغول إلى السفير الجزائري في باريس هو إثبات آخر لما يدعيه هيكل حول استخدام قاعدة “ويلاس/ الملاحة” في طرابلس في الضربة الجوية الإسرائيلية يوم الخامس من يونيو 1967، قبل أن نناقش محتويات هذه البرقية لا بد أن نوضح النقاط المنهجية والموضوعية التالية:
إن هناك تناقضا واضحا في وصف هيكل لمجريات مقابلة السفير الجزائري للرئيس ديجول، على سبيل المثال يقول هيكل: ” فالجنرال ديغول بيقول للسفير، بيسأل سفير الجزائر عن آخر التطورات أو سفير الجزائر بيسأل الرئيس الفرنسي عن آخر التطورات،” فمن سأل من؟ هذه العبارة تعني أحد أمرين: فإذا كانت هذه العبارة واردة في برفية السفير المصري فهو غير متأكد مما ينقله ما يخل بدقة النقل، أو ان هذه المجريات لم ترد في برقية السفير المصري وإنما هي من عنديات هيكل، فعلى هذه الحالة يمكننا قياس مصداقية رواية هيكل ودقتها. لكن هيكل يعود فيناقض نفسه ويحزم أمره فيجزم أن سفير الجزائر كان مكلفا لإبلاغ رسالة من الرئيس بومدين إلى ديغول، هكذا ورد نص هيكل “أبلغه بوجهة نظر الجزائر في قضية فلسطين واشتراك الجزائر في قواتها المسلحة في الحرب الدائرة وذلك بناء على تكليف من الرئيس بومدين” هذا التناقض يدلنا على أحد أمرين: إما أن هيكل لم تكن أمامه برقية مكتوبة من السفير المصرى، أو أن هيكل يتصرف على هواه بمحتويات البرقية ويطوعها كي تخدم أغراضه ومزاعمه. ويصدق هذا أيضا على النقطة التالية.
“وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (كلمة أجنبية) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”
” وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (كلمة أجنبية)”
وينبغي أن نلاحظ ان هيكل قد أضاف إلى هذه الكلمة عبارة “الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم” في محاولة منه لإيهام القارئ بأن هذه العبارة قد وردت على لسان الرئيس ديغول أيضا، أو أنها تفسير للكلمة الأجنبية التي كرر هيكل نسبتها إلى الرئيس الفرنسي.
“وقال للسفير الجزائري قال له إن الأميركان (في اليوم) الأميركان داخلين في هذه اللعبة فيما رأيناه هذا اليوم”
” وبعدين يعتقد الرئيس أن الأميركان في المؤامرة (في اليوم)”
من الواضح أن هيكل هنا يريد أن يقحم شهادة من الرئيس ديغول بأن أمريكا قد شاركت في القتال إلى جانب إسرائيل. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن هيكل لم يقل إطلاقا بأن أمريكا قد استخدمت قواعدها في أوروبا، كما لم يقل بأن أمريكا استخدمت حاملات الطائرات المنتشرة في البحرين المتوسط والأحمر، بل إن مرافعته كلها كانت مبنية على استخدام القاعدة الأمريكية “ويلاس/ الملاحة” في طرابلس، إذا ما أخذنا هذا في الاعتبار فإن هيكل يريد من محاولة إقحام ديغول أن يوهم المشاهدين بأن ديغول يؤكد ويدعم ادعاءات هيكل بخصوص استخدام امريكا للقاعدة في طرابلس للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية.
لكن حتى إذا سلمنا -من قبيل الجدل- بصحة ما أورده هيكل حول برقية السفير المصري في باريس، وبأمانة ودقة نقل هذا السفير عن زميله السفير الجزائري، وبأمانة ودقة نقل السفير الجزائري لما ورد على لسان الرئيس ديغول، إذا ما سلمنا جدلا بكل ذلك، فهل يمكن حتى أن نستشف من نصوص هيكل أن الرئيس شارل ديغول قد أقر أو قال بأمرين:
بخصوص الأمر الأول، فلا نجد ما يدل على أن ديجول يشير من قريب أو بعيد إلى أن أمريكا تدخلت عسكريا في الحرب وأن قوات أمريكية تشارك بعمليات في تلك الحرب. إذا صحت الكلمة المنسوبة إلى ديجول (أن أمريكا “في اليوم”) فإنها لا تفيد ذلك، حتى ولو حاولنا تطويعها وإعطاءها مدلولا مجازيا وتعسفنا في تفسيرها لتقريبها من مراد السيد هيكل؛ فديجول بمواقفه وطبيعته كان سيقول للسفير الجزائري صراحة، وكان سيصرح بهذا في أوقات لاحقة. المدلول المجازي للكلمة قد يعني –في أقرب التفسيرات- أن أمريكا على علم واطلاع وربما موافقة على ما تقوم به إسرائيل. وهذه حقيقة فإسرائيل تصرفت يوم الخامس من يونيو وهي متأكدة أن أمريكا لن تمانع، وربما أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك أن إسرائيل كانت على ثقة بأن أمريكا في نهاية المطاف لن تسمح بإلحاق هزيمة بها.
أما بخصوص الأمر الثاني، فلم يرد في نصوص هيكل ما يمكن أن يستشف منه أن ديغول قد قال للسفير الجزائري بأن الولايات المتحدة قد استخدمت قاعدتها الجوية “ويلاس/ الملاحة” منطلقا للمشاركة الفعلية في الحرب. هذا ما يدعيه السيد هيكل ويحاول أن يوهم المشاهدين بأنه يمتلك الأدلة والبراهين التي تؤيده. وهذا ما يهمنا تفنيده وإظهار الحقيقة في أن مزاعم هيكل لا تستند على أية معطيات أو ادلة أو براهين، وأن كل ما يقدمه ليس سوى تلفيقات وأوهام وتطويع للكلمات ولي لأعناق المعاني.
وللحديث بقية إن شاء الله
……………………….
“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم” هيكل
ب) مقابلة رئيس الوزراء الليبي للسفير الأمريكي
لم يترك السيد هيكل أي حجر دون أن يقلبه لعله يجد تحته دليلا يستخدمه في مرافعته “البائسة” لإثبات مزاعمه حول استخدام الولايات المتحدة لقاعدتها الجوية “الملاحة/ويلاس”، للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية في الخامس من يونيو. لم يتوقف هيكل عند حد قلب الأحجار، وإنما لجأ إلى قلب الحقائق وتحويل مساعي الحكومة الليبية ومواقفها الإيجابية إلى سلبيات يزعم بأنها دلائل على ما يزعمه. رأينا هذا في تعامله مع تصريحات الدكتور أحمد البشتي النافية لمزاعم هيكل التي نشرتها صحيفة الأهرام. لكن أسلوب قلب الحقائق وتحويل الإيجابيات إلى سلبيات نجده أكثر وضوحا في تعامل هيكل مع ما دار في المقابلة التي جرت بين السيد حسين مازق رئيس وزراء ليبيا والسفير الأمريكي “ديفيد نيوسم”.
من المعروف أن السيد حسين مازق استدعى السفير الأمريكي يوم الثاني من يونيو ليعرب له عن قلق الحكومة الليبية من التطورات الجارية في منطقة الشرق الأوسط ومن احتمالات اندلاع القتال في أية لحظة. وقد نتج عن هذا الاجتماع عدة إجراءات لعل أهمها:
ومعروف أيضا أن الطلعات الجوية للطائرات المقاتلة قد توقفت بالفعل منذ فجر الرابع من يونيو بانتهاء المهلة التي طلبها الجانب الأمريكي، ولم يستثنى من ذلك إلا طائرات النقل التي قامت بنقل بعض عائلات العاملين في القاعدة، وطائرات الشحن التي تنقل الإمدادات إلى القاعدة. وقد استمر قرار التجميد ساري المفعول حتى بعد انتهاء الحرب. وسنرى في مكان آخر كيف أن السفير الأمريكي قابل الملك إدريس بتاريخ 21 يونيو ليبحث معه مسألة السماح للقاعدة بالعودة إلى مزاولة نشاطاتها، أي أن القاعدة لم تعد للعمل إلا في أواخر شهر يونيو.
ينبغي أن نتوقف طويلا أمام هذا اللقاء وأن نتعامل معه بموضوعية آخذين في الاعتبار كل الظروف والعوامل المحيطة به، وأن نقيّم النتائج التي ترتبت عليه، لا أن نتعامل مع ما دار في اللقاء بالطريقة الديماغوجية التي اتبعها هيكل والتي حاول فيها خلط الحقائق وإخفاء التواريخ وإخضاع نتائج هذا اللقاء لتقييم جائر ينافي المنطق ويفتقد الموضوعية ولا يتوخي الحقيقة.
لا بد أن نتوقف أمام حقيقة أن السيد حسين مازق كان رئيسا لوزراء ليبيا، الدولة التي لا يزيد عدد سكانها يومها عن مليونين، وهي دولة كانت آنذاك لما تزل تنفض عن كاهلها سنوات طويلة من الاستعمار وآثار الحرب والفقر المدقع، ولم تبدأ في استلام عائدات البترول إلا عام 1963؛ أي قبل أربعة أعوام، ويومها كان سعر البرميل (أقل من دولارين) وليست الأسعار السائدة حاليا، ولا ننسى أيضا ان ليبيا كانت إلى عهد قريب تسد رمق ميزانياتها المتواضعة من المساعدات التي كانت أمريكا وبريطانيا تقدمهما بعد أن رفضت الدول العربية –خاصة مصر الثورة- تقديم المساعدات التي طلبتها ليبيا . لا يفوتنا أيضا أن ليبيا يومها لا يزيد جيشها عن لوائين مجحفلين مع نقص حاد في ملاكاتهما من الكوادر والتسليح، أما سلاحا الطيران والبحرية فلا يزالان يحبوان.
رئيس الوزراء الليبي بهذه الإمكانيات الضئيلة يستدعي سفير أقوى دولة في العالم وينتزع ليس فقط التعهدات والالتزامات التي ذكرناها، بل ويتوصل معه إلى اتفاق بتجميد نشاط قاعدة الملاحة/ويلاس في مهلة لا تتعدى 24 ساعة. ومن نافلة القول أن تجميد نشاط قاعدة الملاحة/ويلاس يعني تكبد الولايات المتحدة الأمريكية خسائر جسيمة سواء كانت مادية أو في سياق توقف تدريب الطيارين؛ وهي المهمة الأساسية لهذه القاعدة. ولا يمكن لأي مراقب منصف إلا أن يعُد نتائج لقاء رئيس الوزراء الليبي مع السفير الأمريكي على أنه إنجاز غير مسبوق ولا ملحوق في السياسات العربية وفي علاقات الدول العربية مع الدول الكبرى. ولم تتوقف إجراءات الحكومة يومها عند هذا الحد ولكنها اتخذت مواقف وتدابير في مضمار دعم ومساندة مصر، وهي إجراءات وتدابير سوف نشير إليها إن شاء الله في موضع آخر.
كان الأولى بالسيد هيكل أن يشيد بمواقف الحكومة الليبية، وهي مواقف وإجراءات وتدابير تجاوزت إمكانات ليبيا وقدراتها، وهددت بالفعل المصالح العليا للدولة الليبية، بل كانت إجراءات عرّضت أمن واستمرار الدولة الليبية لأخطار جسيمة وهيأت تربة لبذرة الانقلاب.
على الأخص كان الأولى بالسيد هيكل –لو كان يملك ذرة من موضوعية وإنصاف- أن يشيد بالإجراءات التي تمكنت حكومة السيد حسين مازق من اتخاذها بشأن قاعدة الملاحة، وكان الأولى به أن يشيد –على وجه الخصوص- بنتائج هذا اللقاء الذي نحن بصدده، ولكنه بدلا من ذلك تعامل مع هذا اللقاء بطريقة غوغائية تعجز الكلمات المهذبة أن تصفها.
تطرق السيد هيكل إلى ما جرى في لقاء رئيس الوزراء الليبي للسفير الأمريكي في أكثر من موضع، بعض هذه المواضع يربط فيها هذه المجريات باللقاء، وفي مواضع أخرى يقحمها ضمن نصوص أخرى دون إشارة إلى أنها كانت ضمن اللقاء المشار إليه. وفي كل المواضع نجد هيكل يحاول جاهدا قلب الحقائق وتطويع الكلمات في محاولة مفضوحة لإيهام المشاهد بصدقية الاتهامات والمزاعم التي يسوقها حول اشتراك قاعدة الملاحة/ويلاس في الضربة الجوية الإسرائيلية في الخامس من يونيو 1967.
هذا ما جاء في أحد مواضع تناول السيد هيكل لمجريات اللقاء:
“قدامي الوثائق وكلها بتتكلم على أن جماهير الشعب الليبي بتحاصر القاعدة، قواعدنا في ليبيا في ويلس لأنها شايفة الطيارات طالعة وأنه في موقف خطر، وبعدين بيطلبوا الاتصال على أرفع مستوى بالحكومة الليبية لأن الموقف ممكن قوي ينكشف هناك وبعدين بيقولوا إنهم محتاجون تقريبا 24 ساعة لكي تنتهي القاعدة في ويلس”
في هذا النص نلاحظ التالي:
في موقع آخر تناول هيكل هذا اللقاء، فقال:
“في حاجات بتحصل في ليبيا في القاعدة الأميركية ومن بدري قوي الحكومة الليبية نفسها أحست أنه في أشياء تجري وهي متضايقة منها وفي ذلك الوقت حصل أن رئيس الوزراء الليبي دعا السفير الأميركي وقال له في نشاط نحن قلقون منه في قاعدة ويلس. وألاقي قدامي وثيقة بتقول لي، وهنا في التواء غريب جدا في الكلمات، السفير الأميركي في ليبيا بيبعث لوزارة الخارجية في واشنطن بيقول لهم إن رئيس الوزراء الليبي جاء وأبدى لي قلقا من أن هناك نشاطا يجري في قاعدة ويلس وأنهم يخشون على سلامة النظام، أن تنكشف بعض الحاجات الموجودة التي تحدث هنا، وأبلغ من وزير الخارجية بيؤكد له أنه -وهنا دي نقطة غريبة قوي وقدامي دي في الوثيقة- يؤكد له أن الولايات المتحدة لن تسمح بأن تجري من أي قاعدة لها في ليبيا أي أعمال معادية للمصالح العربية. الوصف ده، الكلمة دي كانت كلمة مطاطة قوي، المصالح العربية، أي مصالح عربية؟ في ذلك الوقت العالم العربي كان واضحا قدام كل الناس أنه منقسم، في ناس بعاد وفي ناس بيحاولوا يحموا عروشا وفي ناس كانوا بيحرضوا وفي واضح أنه، لما أحد هنا يقول لي واضح إنه في انقسام في العالم العربي، لما أحد يقول لي والله نحن هنا سوف نراعي المصالح، لن نفعل شيئا ضد المصالح العربية علي أن أسأل أي مصالح؟ لو قال له ضد المصالح المصرية لأن مصر هي المهددة كنت مستعدا أفهم، لو حدد كلامه، ولكن رئيس الوزراء الليبي قبل هذا الكلام”
لا بد أن ندون بعض الملاحظات حول هذا النص:
أولا: تعمد هيكل إغفال التاريخ الذي تم به الاستدعاء، وإن كان قال ” ومن بدري قوي الحكومة الليبية نفسها أحست أنه في أشياء تجري وهي متضايقة منها” .
ثانيا: محاولة هيكل وضع كلام على لسان رئيس الوزراء حين قال: “وفي ذلك الوقت حصل أن رئيس الوزراء الليبي دعا السفير الأميركي وقال له في نشاط نحن قلقون منه في قاعدة ويلس”. وحين قال على لسان السفير الأمريكي: “وأبدى لي قلقا (يعني رئيس الوزراء) من أن هناك نشاطا يجري في قاعدة ويلس وأنهم يخشون على سلامة النظام، أن تنكشف بعض الحاجات الموجودة التي تحدث هنا”
ونقول بأن هيكل ليس لديه أي إثبات على أن رئيس الوزراء قال “في نشاط نحن قلقون منه في قاعدة ويلس”، ولا أن السفير الأمريكي قد قال في تقريره بأن حسين مازق عبر له عن الخشية من “أن تنكشف بعض الحاجات الموجودة التي تحدث هنا” وإنما هي عبارات من صياغة هيكل أراد بها أن يحاول أن يزعم بأن الحكومة الليبية كانت تقر بوجود نشاط في القاعدة يدعو للقلق، وبأن هناك أمور تجري (تعرفها الحكومة الليبية) وتخاف أن تنكشف.
ثالثا: حاول هيكل أن يقلل من قيمة استدعاء رئيس الوزراء للسفير الأمريكي بإيراد عبارة ” السفير الأميركي في ليبيا بيبعث لوزارة الخارجية في واشنطن بيقول لهم إن رئيس الوزراء الليبي جاء وأبدى لي قلقا ……….. ”
رابعا: بالرغم من أن هيكل لم يجد مناصا من الاعتراف بأن رئيس وزراء ليبيا قد تمكن من انتزاع تأكيدات من أعلى مستويات الحكومة الأمريكية (وزارة الخارجية) نقلها إليه السفير الأمريكي: “وأبلغ من وزير الخارجية بيؤكد له أنه -وهنا دي نقطة غريبة قوي وقدامي دي في الوثيقة- يؤكد له أن الولايات المتحدة لن تسمح بأن تجري من أي قاعدة لها في ليبيا أي أعمال معادية للمصالح العربية”
لكنه يعمد مباشرة -عن طريق الاستخفاف بقيمة هذا التعهد- إلى تفريغه من محتواه:
“الوصف ده، الكلمة دي كانت كلمة مطاطة قوي، المصالح العربية، أي مصالح عربية؟ في ذلك الوقت العالم العربي كان واضحا قدام كل الناس أنه منقسم، في ناس بعاد وفي ناس بيحاولوا يحموا عروشا وفي ناس كانوا بيحرضوا وفي واضح أنه، لما أحد هنا يقول لي واضح إنه في انقسام في العالم العربي، لما أحد يقول لي والله نحن هنا سوف نراعي المصالح، لن نفعل شيئا ضد المصالح العربية علي أن أسأل أي مصالح؟ لو قال له ضد المصالح المصرية لأن مصر هي المهددة كنت مستعدا أفهم، لو حدد كلامه، ولكن رئيس الوزراء الليبي قبل هذا الكلام”
يعتبر السيد هيكل أن عبارة المصالح العربية عبارة مطاطة، ويتساءل أي مصالح عربية؟ .. لماذا يرى هيكل بأن عبارة “المصالح العربية مطاطة”؟ .. لأنه برأيه فإن العالم العربي منقسم، وقدم لنا كيف كان يرى العالم العربي يومها:
ناس بعاد وناس بيحاولوا يحموا عروشا وناس بيحرضوا
ويخلص إلى القول بأنه كان من المفروض على السفير الأمريكي أن يقول “المصالح المصرية”، وبأنه كان من المفروض على رئيس الوزراء الليبي أن لا يقبل بغير ذلك بديلا، “ولكن رئيس الوزراء الليبي قبل هذا الكلام” ولهذا فإن هذا التعهد ليس له قيمة في رأي السيد هيكل. لكن ينبغي علينا أن نذّكر السيد هيكل أن مصر لم تكن وحدها يومئذ في المعركة؛ هناك سوريا والأردن، وهناك قوات من عدد من الدول العربية تزحف نحو الجبهات، قوات من الجزائر ومن ليبيا ومن العراق وحتى من السعودية، وكل هذه الدول أعلنت الحرب، أفلا يكون إصرار هيكل على مصطلح “المصالح المصرية” بدلا من “المصالح العربية” عنجهية تصل إلى درجة السخف!! ونجد أن علينا أيضا تذكير السيد هيكل بأن هذا العالم العربي الذي قسمه هيكل وصنفه بهذه المصطلحات التي تنتمي إلى أيام زمان .. أيام التصنيفات التي اخترعتها الدعاية الناصرية بين الرجعية والتقدمية والثورية وغيرها، وأدت إلى تشتيت الجهد العربي وإلى توزيعه على محاور… نذّكر هيكل بأن هذا العالم العربي المنقسم هب كله للوقوف إلى جانب مصر في معركة لم تشارك أية دولة عربية في التخطيط لها، ولم تتكرم مصر بالتشاور مع الدول العربية بخصوصها، …
وإذا كانت الدول العربية ذات الأنظمة الملكية هي المقصودة بتصنيف هيكل ”ناس بيحاولوا يحموا عروشا”، فما هو الضير في حرص مختلف الدول على حماية أنظمة الحكم فيها، وما علاقة ذلك بالمعركة التي كانت فيها الأردن الملكية في المقدمة؟، وهل حماية نظام الحكم القائم جريمة في نظر السيد هيكل؟، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نصنف ما قام به جهاز المخابرات العامة وأمن الدولة والسجن الحربي وليمان طره وأبوزعبل، وغيرها؟ ألم تكن كلها لحماية حكم الرئيس عبدالناصر؟ أم أن حماية الوضع القائم حرام على بعض الدول حلال على غيرها؟. بل كيف يفسر لنا هيكل .. كيف أنه والإعلام المصري قد هوّن علينا هزيمة مرة وغير مسبوقة، هونّها علينا فقط لأن الرئيس عبدالناصر قد احتفظ بمنصبه وأصبح في إمكانه أن يقصي رفاقه عبدالحكيم عامر وزكريا محي الدين وغيرهم؟ كيف نفسر ما قيل يومها على لسان هيكل وغيره من أدوات وطبول الدعاية الناصرية أن استمرار عبدالناصر في الحكم قد حرم العدو من الانتصار، وأن سقوط سيناء وغزة والضفة والجولان لا يعد هزيمة وأن تدمير الجيوش العربية في سوريا والأردن ومصر، بما فيها من مئات الألوف من القتلى والمصابين والأسرى، والمعدات التي تقدر بمليارات الدولارات … كل ذلك لا يعد هزيمة –في رأي هيكل- طالما استمر حكم الريس؟
لكن بالعودة إلى تصنيفات هيكل، وقد خمنا من هم المقصودون بتصنيف “حماية العروش”، ويمكننا أن نخمن من المقصود بتصنيف ” ناس بعاد ” هي تلك الدول البعيدة عن أرض المعركة، لكن من هم الذين يقعون تحت تصنيف “ناس بيحرضوا”؟ أجل من هم الذين يحرضون على الانقلابات العسكرية، وعلى الحكومات العربية؟ أي نظام حكم عربي تعرضت علاقاته للتوتر مع معظم الدول العربية؟ بسبب التدخلات في الشؤون الداخلية .. والحملات الإعلامية .. والتحريض على قلب أنظمة الحكم؟ أجل .. ليقل لنا هيكل الذي يدعي التأريخ: كم مرة تعرضت العلاقات بين مصر الناصرية والدول العربية المختلفة للقطع أو التجميد أو التوتر؟ مع المغرب والجزائر وتونس وليبيا والسودان والأردن وسوريا والعراق والسعودية .. لكننا لا نظن بأن السيد هيكل يعني أن يُدخل حكم عبدالناصر تحت تصنيف التحريض، وإنما يُلقي بالتهمة جزافا ولعله يبحث بعد ذلك على من يلقيها.
نعم لم يعجب السيد هيكل صيغة التعهد التي قدمها السفير الأمريكي أثناء استدعائه من قبل السيد حسين مازق رئيس الوزراء، وبحث عن معاذير ليستخف بهذا التعهد ويستصغر شأنه، ويلوم السيد حسين مازق لقبوله بهذا التعهد. لكن –وكما يقال- الشيء بالشيء يذكر: لنا أن نتساءل في المقابل ما هي الضمانات والتعهدات التي طلبتها مصر من أمريكا؟ .. معلوم أن أمريكا من خلال سفيرها في مصر وعبر مقابلة مع الرئيس جمال عبد الناصر قد طلب من مصر ألا تكون البادئة بالهجوم، وأن عبدالناصر قد اتخذ قرارا –بناء على ذلك- بعدم قيام مصر بالضربة الأولى، فما هي الضمانات التي طلبها الرئيس عبدالناصر من أمريكا استجابة لطلبها؟… هل طلب ضمانة بعدم قيام إسرائيل بشن هجوم؟ وهل طلب من أمريكا تعهدا بالوقوف إلى جانب مصر حال تعرضها لهجوم إسرائيلي؟ وهل طالب بأن تتعهد أمريكا بوقف دعمها لإسرائيل إذا قامت بالاعتداء؟… ومعلوم أيضا أن السفير السوفيتي هو الآخر قد طلب من عبدالناصر ألا تكون مصر البادئة بالهجوم، واستجاب عبدالناصر للطلب، فما هي الضمانات التي طلبها من الاتحاد السوفيتي الحليف الرئيسي لمصر؟ .. الإجابة: لا شيء… لا شيء على الإطلاق، لم يطلب الرئيس عبدالناصر أي تعهد!!. وليس لدينا مجال لنتحدث عن طلبات إسرائيل من أمريكا والاتحاد السوفيتي تجاه نفس الطلب. رئيس أكبر دولة عربية والقائد الأعلى “لأكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط” و”رائد القومية العربية” وافق على طلبات أبلغت له من السفير الأمريكي .. ولم يطلب لقاء استجابته وموافقته على هذا الطلب أية ضمانة أو تعهد .. أما الطلب الذي أبلغ به فهو أن تمتنع مصر عن المبادأة بالهجوم .. وقبول عبد الناصر به دون أن يحصل على تعهد أمريكي بضمان بالتزام إسرائيل بنفس الأمر .. هذا يعني –بكل بساطة- ترك زمام المبادأة لإسرائيل، وإعطائها حرية اختيار توقيت الضربة الأولى .. وياليتهم استعدوا للضربة الأولى بإجراءات دفاعية احترازية .. لكنهم -في الواقع- لم يقوموا بأكثر من انتظار انتهاء المسرحية الإعلامية التي بدأوها، بينما كانوا في الواقع ينتظرون هجوم العدو،. ولا أرغب في هذا المضمار أن أخوض في مقدار الاستخفاف والعبث اللذين تعاملت بهما القيادة المصرية مع أمور مصيرية تتعلق بالأمن العربي.
المرة الثالثة التي تطرق فيها هيكل إلى مقابلة رئيس الوزراء حسين مازق للسفير الأمريكي، كانت على النحو التالي:
“ألاقي أنه وقدامي كل الوثائق الأميركية وفي آخرها في وثيقة لها معنى خاص يعني، لكن قدامي الوثائق الأميركية وهي أولا وثيقة يوم 2 يونيو أي قبل الحرب، والسفير الأميركي بيقابل رئيس الوزراء السيد حسين مازق رئيس الوزراء في ذلك الوقت وبيقول له، رئيس الوزراء ده بيقول له نحن قلقون، وبعدين بيقول له نقلا عن وزارة الخارجية الأميركية بيقول له
The US facilities in no way being utilize against Arab interests
، لن تستعمل قواعد ضد مصالح عربية. هنا أنا إديت وجهة نظري أن حكاية مصالح عربية ده موضوع محتاج مناقشة، وبعدين بيقول له إن القاعدة فيها نشاط وفيها حركة وهذه طبيعة القاعدة ولذلك ليس لكم أن تقلقوا لأنه أنتم بتشوفوا أشياء كثيرة جدا، ممكن قوي تشوفوا تحركات كثير ولكن أرجوكم تلاحظوا أن هذه قاعدة تلعب دورا كبيرا جدا في منظومة الدفاع الأميركية عن أزمة الشرق الأوسط، عن الشرق الأوسط كله، فمن فضلكم خلي صدركم يتسع للي هو جاري”.
وملاحظاتنا حول هذا النص:
وللحديث بقية إن شاء الله
ليعذرني القراء الكرام إلى لجوئي إلى تكرار إيراد الاقتباسات من كلام السيد هيكل، لكنني وجدتني مضطرا إلى ذلك أمام أساليب السيد هيكل الملتوية ومحاولاته قلب الحقائق وطمس مضامينها.
…………………………………..
“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم” هيكل
أ) ما نشرته الأهرام
إذا ما تفحصنا “الحجج والبراهين” التي يسوقها هيكل لدعم وإسناد ادعاءاته باستخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدتها الجوية “الملاحة / ويلاس”، للمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية في الخامس من يونيو، فإننا سنجد أنفسنا أمام متاهة لا حدود لها. وأكرر اعترافي بأنني وجدت صعوبة كبيرة في متابعة ما كان السيد هيكل يقوله، واضطررت إلى إعادة قراءة النصوص أكثر من مرة لأتأكد أنني لم أخطئ، ولكي أحاول التفريق بين ما يزعم هيكل أنه منصوص عليه في وثيقة لم يبرزها للمشاهدين، وبين ما هو نتاج خيال خصب مؤسس على أكذوبة رُوج لها منذ ستينيات القرن الماضي، وساهم هيكل نفسه في اختلاقها والترويج لها، وهو إلى يومنا هذا يكررها رغم أن الأيام قد تكفلت –قبل غيرها- بتجريد ما يزعمه هيكل ويردده من كل ما يمت إلى الموضوعية والحقيقة بصلة.
حتى قبل اندلاع المعارك، كان الإعلام المصري يروج لأكذوبة استخدام قاعدة “الملاحة/ويلاس” للعدوان على مصر. لم ينتظر هيكل حتى تندلع المعارك وحتى يتبين ما إذا كانت أمريكا شاركت أم لم تشارك في الضربة الجوية الإسرائيلية. لم ينتظر حتى يتبين له ما إذا كانت أمريكا استخدمت أم لم تستخدم قاعدتها في طرابلس، ولكنه استبق كل ذلك وكتب في الأهرام أخبارا تزرع في أذهان القراء فكرة استخدام قاعدة “الملاحة/ويلاس” منطلقا للعدوان على مصر. لنقرأ ما يقوله هيكل حول هذا الأمر:
“كلمة الأهرام بتقول “سمعة ليبيا هي الموضوع!” وهنا ده موضوع مهم قوي لأن إحنا كنا قلنا خبر قبلها بيوم إنه في حركة عسكرية كبيرة جدا في مطار ويلاس في قاعدة ويلاس في طرابلس في ليبيا، وبنقول إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار، فوزير خارجية ليبيا السيد أحمد بشتي في ذلك الوقت طلع بيانا قال فيه إن ده مش صحيح وإن ليبيا لا تقبل لم تقبل أن أي أحد يستعمل أراضيها. أنا أعلم ويقينا أن الملك السنوسي كان فلتة -الشهادة لله يعني- أن هذا الرجل العجوز الصوفي كان فلتة بين ملوك العرب وأنه في ذلك الوقت الرجل أبدى بمقدار ما يستطيع رفضه أن تستعمل ليبيا في أي عمليات ضد مصر ولكن هذا لم يمنع أن في قاعدة زي قاعدة ويلاس في طرابلس تحت تصرف الأميركان وفي قاعدة زي قاعدة العظم جنب بنغازي تحت تصرف الإنجليز في ذلك الوقت، كيف يمكن الحكومة الليبية ما تقدرش؟ فإحنا كتبنا وبمنتهى الأدب تعقيبا على وزير خارجية ليبيا السيد بشتي بنقول له إن الموضوع مش موضوع أنكم تقولوا إن سمعتكم في الميزان، مش موضوع أن تقولوا لا حصل ما حصلش، هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها. وهذا الموضوع فيما بعد أخذ.. لأنه مع الأسف الشديد في مرات يغلبنا الهوى الأهواء بتغلبنا ولما حصل أنه اتقال إنه في أشياء جاءت من الغرب وأشياء جاءت من الشرق بعض الناس أخذوا هذا الموضوع كيعني طريقة للتنكيت أو طريقة يعني للتشفي أو أي حاجة”
وبالرغم من أن هيكل لم يحدد بالضبط تواريخ نشر هذا الخبر، إلا أننا نستنتج من السياق الذي أورده، أن الخبر نُشر في اليوم الأول أو الثاني من شهر يونيو، أو حتى قبل ذلك، أي قبل الحرب وقبل الضربة الجوية بعدة أيام. ويمكننا أن نضع الأمور في تسلسلها ونبدي ملاحظاتنا بخصوصها:
هذا تصريح من وزير الخارجية الليبي يؤكد فيه –بموجب النص الذي أورده هيكل- أمرين:
ولم يستطع السيد هيكل إخفاء استماتته في الدفاع عن العبارة التي سبق له أن كتبها في خطاب تنحي الرئيس عبدالناصر، عبارة (أن العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب)، فبالرغم من أنه لم يقدم شيئا ملموسا يؤيد ادعاءاته إلا أنه عاد ليدافع عن تلك العبارة المسمومة فيقول بعد أكثر من أربعين سنة على كتابته لها، وبعد أن ثبت أنها عبارة لا تستند على أية معطيات حقيقية: “لأنه مع الأسف الشديد في مرات يغلبنا الهوى الأهواء بتغلبنا ولما حصل أنه اتقال إنه في أشياء جاءت من الغرب وأشياء جاءت من الشرق بعض الناس أخذوا هذا الموضوع كيعني طريقة للتنكيت أو طريقة يعني للتشفي أو أي حاجة” ومن هذا الدفاع المستميت عن عبارة كاذبة قد نستطيع تلمس بعض الأسباب التي ما زالت تدعو هيكل للإصرار على مواصلة كذبة التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس”، فهو لا يرغب في التراجع لأن في هذا التراجع كشف لأساليب الزيف والخداع التي كان هيكل والزعيم الملهم يُخضعون الأمة العربية لها. إن التراجع عن كذبة من شأنه أن ينقض نسيجا كاملا من الكذب على الشعوب، ويكشف من كان يقف وراء تلك الأكاذيب. لقد ظل هيكل أسيرا لجملة من الأكاذيب التي أطلقها في الستينيات، ولم يستطع أن يتجاوزها، تصدق على حالته هذه كلمة هو قائلها: “والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”
هذه الأخبار المزعومة التي نشرت في الأهرام قبل اندلاع المعارك حول قاعدة الملاحة/ويلاس -والتي يرددها هيكل اليوم لإيهام المشاهد على أنها دليل على ما يقول-، هذه الأخبار كانت أصداؤها تتردد في البرامج التي كانت تذيعها الإذاعات المصرية وخاصة إذاعة صوت العرب، وكانت هذه الأخبار تلقى رواجا ليس في أوساط الشارع الليبي فحسب ولكن تأثيراتها كانت تمتد لتتغلغل في مختلف الأوساط الأخرى خاصة الجيش الليبي – الذي كنت أحد ضباطه آنذاك- وكذلك في أوساط من يوصفون بالنخب ومعظمهم إما ناصري أو قومي. في ذلك الوقت كان هناك استعداد لتصديق كل ما يرد من خارج حدودنا، وكان هناك استعداد لتصديق أن أمريكا ستهرع لنجدة إسرائيل في مواجهتها مع القوات المصرية، التي كان هيكل يصفها بأنها “أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط”. كان الجميع مخدوعا بالدعايات المصرية وكان التوقع السائد أن إسرائيل لن تستطيع ان تصمد إلا إذا تلقت مساندة فورية ومباشرة من أمريكا. ولذلك فقد كانت الأخبار الاستباقية التي تنشرها الأهرام وترددها ماكينة الدعاية الناصرية تعمل عملها وتنتشر انتشار النار في الهشيم، خاصة مع وجود تلك الفجوة التي صنعتها سنوات من استلاب الشخصية الوطنية التي ولدت حالة من انعدام الثقة بين النخب وبين الحكومات الليبية. ولهذا فقد صدّق الناس الدعاية المركزة التي تزعم بأن القاعدة سوف تستخدم، وبمجرد اندلاع القتال وجهت الجماهير غضبتها تجاه المصالح الغربية، ومنها السفارتين البريطانية والأمريكية وكذلك قاعدة الملاحة. لكن هيكل يصف هذه الغضبة بأنها كانت مؤسسة على إدراك الجماهير ويقينها أن القاعدة يجري استخدامها بالفعل، ويتخذ من ذلك “دليلا” آخر من أدلته التي يسوقها لإثبات مزاعمه:
“وإحنا كانت جاءت لنا من قبل معلومات أن الجماهير العادية أحسوا أن شيئا ما يجري في قاعدة ويلس وأن هذا الشيء موجه على وجه اليقين، جاية لهم أخبار الحرب وفي شيء جانبهم يحدث وبدت في جماهير تزحف على القاعدة، جماهير ليبية”
“ولكن الناس اللي في ليبيا الجماهير في ليبيا اللي أحست صباح 5 يونيو وقد بدأت المعارك بدأت ضربات الطيران، أحست أنه في شيء بيجري، أحسوا أولا بالطلعة الأولى”
ليس هذا فقط، الأمر ليس إحساس فقط، بل إنه يزعم بأن وثائقه “بتتكلم” على أن الجماهير كانت تشاهد الطائرات “طالعة” من القاعدة:
“قدامي الوثائق وكلها بتتكلم على ان جماهير الشعب الليبي بتحاصر القاعدة، قواعدنا في ليبيا في ويلس لأنها شايفة الطيارات طالعة وأنه في موقف خطر”
ولا ننسى ان هيكل كان قد زعم بأن الطائرات قد جرى طلاؤها بعلامات السلاح الجوى الإسرائيلي، وبحسب ذلك الزعم .. وزعمه بأن الجماهير الليبية كانت تشاهد الطائرات “طالعة” فمعنى ذلك أنها لا بد أنها قد شاهدت النجمة السداسية على هذه الطائرات!!! هذه معضلة ينبغي على هيكل ان يقوم بحلها.
أما نحن فنقول: كانت هناك تظاهرات، تظاهرات سمحت بها الحكومة الليبية ولم تقمعها، وكانت هناك احتجاجات على وجود القواعد العسكرية، وعلى ضرورة السيطرة عليها ثم إنهاء وجودها فوق التراب الليبي، وهو أمر توافقت عليه إرادة الشعب الليبي وإرادة حكومته. لكن ما يزعمه هيكل من أن المظاهرات كانت مدفوعة بمعرفة الجماهير وعلمها بل “ويقينها” بأن القاعدة تستخدم فعلا منطلقا للعدوان .. وأن الجماهير قد شاهدت الطائرات وهي تقلع .. هذا الزعم لا يستند على أية حقائق موضوعية.. ولا على أية مستندات. الغريب في الأمر أن المظاهرات التي تمت في المدن الليبية واستهدفت المصالح الغربية وعلى رأسها الأمريكية والبريطانية وطالت حتى اليهود الليبيين، هذه المظاهرات لم يكن لها مثيل آخر في البلاد العربية. في مصر نفسها لم تمس السفارة والقنصليات الأمريكية بسوء ولم يتعرض اليهود المصريون لأية مضايقات.
ما نشرته الأهرام من أخبار مزعومة قبل اندلاع القتال كان مجرد كذبة نجح هيكل –يومها- في زرعها في الأذهان، وكان لها بدون شك تأثيراتها. هذا شيء من أشياء الماضي الذي كنا نحن الليبيين من أوائل ضحاياه. للسيد هيكل أن يزعم بأنه يصدق كذبته تلك؛ فهذا شأنه، أما أن يأتي بعد أربعين سنة ليستند عليها ويتخذ منها دليلا من أدلته المزعومة فهذا شيء يدعو إلى التقزز.
بقي أمران أوردهما السيد هيكل –في هذا السياق- ولا بد من التعليق عليهما:
فيما تنطوي هذه العبارة على التأكيد على حقيقة باتت معروفة للقاصي والداني، وأقر بها عبدالناصر في خطاب علني بعد حرب السويس (العدوان الثلاثي)، وتثبتها كل المعطيات وأحداث التاريخ، في أن ليبيا أثتاء حكم الملك إدريس –رغم قلة إمكاناتها- قد وقفت مواقف مشرفة نصرة لأشقائها، بالرغم من أن هذه المواقف قد أدت في كثير من الحالات إلى تعريض المصالح الليبية العليا للخطر، بل إنها قد أضرت فعلا بالمصالح الليبية. لكن عبارات الإطراء التي (تكرم) بها هيكل لم تمنعه -في حلقة أخرى من برنامجه على الجزيرة- من تصوير الملك إدريس وكأنه كان طرفا في تآمر مع السفير الأمريكي، وهو ما سنتطرق إليه ونناقشه في حينه. كذلك فلم يتوقف هيكل في حلقات أخرى من الغمز من مكانة ووطنية الملك إدريس، ويقدم معلومات تاريخية مغلوطة ومشوشة (انظر الهامش ).
لكن هذا في الواقع يضع أمامنا حقيقة بشعة يمثلها هيكل، فهو برغم مرور هذه السنين منذ حرب يونيو، والنتائج الوخيمة التي أفرزتها هذه الحرب والتي كانت نتاجا لسنوات من الديماغوجية الدعائية والتصنيفات الهوجاء وسياسات التخوين والإقصاء، وبرغم سقوط رموز طوطمية صنعتها مرحلة التيه وراء الشعارات الجوفاء الرنانة، بالرغم من كل ذلك فما زال هيكل يُنصِّب نفسه حكما يمنح صكوك الوطنية والإخلاص، ويجرم ويخون، ويجيز لنفسه ولرئيسه عبدالناصر ما لا يجبزه للغير بمن فيهم الرئيس أنور السادات.
التاريخ وحده .. وحقائق التاريخ فقط هي التي تحكم على من كان وطنيا مخلصا … من الذي كان يعمل في صمت وفي تواضع في زمن سادت فيه الدعاية السوداء والغوغائية… وحقائق التاريخ هي التي تحكم على من الذي سخر كل شيء: سخر الكلمة فحولها إلى تهريج .. وأخضع الشعب فحوله إلى مجموعات لا تعرف إلا التصفيق أو التهميش .. وألغى الأوطان فحولها إلى سجون كبيرة .. واستولى على الإمكانات فبددها لخدمة حكم شمولي وفرد متسلط.. وعبث بالأمة ومشاعرها فقادها وراء شعارات جوفاء وسراب مهلك .. بل وحتى زور التاريخ وطمس الحقائق في سبيل استمرار تخدير الأمة وإلهائها عن حقيقة الثمن الرهيب الذي تتحمله أجيالها نتيجة لما أصابها من هزائم ونكبات…. أجل التاريخ هو الحكم .. أما هيكل فهو آخر من يحق له الحديث عن الوطنية والإخلاص وهو الذي سمح لنفسه بتسريب أسرار الاستراتيجيات المصرية علنا من على صفحات الأهرام، أما في السر والخفاء فالعلم عند الله وحده.
هذا كله غيض من فيض يدل دلالة واضحة على أحد أمرين: إما على الجهل وعدم الاهتمام بتوخي المعلومات الصحيحة والاستخفاف بهذا الشعب الجار، أو أن هيكل كان يقصد بث هذه المعلومات المغلوطة وهو ما يمكن وصفه بالتزوير والتدليس.
وللحديث بقية إن شاء الله
…………………………………
أترك للقراء تقييم ما قاله هيكل عن الملك إدريس، وما حواه من أغاليط تاريخبة وتقييمات مغرضة، علاوة على التناقضات بين الإطراء والتخوين، وهذا ما قاله في إحدى الحلقات:
“الملك السنوسي رجل شخصية، أنا شخصيا بأقدره لأنه، أقصد بأقدره لأنه، بأقدره في ظروف، هذا رجل تقدمت به السن ليس له وريث على العرش وجاء ابن أخيه يخليه وريثه في العرش وهو رجل في عنده قدر من الزهد الصوفي ولكنه أيضا جانب الصوفية وجانب التجرد وجانب كل حاجة أو الثانية هو نوع من هؤلاء الأمراء العرب الذين أدركوا مبكرا أن عروشهم مرهونة برضى قوى معينة، قوى كبرى. ليبيا كانت أصلها مستعمرة أو جاءت إيطاليا واحتلتها فعلا من سنة 1912 وبعدين الإنجليز هم اللي فتحوا، دخلوا في أثناء مواجهتم في الحرب العالمية الثانية وإخراجهم الألمان من العلمين، في معركة العلمين، وأزاحوهم وبعدين جابوا الملك السنوسي اللي هو كان أصله موجودا قبل ما الطلاينة ما يخلعوه، أو هو كان آثر أن يخرج إلى المنفى أو يلجأ في الخارج وراح تركيا فعلا، ولكن هو يدرك أنه في النهاية هذه العروش ضعيفة مهما قيل فيها، هذه العروش الضعيفة تحتاج إلى سند خارجي والملك هنا يدرك أن سنده هنا هو الإنجليز ثم بعدهم الأميركان …………”
“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم” هيكل
المتابع لأحاديث هيكل يلاحظ حرصه الشديد على ذكر الأسماء وإثباتها في الأحداث التي كان يرويها، ولا يستثني حتى تلك التي غيبها النسيان، وحتى تلك التي لم يكن لها دور يستحق الذكر. كما يلاحظ حرصه الشديد على إبراز الأوراق والوثائق ذات العلاقة بالحدث الوارد في السياق.
وقد تفنن الفريق الفني في برنامج “مع هيكل” في إبراز الوثائق وإضاءة السطور وتظليلها في جهد يشكرون عليه. لم يتوقف الأمر عند حد “الوثائق” والأوراق المكتوبة فحسب، لكن السيد هيكل أتحفنا –أيضا- بتحويل بعض المحادثات الشفهية التي يقول بأنها جرت بينه وبين الرئيس عبدالناصر إلى نصوص مكتوبة، قام فنيو البرنامج بإبرازها وإضاءة سطورها هي الأخرى. وبالرغم من أن وضع هذه المحادثات الشفهية بهذه الكيفية، يخل -بطريقة مفضوحة- بالدقة في النقل؛ إذ لا يمكن لهيكل أو لغيره أن يزعم بأن هذه النصوص مأخوذة من محضر حرفي، ولكنه جعلها تبدو وكأنها مأخوذة من محضر مكتوب. كان يكفي السيد هيكل سرد مثل هذه المحادثات لطبيعتها الشفهية، وكان يمكنه أن يعمد –كعادته- إلى تكرار مايريد تأكيده من هذه المقاطع، لكن حرصه على إبرازها للمشاهد بصورة مكتوبة يظهر رغبته الشديدة في أن يسبغ عليها مصداقية قد لا تتوافر عليها فعلا، أو في أحسن الاحتمالات أن تسبغ هذه الطريقة شيئا من المصداقية على ما يقول، أو تبرز بعض الأمور التي يريد ترسيخها في ذهن المشاهد. بالرغم من محذور الإخلال بالدقة وإيهام المشاهد والمتابع بحرفية النصوص المنقولة من محادثات شفوية، إلا ان ذلك قد يحسب للسيد هيكل إذا ما مارس الاستمرارية وتجنب الانتقائية غير المبررة.
المتابع للأحاديث المذكورة يلاحظ أيضا أن حرص السيد هيكل على إبراز الوثائق والأوراق وتقديمها للمشاهد قد اختفى وتلاشى تماما عندما كان يتحدث عن ادعاءاته بقيام أمريكا بالمشاركة في الضربة الجوية الإسرائيلية مستخدمة قاعدتها الجوية “الملاحة / ويلاس”، أو ما أسماه السيد هيكل “البصمة الأمريكية” والتي يسعى جاهدا لفك “طلاسمها”. ولا نريد أن نتوقف طويلا أمام مصطلحات السيد هيكل “البصمة” و “الطلاسم”، فهو صاحب المصطلحات غامضة الدلالة والمضمون، لكننا قد نفهم من هيكل أن المصطلحين يستوجبان جهدا غير عادي لإثباتهما خاصة أن الحديث يتم عن مصطلح لا نسمعه يتردد إلا في القصص البوليسية أو في تحقيقات المباحث العامة، وآخر لا نسمعه يتردد بكثرة إلا عند السحرة والمشعوذين.
كنا نتوقع من السيد هيكل أن يتعامل مع الوثائق التي يسوقها حججا وقرائن ويدعي أنها تؤكد على ما يقول وتساعد في فك الطلسم وحل أحجية البصمة، بنفس الأسلوب والطريقة التي حرص عليها في التعامل مع غير ها من الوثائق: أن يبرزها على الشاشة، وينير السطور والكلمات، حتى يمكننا نحن المشاهدين من متابعة تفكيك رموز البصمة وفك أحجية الطلسم، أو على الأقل أن يضعها أمام المشاهدين ليشاركوا في الحكم على هذه الوثائق. لكن السيد هيكل –خلافا لعادته- لم يفعل شيئا من هذا، وبدلا من ذلك اكتفى إما بالقول بوجود وثيقة أمامه، أو بالتلويح بورقة لا ندري ما فيها؛ إذ لا يمكن لأي أحد مهما كانت قوة نظره أن يرى ما فيها أو أن يتأكد بأن مضمونها يتفق مع السياقات التي يطرحها هيكل، بل لا يمكن لأي أحد أن يجزم ما إذا كانت هذه الأوراق الملوح بها ذات علاقة بالموضوع أصلا، فضلا عن أن يكون في مقدور المشاهد أن يكون مع السيد هيكل في نفس دهاليز وأحجيات هذا الطلسم الذي يدعيه ويدعي القدرة على اكتشاف بصماته وتفكيكها. لكن بدلا من ذلك نجده يتملص من ضرورة طرح هذه الوثائق على المشاهدين والمتابعين؛ فيقول:
“قدامي عدد كبير قوي من الوثائق المصرية فيما يتعلق بهذا وقد أفتح قوسا وأقول إن هذه الوثائق أيضا ليست احتكارا لي، هذه الوثائق صورت منها مئات النسخ لكي يقرأها كل الذين كان عليهم أن يحاربوا، حرب تصحيح ما جرى في 5 يونيو وهي حرب أكتوبر”
وبعد محاولة الهروب –غير الناجحة- من استحقاق تقديم الوثائق وإبرازها، بعد ذلك يصور لنا السيد هيكل مهمة فك الطلاسم بأنها من الأهمية بمكان، لأنها تخلص الإنسان المصري والعربي من عقدة الفشل والهزيمة:
“لكن المسألة الأهم أنه أنا بأعتقد أن هذا لا يزال يستغل إلى أغراض سياسية حتى هذه اللحظة، وأنا في عملية فك الطلاسم حول 67، بأعتقد أنها مش بس مهمة لتخليص الإنسان المصري والعربي من عقدة فشل وعقدة هزيمة لا مبرر لها في اعتقادي”
“ما أريد أن أفعله بالدرجة الأولى مش أنه أقعد أحكي تاريخ الحرب، لأن تاريخ الحرب قضية سهلة، لكن ما أريده بالدرجة الأولى أن أفك الطلاسم التي لحقت بسنة 1967 واللي أنا أعتقد أنها أثرت قوي على الوجدان المصري والعربي بصفة عامة لأني أعتقد أنه إلى جانب الأخطاء والخطايا التي وقع فيها كل الناس -وأنا حأتكلم على هذا فيما بعد- لكن المسألة الأهم أنه أنا بأعتقد أن هذا لا يزال يستغل إلى أغراض سياسية حتى هذه اللحظة، وأنا في عملية فك الطلاسم حول 67، بأعتقد أنها مش بس مهمة لتخليص الإنسان المصري والعربي من عقدة فشل وعقدة هزيمة لا مبرر لها في اعتقادي، آه حصل، حصل، حصل حاجة كبيرة جدا وينبغي أن يحاسب كل حد عنها ولا يعفى أحد مهما كان مقامه”
أمام هذه الأهمية التي يصورها هيكل لعملية فك “الطلاسم”، ألا يحق لنا أن نتساءل، وألا يحق لكل من شاهد واستمع إلى هيكل وهو يترافع لإثبات التدخل الجوي الأمريكي انطلاقا من قاعدة “الملاحة / ويلاس”، بل ألا يحق لكل المصريين والعرب الذين ستخلصهم عملية فك الطلاسم من عقدتي الفشل والهزيمة، ألا يحق لهم جميعا أن يتساءلوا:
لماذا خرج السيد هيكل عن عادته ولم يضع على الشاشة هذه “الوثائق” والأوراق التي يزعم أنها في حوزته، وأنها ئؤكد ما يعدُّه –هو نفسه- أحد الأسباب، بل السبب الرئيس في هزيمة يونيو 1967؟
لماذا لم يقم بعرض هذه الأوراق حتى تطمئن النفوس وتزول عقدتا الفشل والهزيمة؟
ألا يستحق الإنسان المصري والعربي، وألا يستحق الوجدان المصري والعربي، وألا يستحق مشاهدو “قناة الجزيرة” أن يحترم السيد هيكل ذكاءهم وأن يمتنع عن التعامل معهم بنفس الاستخفاف الذي مارسه طيلة “مشوار حباته”؟
لا يمكن للسيد هيكل أن يدعي أن هذا الموضوع ليس مهما، ولا يستدعي بالتالي التوقف وإبراز الوثائق التي يدعيها ، فهو قد جعل منه الموضوع الذي تدور حوله أحاديثه عن هزيمة يونيو 1967، بل جعله -كما قال- السبب الرئيس لهذه الهزيمة التي “لا مبرر لها”.
كما لا يمكن للسيد هيكل أن يدعي بأن الموضوع بديهي، وأن تدخل أمريكا من قاعدة “الملاحة / ويلاس” أمر محسوم ولا يحتاج إلى إثبات، ولا حاجة إذن لإبراز الوثائق؟. لا يستطيع إقناع أحدا بهذا؛ لأنه هو نفسه جعل الموضوع أحجية وبصمة وطلاسم لابد من فكها، أي أنها –من وجهة نظره- في حاجة إلى إثبات. بل إنه قد اتخذ من هذه الأوراق “الوثائق” حججا وأدلة تثبت مزاعمه بالخصوص.
كان من الضروري على السيد هيكل أن يرينا نصوص هذه الوثائق، لكنه لم يفعل، وبدلا من ذلك أخضعنا لمنهج ركيك هذه بعض ملامحه:
إزاء هذا كله نجد من الصعوبة بمكان أن نقر بوجود ما أشار إليه السيد هيكل على أنه وثائق ولم يبرزها لنا، خاصة ما يزعم أنها “وثائق “مصرية”، لأن الحصول عليها غير ممكن؛ فهي لم تنشر، ولم يسمح بتداولها. كما لا نستطيع –إذا كانت هذه الوثائق موجودة بالفعل- أن نقر قراءة السيد هيكل وتفسيراته لها أو أن نعترف بصحة هذه القراءة، ومع هذا فلا نجد مناصا من أن نُخضع وثائق السيد هيكل المزعومة للفحص، ونطرح قراءاته وتفسيراته لها لتمحيص موضوعي خال من خيال هيكل وأكاذيبه التي بلغت حد التدليس. كما لا بد من تحليل ما يدعيه هيكل من “أدلة” وتبيان كيف اختلق بعضها ثم دسها في ثنايا أحاديثه.
وفي الواقع فإنني اعترف أنني وجدت صعوبة كبيرة في متابعة ما كان السيد هيكل يقوله، واضطررت إلى إعادة قراءة النصوص أكثر من مرة لأتأكد أنني لم أخطئ، وللتفريق بين ما يدعي هيكل أنه منصوص عليه في وثيقة لم يبرزها، وبين ما هو نتاج خيال خصب مؤسس على أكذوبة روج لها منذ ستينيات القرن الماضي، وساهم هيكل نفسه في اختلاقها والترويج لها، وهو إلى يومنا هذا يلهث جاهدا بحثا عن قشة يتعلق بها ليوهمنا بأنها إثبات لما يقول.
وللحديث بقية إن شاء الله
“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم” هيكل
حديث السيد محمد حسنين هيكل عن الدور الأمريكي في حرب يونيو 1967 متشعب ومتناقض في الوقت نفسه، ويتطرق إلى عدة نواحي ويشير إلى صور مختلفة لهذا الدور:
إن المتابع لأحاديث السيد هيكل لا يستطيع أن يتخلص من الشعور بأن كل الصور التي أشار إليها من تسليح، وتعاون استخباراتي، ودعم سياسي، ومتطوعين، ومن استقطاع لأجزاء من محاضر لقاءات مسؤولين أمريكان مع نظرائهم الإسرائيليين مع تعمد تغييب مقاطع أخرى، وغيرها مما حفلت به أحاديث هيكل، إنما يسوقها ويبالغ في وصفها وتقييمها من أجل إثبات المشاركة الأمريكية في الضربة الجوية انطلاقا من قاعدة “الملاحة/ويلاس”، أو “البصمة” التي احتاجت إلى خبير بصمات –مثل هيكل- لاكتشافها ثم لفك “طلاسمها”.
بيت القصيد في مقالاتنا هذه هو الرد على مزاعم السيد هيكل حول استخدام قاعدة “الملاحة/ ويلاس”، لأن هذا ما يهمنا كأكذوبة رددها السيد هيكل طويلا، ولا نظن أنه صدقها ولكنه يريد منا –ومن غيرنا- أن نصدقها. ما يهمنا هو هذه المزاعم التي يرددها السيد هيكل، والتي يدعي أن هناك “وثائق” تسندها وتؤكدها. ولكن من الواجب قبل أن نخوض في هذا الأمر، وفي وثائقه التي يلّوح بها، أن نستبين بقية الصور الأخرى “للدور الأمريكي” التي أوردها السيد هيكل، خاصة وأنه –كما قلنا- يحاول حشد هذه الصور كقرائن تؤكد التدخل الأمريكي الذي يزعم أنه انطلق من ليبيا. وهذا يدعونا أن نستوضح بقية الصور ونقدم حولها ما هو معروف من الحقائق، ثم ندع للقارئ أن يقارنها مع ما أورده هيكل أو أغفله وغيَّبه منها، ثم نتساءل –بعد تبيين الحقائق- من ينبغي أن نلوم: إسرائيل أم أمريكا أم سياسات عبدالناصر؟
لا بد أن نتبين الحقائق خاصة حول أمرين اثنين يتعلقان بالدور الأمريكي، ومدى علاقتهما بانتصار إسرائيل في الحرب، وهما:
وقبل أن نخوض في هذين الأمرين لا بد أن نشير إلى معيار آخر من المعايير التي أراد السيد هيكل أن يفرضها من خلال أحاديثه، فهو يحاول أن يسرد أحاديثه قفزا على الأوضاع السائدة يومذاك، وتجاهلا للاختلافات الجوهرية بينها وبين الأوضاع الدولية في الوقت الراهن، وعلى الأخص أوضاع العلاقات الإسرائيلية- الأمريكية. دور “اللوبي” الإسرائيلي يومئذ –على قوته- كان يواجه محددات، ولا يمكن أن يقارن بما بلغه هذا “اللوبي” من تغول في الوقت الراهن، ودوره الذي أصبح مركزيا في التأثير على القرار الأمريكي. وفي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي لم تكن الحالة العربية قد وصلت إلى ما بلغته حاليا من وهن وهوان، فلم يعد العرب –اليوم-ذلك الصديق الذي يُسعى إليه ويُحتفى به، ولا ذلك العدو الذي يُهاب ويُخشى، ولا ذلك الند الذي يُحترم. هذا كله لم يكن عشية حرب يونيو، بل نجده اليوم كنتاج لتلك الحرب وما تبعها من انتكاسات متتالية.
لهذا ينبغي أن نتذكر بأننا نتحدث عن مرحلة كانت فيها الأوضاع الدولية تختلف بصورة كلية عما هي عليه الآن. هذا يسري على العلاقات العربية-الأمريكية، وعلى موازين القوى الدولية، وعلى حقائق الصراع العربي– الإسرائيلي، بل حتى على درجات وقوة التأثير الإسرائيلية على الإدارات الأمريكية. لم تكن إسرائيل آنذاك تسيطر على القرار الأمريكي بالطريقة والدرجة التي نراها الآن، وكان للعرب أصدقاء في مختلف الإدارات الأمريكية يتعاطفون مع قضايا العرب من منطلق حرصهم على مصالح الولايات المتحدة المرتبطة بالمنطقة العربية.
لكن التغيرات التي جاءت بين الأمس واليوم لم تحدث فجأة، وإنما كانت نتاجا لسنوات طويلة من السياسات العابثة التي لم تقدر المصلحة العربية العليا حق قدرها، ولم تفرد للقضية الفلسطينية ما تستحقه من مكانة في أولويات الصراع والسياسة، ولا ما تستحقه من مكانة في إطار العلاقات والتعاون العربي، ولا إلى ما تتطلبه من بناء علاقات دولية بناءة على الأخص مع الأطراف الدولية المؤثرة. بدلا من ذلك، كانت المهاترات والتخوين والتآمر أساليب معتمدة في السياسة المصرية تجاه الدول العربية المختلفة، لم تنج من هذه السياسات دولة عربية واحدة. وكان التعامل مع البعد الدولي والقوى الدولية مؤسسا على افتراضات لا تمت إلى الواقع بصلة وتفتقر إلى التقييم الموضوعي السليم –الخالي من الأهواء- للمعطيات والعوامل المؤثرة، بل كانت شؤون وشجون العلاقات الدولية تقفز إلى صفحات الجرائد وميكروفونات الإذاعات قبل أن يتمكن الدبلوماسيون من التعامل معها. في تلك الحقبة كانت إسرائيل تضع أمامها أهدافا واضحة تتوحد وراءها الغالبية العظمى من يهود العالم، وتسعى لجلب التعاطف الدولي مع هذه الأهداف. وكانت إسرائيل تضع كل القدرات والإمكانيات في خدمة هذه الأهداف ، وتسخر أركان الدولة وعلاقاتها الدولية وأصدقاءها وعملاءها من أجل الحصول على كل إمكانية غائبة تعين على تحقيق الأهداف. وعلى الطرف الآخر كانت أهداف العرب قد تحولت إلى شعارات جوفاء فارغة ليس ما يساندها من عمل جماعي مشترك، فكانت الأهداف ضبابية، وكانت السبل إلى بلوغها تفتقر إلى العزيمة والوضوح والمداومة، فتشتت هذه الجهود إلى معارك جانبية ومفتعلة كانت خاسرة في معظمها. كان الأداء العربي في مضمار العلاقات الدولية فاشلا وكارثيا، أخضع بالكامل للأهواء والنزعات، وغابت عنه العقلانية، وتوخِي المصالح العليا، والبحث عن قواسم مشتركة مع مختلف الدول، والبحث عن مساحات الاتفاق لتنميتها، وجوانب الخلافات لتضييقها، بل غابت حتى سياسات التكامل وتبادل الأدوار بين الدول العربة في مضمار العلاقات مع مختلف الدول.
هكذا كانت هذه السياسات سببا في الفشل في تقييم حرب السويس 1956 بطريقة موضوعية تحدد الأطراف التي كان دورها مؤثرا في حل الأزمة وإجبار الدول المعتدية على الانسحاب، ومن ثم تحديد مناهج صحيحة للتعامل مع هذه الأطراف. جرى عمدا تجاهل الدور الأمريكي وإبراز الدور السوفياتي بالرغم من البون الشاسع بين دور كل من الطرفين، وسرى هذا التجاهل والإبراز إلى السياسات والخطب والإعلام، وتعالت حدة الحملات الإعلامية ضد أمريكا، وتم تصوير كل قصور في العلاقات بين مصر الناصرية وأمريكا –بالذات- إلى خطيئة في حق القضية العربية. وكان هذا أحد أسباب التمهيد لمزيد من إزاحة الدور والتأثير العربي في أمريكا وإلى نماء العلاقات الإسرائيلية الأمريكية في الفترة الواقعة بين حرب السويس وحرب يونيو 1967، وكانت هناك أسباب كثيرة أخرى منها ما هو خارج عن الإرادة، وكان يمكن تداركه، ولكن معظمها كان من صنع السياسات والممارسات الناصرية قي تلك المرحلة .
قد يكون في ما أورده هيكل حول إمداد أمريكا لإسرائيل بالسلاح والمعلومات شيئ قليل من الصحة، ولكن حتما فإن فيه كثير من المبالغة. حتى وإن افترضنا –جدلا- صحة ما يقوله هيكل إلا أن أمورا كثيرة ينبغي بحثها وهو ما يتطلب تحليلا هادئا وتساؤلات من قبيل لم وكيف تم هذا؟ ومن المسؤول؟.
لا ينبغي التباكي على أن إسرائيل وقادتها –منذ قيام دولتهم وحتى يومنا هذا- قد فعلوا كل ما كان بوسعهم لتكوين وتعزيز وإدامة علاقة استرتيجية من طراز فريد مع الولايات المتحدة، وأنهم عبر هذه العلاقة عززوا مكانة إسرائيل داخل أمريكا حتى أصبحت أدوات ولجان الضغط الإسرائيلية تخيف الرؤساء والإدارات الأمريكية وتعشعش في أوساط الكونغرس ومختلف الإدارات الأخرى. لا نستطيع أن نتباكى لأن قادة إسرائيل قد حددوا بكل دقة مكمن المصلحة الإسرائيلية، ثم ركزوا جهودهم وحشدوا إمكاناتهم وأصدقاءهم لتعزيز وتحقيق هذه المصلحة. أليس الأولى أن نصب جام غضبنا على السياسة الناصرية التي لم تترك وسيلة ولا سبيلا إلا سلكته لتخريب العلاقات العربية- الأمريكية، ولم يقتصر هذا التخريب على علاقات مصر بأمريكا فقط؟.
إذا ما استعدنا أجواء الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فإننا سنعيش فترة الخطب الحماسية الرنانة، واتهام الزعماء العرب الذين سعوا لإقامة علاقات متوازنة مع أمريكا بالعمالة للإمبريالية، وسنستمع إلى إذاعة “صوت العرب” والإعلام المصري عموما تحرض الشعوب على هؤلاء الزعماء الذين أصبحوا يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى فبدوا مترددين في علاقاتهم والتزاماتهم الدولية، ووجدوا أنفسهم في دوامة البحث عن سبل الدفاع عن أنفسهم أو الانخراط في خدمة التوجهات الناصرية. وإذا ما كنا صرحاء أكثر لوجدنا أن مصر الناصرية سعت، ونجحت -إلى حد كبير- في تسخير الجماهير العربية وتحشيدها ضد حكامها وضد أية سياسات إيجابية مع الغرب خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية. لم يستطع حتى بعض الزعماء الذين يعتد بهم –مثل الملك فيصل بن عبدالعزيز- من أن يقنعوا عبدالناصر بسياسة تكامل الأدوار العربية، وكان عليهم إما أن يكونوا مع التوجهات الناصرية أو يواجهوا تهم العمالة والخيانة. وفي هذا الصدد نستعير من السيد هيكل حديثا نسبه إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز:
“أنا فاكر أن الملك فيصل -وأنا سمعها منه كذا مرة وآخر مرة سمعتها منه كنا في فندق فلسطين في الإسكندرية والملك كان ضيفا هنا- لكن الملك بيقول إيه؟ بيقول لي يا أخي طال عمرك الرئيس عبد الناصر استفز الأميركان بأكثر من اللازم، هم ما عندهمش صداقة مع إسرائيل بهذه الدرجة وهم ما عندهمش عداء معنا إلى هذه الدرجة لكن نحن رحنا إلى جانب الاتحاد السوفياتي، أنتم يعني المصريون ذهبتم متحيزين إلى الجانب السوفياتي وهذا أغضبهم، ولو أوقفنا هذه العلاقة وهذه الصداقة الزائدة مع الاتحاد السوفياتي فالأميركان موقفهم مختلف لأن مصالحهم معنا وبالتالي إذا اختلف موقفهم معنا فسوف يقل تحيزهم لإسرائيل”
وإذا كان الملك يتحدث بمثل هذه الصراحة ويكرر هذا الحديث على مسامع هيكل فلا بد أنه كان وغيره من الرؤساء والملوك العرب أكثر صراحة ونصحا -وربما مناشدة- في الجلسات المغلقة أو في المشاورات الجانبية. ولكن تبقى الحقيقة المرة أن سياسات عبدالناصر لم تترك فقط لإسرائيل الساحة الأمريكية تلعب فيها كما تريد، بل إنها أعطت كل المبررات لأمريكا كي تدير لنا ظهرها وتنحاز بالكامل لإسرائيل عبر سنوات تراكمت فيها المواقف، وعززت فيها إسرائيل مركزها، حتى وصل بها الأمر ليس فقط بالمراهنة على الحصان الأمريكي، بل إلى امتطائه والإمساك بلجامه وتوجيهه الوجهة التي تريدها.
لا بد لكي يكون المرء صادقا في تحليلاته واستنتاجاته، أن يستند على الوقائع والحقائق، وأن يراعي الدقة ويتجنب المبالغة، وأن لا يسمح لنفسه بالجنوح إلى الخيال والأوهام. لا بد لنا من أن نتعرف على الأسباب التي أدت إلى تطور العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية إلى ما صارت عليه عشية حرب يونيو 1967. وقد نستطيع الاستطراد فنبحث القفزة الرهيبة للعلاقات الأمريكية-الإسرائيلية التي ترتبت عن نتائج حرب يونيو، وترتبت أيضا عن تصرفات العرب حيال أمريكا بحجة هذه النتائج.
ربما من المهم الإشارة إلى حقيقة منسية أو مهملة ومغيَّبة عن عمد، وهي حقيقة موقف الدولتين الكبريين (الاتحاد السوفيتي وأمريكا) من إسرائيل. ذكر هذه الحقيقة والتذكير بها مهم جدا لأنها ضاعت في خضم الدعاية الناصرية، وهو مهم كي يكون معيارنا مستندا على قاعدة راسخة ومتوازنة، ثم حتى نزن المواقف والسياسات التي رسمت وصاغت العلاقات العربية مع الدولتين.
سنجد أن موقف الدولتين من قيام إسرائيل متشابها إن لم يكن متطابقا، فاعتراف الاتحاد السوفيتي بقيام دولة إسرائيل جاء بعد أربعة دقائق من اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية. وحتى في أوج التحالف الناصري-السوفيتي فإن إنهاء دولة إسرائيل والقضاء عليها كان خطا أحمرا لدى السوفيت كما هو لدى أمريكا ولدى كثير من دول العالم الأخرى. ليس هناك فارق كبير بين الدولتين في مسألة وجود إسرائيل وبقائها.
بقي أن نتعرف على حقيقتين أخريين:
أولاهما: أن الاتحاد السوفيتي لم يتوقف –حتى أثناء تحالفه مع عبدالناصر- أن يكون المخزون الاستراتيجي والمزود الرئيسي لإسرائيل بالعقول والخبرات المدربة التي كانت هجرتها تتم بترتيبات مع حكومة الحليف السوفيتي. ولا نريد الاستطراد هنا لتوضيح ما أحدثته هذه الهجرة المدربة من تطورات على الصناعة والزراعة والإنتاج في إسرائيل، وبالأخص على الجيش الإسرائيلي، وعلى القدرة العسكرية الإسرائيلية. إزاء هذا الإمداد لم يرفع النظام الناصري عقيرته بالاحتجاج لدى الحليف السوفيتيى، وخلت كل خطبه –وما أكثرها- من أية إشارات إلى هذه المسألة. كما أن الإعلام الناصري وقطب رحاه هيكل لم يثيرا هذه المسألة لا من قريب ولا من بعيد. وقد نتساءل هل كانت المصالح المصرية وعلاقاتها مع الاتحاد السوفيتي ستكون في خطر إذا ما قامت مصر بإثارة هذه المسألة؟
أما الحقيقة الثانية: فإن الإدارات الأمريكية المتعاقبة استمرت في اتباع سياستين أرساهما الرئيس “هاري ترومان” تقضيان بمتابعة تأييد إسرائيل ودعمها في كل المجالات، وفي نفس الوقت بمتابعة الامتناع عن تصدير السلاح إلى دول منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك إسرائيل. استمر ذلك إلى ما بعد حرب السويس. قبل ذلك كان مصدر التسلح الإسرائيلي من بريطانيا ومن فرنسا، وهذه الأخيرة هي التي زودتها بمنظوماتها الجوية بما فيها طائرات الميسيتير وسوبر مايستير والميراج وقنابل Durendal المخصصة لتدمير مدارج المطارات، وهي –مع غيرها- شكلت القوة الضاربة التي استخدمتها إسرائيل في ضربتها الجوية.
وإذا ما استطردنا –في هذا الصدد- لوجدنا أن أول صفقة لتزويد السلاح الجوى الإسرائيلي بأسلحة أمريكية الصنع كانت عام 1962 في عهد الرئيس “جون كندي”، حين جرى التوقيع على تزويد إسرائيل بمنظومة صواريخ “هوك” للدفاع الجوي، وكان التبرير الذي قدمته إدارة الرئيس “كندي” آنذاك أن الاتحاد السوفيتي قد زود مصر بقاذفات للقنابل ذات مدى طويل وبمنظومة الصواريخ SAM التي ضخم الإعلام المصري في وصف قدراتها وسميت “القاهر” و “الظافر”. ومع هذا لم يتم حصول إسرائيل على صواريخ “هوك” بسهولة –كما يحدث الآن، بل كان على إسرائيل آنذاك أن تبذل الجهود وتختلق الظروف وتحشد أصدقاءها مرة تلو الأخرى للحصول على أسلحة، وكان معظمها يرفض بسبب السياسة المعتمدة من ناحية وكذلك بسبب الوجود القوي لأصدقاء العرب في الإدارة الأمريكية. وقد بذلت إسرائيل مساع متكررة وحشدت أصدقاءها للحصول على طائرات مقاتلة وقاذفة أمريكية الصنع، وفي كل مرة كان أصدقاء العرب في الإدارة الأمريكية وخاصة في وزارة الخارجية يحولون دون تبلور هذه الطلبات إلى عقود، ويستطيع أي باحث محايد أن يقرر أن وزارة الخارجية –بالذات- كانت مليئة بالمسؤولين الذين كانوا يعرفون باسم “آرابيست” بسبب مواقفهم المؤيدة لسياسة أمريكية أكثر توازنا تميل إلى تقدير المصالح الأمريكية- العربية المشتركة وتغليبها. كان الأولى أن نقدم دعما –بالقول والفعل- لهؤلاء الأصدقاء حتى يمكنهم من تعزيز دورهم في السعي لتحقيق سياسة أمريكية متوازنة ، لكن السياسة الناصرية لم تعط لهؤلاء أية مساندة، ولم تعمل على تعزيز منطقهم وموقفهم، بل ما حدث هو العكس، فقد أعطت السياسات الناصرية “ذخيرة” لأصدقاء إسرائيل تاركة أصدقاء العرب يواجهون مدا إسرائيليا متناميا أوصلهم إلى التقلص والتقوقع، بل أوصلهم إلى الدفاع عن أنفسهم بكل ما تعنيه الكلمة.
نجح “الآرابيست” في الحيلولة دون حصول إسرائيل على مقاتلات أو قاذفات أمريكية عدة مرات، إلى ان كان عام 1966، في إدارة الرئيس “ليندون جونسون”، حين كررت إسرائيل مطالبها بالحصول على مقاتلات وقاذفات، وتحصلت على موافقة مبدأية من البيت الأبيض، لكن هذه الموافقة كان عليها أن تمر بسلسلة من الإجراءات التي تمر على وزارتي الدفاع والخارجية علاوة على موافقة الكونغرس. وهكذا شرعت إدارة الرئيس جونسون في الإجراءات اللازمة لاستخراج التراخيص لتزويد إسرائيل بطائرات “سكاي هوك” القاذفة. لكن إسرائيل لم تستلم أي من هذه الطائرات إلا في أواخر عام 1967، أي بعد حرب يونيو، وشاركت هذه الطائرات في “حرب الاستنزاف”. أما في حرب يونيو 1967 فلم يكن في حوزة إسرائيل أية مقاتلات أو قاذفات أمريكية الصنع. ومعر وف أن نتائج حرب يونيو وقيام مصر بقطع علاقاتها مع أمريكا سرَّعا في الموافقة على تنفيذ صفقة طائرات سكاي هوك ثم تلتها طائرات الفانتوم …. ثم توالت الصفقات.
هذا ما تقوله حقائق التسليح الأمريكي لإسرائيل -في مجال القوات الجوية- قبل حرب 1967. فلم تشارك أية طائرة من صنع أمريكي في تلك الحرب لأن إسرائيل ببساطة لم تكن –في تلك الفترة- تملك طائرات أمريكية الصنع. وهذا في الواقع كان من شأنه أن يسهل اكتشاف أية طائرات أمريكية الصنع تكون قد شاركت في الضربة الجوية، لأن الطيارين وأطقم الدفاع الجوي كانوا سيتعرفون عليها بكل بساطة حتى ولو كانت مطلية بعلامات السلاح الجوي الإسرائيلي كما يقول السيد هيكل .
كافة الإحصاءات المنشورة عن حرب يونيو تدل أن السلاح الجوي الإسرائيلي، كان يتكون آنذاك من الآتي:
65 ميراج (3) الاعتراضية 35 سوبر مايستير القاذفة
33 مايستير المقاتلة 18 فوتور (2) المقاتلة
48 أوراغان القاذفة 45 فوغا ماجيستير للتدريب
جميع هذه الطائرات فرنسية الصنع، ولم يكن بينها طائرة أمريكية واحدة.
أما بعد 1967 فقد أثبتت إسرائيل لأمريكا أنها حليف استراتيجي يعتد به، واستمر وقوفها بكل قوة وراء أصدقائها في أمريكا، وازداد تنامي وترسخ علاقاتها مع أمريكا، فيما باتت علاقات مصر وسوريا ودول عربية أخرى مع أمريكا مقطوعة لعدة سنوات، وشبه مجمدة مع دول أخرى، وتنامت الحملات الإعلامية والاتهامات في الصحافة العربية ضد أمريكا، وتركت الساحة بالكامل لإسرائيل، فكانت تلك هي السنوات الذهبية التي تنامت فيها مؤسسات الضغط الإسرائيلية، وتمكن الأخطبوط الإسرائيلي من الإمساك بمفاصل القرار الأمريكي، كما تمكن هذا الأخطبوط من استغلال كل الأزمات العربية-الأمريكية والضعف والهوان العربيين للتمكين لسيطرته إلى أن وصل الأمر إلى ما هو عليه الآن.
هذا عن تسليح أمريكا لإسرائيل -في مجال السلاح الجوي- قبل حرب يونيو، وعن دور هذا التسليح في نتائج تلك الحرب، وعلى الأخص في نتائج الضربة الجوية.
وسنتناول –بإذن الله- مسألة الإمداد بالمعلومات في حديث قادم إن شاء الله.