إبراهيم عبد العزيز صهد..
تخرج من الكلية العسكرية الليبية عام 1963، وكان ترتيبه الأول على دفعته (الدفعة الخامسة).
عمل ضابطا بالجيش الليبي خلال الأعوام 1963 – 1969 : مدرسا في مدرسة المخابرة، ورئيسا لجناح [...]
img>عندما التحقت بالوفد الليبي لدى الأمم المتحدة عام 1971، أتيحت لي فرصة اللقاء مع الدكتور “إيميل سان لو”. لقاء لم أكن أتوقعه ولكني سعدت به أيما سعادة، واستثمرته لمعرفة مزيد مما يجدر معرفته عن الموقف الذي اتخذه هذا الرجل إزاء قضية استقلال ليبيا.
كنت “مستجدا” على العمل مع الوفد الليبي، مأخوذا بحيوية العمل بالجمعية العامة للأمم المتحدة التي كانت تختلف عن رتابة العمل في السفارات، ولم يمر على التحاقي بالوفد سوى أسابيع معدودة، وكنت منبهرا بالمناقشات الدائرة حول قضايا كنا نسمع عنها من الإذاعات أو نتابعها في التقارير ووسائل الإعلام.
كنت موجودا في مقر البعثة أجمع أوراقي للالتحاق بالاجتماع المسائي “للجنة السياسية للجمعية العامة”، حين أعلمتني عاملة الاستقبال أن الدكتور “سان لو” قد وصل إلى البعثة للالتقاء بالمندوب الدائم الذي كان خارج مقر البعثة. لم أكن أعلم حتى تلك اللحظة أن السيد “سان لو” يقيم في نيويورك، كانت مفاجأة حقيقية لي، فخرجت مسرعا لاستقباله، وقدمت له نفسي، وقلت له إننا في ليبيا نعرفك بموقفك الشجاع الرائع من قضية استقلال ليبيا، وعبرت له عن الامتنان والتقدير لذلك الموقف، وقلت له إن ذلك الموقف لا ينسى…. وعبرت له عن سعادتي الحقيقة للالتقاء به.
لم أكد أنهي كلماتي حتى لاحظت بريقا غريبا في عيني الرجل وهو يركز بصره علي ويحاول أن يوقف قطرات من الدمع تجمعت في مآقيه، ثم قال لي: “أشكر لك عباراتك … حقيقة أنت تسعدني بهذه الكلمات … ولكن ذلك الموقف أصبح ماضيا لا يلتفت إليه الآن … خاصة في طرابلس”.
عرفت ما يعنيه… وقلت له “بأن الليبيين الذين يعرفون قيمة الاستقلال يثمنون موقفك، ويحتفظون لك بمكانة خاصة في قلوبهم …. لا يمكننا أن ننسى من وقف إلى جانبنا حين تخلى عنا “الحلفاء” والأصدقاء.
تمتم بعبارات الشكر … وقد ازداد البريق المنبعث من عينيه … وقال لي إنه موقف أعتز به أنا أيضا … وأشكر الله على أنني اتخذته.
ثم دار حديث بيننا عن عملي بالخارجية … وتساءل عن بعض الأسماء من المسؤولين الذين تعرف عليهم خلال زيارته إلى ليبيا … وقال لقد كانت زيارة لا أنساها … فقلت له إنني أتذكر زيارتك لنا في ” مدرسة بنغازي الثانوية”، يومها كنت طالبا في تلك المدرسة … فابتسم ابتسامة عريضة وربت على كتفي وهو يقول …. أنا سعيد جدا بأن أراك اليوم شابا تعمل في خدمة بلادك.
كانت عاملة الاستقبال قد أعلمتنا بوصول السفير وأنه بانتظار السيد “سان لو” في مكتبه، فعبرت له مجددا عن سعادتي بلقائه .. وتطلعي لأن ألتقي معه مرة أخرى حتى يكون لدينا مجال أوسع للحديث … أعطاني بطاقته … وقال … في أي وقت … أنا دائما آتي إلى الجمعية العامة لحضور بعض الجلسات… خاصة الجلسات التي يتحدث فيها صديقي العزيز السفير “البارودي “[1]، وضحك وهو يقول: لكن المشكلة في أنه لا أحد يعرف متى سيتحدث البارودي…. حتى البارودي نفسه قد لا يعرف ذلك إلا وهو في طريقه إلى المنصة.
انشغل فكري بهذا اللقاء أثناء سيري إلى اجتماع اللجنة السياسية. وامتد تفكيري بالرجل وبالدور الكبير الذي قام به، وبما رأيته منه –خلال اللقاء- من تواضع شديد، وما عبر عنه من اعتزازه بموقفه، وظلت نبرة الحزن ترن في أذني وهو يقول ” أصبح ماضيا لا يلتفت إليه الآن … خاصة في طرابلس” كما ظل يتمثل أمامي بريق عينيه الذي اخترق قطرات من الدمع ظلت حبيسة في مآقيه. لقد رأيت رجلا اقتحم تاريخ ليبيا بموقف شجاع .. تمتلئ نفسه فخرا واعتزازا بذلك الموقف الذي أسهم في استقلال ليبيا … ويعتصره شئ من الحزن عما بات يقال عن ذلك الاستقلال في أوساط الحكم الليبية. امتد تفكيري في الرجل وموقفه طيلة الاجتماع المسائي للجنة .. وتساءلت ماذا لو؟ …. ووراء ذلك جمل استفهامية كثيرة … لم أجد لها إجابة، لكنها تساؤلات قادتني إلى دوامة من التساؤلات. كانت اللجنة السياسية تناقش بند تعزيز الأمن والسلم الدوليين، لكن مقابلتي للسيد سان لو والتساؤلات التي عصفت بذهني قادتني بعيدا عن اللجنة السياسية إلى مداولات اللجنة الرابعة المعنية بقضايا تصفية الاستعمار، حيث تناقش قضايا شعوب إفريقية ما تزال –حينذاك- تقبع تحت نير الاستعمار مثل موزامبيق وزيمبابوي (روديسيا الجنوبية)، في حين كانت بلدان أخرى مثل أريتريا (رفيقة ليبيا في الملف) ما زالت لم تجد لها موقعا في جدول أعمال المنظمة الدولية. وعاد ذهني إلى الجلسة الافتتاحية للدورة الحالية (عام 1971)، التي قبلت فيها كل من قطر وعمان والبحرين والإمارات أعضاء جدد في المنظمة الدولية، في حين كانت ليبيا قد قبلت عضوا عام 1955.
دفعني اللقاء الأول بالسيد سان لو إلى الاطلاع على ملفات “القضية الليبية” في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومعروف أن القضية الليبية عرضت ضمن مسألة المستعمرات الإيطالية. كانت الوثائق ومحاضر الجلسات ومشاريع القرارات محفوظة على رقائق “مايكروفيش” وكانت أجزاء كبيرة منها غير واضحة، كما أن الوثائق لا تعكس –بطبيعة الحال- تفاصيل ما كان يدور من مباحثات واتصالات ومناورات. وهذا ما دفعني أكثر إلى السعي إلى اللقاء مجددا مع الرجل لاستيضاح بعض الأمور التي لم تكشف لي الوثائق عنها.
الرجل معروف في ليبيا باسم “سان لو”، ومعروف على أنه صاحب “الصوت” الحاسم في اقتراع أجرته الأمم المتحدة حول استقلال ليبيا. ومعروف أيضا لأن الدولة الليبية –إبان العهد الملكي- قد أطلقت اسمه على شارعين –على الأقل- أحدهما في بنغازي والآخر في طرابلس تقديرا لدور الرجل، بينما أطلق اسم بلده “هايتي” على عدد من الميادين والشوارع والأماكن العامة.
كان ذلك أثناء العهد الملكي، عندما دعي السيد ” إيميل سان لو” لزيارة ليبيا، قام خلالها بزيارة الجامعة الليبية، وعددا من المدارس، كما أقيمت له احتفالات شعبية ورسمية كبيرة، وتم في تلك الزيارة تقليده وساما رفيع المستوى؛ أغلب ظني أنه وسام الاستقلال.
وأذكر أن الإذاعة الليبية –كانت حديثة التأسيس آنذاك- قدمت عددا من البرامج حول زيارة السيد “سان لو”، وقامت السيدة الفاضلة “خديجة الجهمي” رحمها الله بتقديم برنامج عن الضيف، ألقت خلاله أرزوجة، ودعت غيرها من الشعراء لمحاكاتها والنسج على منوالها؛ كان مطلعها:
الضيف اللي جانا من تو ….. أميل اللو ……..حيوه معانا بالقو
ولا زلت أذكر زيارته لنا في مدرسة بنغازي الثانوية، حيث احتفت به إدارة المدرسة احتفاء كبيرا، وأعدت عددا من النشاطات، بما في ذلك جولة في المدرسة للاطلاع على مرافقها وفصولها، ثم احتشد طلاب المدرسة في قاعة المسرح الكبيرة للاستماع إلى كلمة السيد “سان لو” وكان يترجمها الأستاذ “منصور الكيخيا” الذي كان أحد مرافقي السيد سان لو في تلك الزيارة، وقام أحد الطلاب بإلقاء كلمة للترحيب بالضيف. كذلك اطلع الضيف على نشاطات وإنتاج الجمعية الفنية، والجمعية العلمية، وأعد أساتذة اللغة الفرنسية (الأساتذة محمد عرابي، والزلباني، ومحمد نعيم) عددا خاصا من مجلة حائطية باللغة الفرنسية للترحيب بالضيف، وغص مدرج المدرسة بالطلاب لمتابعة تجربة عملية لتحضير “الأيدروجين”، تابعها الضيف بكل انتباه، وصفق طويلا عندما قام المحاضر (الأستاذ عبدالستار) بتجميع الأيدروجين المحضّر في قوارير تم لفها بقماش مبلل بماء مبرد، وقام بتعريض فوهة القارورة للهب فأحدثت دويا كبيرا، وقد قال الأستاذ عبد الستار للضيف إننا لا نملك مدفعية لنطلقها ترحيبا بك، ولكن أصوات فرقعات الإيدروجين هي تعبير عن احتفائنا بك.
وكما هو معروف فقد أدى تصويت السيد “سان لو” إلى فقدانه منصب “المندوب الدائم لجمهورية هايتي في الأمم المتحدة”، ذلك لأنه قد تم خلافا للتعليمات المحددة التي استلمها من حكومته، وقد قامت الحكومة الليبية –في وقت لاحق- بتعيينه في منصب مستشار للوفد الليبي بالأمم المتحدة، وخصص له راتب يمكنه من مواجهة أعباء الحياة. كان المنصب تكريمي إلى حد بعيد، فلم يكلف السيد “سان لو” بممارسة أي عمل، ولكنه كان يتيح له –علاوة على مرتبه- الحصول على بطاقة تمكنه من دخول مقر الأمم المتحدة والاستماع لما يدور من مناقشات، وهو أمر –كما علمت منه – كان يحبه كثيرا، وكان يربطه بالمنظمة الدولية.
بعد الانقلاب مباشرة، وضمن الحملة على الاستقلال واعتباره استقلالا مزيفا، والتنكر لكل من ساهم في تحقيقه، ألغيت كل مظاهر التكريم التي كانت الدولة الليبية قد قدمتها للسيد “سان لو”، بما في ذلك رفع اسمه من على الشارعين في طرابلس وبنغازي، واتخذت سلطات الانقلاب قرارا بقطع المرتب الذي كان مخصصا للسيد “أميل سان لو”. لكن بعض العاملين في الخارجية (على رأسهم الأستاذ منصور الكيخيا الذي شغل آنذاك منصب وكيل وزارة الخارجية) قاموا بدور نشط للتصدي لهذا القرار، ونجحوا في إيقافه، والحيلولة دون تنفيذه.
وقد كان للسيد “سان لو” موقف سابق، عندما أجبرته تعليمات بلاده على التصويت إلى جانب مشروع القرار القاضي بتقسيم فلسطين، فما كان منه إلا أن استخدم حقه في شرح التصويت موضحا أن “قيم الحق والعدل كانت تدعوه إلى رفض قرار التقسيم، ولكن تعليمات حكومة هايتي قضت بأن يصوت إلى جانب هذا القرار”. وهو ما تسبب له في مشاكل مع حكومته، لكنها أبقته في منصبه نظرا لكفاءته.
أما موقفه من قضية استقلال ليبيا الذي خلد اسمه في نفوس الليبيين، فقد كان موقفا شجاعا بكل ما تعنيه الكلمة؛ فلم يكن فقط مخالفا لتعليمات حكومته، ولكنه أيضا إخلالا بموقف موحد اعتمدته كتلة أمريكا اللاتينية (التي تنتمي إليها هايتي)، كما أنه كان بمثابة تحد لضغوط الدول الغربية النافذة وعلى رأسها بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والولايات المتحدة، علاوة على أنه قد جاء مغايرا لتصويته –هو نفسه- في اللجنة السياسية المعنية ببحث القضية الليبية كما سنرى.
===================
يـتـبــع الحلقة الثانية
===================
[1] السفير “جميل البارودي” كان من أبرز المتحدثين والخطباء من بين وفود الدول، وكان نائبا للمندوب الدائم للمملكة العربية السعودية، وهو لبناني مسيحي كان قد عمل مع الملك فيصل عندما كان الثاني مندوبا للمملكة في الأمم المتحدة عند تأسيس المنظمة. وجدير بالذكر أن منصب المندوب الدائم للسعودية أبقي خاليا ولم يتم شغله إلى أن تقاعد البارودي من العمل. والسفير البارودي شخصية مرموقة في دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا يكاد يخلو بند من البنود الهامة يخلو من كلمة له، كذلك معروف بسخريته المذقعة مع خصومه ، وكان يتحرك بين اللجان المختلفة والاجتماعات العامة للجمعية ومجلس الأمن، ويشارك في المناقشات بأسلوبه الأخاذ وبلغته الرصينة وطريقة إلقائه الدرامية.
اكتب تعليقا عن المقالة