إبراهيم عبد العزيز صهد..
تخرج من الكلية العسكرية الليبية عام 1963، وكان ترتيبه الأول على دفعته (الدفعة الخامسة).
عمل ضابطا بالجيش الليبي خلال الأعوام 1963 – 1969 : مدرسا في مدرسة المخابرة، ورئيسا لجناح [...]
img>كما توقع السيد “سان لو”، فلم تكفنا جلسة واحدة. كان يتحدث عن المنظمة الدولية ويكثر من التعريج على طبيعتها ، وما يدور فيها من مناورات. كان ذهنه حاضرا دائما، وبدا لي في معظم الوقت مستمتعا بالذكريات والأحداث التي يرويها، وكان يطل –من حين إلى آخر- إلى كراسة كان قد دون فيها ملاحظاته، ولكن جل حديثه كان من الذاكرة.
على مدار ثلاث جلسات تركت السيد سان لو يتحدث واكتفيت بالاستماع مخافة أن أقطع تسلسل ذكرياته، كان يتوقف بين الفينة والأخرى ويغرق في صمت طويل، ثم يعود من جديد للحديث وكأنما لم يتوقف:
كانت تعليمات حكومتي واضحة ومشددة وتقضي أن نصوت إلى جانب المشروع البريطاني، وتحديدا كانت التعليمات تشير إلى أمرين: ضرورة تأييد الوصاية الإيطالية على طرابلس، وضرورة التصويت مع كتلة دول أمريكا اللاتينية. كانت المسألة بالنسبة لي واضحة، فهذا شعب قاوم الفاشية يتم إخضاعه لنفس القوة التي كانت تحتله وتنكل به، وهذا شعب شارك مع الحلفاء في تحرير بلاده ثم يقال له أنت أهلا لأن تقاتل، وأهلا لأن تتحالف معنا، ولكنك لست أهلا لأن تكون مستقلا، وإنما يجب أن توضع تحت وصاية من تحالفت معهم، بل تحت وصاية الدولة التي قاومت استعمارها طويلا. كانت المسألة لعبة استعمارية قذرة. لكن التعليمات كانت واضحة جدا لا لبس فيها، وكان الأمر ثقيلا جدا على نفسي، فإما أن أنفذ التعليمات على حساب ضميري، وإما أن أتصرف منفردا، وهو أمر كنت أراه كبيرا فأنت لن ترى مندوبين يصوتون ضد التعليمات الصريحة لحكوماتهم، لا أعرف حالة واحدة حدث فيها هذا الأمر. ولهذا فلم يكن الأمر سهلا بالنسبة لي.
كنت أعرف شيئا عن تاريخ ليبيا، خاصة تحت الحكم الإيطالي، وقد قرأت قليلا عن مقاومة الليبيين للمحتلين، وقرأت أيضا عن التحالف الذي أبرمه الملك إدريس مع البريطانيين وشاركت بموجبه قوات من الليبيين في القتال إلى جانب الحلفاء. كل ذلك كان يدعوني إلى مراجعة موقفي يوما بعد يوم، وإلى موازنات كثيرة تقودني دائما إلى نقطة البداية، إلى نقطة الخيار الصعب بين موقفين يتناقض أحدهما مع الآخر ولا سبيل للتوفيق بينهما.
وكنت أتابع الحركة الدائبة والاتصالات النشطة التي كان يقوم بها أعضاء الوفد الذي مثل الليبيين وكنت أتعجب منهم، فهؤلاء رجال لا يمتلكون من الخبرة والدراية للتحرك في أوساط المنظمة الدولية، لكنهم مع ذلك كانوا يتحركون بين الوفود المختلفة، وكانت حركتهم واتصالاتهم نشطة وواضحة في أروقة الجمعية العامة، بل أنها كانت مزعجة في بعض الأحيان. ثم جاء الخطاب الذي ألقاه “عمر شنيب” وكان مؤثرا جدا، وقد سجلت مقاطع منه في ملاحظاتي، وأذكر منه أنه مزج مطالبته بالاستقلال فورا مع الرفض الكامل لعودة إيطاليا إلى أي جزء من ليبيا وتحت أي مسمى، وقد أشار “شنيب” إلى مقاومة الليبيين للاحتلال، ومشاركتهم للحلفاء في تحرير بلادهم، مما يؤهلهم لأن يكونوا شركاء مع الحلفاء في إرساء السلام والأمن لا أن يوضعوا تحت الإدارة الأجنبية خلال السنوات اللاحقة للحرب، واستنكر مخططات الوصاية والتقسيم. كانت كلمته مؤثرة جدا وتدل على وعي ودراية، لكنها لم تكن كافية فالدول الأعضاء تحركها مصالحها، والوفود تصوت بموجب هذه المصالح ووفقا لتعليمات حكوماتها.
كان صديقي الدكتور العنيزي أول من اتصل بي من أعضاء الوفد الليبي، التقيت معه –لقاءات عابرة- عدة مرات في المقهى، حيث كان ملتقى لأعضاء الوفود في الوقت بين الجلسات، وتبادلنا أحاديث عابرة لم تخرج عن التعارف والمجاملات. في أحد الأيام قال لي إنه يريد أن يتحدث معي حول القضية الليبية، فقلت له تفضل، لكنه ابتسم وهو يقول أنت ترى أن هذا المكان يعج بالناس، وربما الأفضل أن نلتقي في مكان آخر. هكذا كان لقائي الأول معه، وتحدث معي طويلا عن القضية الليبية، كان يتحدث بحماس وإقناع، ولا أنسى أنني كنت مأخوذا بطريقة طرحه واندفاعه، لقد كان يحادثني كأنه يعرفني منذ زمن، وكان يؤكد لي بين كل جملة وأخرى أن الليبيين في حاجة إلى من يقف معهم. قلت له إنك لن تزيدني قناعة بعدالة مطالبتكم بالاستقلال، فكل شعوب العالم تستحق أن تستقل، لكن قضيتكم تواجه تحالفا من دول أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية، وهذا التحالف يؤيد الوصاية، ولذلك فإن المشروع البريطاني سيجاز من اللجنة السياسية، وسيجاز أيضا في الجمعية العامة، قلت له أعرف أن الأصوات قريبة ولكن كل الحسابات تؤكد أن البريطانيين صاغوا مشروعهم بدهاء ليضمنوا تأييدا واسعا. لكن العنيزي تجاهل ما أرمي إليه، وقال لي ولكن كيف ستصوت أنت؟ هذا هو المهم، فكلامك يدل على أنك تتعاطف معنا، فكيف سيكون موقفك؟. قلت له إن تعليمات حكومتي واضحة وسوف أصوت تبعا لتعليمات حكومتي. وأشد ما هزني هو جرأته فقال لي لكنك لم تقل ما هي تعليمات حكومتك؟. تجاهلت سؤاله، وأحببت أن أنهي اللقاء فابتسم ابتسامة عريضة وسلم علي بحرارة وهو يقول لنا لقاء آخر فمازال في الوقت متسع.
في اليوم التالي، وجدت العنيزي في انتظاري عند مدخل قاعة اللجنة السياسية، وبادرني بالقول إنه كان ينتظرني، وعبر لي عن سعادته بالحديث معي البارحة، وقال بأنه هو وزميله “عمر شنيب” يرغبان في اللقاء معي. كنت أعرف أن الرجلين جاءا في وفدين منفصلين، ولكنني لم أندهش لرغبتهما المشتركة في اللقاء معي لأن حديثهما أمام اللجنة السياسية كان متقاربا ومتطابقا، فأجبته لرغبته واتفقنا على تحديد موعد للقاء خارج مقر الأمم المتحدة.
أذكر أنني عندما علمت بوفاة السيد “عمر شنيب” حزنت كثيرا وعرفت أن ليبيا فقدت رجلا مخلصا. فبقدر ما أذهلتني جرأة العنيزي واندفاعه وحماسه، فقد هزني أيضا حرص شنيب على أن يحيطني بقدر واف من المعلومات عن كفاح الليبيين ومشاركتهم مع الحلفاء، وعن تطلعهم للاستقلال وبناء دولة يقودها الأمير إدريس السنوسي. كان شنيب عندما يحادثني ينفعل بين الفينة والأخرى فيحمر وجهه وتنفر عروق جبهته وتتغير نبرة صوته، كانت كلماته سريعة ومتدفقة. ولم يترك لي الرجلان أي مجال للرد إذ بادرني شنيب قائلا إن حديثك مع العنيزي أمس أقنعنا بأنك صديق ومؤازر لقضيتنا، فاسمح لنا بأن نتعامل معك على هذا الأساس، ونصارحك بأننا قررنا توحيد[1] وفدينا وتكليف العنيزي بالحديث باسمنا، فهل ستؤيد قرارا يسمح لنا بالحديث أمام اللجنة السياسية؟ قلت له فورا نعم، فابتسم وقال هذه بداية طيبة، واستطرد، لكن كما تعرف فإن توحيد الوفدين قد يثير قوى ضدنا ولذلك فلن نعلنه إلا حين نقوم بطلب الكلمة، وأخبراني أن هناك دولة تعهدت بتقديم مشروع قرار يسمح لهم بالحديث[2]. وأدركت مرامي الرجلين، فهما بذلك يزيدان في الألفة بيننا بما يمكنهما من معاودة الحديث معي. وقبل أن تنتهي المقابلة، قال لي شنيب لا تبخل علينا بالنصيحة فنحن نحتاج إلى نصيحة من هم مثلك. فشكرته على ثقته بي، وقلت له ليس لدي الكثير الذي أستطيع أن أنصحهم به. كنت أقول في نفسي إن معجزة فقط قادرة على تحقيق رغبة هذين الرجلين اللذين يتحركان بإخلاص وتفاني.
هذه اللقاءات جعلتني أفكر كثيرا فيما عساي أفعل، ربما قد زودتني بدفعة من التصميم، وربما قد أكدت ما يعتمل في نفسي من أن الشعب الليبي من حقه أن يستقل. هذه المقابلات زادت في تأجيج ما يدور في داخلي، هل أصوت تبعا لرأي عقلي وضميري، أو أصوت بناء على تعليمات حكومتي؟. وكان السؤال الملح الذي يراودني هو هل يمكن لصوتي أن يحدث فارقا، ويكون مؤثرا. ثم ما عساه يكون موقف حكومتي؟.
كنا نقترب من التصويت على مشروع القرار البريطاني في اللجنة السياسية، وكانت كل الدلائل تفيد بأن المشروع سيجتاز اللجنة السياسية. جاءني العنيزي، وأبلغني أنه هو وعمر شنيب يرغبان في اللقاء معي. فالتقينا في مطعم قريب وبادرني العنيزي بالسؤال هل حزمت أمرك يا صديقي، وهل ستصوت معنا؟، وبدون شك فقد وجدت السؤال بعيدا عن لغة الدبلوماسية، ولكنني وجدته سؤالا عفويا ومخلصا، ومع ذلك فقد نظرت إلى شنيب مستنجدا، فقال لي لا تلمنا فنحن وراء قضية تواجه مصاعب وتتطلب أصدقاء، وقد وجدنا فيك صديقا ونتعشم فيك خيرا، ولا زلت أذكر كيف أمسك شنيب بيدي وركز عينيه علي وقال لي إذا نجح المشروع البريطاني فلن يكون في استطاعة أصدقاء مثلك أن يساعدونا إلا بعد عشر سنوات، إنه استعمار جديد تحت مسمى الوصاية يا صديقي. هزتني كلماته، وأنا أعلم أن الصورة التي رسمها صورة حقيقية وبشعة لما تواجهه القضية الليبية. وساد صمت طويل قطعته أنا وقلت لهم سأقول لكم شيئا قد يثلج صدوركم ولكنه في نهاية المطاف قد لا يكون ذا فائدة للقضية. أنا متعاطف مع قضية استقلال ليبيا، ومستعد لمخالفة تعليمات حكومتي بالرغم من معرفتي المسبقة ما يعنيه ذلك على مستقبلي، ولكن هل هذا سيعني سقوط المشروع البريطاني، وحتى إن تم ذلك فما زال الكثير أمام استقلال ليبيا. وقلت لهما صوتي سيكون في صالح ليبيا في حالة واحدة إذا كان سيؤدي إلى سقوط المشروع البريطاني فعلا، أما إذا لم يكن الأمر كذلك فما الفائدة؟. وقلت لهما لا تتوقعوا مني هذا الموقف أثناء تصويت اللجنة السياسية لأنني سأصوت طبقا لتعليمات حكومتي، وبعدها سيكون لدينا وقت نقوم فيه بحساب أكثر دقة للأصوات ونعلم هل سيكون لصوتي فرصة لأن يكون مؤثرا، وسأدخر موقفي إلى تصويت الاجتماع العام للجمعية العامة. أما عمر شنيب فقد بدا على وجهه الارتياح وقال لي لن نطلب منك أكثر من ذلك، أما العنيزي فقد شد على يدي بكل حرارة وقال إنك يا صديقي لن تندم أبدا.
ثم انتقل “السيد سان لو” إلى الحديث عن فوز المشروع البريطاني في اللجنة السياسية، فقال بأن ذلك لم يكن مفاجأة، وكنا نتوقع أن المشروع سيحصل على أغلبية الثلثين المطلوبة لإيجازه بفارق بسيط، لكننا لم نكن نتوقع على الإطلاق أن يكون الفارق صوتا واحدا.
قلت له لو أنك أدليت بصوتك ضد المشروع لتم إسقاطه في اللجنة السياسية. فرد بأن الجميع كانوا يحسبون أن المشروع سينجح بأربعة أصوات على الأقل، ولم نظن بأن الدول الممتنعة عن التصويت ستكون بهذا العدد، كذلك فإن سقوط المشروع أمام اللجنة السياسية ليس نهاية المطاف لأن الدول التي تبنت المشروع سيكون لديها –حينئذ- وقتا للمناورة بإعادة طرح المشروع بنص جديد أمام الجمعية العامة، وقد يكونوا ضمن تحركهم قد سعوا للحصول على مزيد من التأييد من الدول الممتنعة بتقديم بعض التنازلات كأن يغيروا مدة الوصاية أو ما إلى ذلك، وإذا ما تم ذلك فأغلب الظن أنني لن أكون موجودا لأدلي بصوت هايتي، بل سيكون شخص آخر بدلي به، أو سأجبر على التصويت بموجب رأي حكومتي. ما تم في الواقع كان في صالح القضية إذ تأكدت الدول المتبنية للمشروع من حصولها على الثلثين، وصبت جهدها على تثبيت موقف الدول الممتنعة حتى لا تتحول إلى معارضة القرار، الأمر الذي خدمنا نحن أيضا وحال دون تحول هذه الدول من الامتناع إلى تأييد المشروع بتقديم أية حوافز لها.
==========================
يتبع … الحلقة الخامسة
==========================
[1] كان قرار توحيد الوفدين قد تم بعد أن اتفاق (بيفن – سفورزا)، ومعلوم أيضا أن هذا التصرف قد أغضب الإدارة البريطانية في برقة وطرابلس، وقد عمدت إلى احتجاز أعضاء الوفدين عند عودتهم من نيويورك، ثم أطلقت سراحهم بعدئذ.
[2] كانت الدولة هي بولندا، التي يبدو أنها كانت رأس الحربة للمعسكر الشيوعي في مجريات القضية الليبية.
اكتب تعليقا عن المقالة