إبراهيم عبد العزيز صهد..
تخرج من الكلية العسكرية الليبية عام 1963، وكان ترتيبه الأول على دفعته (الدفعة الخامسة).
عمل ضابطا بالجيش الليبي خلال الأعوام 1963 – 1969 : مدرسا في مدرسة المخابرة، ورئيسا لجناح [...]
img>عندما حطت بي الطائرة في مطار بنينا، يوم الثلاثاء 13 ديسمبر 2011، مر بي شريط من الذكريات عن المرات التي غادرت أو وصلت فيها إلى هذا المطار. ازدحمت الخواطر والذكريات، وبرز عام 1979 الذي شهد آخر مرة وصلت فيها إلى هذا المطار، كما شهد أيضا آخر مرة غادرت فيها ليبيا عن طريق هذا المطار. كنت عائدا في إجازة ولم أكن أحسب أن سيعقبها ابتعاد عن الوطن يمتد لأكثر من ثلاثين عاما.
غادرت ليبيا يوم كانت تئن تحت قبضة الطغيان والقهر، كانت قرارات مصادرة الممتلكات والأموال قد جاءت بعد مصادرة الحريات… بعد ارتكاب سلسلة من الإعدامات عام 1977، وبعد استحواذ الطاغية على كل مفاصل الدولة. كانت السجون ممتلئة بأحرار ليبيا، وكان التعذيب النفسي والجسدي يمارس في السجون وخارجها .. كانت وجوه الناس تعبر عن حالة من الخوف والترقب والقلق، وكان الحزن هو العنوان الذي يطالعك في كل بيت وشارع.
غبت عن بلادي لمدة ثلاثة عقود، لم يكن في مقدوري أن أعود حتى في زبارة خاطفة. كانت مغالبة الغربة تتزاحم مع مغالبة حكم جائر. كان الاختيار صعبا ولكنني اخترته .. اخترت غربة تحف بها مخاطر التصفية الجسدية، والغدر بالتسليم أو الاختطاف، ومصاعب العيش والبعد عن الوطن، وتربية الأولاد في أجواء ومناخات غريبة غالبة وأحيانا قاهرة. تمر بنا في الغربة أيام عجاف .. وتمر بنا أوقات مصيرية صعبة .. أصعب شيء أن تحمل مع همك هما آخر .. وأصعبها جميعا أن يكون الوطن في داخلك وأنت تعيش خارجه وتحمل همه..
ثلاثون عاما تنقلت أثناءها من بلد غريب إلى آخر أشد غربة، ومن بلد بعيد إلى آخر أشد بعدا … ثلاثون عاما كانت مغالبة أمواج اليأس العاتية، بنفحات قليلة من الأمل والتفاؤل، لكنها على قلتها كانت محملة بإيمان عميق وثقة في تقديرات المولى جلت قدرته، كما هي محملة بالرهان الدائم على الشعب الليبي. تتزايد حلكة ليل اليأس .. لكن شموع الأمل التي كانت الرياح تعصف بها من كل جانب ظلت متقدة ومتوهجة … لا تنطفيء ..
وجاءت الانتفاضة العارمة .. وتفجرت الثورة المباركة .. لتهزم الليل البهيم .. ليطل الفجر الأرجواني .. تشكله عطاءات الشهداء .. وترسمه دماؤهم .. عاش الليبيون كلهم أحداث الثورة .. وساهموا كل بما عنده .. وكان الفجر إيذانا بالعودة … عودة ليبيا إلى أبنائها .. والعودة إلى أحضان الوطن ..
عندما عدت –منذ أشهر- كانت أجزاء كثيرة من بلادنا ما تزال تحت حكم االطغيان .. كانت المعارك محتدمة في جبهات البريقة ومصراته وجبل نفوسة، وكانت الزاوية وتاجوراء وسوق الجمعة وفشلوم تنتفض المرة تلو الأخرى .. يومها لم تكن عودتي عن طريق الجو، بل عن طريق الحدود المصرية. رغم الفرحة يومها بمعانقة تراب الوطن إلا أن شعورا لم أستطع مغالبته بأن السيادة لم تكتمل بعد .. وأن الحرية لم تعم كل الوطن… الرحلة الطويلة كانت تمر عبر أرض تتحرر .. وكانت وجوه تقابلنا بالبشر والتفاؤل .. رغم المحن .. رغم قوافل الشهداء .. رغم ضيق العيش .. كانت الوجوه ترسم معالم مستقبل زاهر.. فارق كبير بين 1979 و2011.. الفارق المعنوي كان يتجاوز الفارق العددي .. سنوات الغربة الطويلة آن لها أن تنقضي ..
هذه المرة أعود عن طريق مطار بنينا .. يذكرني هذا المطار بملحمة صنعها ثلة من نسور الجو الليبيين .. عندما حولوا طائرات قديمة متهالكة إلى مقاتلات طاروا بها للذود عن بنغازي .. قدموا الشهداء .. وشاركوا في الثورة بكل عزيمة … يوم زرتهم لأشد على أياديهم .. هالني أن أرى تواضعهم ونحن نستعيد ما صنعوه .. كان استقبالهم بسيطا معبرا .. بساطة شجاعتهم الفائقة .. ذكروني بلمحمة بنغازي .. وبذلك اليوم الذي أطل منه غول الأرتال المتقدمة نحو المدينة العصية …
قطع على ربان الطائرة التركي خواطري وهو يعلن الهبوط في مطار بنينا .. والطائرة تسير على المدرج … ومن النافذة كنت أسرح النظر .. وكان قلبي يخفق بشده .. وكنت أغالب شيئا من الدموع .. وكأنني أعود إلى الوطن لأول مرة .. لكنها حقا كانت أول مرة أعود فيها إلى الوطن وقد تحرر من بحره إلى صحرائه ومن شرقه إلى غربه ..
ليس أحلى من العودة إلى الوطن إلا العودة إليه وقد تحرر. ..
ومن النافذة رأيت بعضا من رفاقي الذين كانوا ينتظرونني على أرضية المطار .. بعضهم كان هناك أيضا على الحدود الليبية المصرية لاستقبالي منذ أشهر خلت .. قلت في نفسي كيف هو الوطن بدون هذه الوجوه الطيبة !! .. كيف هي ليبيا بدون فرحة أبنائها .. وبسماتهم على الشفاه … كيف هي ليبيا بدون أمل يرتسم على الوجوه .. وتفاؤل يعيد الثقة .. كيف هي ليبيا بدون الليبيين .. هم ملح هذا الوطن .. وهم نكهته .. هم عماده .. هم من قاسوا طويلا .. وضحوا .. وثاروا .. وقدموا الغالي والمرتخص .. هم من يحق لهم أن يتمسكوا بأهداف ثورتهم .. وأن يجنوا ثمار تضحياتهم … أن تكون ثورتهم كما أرادوها … وأن تكون أهدافها هي التي رسموها.
بالله عليكم .. لا تطفئوا هذه البسمة .. ولا تئدوا هذا الأمل .. ولا … لا تسمحوا للمصالح الشخصية الضيقة أن تفسد الفرحة وتعود بالنفوس إلى زمن التسلط … لا ترهقوا الليبيين .. فقد تعبوا من الركض إلى غير هدى بسبب تسلط الحكام .. لا تسمحوا بسرقة الثورة … لا تفرطوا في دماء الشهداء .. ولا تستهينوا بتضحيات الليبيين ..
وبالله عليكم … بالله عليكم .. لا تفسدوا فرحة الليبيين ببلادهم التي استعادوها .. لا تحاولوا أخذها منهم …. فلن تستطيعوا.
اكتب تعليقا عن المقالة