أقباس من سيرة الإمام المجاهد السيد أحمد الشريف السنوسي*

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لتهتدي لولا أن هدانا الله .. لقد جاءت رسل ربنا بالحق.

أيها الإخوة والأخوات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

منذ فترة كنت أقرأ مذكرات “جعفر العسكري”  .. وفيها وصف لمعسكر المجاهدين … ولكتيبة خاصة تخضع للقيادة المباشرة للسيد أحمد الشريف.

ورد في المذكرات عن هذه الكتيبة:

” كانوا جميعا يعدون أربعمائة من طلبة العلم وحفظة القرآن، … وكانوا مسلحين بأحدث الأسلحة….. ووظيفتهم المحافظة على حياة السنوسي، .. وإقامة الحرس في أطراف الزاوية السنوسية، … وكانوا يرتلون القرآن بصوت جهوري مدة الحراسة  …… ولم يخل ذلك من التأثير العظيم في كل من يشهد ذلك الخشوع والإجلال”

ذكرني هذا المشهد الخاطف الرائع بمشهد آخر رواه لي الشيخ “مصطفى المصراتي” … الذي كان ضمن هذه القوة الخاصة المتميزة،

قال الشيخ مصطفى المصراتي:

“كنا في معية السيد أحمد نتبادل نوبات الحراسة … وكنا نقضي فترة الحراسة بتلاوة القرآن الكريم، … وعندما كانت تنقضي نوبة أحدنا فإنه يسلم لمن يليه شيئين: … سلاح الحراسة … والآية التي وقف عندها، … فيتابع المناوب الجديد القراءة من حيث وقف سابقه …  وهكذا …… كان لكل نقطة حراسة ختمتها المنفصلة …. والله وحده يعلم كم مرة ختمنا القرآن.”

ويواصل الشيخ مصطفى المصراتي:

” كنت مناوبا في إحدى ليالي الجبل الأخضر الشاتية .. وكان الجو شديد البرودة .. وكانت أمطار غزيرة قد هطلت ،  فأحالت المنطقة إلى برك وأوحال … وكنت قد بلغت في تلاوتي آية سجدة .. فنظرت حولي .. الأرض موحلة .. والبرك في كل مكان .. والبرد شديد .. خملت نفسي وتكاسلت، … فلم أتوقف للسجود، … وواصلت التلاوة … فإذا بصوت السيد أحمد يناديني من داخل الخيمة قائلا … (اسجد أيها القارئ) … فسجدت …. العجيب أنني لم أجد في سجودي أثرا للوحل أو للبلل ….. فقد قيض الله لي أرضا جافة سجدت على أديمها…

في اليوم التالي بعد صلاة الفجر … تحدث إلينا السيد أحمد عن حكم سجود التلاوة .. ووجوب طاعة الله في المنشط والمكره … دون أن يذكر شيئا عن سبب موعظته ….

وقد اكتشفنا –بعدئذ- أن السيد أحمد كان يتابع قراءتنا .. ويصحح للمخطئ …… أو يفتح على الناسي … فسألناه كيف تبقى صاحيا دون أن تنام؟ … فقال لنا بل كيف أنام والقرآن يتلى على مسمعي؟!!!”

أيها الإخوة والأخوات

نلتقي اليوم في رحاب شخصية فذة .. جمعت المجد من أطرافه .. وارتقت في سؤدد السمو .. وحق للتاريخ أن يحفل بها ..

لقاؤنا اليوم في رحاب إمام مصلح .. وعالم جليل .. ومقاتل صنديد .. وقائد مجاهد … وقف عمره على الجهاد في سبيل الله .. بكل وسيلة أتيحت له، .. وفي كل أرض حل بها،،

في هذا اللقاء نحل ضيوفا على الإمام المجاهد السيد أحمد الشريف السنوسي ..

ولا أحسب أن لقاءنا هذا سيكون من أجل التأريخ فحسب، …  وإن كان التاريخ هو جزء من مادته .. ذلك لأن التاريخ الذي خلفه لنا السيد أحمد حفل بأعمال عظيمة، ….  تتطلب الوقفات معها زمنا لا يسعه لقاؤنا هذا… شملت هذه الأعمال ميادين شتى .. طلبا للعلم ونشرا له .. ودعوة إلى الإسلام في  مختلف بقاع الأرض .. وجهادا في سبيل الله .. وسعيا في مصلحة الأمة ورفعتها ..

وإذا كان الوفاء والإنصاف أحد مقاصد وأهداف هذا اللقاء، .. إلا أنني لا أظن بأنه سيكون في إمكاننا –في هذه العجالة- أن نفي هذا الإمام المجاهد … ما هو أهل له من إكرام وتقدير .. ولا أن نعطي جهوده العظيمة، وجهاده المخلص ما ينبغي من تثمين وتقييم.

لكنني جئت إلى هذا اللقاء …. وفي نفسي رغبة وأمل ..  أن ننهل جميعا من سيرة السيد أحمد الشريف .. وأن نستوعب شيئا من الدروس والعبر .. وأن نغترف من ذلك المعين الذي لا ينضب،  مما تحلى به، رحمه الله :

من حرص وصبر ….. وتحمل للشدائد،

ومن عزيمة ماضية على سلوك طريق الجهاد،

ومن إصرار على المبدأ….. وتمسك بالثوابت ورفض التهاون مع العدو أو مهادنته،

ومن قيادة رشيدة … ضربت القدوة والمثل…. وقدمت صورا رائعة في الجسارة والإقدام … والبذل والعطاء،

ومن إيثار وتضحيات جسيمة، من أجل القضية التي تصدى لحملها والذود عنها.

قال عنه محمد أسد في كتابه “الطريق إلى الإسلام”:

“ما من رجل ضحى بنفسه تضحية كاملة مجردة، عن كل غاية في سبيل مثل أعلى، كما فعل هو…. لقد وقف حياته كلها، … عالما ومحاربا، على بعث المجتمع الإسلامي بعثا روحيا، …. وعلى نضاله في سبيل الاستقلال السياسي”

وقال عنه شكيب أرسلان في “حاضر العالم الإسلامي:

“اتحاد الكلمة على نزاهة هذا الرجل، وتجرده عن المآرب الشخصية،….. وعزوفه عن حظوظ الدنيا، وانصراف همه كله إلى الذب عن بيضة الإسلام بدون غرض سوى مرضاة الله ورسوله، وحفظ استقلال المسلمين”

أجل .. لقد كانت حياته مشوارا واحدا، لا راحة فيه ولا هوادة … مر فيها بمراحل متعددة:

بدءا من جده واجتهاده طلبا للعلم،

ومعاونته لأستاذه وعمه الإمام المهدي، خاصة أثناء حرب السنوسية مع الفرنسيين، …

ثم توليه قيادة الحركة السنوسية، بدءا من العام 1902 في ظروف بالغة الحرج،….

وتأسيسه وقيادته لحركة الجهاد ضد الطليان، ….

وحتى بعد أن اضطر لمغادرة البلاد، استمر في متابعة حركة الجهاد، والعمل على تأمين ما يستطيع من احتياجات المجاهدين… ولعل المهمة التي أوكلها إلى محمد أسد هي إحدى صور هذا الجهد، الذي كان السيد أحمد  يبذله من المنفى لتقديم الدعم إلى المجاهدين،

ولم تنقطع مراسلاته مع المجاهدين، حتى السنوات الأخيرة من الجهاد…. وتدل المراسلات التي وثقتها كلية آداب جامعة الكويت، في حوليتها الأولى .. على استمرار هذه المكاتبات حتى بعد استشهاد شيخ الشهداء عمر المختار، وعلى احتوائها على توجيهات إلى المجاهدين …. خاصة الرسالة المؤرخة في 16 جمادى الآخرة 1350هـ، التي انتدب فيها السيد أحمد…. المجاهد الكبير يوسف بورحيل المسماري لتولي القيادة بعد استشهاد عمر المختار.

ولم يمنع انشغال السيد أحمد الشريف بالقضية الليبية، من أن يهتم للقضايا الإسلامية الأخرى … فكان دعمه الكبير للمقاومة التركية إبان الغزو اليوناني لها خلال الحرب العالمية الأولى ….. وكان جهده التعبوي واضحا ومؤثرا وتكلل بالنجاح، ….. فكانت خطبه ونداءاته …. التي تحث للقوات التركية على الصمود في وجه غزو اليونان، .. وتحث الأتراك على الاتحاد في وجه هذا الخطر ..

كذلك نجح في عقد معاهدة سوت الخلاف الحدودي الذي كان مستحكما بين الإمام يحي في اليمن…. وأمير عسير الحسن الإدريسي … والملك ابن سعود (نص المعاهدة في كتاب “الفوائد الجليلة” لمؤلفه عبد المالك بن علي).

دارت هذه  الأعمال والجهود فوق أراضي قارات ثلاث .. وفي ظروف بالغة الخطورة والصعوبة .. تض

تظافرت فيها قوة الأعداء .. مع ضعف الأصدقاء وقلتهم .. ونقص في العتاد والعدة والمؤونة …

حارب السيد أحمد على ثلاث جبهات، واجه أقوى ثلاث دول في ذلك الوقت (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا)،  .. فلم تلن قناته .. ولا خارت عزيمته .. واستمر يرفض الصلح مع العدو … ويرفض مهادنة هذا العدو ….. جاء في رسالة وجهها السيد أحمد إلى القائد التركي (أنور):

“نحن والصلح على طرفي نقيض .. ولا نقبل صلحا بوجه من الوجوه، إذا كان ثمن هذا الصلح تسليم البلاد إلى العدو” هذه الرسالة مثبتة في كتاب “تاريخ ليبيا الحديثة”  للدكتور محمد فؤاد شكري.

وقد حدد السيد أحمد الشريف بدقة …. الثوابت الوطنية التي ينبغي عدم التنازل عنها … كما حدد دوره ومسؤولياته في إطار هذه الثوابت… هذا ما أثبته أكثر من مرجع وخاصة “حاضر العالم الإسلامي”:

“عدم القبول بأن تكون القوة العسكرية في أيديهم، ولا أن تكون الشرطة منهم، ….. لا تنازل عن حقوق الملكية  وسلاحنا لا بد أن يبقى بأيدينا … فلا سلام ولا كلام، لأن طرابلس وبرقة ليستا ملكي لأجود بهما على الطليان، بل هما ملك أهلهما”

أيها الإخوة والأخوات

حري بنا في هجرتنا هذه .. وفي مغالبتنا للظلم والقهر .. وفي دفاعنا عن الحق .. ومدافعتنا للباطل أن نستمد من سيرة الإمام المجاهد السيد أحمد الشريف … العبر والدروس:

… دروس العطاء والبذل والتضحيات

…ودروس مواجهة الخيارات الصعبة …

….ودروس التعامل مع القضية من منطلق المبادئ والثوابت الراسخة…. ….ودروس الجهاد  … والشموخ ….. والإباء …

وأختتم بما قاله “محمد أسد” عن السيد أحمد الشريف:

“كان يحمل اسما مشهورا في طول العالم الإسلامي وعرضه: السيد أحمد الشريف، إمام السنوسية. ما من اسم آخر أقض مضاجع الحكام الاستعماريين ذلك العدد الكبير من الليالي في شمالي إفريقيا، حتى اسم عبدالقادر الجزائري في القرن التاسع عشر أو عبد الكريم الريفي الذي كان شوكة قوية في جانب الفرنسيين، ذانك الاسمان مهما كانا خالدين، عند المسلمين كافة، لم يكن لهما إلا معنى سياسي، في حين أن السيد أحمد وطريقته كانت، إلى ذلك قوة روحية عظيمة”.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

________________________

  • ألقيت هذه الكلمة في ندوة أقيمت في لندن بتاريخ 16/6/2003 تحت إشراف مركز الدراسات الليبية.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.