هيكل والافتراء على التاريخ – المعلومات ومعركة الاستخبارات – الحلقة الرابعة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

لا يختلف اثنان على أهمية المعلومات الاستراتيجبة في مجريات الحروب عامة، والحروب الحديثة بشكل خاص. ولهذا تحرص الدول على المعلومات بركائز أربع:

  •     الحصول على المعلومات الصحيحة.
  •       وأن يُحصل على المعلومة في وقتها.
  •       اتخاذ تدابير وترتيبات تمكن الاستفادة من المعلومة واستثمارها.
  •      إجراءات الوقاية من التجسس وحرمان الأجنبي –وبالأخص العدو- من الحصول على المعلومات.

 

من أجل ذلك تفعل الحكومات كل ما يمكن بدءا من بث العملاء والجواسيس وانتهاء بعقد الصفقات والاتفاقيات مع الدول الأخرى للتعاون في مجال تبادل المعلومات. وفي هذا الصدد نجد أن إسرائيل قد نجحت أيما نجاح في الركائز الأربع، حصلت على معلومات حيوية في وقتها واستثمرتها، ومنعت عدوها من الحصول على معلومات. سخرت لذلك كل إمكاناتها وقدراتها، وعقدت الاتفاقات المكتوبة وغير المكتوبة. أما على الجانب العربي فنجد فشلا ذريعا، في الحصول على المعلومات في الوقت المناسب، وفي إحسان استثمارها، وفي حماية الأسرار الاستراتيجية من سطوة العدو.

في مجال الاستخبارات والتجسس، ليس هناك من شك في أن إسرائيل قد تمكنت من إقامة علاقات تعاون استخباراتي متينة مع الولايات المتحدة ومع غيرها من الدول. الاستخبارات عادة يتم تبادلها، وهي لا تعطى مجانا. ونحن نعرف الآن ما لم نكن نعرفه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. نعرف أن المخابرات الإسرائيلية بكل فروعها “الموساد والشافاك وأمان” تعد من أكفأ أجهزة المخابرات في العالم، كما بتنا نعرف بحجم الاختراق الذي تمكنت “الموساد” من تحقيقه في عدد كبير من الدول العربية وعلى الأخص في دول الجوار (مصر وسوريا ولبنان والأردن)، وعلى أعلى المستويات السياسية والعسكرية. هذا الاختراق كان على أيدي جواسيس تمكنوا من الوصول إلى أكثر المواقع الاستراتيحية حساسية، وإلى مواقع القيادات العسكرية والسياسية . لقد ذكر السيد هيكل اسمين فقط من عملاء “الموساد” الكثر المنتشرين في الدول العربية، ذكر (ولفغانغ لوتز وإيلي كوهين)، وهما من أخطر الجواسيس فعلا، لكنه أغفل جاسوسا لا يقل عنهما خطورة إن لم يبزهما في مقدار ما قدمه من خدمات ومعلومات لإسرائيل، وما أحدثه من ضرر لمصر، بل إن هذا الجاسوس وما قام به قد يُفسِّر إلى حد كبير ما حدث في الخامس من يونيو، وكيف تصرفت إسرائيل في ذلك اليوم تصرف العارف بكل دخائل القوات الجوية المصرية. هذا الجاسوس هو “باروخ نادل”.

وفي الواقع فإنه مهما تقدمت تقنية الاستخبارات والتجسس إلا أن العنصر البشري الموجود على الأرض يظل ركيزة أية معلومات ذات قيمة خاصة إذا تمكن من وضع نفسه في الدائرة المناسبة لالتقاط المعلومات الحيوية والحساسة. لكن “كوهين” و “باروخ نادل” لم يتمكنا من التواجد في دائرة التقاط المعلومات فحسب، ولكنهما تمكنا في أحيان كثيرة من وضع نفسيهما في محيط دائرة اتخاذ القرار. وفيما جرى الكشف عن “كوهين ” وأعدم في سوريا، إلا أن “باروخ نادل” قد أنهى مهمته إلى آخر لحظة ثم غادر القاهرة على متن الخطوط التركية صبيحة الخامس من يونيو دون أن يقبض عليه.

باروخ نادل قدم روايته في كتاب سماه “وتحطمت الطائرات عند الفجر“، صدر هذا الكتاب بعيد حرب يونيو. هو كتاب كتبه جاسوس ويمكن تصنيف بعض ما جاء فيه على أنه مبالغات تقع في دائرة الحرب النفسية، لكن لا يمكن تجاهل معظم ما جاء في هذا الكتاب، خاصة وأن هناك ما يسندها مما كشفت عنه الأوساط المصرية نفسها في أوقات لاحقة، علاوة على أنه لم يقم حتى الآن أي من المسؤولين المصريين بتقديم تكذيب –مقبول- لما ورد في هذا الكتاب من معلومات خطيرة تكشف المدى والمستويات الذي بلغها الاختراق، وتوضح المعلومات الخطيرة التي تم الحصول عليها ونقلها إلى تل أبيب. قد نعود إلى هذا الكتاب في وقت لاحق، غير أننا في هذا المقام نوضح أن هذا الجاسوس أقام في مصر ما يقرب من 14 سنة بعد أن دخلها تحت اسم (مالك نوير) وزعم أنه تاجر تركي يتاجر بصفقات السلاح، وخاصة في معدات وتجهيزات السلاح الجوي، وتمكن من الوصول إلى أعلى مستويات القيادة المصرية، خاصة في قيادة السلاح الجوي وحتى في القيادة العامة ووزارة الحربية. يَدَّعي هذا الجاسوس أن علاقاته التي بناها وصفته التي انتحلها مكنتاه من التجول في كثير من المطارات الحربية المصرية، كان ضيفا دائما في نوادي وميسات الضباط، وكان مضيفا يقيم الحفلات ويختلق لها المناسبات. تمكن هذا الجاسوس من تزويد إسرائيل بمعلومات استراتيجية عن القوات المصرية، خاصة الطيران والمطارات الحربية، عن مدارج الإقلاع والهبوط، عن ضباط الطيران، عن عادات وتوقيتات السلاح الجوي المصري، عن المدارج الحديدية البديلة التي اكتشف أنها باتت صدئة بسبب انعدام الصيانة والإهمال الذي بلغ حد بقائها لسنوات عديدة دون أن تفرد وتطرح على الأرض، مما جعلها غير صالحة للاستعمال. معلومة حيوية حازت عليها إسرائيل، وعرفت أن مصر لن تستطيع تعويض المدارج بعد ضربها. ومما يدعيه هذا الجاسوس أيضا أنه رتب سهرة حضرها عدد كبير جدا من ضباط  سلاح الطيران المصري في الليلة التي سبقت الضربة الجوية الإسرائيلية واستمرت السهرة حتى الرابعة فجرا على حد قوله (أي قبل الضربة الإسرائيلية الجوية بساعات معدودة)!!. ويوضح كيف تمكن هو من مغادرة مصر على متن الخطوط الجوية التركية صبيحة الخامس من يونيو، واصفا المنظر الذي رآه من الجو بعيد إقلاع الطائرة للدخان وهو يغطي سماء القاهرة من المطارات المحترقة -خاصة مطار ألماظه الحربي- نتيجة للغارة الجوية الإسرائيلية.

هذا جاسوس واحد قررت إسرائيل الكشف عنه بعد أن احترقت أوراقه، وهناك غيره، وللأسف غيره كثير… ولعل المعلومات التي تتكشف من حين لآخر يوضح حجم الكارثة، ويوضح أن الاختراق لم يقتصر على  عملاء أوفدوا من الخارج، بل تعداه إلى عملاء جندوا من الداخل، ومن أكثر الدوائر السياسية والقيادية حساسية. هذا لم يكن متوقفا على مصر وحدها، وإن كان التركيز الإسرائيلي كان منصبا على دول الجوار وفي مقدمتها مصر.

إيرادنا لمثال “باروخ نادل” ولجزء يسير من دوره هو من قبيل توضيح أن هؤلاء الجواسيس على الأرض هم من أعطى جهاز “الموساد” شهرته، ودفع معظم أجهزة الاستخبارات إلى الاحتياط منه والسعي لإقامة صلات استخباراتية معه. ولهذا فإن القول بأن إسرائيل كانت عاجزة استخباراتيا لولا ما قدمته لها أمريكا من معلومات هو قول يفتقر إلى الدقة إن لم نقل إلى الصدق. هؤلاء الجواسيس، وأحدهم “باروخ نادل”، قاموا بعملية اختراق كبيرة، وهم من جعل الطائرات الإسرائيلية تقوم بمهامها في الخامس من يونيو بأقل الخسائر وبأكبر درجات الدقة والنجاح.

أما ما لم يتمكن هؤلاء الجواسيس من نقله إلى إسرائيل فقد تكفلت بالكشف عنه الصحافة والإعلام الناصري، ذلك أننا نعلم أن القيادة المصرية كانت تعد للمعركة وتخوضها من على صفحات الجرائد المصرية، خاصة الأهرام. كان حشد القوات في سيناء يتم بالخبر والصورة، بل إن السيد محمد حسنين هيكل شخصيا قد شارك في الكشف عن وإعطاء العدو الإسرائيلي معلومات حيوية عن مواقع تمركز القوات في سيناء وعن قياداتها والأسلوب الذي اتفق على اتباعه في تسلسل قيادة المعارك، بل أكثر من ذلك فإن السيد هيكل قد قدم للعدو الإسرائيلي –على طبق من صفحات الأهرام- شيئا أغلى من الذهب نفسه وهو الكشف عن نوايا القيادة المصرية. النوايا هي الجائزة الكبرى التي يرغبها كل عدو، وغالبا ما يفشل جواسيسه في معرفتها. نحن لا نتجنى على السيد هيكل ولكن دوره هذا مثبت وموثق في الأهرام نفسها وكذلك يقر به هو نفسه في أحاديثه في برنامج “مع هيكل” دون أن يرى أي غضاضة في هذا الدور. (قد نتحدث عن أمثلة عن دور هيكل هذا في وقت لاحق)

تجاه هذا الاختراق الكبير الذي حققته إسرائيل، نجد عجزا كاملا للأطراف العربية أن يكون لها أية نوافذ استخباراتية في إسرائيل، وهذا ما اعترف به السيد هيكل، وهذه بعض من الأمثلة عما قاله في هذا الصدد:

” بس اللي أنا عاوز أقوله إنه نحن لم يكن لدينا في الفترة ما بين 1956 لفترة 1967 عميلا واحدا له قيمة داخل إسرائيل، بينما كان لإسرائيل عندنا عشرات العملاء الألمان والصحفيين …… كثير جدا من الصحفيين اللي جاؤوا لنا كانوا في الواقع بيشتغلوا في أماكن أخرى”

“إحنا تعرضنا لاختراقات لم تتعرض لها إسرائيل لكن واحد لم يكن عندنا عملاء أبدا إلا في المسرحيات والمسلسلات …………. ولكن المخطط المصري وهو يضع خطته كان يضع خطته وهو في ظلام كامل”

“أنا بأعتقد أن كمية الاختراق اللي كانت موجودة في مجتمعاتنا كانت غير معقولة”

هذا ما يقر به السيد هيكل من عمليات الاختراق الكبيرة التي تمكنت إسرائيل من تحقيقها بزرع عشرات العملاء، وما رافق ذلك من عجز مصر (وغيرها من الدول العربية) أن تتمكن من زرع ولو عميل واحد “له قيمة داخل إسرائيل”. لكنه مع هذا يردد أنه لولا إمداد أمريكا لإسرائيل بمعلومات استخباراتية لما أمكن لإسرائيل أن تحقق ما حققته، ولما أمكنها أن تعرف شيئا عن القواعد والخطوط المصرية وكذلك “روتين العمل” في السلاح الجوي المصري، فهو يقول:

“إدوا صورا للقواعد وإدوا صورا للخطوط ولكن ما هو أهم في اعتقادي أنهم إدوا روتين العمل.”

فماذا كان يفعل “عشرات الجواسيس والعملاء” الذين زرعتهم إسرائيل داخل مصر، إن لم يستطيعوا إمداد إسرائيل بهذه المعلومات؟ وماذا كان يفعل “باروخ نادل” الذي تمكن من الدخول إلى قواعد جوية مصرية كما شاء ووقتما شاء؟ وهو الذي أبلغ إسرائيل عن أدق أسرار السلاح الجوي المصري؟.

لا ينبغي التباكي على أطلال الفشل في أن تخوض معركة الاستخبارات كما ينبغي: تزرع عملاء لك .. وتحصن ذاتك من الاختراق. ولا ينبغي البحث عن أسباب أخرى غير -هذا الفشل- أدت إلى ما تمخض عن المعركة في شقها الاستخباراتي، وما ترتب على ذلك من كوارث في المعارك البرية والجوية. ولا ينبغي المبالغة في حجم المعلومات الاستخباراتية التي قدمتها أمريكا لإسرائيل، في الوقت الذي تتحدث فيه المصادر عن أن أمريكا كانت تعتمد على إسرائيل في جزء كبير من معلوماتها عن القوات المسلحة المصرية كنتيجة طبيعية لتمكن إسرائيل من زرع عملاء لها في مصر وعلى مختلف المستويات محققة التجسس البشري الذي لا غنى عنه مهما تقدمت التقنيات. وحتى لا نستمر في خداع أنفسنا فإن نجاح إسرائيل في عقد صلة استخباراتية مع أمريكا ما كان يمكن أن يتم لو لم يكن لدى إسرائيل ما لا تستطيع أمريكا ان تحصل عليه.

على الطرف الآخر فيبدو أن النظام الناصري بعلاقاته المتشعبة مع الاتحاد السوفيتي لم يستطع أن يتحصل على معلومات استراتيجية عن إسرائيل في وقتها، بل إن المعلومة الوحيدة التي تحصلت عليها مصر من الاتحاد السوفيتي كانت تتعلق بالحشد الإسرائيلي على سوريا، وهي معلومة ثبت خطؤها واتضح أنها غير صحيحة حتى قبل أن تنشأ الأزمة وذلك حين أرسلت القيادة المصرية الفريق محمد فوزي إلى سوريا ورجع ليؤكد عدم صحة الحشود. فهل خَدعَنا حُلفاؤنا السوفيت أم أنهم –كما يؤكد السيد مراد غالب  في شهادته على العصر- هم الآخرون خُدعوا من تسريبات الموساد عبر العملاء السوفيت في إسرائيل؟ وبعد هذا الفشل المركب أو كما يقول إخواننا المصريون “الخيبة التقيلة”، بعد هذا هل يحق للسيد هيكل أن يلوم أمريكا .. ويتباكى بسبب نجاح إسرائيل في هذا الصدد، وهو يقر بكل صراحة أن مصر لم تستطع أن تعقد اتفاقيات في مجال الاستخبارات حتى مع الدول العربية “الشقيقة”، ولم تستطع أن تستثمر طبيعة الأرض على الحدود الأردنية الإسرائيلية، حيث تتمكن “المناظير البدائية” المتمركزة فوق مرتفعات “أم قيس” من رصد المواقع الإسرائيلية في السهول الواسعة حول بحيرة “الحوله” و بحيرة “طبريه”، وكان يمكنها أيضا رصد حركة الطيران الإسرائيلي. أما مثل هذه المواقع على هضبة الجولان ومن على جبل الشيخ، فتستطيع أن ترصد مساحات واسعة من الشمال والوسط الإسرائيلي، وتكون المدفعية المنصوبة فوق هضبة الجولان قادرة على ضرب مواقع وقواعد إسرائيلية في أنحاء شتى حتى شواطئ البحر، ناهيك عن الاستفادة من مواقع في الضفة الغربية للرصد والمراقبة . ترتيبات كهذه كانت تجعل إسرائيل كلها تحت المراقبة العربية، وكان يمكنها إعطاء إنذارات مبكرة وفي الوقت المناسب، وكان يمكنها رصد التدريبات الإسرائيلية على تنفيذ الضربة الجوية، وهي التدريبات التي استمرت طيلة الأعوام (57-67). كما كان يمكن لترتيبات في مجال العمليات والتنسيق من التعويض عن خسائر الطيران وضبط الأمور حتى يجري إصلاح المدارج وتعويض الطائرات، بضربات مدفعية مركزة من مرتفعات الجولان وأم قيس تستهدف القواعد الجوية الإسرائيلية، وخطوط مواصلات القوات الإسرائيلية المتحشدة على خطوط التماس مع مصر. لكن مصر فشلت في أن تقيم صلات عمل مع الأشقاء في الوقت المناسب. يوافقنا السيد هيكل في هذه الناحية، فيقول:

“في الأردن، الأردن بقربه من إسرائيل بإطلالة بعد (بعض) التلال فيه على إسرائيل كان يستطيع قوي أن يرصد قيام الموجات الأولى من الضربة ولكن هذا لم يكن ممكنا أن يتحقق في ظل الظروف التي كانت فيها علاقتنا بالملك حسين -قبل ما يجيء هنا مصر- مقطوعة وخناقات طويلة قوي وحكايات طويلة قوي”

لم يقل لنا السيد هيكل ما هي أسباب “قطع العلاقات والخناقات الطويلة قوي والحكايات الطويلة قوي”. مع الأردن، بل لم يخبرنا السيد هيكل هل للبصمة الأمريكية دور في هذه القطيعة؟ وماذا عن دور السياسات وأجهزةالإعلام الناصرية في هذه القطيعة “والخناقات”. وربما لا يكون مناسبا أن نسأل السيد هيكل عن دوره هو في الحملات الإعلامية التي أدت إلى هذه القطيعة وأججة نيرانها.

ونقول بأن يوم الخامس من يونيو كان يوم حصاد : طرف حصد نتائج عمل دؤوب لتحقيق أهداف محددة، وطرف حصد نتائج التراكمات التي خلفتها سياسات الخطب العنترية والمواقف المرتجلة والصراعات الداخلية واختلاق المعارك الهامشية، ولم يكن مجديا تدارك هذا الحصاد المر بإجراءات ارتجالية في أيام قليلة مع الأردن وغيرها. لم يكن في الإمكان –في أيام معدودة- تحويل سنوات من القطيعة والشتائم والتآمر إلى ثقة وعمل مشترك وتبادل للمعلومات،  فصدق في العرب المثل العربي القائل: “الصيف ضيعت اللبن”.

وللحديث بقية إن شاء الله

 

 

 

هيكل والافتراء على التاريخ – السلاح الأمريكي لإسرائيل قبل 1967 – الحلقة الثالثة

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم”  هيكل

حديث السيد محمد حسنين هيكل عن الدور الأمريكي في حرب يونيو 1967 متشعب ومتناقض في الوقت نفسه، ويتطرق إلى عدة نواحي ويشير إلى صور مختلفة لهذا الدور:

  • فهو يتحدث عن قيام أمريكا بتسليح إسرائيل بمختلف أنواع السلاح، التي عزا إليها أسباب الانتصار الإسرائيلي.
  • ويتحدث عن إمداد الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل بمعلومات استخباراتية من النوع الذي لم يكن في إمكان إسرائيل الحصول عليه لولا أمريكا.
  •  وعن قيام طائرات التجسس الأمريكية بالطيران فوق جبهات القتال وتصوير مواقع القطعات وتحركاتها، وإعطاء هذه المعلومات لإسرائيل.
  • ويشير أيضا إلى تقديم أمريكا لأعداد كبيرة من المتطوعين، الذين  قال بأنهم وصلوا بالفعل إلى إسرائيل –بطريقة أو بأخرى، وبعضهم عبر “قاعدة الملاحة- ويلاس”- وساهموا في المعارك منذ بداياتها.
  • ويتحدث عن الدعم السياسي والدبلوماسي غير المحدود الذي قدمته أمريكا لإسرائيل في المحافل الدولية، خاصة في مجلس الأمن.
  • وكل ما سبق يعتبره السيد هيكل في كفة لا ترجح كفة ما أسماه “البصمة الأمريكية”، وهو ما يزعمه من استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدة “الملاحة/ويلاس” أثناء هذه الحرب، وخاصة في الضربة الجوية الإسرائيلية، ويعتبر –تلميحا وتصريحا- أن ذلك كان السبب الرئيسي في نجاح الضربة الجوية الإسرائيلية، وإن كان يعترف أيضا بأن القوات الجوية الإسرائيلية قد قضت سنوات طويلة وهي تتدرب على خطط هذه الضربة الجوية، وعلى تنفيذها.

إن المتابع لأحاديث السيد هيكل لا يستطيع أن يتخلص من الشعور بأن كل الصور التي أشار إليها من تسليح، وتعاون استخباراتي، ودعم سياسي، ومتطوعين، ومن استقطاع لأجزاء من محاضر لقاءات مسؤولين أمريكان مع نظرائهم الإسرائيليين مع تعمد تغييب مقاطع أخرى، وغيرها مما حفلت به أحاديث هيكل، إنما يسوقها ويبالغ في وصفها وتقييمها من أجل إثبات المشاركة الأمريكية في الضربة الجوية انطلاقا من قاعدة “الملاحة/ويلاس”، أو “البصمة” التي احتاجت إلى خبير بصمات –مثل هيكل- لاكتشافها ثم لفك “طلاسمها”.

بيت القصيد في مقالاتنا هذه هو الرد على مزاعم السيد هيكل حول استخدام قاعدة “الملاحة/ ويلاس”، لأن هذا ما يهمنا كأكذوبة رددها السيد هيكل طويلا، ولا نظن أنه صدقها ولكنه يريد منا –ومن غيرنا- أن نصدقها. ما يهمنا هو هذه المزاعم التي يرددها السيد هيكل، والتي يدعي أن هناك “وثائق” تسندها وتؤكدها.  ولكن من الواجب قبل أن نخوض في هذا الأمر، وفي وثائقه التي يلّوح بها، أن نستبين بقية الصور الأخرى “للدور الأمريكي” التي أوردها السيد هيكل، خاصة وأنه –كما قلنا- يحاول حشد هذه الصور كقرائن تؤكد التدخل الأمريكي الذي يزعم أنه انطلق من ليبيا. وهذا يدعونا أن نستوضح بقية الصور ونقدم حولها ما هو معروف من الحقائق، ثم ندع للقارئ أن يقارنها مع ما أورده هيكل أو أغفله وغيَّبه منها، ثم نتساءل –بعد تبيين الحقائق- من ينبغي أن نلوم: إسرائيل أم أمريكا أم سياسات عبدالناصر؟

لا بد أن نتبين الحقائق خاصة حول أمرين اثنين يتعلقان بالدور الأمريكي، ومدى علاقتهما بانتصار إسرائيل في الحرب، وهما:

  1. قيام أمريكا بتسليح إسرائيل قبل حرب يونيو، خاصة في مجال السلاح الجوي. بمعنى آخر هل زودت أمريكا السلاح الجوي الإسرائيلي بما مكن إسرائيل من تنفيذ ضربتها الجوية بهذا النجاح المذهل؟
  2. تقديم أمريكا معلومات استخباراتية إلى إسرائيل. بمعنى آخر هل كانت المخابرات الإسرائيلية قاصرة وعاجزة في الحصول على المعلومات الحيوية عن القوات المسلحة المصرية، خاصة الطيران والدفاع الجوي، اللازمة لتنفيذ ضربتها بحيث نقول بأنه لولا المعلومات الأمريكية ما نجحت الضربة؟

وقبل أن نخوض في هذين الأمرين لا بد أن نشير إلى معيار آخر من المعايير التي أراد السيد هيكل أن يفرضها من خلال أحاديثه، فهو يحاول أن يسرد أحاديثه قفزا على الأوضاع السائدة يومذاك، وتجاهلا للاختلافات الجوهرية بينها وبين الأوضاع الدولية في الوقت الراهن، وعلى الأخص أوضاع العلاقات الإسرائيلية- الأمريكية. دور “اللوبي” الإسرائيلي يومئذ –على قوته- كان يواجه محددات، ولا يمكن أن يقارن  بما بلغه هذا “اللوبي” من تغول في الوقت الراهن، ودوره الذي أصبح مركزيا في التأثير على القرار الأمريكي. وفي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي لم تكن الحالة العربية قد وصلت إلى ما بلغته حاليا من وهن وهوان، فلم يعد العرب –اليوم-ذلك الصديق الذي يُسعى إليه ويُحتفى به، ولا ذلك العدو الذي يُهاب ويُخشى، ولا ذلك الند الذي يُحترم. هذا كله لم يكن عشية حرب يونيو، بل نجده اليوم كنتاج لتلك الحرب وما تبعها من انتكاسات متتالية.

لهذا ينبغي أن نتذكر بأننا نتحدث عن مرحلة كانت فيها الأوضاع الدولية تختلف بصورة كلية عما هي عليه الآن. هذا يسري على العلاقات العربية-الأمريكية، وعلى موازين القوى الدولية، وعلى حقائق الصراع العربي– الإسرائيلي، بل حتى على درجات وقوة التأثير الإسرائيلية على الإدارات الأمريكية. لم تكن إسرائيل آنذاك تسيطر على القرار الأمريكي بالطريقة والدرجة التي نراها الآن، وكان للعرب أصدقاء في مختلف الإدارات الأمريكية يتعاطفون مع قضايا العرب من منطلق حرصهم على مصالح الولايات المتحدة المرتبطة بالمنطقة العربية.

لكن التغيرات التي جاءت بين الأمس واليوم لم تحدث فجأة، وإنما كانت نتاجا لسنوات طويلة من السياسات العابثة التي لم تقدر المصلحة العربية العليا حق قدرها، ولم تفرد للقضية الفلسطينية ما تستحقه من مكانة في أولويات الصراع والسياسة، ولا ما تستحقه من مكانة في إطار العلاقات والتعاون العربي، ولا إلى ما تتطلبه من بناء علاقات دولية بناءة على الأخص مع الأطراف الدولية المؤثرة. بدلا من ذلك، كانت المهاترات والتخوين والتآمر أساليب معتمدة في السياسة المصرية تجاه الدول العربية المختلفة، لم تنج من هذه السياسات دولة عربية واحدة. وكان التعامل مع البعد الدولي والقوى الدولية مؤسسا على افتراضات لا تمت إلى الواقع بصلة وتفتقر إلى التقييم الموضوعي السليم –الخالي من الأهواء- للمعطيات والعوامل المؤثرة، بل كانت شؤون وشجون العلاقات الدولية تقفز إلى صفحات الجرائد وميكروفونات الإذاعات قبل أن يتمكن الدبلوماسيون من التعامل معها. في تلك الحقبة كانت إسرائيل تضع أمامها أهدافا واضحة تتوحد وراءها الغالبية العظمى من يهود العالم، وتسعى لجلب التعاطف الدولي مع هذه الأهداف. وكانت إسرائيل تضع كل القدرات والإمكانيات في خدمة هذه الأهداف ، وتسخر أركان الدولة وعلاقاتها الدولية وأصدقاءها وعملاءها من أجل الحصول على كل إمكانية غائبة تعين على تحقيق الأهداف. وعلى الطرف الآخر كانت أهداف العرب قد تحولت إلى شعارات جوفاء فارغة ليس ما يساندها من عمل جماعي مشترك، فكانت الأهداف ضبابية، وكانت السبل إلى بلوغها تفتقر إلى العزيمة والوضوح والمداومة، فتشتت هذه الجهود إلى معارك جانبية ومفتعلة كانت خاسرة في معظمها. كان الأداء العربي في مضمار العلاقات الدولية فاشلا وكارثيا، أخضع بالكامل للأهواء والنزعات، وغابت عنه العقلانية، وتوخِي المصالح العليا، والبحث عن قواسم مشتركة مع مختلف الدول، والبحث عن مساحات الاتفاق لتنميتها، وجوانب الخلافات لتضييقها، بل غابت حتى سياسات التكامل وتبادل الأدوار بين الدول العربة في مضمار العلاقات مع مختلف الدول.

هكذا كانت هذه السياسات سببا في الفشل في تقييم حرب السويس 1956 بطريقة موضوعية تحدد الأطراف التي كان دورها مؤثرا في حل الأزمة وإجبار الدول المعتدية على الانسحاب، ومن ثم تحديد مناهج صحيحة للتعامل مع هذه الأطراف. جرى عمدا تجاهل الدور الأمريكي وإبراز الدور السوفياتي بالرغم من البون الشاسع بين دور كل من الطرفين، وسرى هذا التجاهل والإبراز إلى السياسات والخطب والإعلام، وتعالت حدة الحملات الإعلامية ضد أمريكا، وتم تصوير كل قصور في العلاقات بين مصر الناصرية وأمريكا –بالذات- إلى خطيئة في حق القضية العربية.  وكان هذا أحد أسباب التمهيد لمزيد من إزاحة الدور والتأثير العربي في أمريكا وإلى نماء العلاقات الإسرائيلية الأمريكية في الفترة الواقعة بين حرب السويس وحرب يونيو 1967، وكانت هناك أسباب كثيرة أخرى منها ما هو خارج عن الإرادة، وكان يمكن تداركه، ولكن معظمها كان من صنع السياسات والممارسات الناصرية قي تلك المرحلة .

قد يكون في ما أورده هيكل حول إمداد أمريكا لإسرائيل بالسلاح والمعلومات شيئ قليل من الصحة، ولكن حتما فإن فيه كثير من المبالغة. حتى وإن افترضنا –جدلا- صحة ما يقوله هيكل إلا أن أمورا كثيرة ينبغي بحثها وهو ما يتطلب تحليلا هادئا وتساؤلات من قبيل لم وكيف تم هذا؟ ومن المسؤول؟.

لا ينبغي التباكي على أن إسرائيل وقادتها –منذ قيام دولتهم وحتى يومنا هذا- قد فعلوا كل ما كان بوسعهم لتكوين وتعزيز وإدامة علاقة استرتيجية من طراز فريد مع الولايات المتحدة، وأنهم عبر هذه العلاقة عززوا مكانة إسرائيل داخل أمريكا حتى أصبحت أدوات ولجان الضغط الإسرائيلية تخيف الرؤساء والإدارات الأمريكية وتعشعش في أوساط الكونغرس ومختلف الإدارات الأخرى. لا نستطيع أن نتباكى لأن قادة إسرائيل قد حددوا بكل دقة مكمن المصلحة الإسرائيلية، ثم ركزوا جهودهم وحشدوا إمكاناتهم وأصدقاءهم لتعزيز وتحقيق هذه المصلحة. أليس الأولى أن نصب جام غضبنا على السياسة الناصرية التي لم تترك وسيلة ولا سبيلا إلا سلكته لتخريب العلاقات العربية- الأمريكية، ولم يقتصر هذا التخريب على علاقات مصر بأمريكا فقط؟.

إذا ما استعدنا أجواء الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فإننا سنعيش فترة الخطب الحماسية الرنانة، واتهام الزعماء العرب الذين سعوا لإقامة علاقات متوازنة مع أمريكا بالعمالة للإمبريالية، وسنستمع إلى إذاعة “صوت العرب” والإعلام المصري عموما تحرض الشعوب على هؤلاء الزعماء الذين أصبحوا يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى فبدوا مترددين في علاقاتهم والتزاماتهم الدولية، ووجدوا أنفسهم في دوامة البحث عن سبل الدفاع عن أنفسهم أو الانخراط في خدمة التوجهات الناصرية. وإذا ما كنا صرحاء أكثر لوجدنا أن مصر الناصرية سعت، ونجحت -إلى حد كبير- في تسخير الجماهير العربية وتحشيدها ضد حكامها وضد أية سياسات إيجابية مع الغرب خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية. لم يستطع حتى بعض الزعماء الذين يعتد بهم –مثل الملك فيصل بن عبدالعزيز- من أن يقنعوا عبدالناصر بسياسة تكامل الأدوار العربية، وكان عليهم إما أن يكونوا مع التوجهات الناصرية أو يواجهوا  تهم العمالة والخيانة. وفي هذا الصدد نستعير من السيد هيكل حديثا نسبه إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز:

“أنا فاكر أن الملك فيصل -وأنا سمعها منه كذا مرة وآخر مرة سمعتها منه كنا في فندق فلسطين في الإسكندرية والملك كان ضيفا هنا- لكن الملك بيقول إيه؟ بيقول لي يا أخي طال عمرك الرئيس عبد الناصر استفز الأميركان بأكثر من اللازم، هم ما عندهمش صداقة مع إسرائيل بهذه الدرجة وهم ما عندهمش عداء معنا إلى هذه الدرجة لكن نحن رحنا إلى جانب الاتحاد السوفياتي، أنتم يعني المصريون ذهبتم متحيزين إلى الجانب السوفياتي وهذا أغضبهم، ولو أوقفنا هذه العلاقة وهذه الصداقة الزائدة مع الاتحاد السوفياتي فالأميركان موقفهم مختلف لأن مصالحهم معنا وبالتالي إذا اختلف موقفهم معنا فسوف يقل تحيزهم لإسرائيل”

وإذا كان الملك يتحدث بمثل هذه الصراحة ويكرر هذا الحديث على مسامع هيكل فلا بد أنه كان وغيره من الرؤساء والملوك العرب أكثر صراحة ونصحا -وربما مناشدة- في الجلسات المغلقة أو في المشاورات  الجانبية. ولكن تبقى الحقيقة المرة أن سياسات عبدالناصر لم تترك فقط لإسرائيل الساحة الأمريكية تلعب فيها كما تريد، بل إنها أعطت كل المبررات لأمريكا كي تدير لنا ظهرها وتنحاز بالكامل لإسرائيل عبر سنوات تراكمت فيها المواقف، وعززت فيها إسرائيل مركزها، حتى وصل بها الأمر ليس فقط بالمراهنة على الحصان الأمريكي، بل إلى امتطائه والإمساك بلجامه وتوجيهه الوجهة التي تريدها.

لا بد لكي يكون المرء صادقا في تحليلاته واستنتاجاته، أن يستند على الوقائع والحقائق، وأن يراعي الدقة ويتجنب المبالغة، وأن لا يسمح لنفسه بالجنوح إلى الخيال والأوهام. لا بد لنا من أن نتعرف على الأسباب التي أدت إلى تطور العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية إلى ما صارت عليه عشية حرب يونيو 1967. وقد نستطيع الاستطراد فنبحث القفزة الرهيبة للعلاقات الأمريكية-الإسرائيلية التي ترتبت عن نتائج حرب يونيو، وترتبت أيضا عن تصرفات العرب حيال أمريكا بحجة هذه النتائج.

ربما من المهم الإشارة إلى حقيقة منسية أو مهملة ومغيَّبة عن عمد، وهي حقيقة موقف الدولتين الكبريين (الاتحاد السوفيتي وأمريكا) من إسرائيل. ذكر هذه الحقيقة والتذكير بها مهم جدا لأنها ضاعت في خضم الدعاية الناصرية، وهو مهم كي يكون معيارنا مستندا على قاعدة راسخة ومتوازنة، ثم حتى نزن المواقف والسياسات التي رسمت وصاغت العلاقات العربية مع الدولتين.

سنجد أن موقف الدولتين من قيام إسرائيل متشابها إن لم يكن متطابقا، فاعتراف الاتحاد السوفيتي بقيام دولة إسرائيل جاء بعد أربعة دقائق من اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية. وحتى في أوج التحالف الناصري-السوفيتي فإن إنهاء دولة إسرائيل والقضاء عليها كان خطا أحمرا لدى السوفيت كما هو لدى أمريكا ولدى كثير من دول العالم الأخرى. ليس هناك فارق كبير بين الدولتين في مسألة وجود إسرائيل وبقائها.

بقي أن نتعرف على حقيقتين أخريين:

أولاهما: أن الاتحاد السوفيتي لم يتوقف –حتى أثناء تحالفه مع عبدالناصر- أن يكون المخزون الاستراتيجي والمزود الرئيسي لإسرائيل بالعقول والخبرات المدربة التي كانت هجرتها تتم بترتيبات مع حكومة الحليف السوفيتي. ولا نريد الاستطراد هنا لتوضيح ما أحدثته هذه الهجرة المدربة من تطورات على الصناعة والزراعة والإنتاج في إسرائيل، وبالأخص على الجيش الإسرائيلي، وعلى القدرة العسكرية الإسرائيلية. إزاء هذا الإمداد لم يرفع النظام الناصري عقيرته بالاحتجاج لدى الحليف السوفيتيى، وخلت كل خطبه –وما أكثرها- من أية إشارات إلى هذه المسألة. كما أن الإعلام الناصري وقطب رحاه هيكل لم يثيرا هذه المسألة لا من قريب ولا من بعيد. وقد نتساءل هل كانت المصالح المصرية وعلاقاتها مع الاتحاد السوفيتي ستكون في خطر إذا ما قامت مصر بإثارة هذه المسألة؟

أما الحقيقة الثانية: فإن الإدارات الأمريكية المتعاقبة استمرت في اتباع سياستين أرساهما الرئيس “هاري ترومان” تقضيان بمتابعة تأييد إسرائيل ودعمها في كل المجالات، وفي نفس الوقت بمتابعة الامتناع عن تصدير السلاح إلى دول منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك إسرائيل. استمر ذلك إلى ما بعد حرب السويس. قبل ذلك كان مصدر التسلح الإسرائيلي من بريطانيا ومن فرنسا، وهذه الأخيرة هي التي زودتها بمنظوماتها الجوية بما فيها طائرات الميسيتير وسوبر مايستير والميراج وقنابل Durendal المخصصة لتدمير مدارج المطارات،  وهي –مع غيرها- شكلت القوة الضاربة التي استخدمتها إسرائيل في ضربتها الجوية.

وإذا ما استطردنا –في هذا الصدد- لوجدنا أن أول صفقة لتزويد السلاح الجوى الإسرائيلي بأسلحة أمريكية الصنع كانت عام 1962 في عهد الرئيس “جون كندي”، حين جرى التوقيع على تزويد إسرائيل بمنظومة صواريخ “هوك” للدفاع الجوي، وكان التبرير الذي قدمته إدارة الرئيس “كندي” آنذاك أن الاتحاد السوفيتي قد زود مصر بقاذفات للقنابل ذات مدى طويل وبمنظومة الصواريخ SAM التي ضخم الإعلام المصري في وصف قدراتها وسميت “القاهر” و “الظافر”. ومع هذا لم يتم حصول إسرائيل على صواريخ “هوك” بسهولة –كما يحدث الآن، بل كان على إسرائيل آنذاك أن تبذل الجهود وتختلق الظروف وتحشد أصدقاءها مرة تلو الأخرى للحصول على أسلحة، وكان معظمها يرفض بسبب السياسة المعتمدة من ناحية وكذلك بسبب الوجود القوي لأصدقاء العرب في الإدارة الأمريكية. وقد بذلت إسرائيل مساع متكررة وحشدت أصدقاءها للحصول على طائرات مقاتلة وقاذفة أمريكية الصنع، وفي كل مرة كان أصدقاء العرب في الإدارة الأمريكية وخاصة في وزارة الخارجية يحولون دون تبلور هذه الطلبات إلى عقود، ويستطيع أي باحث محايد أن يقرر أن وزارة الخارجية –بالذات- كانت مليئة بالمسؤولين الذين كانوا يعرفون باسم “آرابيست” بسبب مواقفهم المؤيدة لسياسة أمريكية أكثر توازنا تميل إلى تقدير المصالح الأمريكية- العربية المشتركة وتغليبها. كان الأولى أن نقدم دعما –بالقول والفعل- لهؤلاء الأصدقاء حتى يمكنهم من تعزيز دورهم في السعي لتحقيق سياسة أمريكية متوازنة ، لكن السياسة الناصرية لم تعط لهؤلاء أية مساندة، ولم تعمل على تعزيز منطقهم وموقفهم، بل ما حدث هو العكس، فقد أعطت السياسات الناصرية “ذخيرة” لأصدقاء إسرائيل تاركة أصدقاء العرب يواجهون مدا إسرائيليا متناميا أوصلهم إلى التقلص والتقوقع، بل أوصلهم إلى الدفاع عن أنفسهم بكل ما تعنيه الكلمة.

نجح “الآرابيست” في الحيلولة دون حصول إسرائيل على مقاتلات أو قاذفات أمريكية عدة مرات، إلى ان كان عام 1966، في إدارة الرئيس “ليندون جونسون”، حين كررت إسرائيل مطالبها بالحصول على مقاتلات وقاذفات، وتحصلت على موافقة مبدأية من البيت الأبيض، لكن هذه الموافقة كان عليها أن تمر بسلسلة من الإجراءات التي تمر على وزارتي الدفاع والخارجية علاوة على موافقة الكونغرس. وهكذا شرعت إدارة الرئيس جونسون في الإجراءات اللازمة لاستخراج التراخيص لتزويد إسرائيل بطائرات “سكاي هوك” القاذفة. لكن  إسرائيل لم تستلم أي من هذه الطائرات إلا في أواخر عام 1967، أي بعد حرب يونيو، وشاركت هذه الطائرات في “حرب الاستنزاف”. أما في حرب يونيو 1967 فلم يكن في حوزة إسرائيل أية مقاتلات أو قاذفات أمريكية الصنع. ومعر وف أن نتائج حرب يونيو وقيام مصر بقطع علاقاتها مع أمريكا سرَّعا في الموافقة على تنفيذ صفقة طائرات سكاي هوك ثم تلتها طائرات الفانتوم …. ثم توالت الصفقات.

هذا ما تقوله حقائق التسليح الأمريكي لإسرائيل -في مجال القوات الجوية- قبل حرب 1967. فلم تشارك أية طائرة من صنع أمريكي في تلك الحرب لأن إسرائيل ببساطة لم تكن –في تلك الفترة- تملك طائرات أمريكية الصنع. وهذا في الواقع كان من شأنه أن يسهل اكتشاف أية طائرات أمريكية الصنع تكون قد شاركت في الضربة الجوية، لأن الطيارين وأطقم الدفاع الجوي كانوا سيتعرفون عليها بكل بساطة حتى ولو كانت مطلية بعلامات السلاح الجوي الإسرائيلي كما يقول السيد هيكل .

كافة الإحصاءات المنشورة عن حرب يونيو تدل أن السلاح الجوي الإسرائيلي، كان يتكون آنذاك من الآتي:

65 ميراج (3) الاعتراضية           35 سوبر مايستير القاذفة

33  مايستير المقاتلة                      18 فوتور (2) المقاتلة

48 أوراغان القاذفة                       45 فوغا ماجيستير للتدريب

جميع هذه الطائرات فرنسية الصنع، ولم يكن بينها طائرة أمريكية واحدة.

أما بعد 1967 فقد أثبتت إسرائيل لأمريكا أنها حليف استراتيجي يعتد به، واستمر وقوفها بكل قوة وراء أصدقائها في أمريكا، وازداد تنامي وترسخ علاقاتها مع أمريكا، فيما باتت علاقات مصر وسوريا ودول عربية أخرى مع أمريكا مقطوعة لعدة سنوات، وشبه مجمدة مع دول أخرى، وتنامت الحملات الإعلامية والاتهامات في الصحافة العربية ضد أمريكا، وتركت الساحة بالكامل لإسرائيل، فكانت تلك هي السنوات الذهبية التي تنامت فيها مؤسسات الضغط الإسرائيلية، وتمكن الأخطبوط الإسرائيلي من الإمساك بمفاصل القرار الأمريكي، كما تمكن هذا الأخطبوط من استغلال كل الأزمات العربية-الأمريكية والضعف والهوان العربيين للتمكين لسيطرته إلى أن وصل الأمر إلى ما هو عليه الآن.

هذا عن تسليح أمريكا لإسرائيل -في مجال السلاح الجوي- قبل حرب يونيو، وعن دور هذا التسليح في نتائج تلك الحرب، وعلى الأخص في نتائج الضربة الجوية.

وسنتناول –بإذن الله- مسألة الإمداد بالمعلومات في حديث قادم إن شاء الله.

 

هيكل والافتراء على التاريخ – نظية التدخل الأمريكي (الحلقة الثانية)

“والناس يقعون أحياناً أسرى الأكاذيب التى اخترعوها بأنفسهم” هيكل

نظرية التدخل الأمريكي: حقيقتها وكيف نشأت

نظرية الدور الأمريكي في حرب 1967 تعود إلى الساعات الأولى من الحرب، بل ربما سبقت اندلاع الحرب نفسها.

قبل الحرب كان الإعداد النفسي للجماهير العربية لتقبل نظرية الاعتداء الأمريكي. نجد ذلك في الإعلام المصري، خاصة فيما كانت إذاعة صوت العرب تبثه من تحريض للجماهير الليبية بمهاجمة قاعدة “الملاحة/ويلاس”، ونجده أيضا في كثير مما نشرته الأهرام والصحف المصرية الأخرى، بل وفي ما كتبه السيد هيكل نفسه.

لنأخذ على سبيل المثال ما أشار إليه السيد هيكل في مقال سبق اندلاع الحرب:

“كلمة الأهرام بتقول “سمعة ليبيا هي الموضوع!” وهنا ده موضوع مهم قوي لأن إحنا كنا قلنا خبر قبلها بيوم إنه في حركة عسكرية كبيرة جدا في مطار ويلاس في قاعدة ويلاس في طرابلس في ليبيا، وبنقول إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار، …………”

“فإحنا كتبنا وبمنتهى الأدب تعقيبا على وزير خارجية ليبيا السيد بشتي بنقول له إن الموضوع مش موضوع أنكم تقولوا إن سمعتكم في الميزان، مش موضوع أن تقولوا لا حصل ما حصلش، هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها.”

وبغض النظر عن أن السيد هيكل لم يقدم يومها أي إثبات لما كتبه في الأهرام لأنه تعود أن يكتب فُيصدق دونما حاجة لأن يقول لنا كيف عرف بأن “هناك أسلحة تجيء وهناك أسحلة تخرج وهناك في هذا الوقت العصيب حركات تجري عسكريا حركات تجري وأنتم لا علم لكم بها.” في الوقت الذي لم يعرف الليبيون بهذه ال “حركة عسكرية كبيرة جدا في مطار ويلاس في قاعدة ويلاس في طرابلس في ليبيا، ……. إنه في سلاح داخل وسلاح خارج وفي حركة تبدو ملفتة للأنظار،”  لكنها لم تلفت إليها ليس فقط أنظار الليبيين ولكن يبدو أيضا أن هذه الحركة (الكبيرة الملفتة للأنظار) لم تلتفت إليها حتى أنظارسفارات الدول المنتشرة في طرابلس بالقرب من قاعدة “الملاحة/ويلاس” بما فيها سفارة الاتحاد السوفيتي وسفارات دول حلف “وارسو”، لأن هذه الدول ببساطة شديدة لم تقل بأن سفاراتها في طرابلس قد لاحظت هذه الحركة (الكبيرة الملفتة للأنظار)، ولم تقل أي من هذه الدول بأن قاعدة “الملاحة/ويلاس” قد استعملت.

نعم .. هذا الحديث عن نظرية التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس” كان يتم حتى قبل اندلاع المعارك، والغاية منه هو إعداد الجماهير العربية، وخاصة الليبية، نفسيا لتقبل نظرية التدخل الأمريكي.

أما بمجرد حدوث الضربة الجوية الإسرائيلية فقد ابتدأت القيادات المصرية على مختلف مستوياتها تتحدث –حتى فيما بينها- عن نظرية التدخل الأمريكي، وتبحث عن أية شوارد يمكن استخدامها، بل وربما اختراع الشواهد والشوارد التي قد تعزز هذه النظرية. وفي هذا يخبرنا السيد هيكل بروايته للأحداث عن تلعثم المشير عبدالحكيم عامر في ردوده على أسئلة عبدالناصر حول الموقف، وكيف بدت المسألة وكأنها استجواب من عبدالناصر لنائبه عبدالحكيم عامر. وهو –على فكرة- موقف لم يحضره هيكل ولم يكن شاهدا على الحوار بين الرجلين ولكنه يسوق هذا الحوار بحرفية المسجلات الالكترونية زاعما أن الرجلين قد قالاه له هو دون غيره.  لنستمع للسيد هيكل:

” لكن جمال عبد الناصر أظنه أنه بدأ يقلق لكن إلحاحه في ذلك الوقت على عبد الحكيم أنه تقريبا، الاثنان اتفقوا في روايتهم لي في الحوادث أن جمال عبد الناصر كان دائم التكرار بيقول لعبد الحكيم أنا عايز أعرف إيه هي الحقيقة، إيه التقارير، إيه الصورة الحقيقية لما جرى في الطائرات، كم حجم الخسائر؟ لأنهم بدؤوا يقولون كلاما، بدأ عبد الحكيم يقول، وأظن هنا في نقطة من النقط المهمة جدا أن عبد الحكيم بدأ يقول إن حجم الضربة الجوية أكثر مما تتحمله طاقة إسرائيل، هذه مش إسرائيل هذا حد ثاني، وبعدين حصلت حدة في الموقف، جمال عبد الناصر بيقول له الحد الثاني مين؟ بيقول له الأميركان. بيقول له الأميركان شوف أنا -وهذا ثابت من كل الروايات- قال له أنا لا أصدق في المعلومات اللي عندي -وأظن هنا كان  غلطان جمال عبد الناصر- في المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي وعلى أي حال أنا مستعد أصدقك أن الأميركان دخلوا لكن أطلب منك حاجتين -ده كان قدام كل الناس اللي موجودين- أطلب منك إما أن تأتي لي بحطام طائرة أميركية ضربتوها وإما أن تأتي لي بطيار أميركي أسير وأما دون هذا فأنا مش مستعد أصدق حكاية الأميركان موجودين، وأنا لا أستطيع أن أطلع قدام الناس وأقول لهم والله الأميركان موجودين بدون أن يكون لدي دليل…”

حوار بين عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر يبين مستوى الارتباك والرغبة في البحث عن معاذير، كما يبين ما وصلت إليه العلاقة بين القائد الأعلى ونائبه من توتر. هذا الحوار يحدث بعد فترة وجيزة من الضربة الإسرائيلية، حين كان الوقت أثمن من أن يضيع في هذه المماحكات، لكن البحث عن قشة تدعم نظرية التدخل الأمريكي يستمر دون توقف، ودون حساب للوقت المطلوب لتدارك المعركة البرية في سيناء التي باتت القوات المصرية تواجهها وهي تفتقر إلى كل شيء وليس فقط الغطاء الجوي، بل وإلى القيادة المتفرغة لإدارة معركة يتعلق عليها مصير أمة بأكملها. لنستمع لما يقوله هيكل:

“التضارب في هذه النقطة عمل حاجة غريبة جدا، يحكي بغدادي على سبيل المثال يقول إنه اتصل له، في صدقي محمود بيقول إنه عنده ضابط في طيار قديم في الجنوب في الصعيد في قاعدة من قواعد الصعيد اسمه حسني مبارك شاف طيارة أميركية، بيقوم عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر بيقولوا الكلام ده مش معقول، فعبد الحكيم عامر يقوم يكلم هذا الضابط حسني مبارك في المطار بيكلمه بنفسه في وجود جمال عبد الناصر فهذا الضابط بيقول لا، أنا اللي شفتهم كانت طائرات إسرائيلية. الارتباك كان كده إلى هذا الحد كان كبيرا جدا إلى درجة أنه في وقت بيفوت وعمليات القوات البرية على وشك أنها ستبتدي،”

لم يتوقف السيد هيكل .. ولم يستطرد كما -عودنا- ويتساءل عن هذه الرواية .. هل كان العضو السابق لمجلس قيادة الثورة السيد “عبد اللطيف البغدادي” –المعروف بدقته- مخطئا في نقله عن صدقي محمود؟ .. أم أن صدقي محمود قد ذكر له هذه الحادثة فعلا نقلا عن أحد طياريه؟، وأن هذا الطيار قد تراجع عن زعمه لسبب ما .. أم أن الأمر كله كان مختلقا من أساسه؟، ولذلك فإن الطيار “حسني مبارك” قد أنكر علمه بالرواية وأنكر رؤيته لطائرات أمريكية حين قام كل من عبدالحكيم عامر وعبدالناصر بالاستفسار منه حول هذه المسألة. في وقت مصيري كهذا تحسب فيه الثواني قبل الدقائق، تتحول القيادات المصرية كلها (الرئيس ونائبه وكل قيادات القوات المسلحة … وربما سرت العدوى إلى بقية اركان الدولة بما فيها السفارات) تتحول لمتابعة أية شاردة قد تثبت نظرية التدخل الأمريكي. ولعل سؤالا استنكاريا منطقيا يفرض نفسه على هذه الأجواء –التي وضعنا فيها السيد هيكل-، ألم يكن طبيعيا أن يقدم صدقي محمود قائد الطيران تقاريره إلى القائد العام المشير عامر بدلا من أن يسمع هذا القائد العام تقارير قائد طيرانه عن طريق عضو سابق مبعد عن مجلس قيادة الثورة؟. وللأسف فإن هيكل لم يتوقف أيضا ويسأل -باستنكار- لماذا تحولت غرفة العمليات في تلك اللحظات المأساوية المصيرية الحرجة إلى مساحة ازدحمت بكل من هب ودب، ولماذا لم يعد لقائد الطيران من مهمة إلا الاتصال أو تلقي الاتصالات من أشخاص ليس لهم أي دور في سير المعركة لا على صعيدها السياسي ولا على الصعيد العسكري.

من الضروري جدا أن نعود إلى الحوار الذي دار بين عبدالناصر وعبدالحكيم عامر. في هذه المحادثة يقول الرئيس عبدالناصر بأنه لا يصدق المعلومات -أو ربما نقول الافتراضات- التي يقدمها المشير، ويقول صراحة:  ” المعلومات اللي عندي الأميركان لا يمكن يكون داخلين في العملية دي”  إذن فالرئيس عبدالناصر لديه معلومات تنفي التدخل الأمريكي، ويبدو واثقا جدا من هذه المعلومات … فيبدي عدم استعداده لإعلان تدخل أمريكا بدون أن يكون هناك دليل.

كان عبدالناصر يطلب أحد أمرين عجزت القيادة العامة أن تقدمهما: طائرة أمريكية أسقطت، أو طيارا أمريكيا أسر. وإذا ما صدقنا رواية هيكل فإن الرئيس عبدالناصر  لم يصر على هذا المطلب طويلا، بل سرعان ما طرح ثقته في معلوماته التي تنفي التدخل الأمريكي وتنازل عن مطلب الطائرة المسقطة أو الطيار الأسير. تنازل عن كل ذلك واكتفى لتأكيد التدخل الأمريكي ببعض التقارير التي يقول هيكل بأنها قد جاءت من السفير المصري في باريس، والملحق العسكري المصري في طرابلس (وسنتحدث في الوقت المناسب عن هذه “التقارير” التي ذكرها هيكل، والتي يعلق عليها مرافعته لإثبات الدور المزعوم لقاعدة ويلاس). لكننا إذا ما استقرأنا الأحداث وراجعنا خطب عبدالناصر وتصرفاته بعدئذ لوجدنا أنه لم يستطع أن يقول صراحة –ولو مرة واحدة- بحدوث التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس”، وأن أقصى ما قاله عبد الناصر هو الإشارة التي وردت في خطاب التنحي الشهير:

“أن العدو الذي كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب؛ الأمر الذي يقطع بأن هناك تسهيلات تفوق مقدرته، وتتعدى المدى المحسوب لقوته، قد أعطيت له”.

معروف أن هذه العبارة المطاطة من صياغة السيد هيكل ضمن صياغته لخطاب التنحي الذي يقول السيد هيكل أنه استغرق منه بضع ساعات لإتمامه. ولا أحسب أن عبدالناصر كان سيكتفي بمثل هذه العبارة ويتوقف عندها لو كان مقتنعا فعلا ومتأكدا من التدخل الأمريكي من قاعدة “الملاحة/ويلاس”.

وبدون شك فإن الأمر كان وقتها في غاية الخطورة والحساسية: الرئيس عبدالناصر يُلقي خطابا يعترف فيه بالهزيمة “النكسة”، في وقت حطمت فيه إسرائيل القوة العسكرية المصرية وقوات دول عربية أخرى، وباتت قواتها تحتل الضفة والقطاع والجولان وسيناء وتسيطر على الضفة الشرقية لقناة السويس، في ذلك الوقت لم يعد من القوات المسلحة المصرية أية قوة قادرة على إنجاز مهمات قتالية ذات معنى، اللهم إلا فرقة الحرس الجمهوري التي عُهد إليها بتأمين النظام الحاكم في القاهرة، وبات قادة هذه الفرقة يتلقون تعليماتهم مباشرة من الرئيس عبدالناصر –المتنحي عن الرئاسة-، أما الطريق الذي يربط بين مدن قناة السويس والقاهرة فلم تجد القيادة المصرية إلا طلبة الكلية الحربية لاستنفارهم لمراقبته والدفاع عنه!!!. في هذه الظروف الحرجة، لنا أن نتصور أن عبدالناصر لديه معلومات ووثائق حقيقية يُعتد بها تدين أمريكا وتفضح استخدامها لقاعدة “الملاحة/ويلاس” منطلقا لعدوانها على مصر ولا يكشف –في تلك الظروف المصيرية- هذه الوثائق!! .. ولا يقول صراحة أن مصر تلقت ضربة شاركت فيها أمريكا بقوتها الجوية المنطلقة من قاعدة “الملاحة/ويلاس”!!. أم أنه وقتها -وهو يبحث حتى عن القشة- كان يعرف أن الوثائق المزعومة التي لوح بها هيكل –إن كان هناك وجود لهذه الوثائق أصلا- لا تستطيع أن تصمد أمام أي اختبار.

كما أن العلاقات اللاحقة بين مصر وليبيا –حتى فيما تبقى من حكم عبدالناصر- لا تدل بأي شكل من الأشكال على مزاعم التدخل الأمريكي باستخدام الأراضي الليبية، وليس هناك أي دليل واحد أن مصر أثارت –بصورة رسمية- مع الحكومة الليبية هذه المسألة، أو أثارتها في أي محفل رسمي دولي.

بل ماذا يقول هيكل في أن الرئيس عبدالناصر والملك حسين كليهما قد أنكرا وجود أي تدخل عسكري أجنبي في الحرب وذلك أثناء مؤتمر القمة العربية الذي انعقد بعيد الحرب في الخرطوم. بل إن مصادر متعددة أشارت إلى أن عبدالناصر قد قدم شرحا تفصيليا في إحدى جلسات القمة قال فيه بأن الاتهام الوارد في بيان وزارة الخارجية المصرية الصادر يوم 6 يونيو لكل من بريطانيا وأمريكا بالمشاركة الفعلية في الهجوم الجوي الإسرائيلي كان بسبب خطأ في معلومات الرادار المصري وكذلك لأن الطائرات الإسرائيلية جاءت من البحر من اتجاه الأسطول السادس . واضح أن عبدالناصر -خلال هذا الشرح والتبرير- لم يشر إلى ليبيا أو إلى قاعدة “الملاحة/ويلاس” لا من قريب ولا من بعيد، لم يشر حتى إلى أنهم ظنوا أن الهجوم قادم من ناحية القاعدة،  بل أشار إلى أن القيادة المصرية توهمت أن الطائرات أمريكية كونها قادمة من البحر من جهة الأسطول السادس.

وماذا يقول السيد هيكل في أن السفير السوفياتي بالقاهرة بادر يوم 6 يونيو وبعد صدور تصريح وزارة الخارجية المصرية المشار إليه بإعلام السلطات المصرية أن معلومات الاتحاد السوفياتي تنفي حدوث مشاركة أجنبية (لا بريطانية ولا أمريكية) .

وماذا يقول السيد هيكل في الرجاء الحار –خلال مؤتمر القمة في الخرطوم- الذي طالب به الرئيس عبدالناصر الدول العربية (التي لديها علاقات مع أمريكا) أن تتوسط لرتق علاقات مصر المقطوعة مع أمريكا، معترفا باستعجاله في قرار قطع العلاقات، هل هذا تصرف رئيس يعلم أن أمريكا قد اعتدت على بلده ولم تجف دماء الضحايا بعد.. وما زال العدو يرسخ احتلاله لسيناء والضفة والقطاع والجولان ؟…

وماذا يقول السيد هيكل في التصريح الذي أدلى به الملك حسين لوكالة “آسوشييتد بريس” في نيويورك بتاريخ 30 يونيو 1967 وقال فيه صراحة بأنه متأكد من أن الطائرات الأمريكية والبريطانية لم تشارك في المعارك. وهذا نص التصريح:

“On 30 June, King Hussein announced in New York that he was “perfectly satisfied” that “no American planes took part, or any British planes either”.

وترجمة التصريح: ” بتاريخ 30 يونيو أعلن الملك حسين في نيويورك أنه كان مقتنعا تماما أنه لا الطائرات الأمريكية ولا البريطانية قد شاركت”

إذن كانت نظرية التدخل الأمريكي موجودة ومثارة في الإعلام المصري قبل الحرب وأثناءها، وكانت الشغل الشاغل لدى القيادات المصرية السياسية والعسكرية، لدرجة أن الرئيس عبدالناصر أجرى اتصالا هاتفيا عمل فيه على إقناع الملك حسين بالادعاء بتدخل كل من بريطانيا وأمريكا. المكالمة اشتهرت وافتضحت لأن المخابرات الإسرائيلية التقطتها وأذاعتها في حينها بصوت الرجلين. وفي تلك المكالمة كان عبدالناصر يسأل الملك حسين عما إذا كانت بريطانيا تمتلك حاملة طائرات!!!. ويسأله هل “نقول أمريكا وبريطانيا وإلا أمريكا بس” ، ليس في المكالمة أي حديث عن الأراضي الليبية أو قاعدة “الملاحة/ويلاس” لا من قريب ولا من بعيد، بل إن الادعاء كان منصبا على حاملات الطائرات !!!.

أما بعد الحرب فقد سقطت بالكامل نظرية التدخل البريطاني، ولكن استمر الحديث عن نظرية الدور الأمريكي في الإعلام المصري، ولكن بدرجة من الخفوت التدريجي بعدما لم يوجد من المعطيات ما يثبت هذا التدخل.

وحده السيد هيكل الذي استمر –منذئذ وإلى يومنا هذا- يثير هذا الموضوع ويصر على أن الولايات المتحدة الأمريكية قد شاركت إسرائيل في توجيه الضربة الجوية مؤكدا بأن قاعدة “الملاحة/ويلاس” في طرابلس قد جرى استخدامها لانطلاق الطائرات الأمريكية المغيرة. ولعل أي متابع لأحاديث وكتابات السيد هيكل منذ حرب يونيو سيجد تكريرا لهذا الزعم، وسيلمس في نفس الوقت تناقضات في روايات هيكل المتعددة، كما سيجد أن هيكل قد فشل في تقديم أية قرائن حول مزاعمه بالخصوص، إلى أن طالعنا في برنامج “مع هيكل” بحديث –لم يخل هو أيضا من التناقضات – عن وثائق يدعي أنها تثبت وتسند زعمه باستخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقاعدة “الملاحة/ويلاس” خلال حرب يونيو 1967.

وهذه المزاعم هي محور هذه المقالات، وسيكون لنا إن شاء الله حديث عن وثائق هيكل المزعومة.

 

صفحة 2 من 212