من الذاكرة : مع الدكتور “إيميل سان لو” – رجل الموقف التاريخي الصعب -الحلقة الثانية

كانت القضية الليبية تواجه مصاعب جمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، فخلال الدورة الثالثة للجمعية العامة. لم يكن الاستقلال مطروحا ولا مضمونا، وليس هناك أي نص في ميثاق الأمم المتحدة يضمن لليبيا -ولا لغيرها- استقلالا فوريا، والأمر مرهون بقرار تتخذه المنظمة الدولية.  كانت معظم الآراء المطروحة تدور حول وضع ليبيا تحت الوصاية الدولية، وكان الاختلاف بين  الدول ينحصر في الجهة التي يعهد إليها بالوصاية.

كان الاتحاد السوفيتي يطالب بوصاية مباشرة للأمم المتحدة. (كي يكون له دور فيها)

أما الولايات المتحدة  فقد تضمن حديث مندوبها إشارة غامضة  إلى استقلال ليبيا، وإلى أن يتحقق الاستقلال توضع البلاد تحت وصاية دولية يكون لبريطانيا دور رئيس فيها.

وبريطانيا قدمت مشروعا ضمنته الأفكار التي عبر عنها المندوب الأمريكي، وكان المشروع يقضي باستقلال ليبيا خلال عشر سنوات، توضع برقة –خلالها- تحت الوصاية البريطانية، بينما تتولى حكومات مصر وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة وضع خطة للوصاية على باقي أجزاء ليبيا.

أما مجموعة أمريكا اللاتينية فقد دفعها اتفاقها مع إيطاليا في الديانة الكاثوليكية إلى انحياز كامل لإيطاليا، فقامت بتقديم مشروع قرار يقضي بوضع ليبيا تحت الوصاية الإيطالية لمدة عشر سنوات.

واشتركت الهند مع الاتحاد السوفيتي بتقديم مشروع قرار يقضي بوضع ليبيا تحت وصاية دولية جماعية.

أما الدول العربية الستة [1]  فقد أعلنت معارضتها لمشروعات القرارات المقدمة، وقام العراق –منفردا- بتقديم مشروع يقضي باستقلال ليبيا فورا، بينما أثارت مصر مجددا –في مداخلات مندوبها- مسألة الحدود المشتركة لأخذها في الاعتبار عند أية تسوية للمسألة الليبية [2].

وبتعدد مشاريع القرارات وتضاربها، شكلت اللجنة السياسية -المكلفة بنظر القضية الليبية- مجموعة عمل من خمسة عشر عضوا لمحاولة التقريب بين مشاريع القرارات[3]  .

لكن مجموعة العمل لم تكد تشرع في مداولاتها حتى فوجئت بأخبار عن اتفاق “سري” أبرم بين وزير خارجية بريطانيا “إرنيست بيفن” ووزير خارجية إيطاليا الكونت “كارلو  سفورزا”، “. وقد عرف ذلك الاتفاق باسم مشروع (بيفن- سفورزا).

كان هذا الاتفاق تجسيدا للمناورات الاستعمارية التي تتم –عادة- خلف الكواليس، وقامت بريطانيا بتعديل مشروع قرارها المعروض على مجموعة العمل كي يتوافق مع هذا الاتفاق، ويمكن تلخيص المشروع البريطاني المعدل على النحو التالي:

  • منح ليبيا الاستقلال بعد عشرة سنوات من تاريخه، بشرط أن تقرر الجمعية العامة آنذاك أن خطوة الاستقلال مناسبة.
  • وضع ليبيا تحت الوصاية الدولية، على أن تتولى بريطانيا إدارة برقة، وفرنسا إدارة فزان، وإيطاليا إدارة طرابلس.
  • العمل على تنسيق السياسات بين الإدارات الثلاث حتى لا ينشأ ما قد يعرقل استقلال ليبيا أو يؤثر في وحدتها.
  • يتولى مجلس الوصاية الدولية التابع للأمم المتحدة متابعة تنفيذ ذلك.

وإذا ما قرأنا مشروع القرار البريطاني، فإننا نجد ما يلي:

  •  أن الوعد باستقلال ليبيا بعد عشر سنوات مرهون بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، أي أن العشر سنوات هي الموعد الأقرب، ويمكن أن يمتد لأبعد من ذلك.  يلاحظ أن أريتريا وهي مستعمرة إيطالية سابقة قد وضعت تحت الوصاية ثم ضمت لإثيوبيا، ولم تحصل على استقلالها إلا في التسعينيات من القرن الماضي. كما يلاحظ أن ليبيا آنذاك تعد من أفقر الدول، ولذا فإن كل التدافع حول تولي الوصاية عليها كان بسبب موقعها الاستراتيجي. ولنا أن نتصور كيف سيكون الحال إذا ما اكتشف البترول ضمن الفترة المقترحة (عشرة سنوات) لوصاية هذه الدول على ليبيا.
  •  أن ذكر الاستقلال في المشروع جاء محاولة للتمويه على حقيقة نوايا الدول المعنية، وأن إسناد مهمة متابعة التنفيذ إلى “مجلس الوصاية” لا قيمة حقيقية له إذا ما عرفنا أن مجلس الوصاية –آنذاك- تسيطر عليه نفس الدول صاحية المصلحة في استمرار الوصاية على ليبيا إلى ما بعد فترة العشرة أعوام.
  •  ونفس الأمر يقال على النص الذي يدعو إلى تنسيق العمل بين الإدارات الثلاث بما لا يخل باستقلال ووحدة ليبيا، فهو فقط للمساعدة على تمرير القرار، فما الذي يمنع هذه الدول من أن يكون تنسيقها من أجل ترسيخ احتلالها تحت مسمى الوصاية، خاصة وأنها أطراف تجمعها مصالح واستراتيجيات واحدة، خاصة بعد توقيع هذه الأطراف “معاهدة منظمة حلف شمال الأطلسي بتاريخ 4 أبريل 1949 .
  •  استهدف المشروع البريطاني، ضمان تأييد إيطاليا وفرنسا ومجموعة دول أمريكا اللاتينية عن طريق إقحام الوصاية الإيطالية على طرابلس والوصاية الفرنسية على فزان.

وبالرغم من أن المشروع البريطاني قد قوبل بالاستياء من جانب كثير من الوفود التي رأت فيه محاولة لوضع اللجنة السياسية ومن ثم الجمعية العامة للأمم المتحدة أمام أمر واقع أبرم خارج كواليس المنظمة الدولية، وبالرغم من تكتل الدول العربية والإسلامية ودول أوروبا الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي في محاولة لعرقلة المشروع،  لكن ذلك كله لم يجد نفعا عند نظر مجموعة العمل لمشروعات القرارات المختلفة، فتشكيلة المجموعة كانت تهيمن عليها مجموعتي أوروبا وأمريكا اللاتينية ، ولهذا فقد أوصت مجموعة العمل إلى اللجنة السياسية باتخاذ مشروع القرار البريطاني المعدل أساسا للنقاش “باعتباره المشروع الوحيد القادر على الحصول على الأغلبية المطلوبة[4] .

انتهاء مهمة لجنة العمل إلى هذه النتيجة تعني أنها فشلت في التوفيق بين مشاريع القرارات،  وهي مهمة مستحيلة أصلا نظرا للتباين الشديد بين المشاريع المطروحة أمامها، خاصة مع إصرار كل مقدمي المشاريع  على نصوصهم الأصلية. لكن توصية اللجنة بالمشروع البريطاني لم يؤد إلا إلى زيادة حدة الاستقطاب، فأصرت كل الأطراف على عرض مشاريع قراراتها على اللجنة السياسية، فيما عدا كتلة أمريكا اللاتينية التي سحبت مشروعها لصالح المشروع البريطاني.

كانت كل المؤشرات تدل على أن الحال في اللجنة السياسية لن يكون أفضل منه في مجموعة العمل، فقد اكتسب مشروع القرار البريطاني أرضية بسبب توصية مجموعة العمل، وكذلك بسبب اتضاح تأييد مجموعتي أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية له.

كان يحضر جلسات الدورة الثالثة وفدان أحدهما يمثل “المؤتمر الوطني البرقاوي” ويتكون من عمر فائق شنيب، خليل القلال، عبد الحميد العبار، عبد الرازق شقلوف. وكان الوفد الآخر يمثل هيئة تحرير ليبيا ويتكون من منصور بن قداره، الدكتور علي نور الدين العنيزي، والدكتور محمد فؤاد شكري (مستشارا للوفد)[5] . وقد سمح للوفدين بإلقاء كلمات أمام اللجنة السياسية [6]. (كان ذلك قبل مشروع (بيفن-سفورزا)، ولكن بعد أن  تطور الأمر بتوصية لجنة العمل بالمشروع البريطاني، اتفق الوفدان على توحيد جهدهما، وتقدما بطلب للحديث أمام اللجنة السياسية مرة أخرى وإبداء وجهة النظر الليبية في تطورات الموقف، وبادرت بولندا بتقديم مشروع قرار يقضي بالسماح لممثلي ليبيا بإبداء رأيهم في مشروع القرار البريطاني. وقد تحدث الدكتور علي العنيزي نيابة عن الوفدين، فندد بمشروع القرار البريطاني على أنه مناف لمبادئ الأمم المتحدة، وقال “إن الليبيين عازمون على استخدام كل الوسائل لمقاومة هذه المحاولة لاستعمارهم” وأعلن “أن البلاد عازمة على العصيان المدني إذا لم تغير بريطانيا من موقفها”[7] .

وعند عرض مشاريع القرارات للتصويت في اللجنة السياسية رفض المشروع الهندي السوفيتي، ورفض أيضا المشروع العراقي، وكذلك رفضت كل التعديلات التي حاولت بعض الدول إدخالها على المشروع البريطاني، وقُبل تعديل تقدمت به النرويج يقضى بحذف عبارة  “بشرط أن تقرر الجمعية العامة للأمم المتحدة أن هذه الخطوة مناسبة”. وبسقوط هذه العبارة أصبح نص الفقرة: ” تحصل ليبيا على استقلالها بعد عشر سنوات من تنفيذ هذا القرار”. وطرح المشروع البريطاني للتصويت بعد إدخال التعديل النرويجي عليه، فأقرته اللجنة السياسية بأغلبية (34) صوتا مؤيدا، ضد (16) صوتا وامتناع (7) وفود عن التصويت. وبهذا أصبح المشروع موصى به إلى الاجتماع العام للجمعية العامة للأمم المتحدة. ومما يجدر ملاحظته أن الدكتور “سان لو” قد صوت في اللجنة السياسية وفقا لتعليمات بلاده إلى جانب مشروع القرار البريطاني.

نجاح مشروع القرار البريطاني في اللجنة السياسية بهذه الأغلبية كان ينذر بنجاحه عندما يطرح في الاجتماع العام للجمعية العامة، فالأطراف التي صوتت ضد القرار أو لصالحه لم يكن منتظرا أن يتغير موقفها من القرار، بل على العكس من ذلك، كان معروفا أن مواقف كل الأطراف ثابتة وأنها سوف تصر على تكرار صوتها . التغيير الممكن –والذي هو الآخر لم يكن منتظرا آنذاك- هو إذا ما قررت بعض الدول الممتنعة عن التصويت أن تصوت ضد مشروع القرار في اجتماع الجمعية العامة. وإذا نجح مشروع القرار فإنه حينئذ يتحول إلى قرار صادر عن الجمعية العامة. وكان كل شيء يسير في هذا الاتجاه، لكن مفاجأة الدكتور “إيميل سان لو” قلبت كل الموازين.

==========================

يتبع … الحلقة الثالثة

==========================

  1. كانت الدول العربية الأعضاء في الأمم المتحدة آنذاك هي (السعودية، مصر، العراق، اليمن، سوريا، لبنان)، وكانت الأردن مستقلة ولكن لم تنضم إلى المنظمة الدولية بعد.
  2.  كانت المطالب المصرية أمام المنظمة الدولية تسبب مشكلة حقيقية تعترض استقلال ليبيا، إذ أنها وصلت إلى حد وضعها كشروط لموافقة مصر على استقلال ليبيا، كما ومن المعروف أيضا أن مصر كانت تأمل أن يعهد إليها بالوصاية على ليبيا أو على الأقل على برقة، وكانت هذه الرغبة تجد تأييدا من الأمين العام للجامعة العربية السيد عبد الرحمن عزام.
  3. شكلت مجموعة العمل من : بريطانيا، أمريكا، فرنسا، الدانمرك، أستراليا ، جنوب إفريقيا، الأرجنتين، شيلي، المكسيك، البرازيل، الاتحاد السوفيتي،الهند، العراق، مصر، إثيوبيا
  4.  كانت نتيجة التصويت في مجموعة العمل: 10 دول مؤيدة، و4 معارضة، وامتنعت دولة عن التصويت، وهذا لا يمنع أن تقدم دول مشروعات قرارات أخرى إلى اللجنة السياسية.
  5.  وهو مصري، كان أستاذا للتاريخ في جامعة فؤاد، وأعد دراسة عن الحدود الليبية المصرية بطلب من وزارة الخارجية المصرية، وقد أوضحت الدراسة مطالب مصرية في عمق الأراضي الليبية، وقد كلفه أمين عام الجامعة العربية “عبد الرحمن عزام” بمهمة مصاحبة وفد هيئة تحرير ليبيا.  وللدكتور شكري مؤلفات في التاريخ الليبي أهمها “السنوسية دين ودولة” و “دولة ليبيا الحديثة، وثائق تحررها واستقلالها”
  6.  بناء على مشروع قرار تقدمت به الباكستان، وقد ألقى السيد عمر فائق  شنيب كلمة وفد المؤتمر الوطني البرقاوي، والدكتور علي نور الدين العنيزي كلمة هيئة تحرير ليبيا
  7. كانت مظاهرات وإضرابات قد عمت مدن ليبيا الرئيسية رفضا للمشروع ومناهضة لأي فكرة ترمي إلى عودة الحكم الإيطالي، وطيرت برقيات إلى كل من الأمين العام للأمم المتحدة، والأمين العام لجامعة الدول العربية، وإلى وزراء خارجية الدول المعنية، ولهذا فإن حديث الدكتور العنيزي كان مؤسسا على ما تناقلته وكالات الأنباء عن المظاهرات والاضطرابات التي عمت مدن ليبيا.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.