مجزرة سجن “بوسليم” وما تطرحه من مسؤوليات

لم يتعود الليبيون من حكم معمر القذافي إلا الغدر والخسة واللؤم، وكانت سنوات حكمه العجاف مسلسلا من الإجرام والطغيان والقهر. مجزرة سجن “بوسليم” أصبحت أبرز جرائم القذافي ضد الليبيين ليس فقط لبشاعتها؛ فكل جرائم القذافي بشعة، وليس فقط لأنها جريمة تحمل كل معايير سبق الإصرار والترصد؛ فجرائم القذافي ضد الشعب الليبي كلها عن عمد وكلها جرائم مبيتة، وليس فقط لأنها تمت بإطلاق الرصاص الحي ضد مواطنين عزل من السلاح؛ ذلك لأن القذافي على طول حكمه كان ينفذ جرائم القتل ضد شعب أعزل، وليس فقط للعدد الكبير الذي قتل خلال ساعات محدودة؛ فكل نفس لها قيمتها .. وقد علمنا سبحانه: ((أنه من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا)). لكن مجزرة سجن “بوسليم” تحمل في طياتها جرائم متعددة –سابقة ولاحقة- كلها تتصف بالبشاعة، وكلها تمت بأيدي الغدر والخسة واللؤم.

مقتل أكثر من ألف ومائتي سجين في ساعات محدودة يطرح أسئلة في إجابة كل منها جريمة في حد ذاتها:

فلماذا سجن هؤلاء ابتداء؟ .. ما هي التهم التي واجههوها؟ .. وما هي الإجراءات القضائية التي اتبعت معهم؟ وما هي المحكمة التي حوكموا أمامها؟ .. وبأي قوانين؟  والسؤال الصارخ هو كم قضى هؤلاء في السجن دون تهم ودون محاكمة؟ وتحت أي ظروف؟ وكم مات منهم تحت التعذيب .. أو بسبب الظروف الصحية البئيسة؟

ثم تأتي بعد ذلك جريمة “الغيلة” .. إخفاء جريمة القتل والتستر عليها .. 1200 جريمة قتل، وألف ومائتي جريمة غيلة .. 1200 نفس زاكية أزهقت على أيدي سفاحين ينفذون أوامر السفاح.

جريمة دفن القتلى بدون حضور أهلهم وطبعا بدون إذنهم، وعدم إتمام الدفن وفقا للشريعة الإسلامية.

وجريمة عدم إخبار ألف ومائتي عائلة بمقتل أبنائهم.. وإبقاء ذلك سرا لمدة تتجاوز 14 سنة … وما زال مصير كثير من السجناء (حوالي 400) مجهولا إلى يومنا هذا، وحتى بعد أن اعترف النظام بالجريمة.

جريمة تعطيل الاستحقاقات الشرعية المترتبة حين الوفاة، وما يعنيه هذا في ميزان الشريعة.

هذه هي الجرائم العديدة التي تحتويها مجزرة سجن “بوسليم” قبل أن تباشر أجهزة القذافي بإخطار الأهالي بوفاة أبنائهم.. أما بعد ذلك فقد استمر مسلسل الجرائم، بما فيها:

القيام بإخطار الأهالي على دفعات؛ الأمر الذي يزيد من ترقب ومعاناة من لم يتم إخطارهم بمصير أبنائهم. ليس هناك أكثر عذابا من الترقب والانتظار.

الاستمرار –حتى يومنا هذا- في إخقاء مصائر أكثر من 400 سجين، فما هو المبرر إن لم يكن بغيه زيادة عذابات أهاليهم.

التزوير الذي شمل شهادة الوفاة نفسها .. فهي مزورة أصلا، وبياناتها مزورة، وسبب الوفاة غير مذكور وهو ضمنا مزور.

ممارسة التضييق والضغط على الأهالي بغية إجبارهم على التخلي عن مطالبهم: شمل ذلك الاعتقالات والتهديد وغيرها مما تفنن فيه أعوان القذافي.

رفض كل مطالب الأهالي، بما فيها تسليمهم الرفات ليقوموا بدفن ذويهم.

بعد هذه الجرائم كلها تحول حكم القذافي إلى سياسات وممارسات البلطجة والمناورات المكشوفة، والتي يحاول من خلالها تصفية هذه القضية برمتها وإجبار الأهالي على التخلي عن مطالبهم.

وفي هذا الإطار يأتي تكليف “الخضار” بالتحقيق وتقديم تقرير، والخضار معروف بأنه صنيعة حكم القذافي، وسيرته المهنية وسوابق ارتباطاته لا تؤهلانه إلى تولي ملف بهذا الحجم .. وهو ما أثبته بنفسه عندما استهل مهمته باستباق التحقيق والوصول إلى أحكام مسبقة بمحاولة تجريم الشهداء الضحايا ووضعهم في دائرة الاتهام. إن حكم القذافي أراد من تكليف “الخضار” وتشكيل لجنة للتحقيق الزعم بأنه أحال الأمر إلى القضاء، وعندما تأتي تقارير الخضار ولجنته المعدة سلفا سيحاول الحكم استخدام هذا التقرير لمواجهة الاستحقاقات القضائية والحقوقية، تماما كما قام “سيف القذافي” بمسرحية الكشف عن مقتل الشيخ محمد البشتي وإبرازه على أنه مدان دون الكشف عن قاتليه وممن تلقوا أوامرهم. إنها نفس الألاعيب التي يتم تطبيقها على الشعب الليبي منذ أربعين سنة.

وفي هذا الإطار أيضا يأتي قيام النظام بتشكيل مجموعة “حتى لا ننسى” والدفع بأفرادها في مواجهة أهالي شهداء سجن بوسليم في اعتصاماتهم وفي تحركاتهم القضائية. وبالرغم من أن الأهالي لم يستجيبوا للاستفزازات المتتالية التي باتوا يواجهونها من هذه المجموعة واعتبروا أن قضيتهم لا علاقة لها بهؤلاء من قريب أو بعيد، إلا أن أجهزة الحكم استمرت في الزج بهؤلاء والزعم بارتباط القضيتين، وذلك حتى يتم تحويل المسألة إلى قضاء مدني تتم فيه التسوية بعيدا عن القضاء الجنائي؛ وما يتطلبه ذلك القضاء من الكشف عن الجناة مرتكبي مجزرة سجن “بوسليم” وتطال بالضرورة من أصدر الأمر للجناة باقتراف هذه الجريمة النكراء.

وفي إطار البلطجة والمناورات يأتي الاعتداء الجبان الآثم الذي تعرض له أهالي شهداء مجزرة سجن “بوسليم” في اعتصامهم يوم السبت 17 أبريل، يأتي هذا الاعتداء ليوضح بما لا يدع مجالا للشك أن مناورات وبلطجة حكم القذافي لا تتوقف عند أي حد مهما بلغت من خسة وإجرام وغدر. هذا الاعتداء الآثم وبما يمكن تصنيفه قانونا على أنه تهديد بالسلاح موجه إلى عدد من المواطنين يقومون باعتصام سلمي فيهم النساء وفيهم كبار السن وفيهم الأطفال، فهو فعل يتضمن جريمة ضد كل فرد من المعتصمين، ثم ما ترتب على هذا التهديد من جريمة شروع في القتل تتوافر كل أركانها، وتتم على مرأى من الشهود.

والآن ماذا ينبغي فعله؟ ماذا ينبغي على كل أبناء الشعب الليبي أن يقوموا به مجتمعين أو فرادى؟ ..ماذا ينبغي على مختلف الأطراف فعله؟

بالنسبة لأسر الشهداء: فينبغي ألا يخيفهم هذا التهديد، بل إن مواصلة الاعتصام وتكثيفه وتنظيمه أمر ينبغي الحرص عليه وإدامة زخمه فقد ابتدأ يؤتي ثماره، بل إن النتائج التي تترتب عن أي تراجع ستكون أكبر ضررا، ولن يحول التراجع دون قيام هذا الحكم الهمجي باستخدام نفس أساليب الخسة والغدر واللؤم.

بالنسبة لبقية الأسر التي لم تكن تشارك في الاعتصام، فإن مشاركتهم الآن باتت ضرورية وواجبة؛ ليس فقط للمطالبة بحقوقهم ولكن أيضا لتعزيز هذه الاعتصامات وتمكينها من أن تحقق أغراضها.

هؤلاء الشهداء لا ينتمون لأسر بعينها لكنهم ذوو خؤولة وعمومة وأصهار، إن تظافر الأقارب على اختلاف درجات القربى مهم جدا ويديم زخم الاعتصامات ويقدم حماية معنوية كبيرة.

قد أوقف الحياء أهالي الشهداء المعتصمين أن يتساءلوا أين إخواننا الليبيين؟ لم لم يقفوا معنا؟ …  ولكن السؤال قائم والمسؤولية قائمة.. وقفة سويعات مع إخوانكم هي وقفة عز تمليها الأخوة والشهامة والمواطنة. هذا الأمر ليس مقصورا على مواطني بنغازي ولكنه يشمل كل المواطنين في كل مدن وقرى ليبيا، وعلى الأخص .. على الأخص سكان العاصمة طرابلس حيث وجود الإعلام والتمثيل الدبلوماسي وغيرها من العوامل التي تساعد على إيصال مطالب الأهالي إلى كل الجهات المهتمة والمؤثرة. لقد آن الأوان أن يخرج من سكان العاصمة من يؤازر إخوانهم المعتصمين في بنغازي حتى يلفتوا أنظار أجهزة الإعلام، وحتى يؤكدوا أن هذه الجريمة هي ضد كل الليبيين، وأن القضية قضيتهم جميعا.

نحن في الخارج تقع علينا مهام ينبغي أن نضطلع بها وأبرزها أن نزيد من اهتماماتنا بهذه القضية، وأن نكون لسان حال الأهالي في الخارج، وأن نقدم لهم كل ما يمكن من دعم وتأييد ومناصرة.

أما أولئك الذين يعمل النظام على الزج بهم في مواجهة أهالي الشهداء، وذلك عن طريق أساليب الخداع والادعاءات الفارغة، فنقول لهم راجعوا أنفسكم وتحلوا بالوعي، واسألوا أنفسكم إلى متى تستمر لعبة القذافي الآثمة في ضرب الليبيين بعضهم ييعض كي يبقى متسلطا على رقابنا؟ وكيف تسمحوا للقذافي بأن يستغلكم ويستخدمكم مرتين ضد أبناء وطنكم؟. وماذا ستستفيدون إلا وزرا تحملونه وعارا يصمكم؟ إن كان لكم حقوق فاطلبوها من القذافي الذي أحال حياة الليبيين إلى جحيم، والذي أوقع بنا الفتن والضغائن.  ليس لديكم شيء عند أهالي شهداء سجنوا وهم أبرياء دون تهم ولا جريرة .. ودون محاكمة ولا إجراء قضائي ..لا تدعوا القذافي يستخدمكم مرة أخرى وزنزا الأمور بميزان العقل والوقائع.

وقبل أن أنهي هذه المقالة .. لا بد أن أعترف بأنني كنت أبحث عن الكلمات والعبارات التي استعصت علي ..  فكيف لأي كلمات مهما بلغت أن تقترب من وقفات العز التي يقفها إخواننا .. وكيف لأي كلمات مهما بلغت أن تبلغ كلمات الأمهات اللاتي قدمن لنا دروسا متتالية في الوطنية والشجاعة والعزم والإصرار .. أمهات قالت كل منهن كلماتها فأنستنا كلمات من سبقتها .. كلماتهن كانت واضحة وضوح الحق الذي يطالبن به .. بدون تردد ولا تلعثم .. جئن يحملن صور الأعزة الذين قتلوا بدم بارد .. وجئن يحملن على أكتافهن أحمالا لم يطقها بعض الرجال .. في وجوههن ترتسم معالم الحزن .. ومعها تزدحم معالم الإصرار والعزم .. أمهات جسدن الأمومة والشجاعة والوطنية في أروع صورها ..

لهن مني .. ومن كل ليبي غيور على وطنه … كل حب وتقدير وإعزاز واحترام .. والله خير الناصرين .. وهو سبحانه خير الحافظين.

 

 

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.