ما الذي جناه “قسيس ترهونه” على ليبيا؟!

 في أوائل التسعينيات من القرن الماضي اتصلت بي صحفية إيطالية تعمل “مراسلة حرة” لعدد من الصحف ووكالات الأنباء الأيطالية. أثار اهتمامها الأخبار التي تناقلتها وكالات الأنباء عن سحب قوات “الجيش الوطني الليبي”، التابع للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، من تشاد إثر سقوط نظام الرئيس التشادي “حسين هبري”، وكانت بعض هذه الأخبار تفتقر إلى الدقة، وجرت روايتها في كثير من الأحيان بطريقة تخالف الحقيقة. قالت بأنها تريد أن تسمع من الجبهة وتريد أن تحوز سبقا صحفيا بتقديم تقارير عن وجهة نظر الجبهة في هذا الخصوص وفي غيره مما يتعلق بالقضية الليبية، وعن أية أخبار تتعلق بما يجري في ليبيا. خلال حديثها انتقدت صحافة بلادها التي وصفتها بأنها تهتم فقط بالأخبار الرسمية الواردة من طرابلس، وليس هناك أية تغطية إخبارية متوازنة لما يجري في ليبيا، ووصفت صحافة بلادها بأنها منشغلة في معظمها بالحملات والعراك الدائم بين الأوساط السياسية الإيطالية.

وقالت بأنها “كمراسلة حرة” تستطيع إرسال تقارير إلى الصحف ووكالات الأنباء التي تراسلها عن الأحداث ووجهات النظر التي لا تغطى في الصحافة الإيطالية الكبرى، وأنها واثقة بأن كثيرا من هذه التقارير ستنقلها الصحف الرئيسية إذا ما وجدت فيها الجديد والمثير والصحيح، وفي نفس الوقت فإن هذا يمكنها أن تحقق لنفسها ما يحرص كل صحفي عليه من انتشار وسبق. وعبرت عن توقعها أن تجد تشجيعا من الجبهة بمساعدتها في هذا الخصوص سواء بالأخبار أو بالتحقق من الأخبار التي يمكنها أن تحصل عليها من مصادر أخرى.

 ليس هناك أفضل من أن تجد صحفيا مهتما ويعرض عليك أن يتعاون معك في نقل وجهات نظرك، بل وأن ينقل الأخبار التي لا تُتعب الصحافة نفسها في متابعتها  والحصول عليها؛ خاصة مع حال المحاصرة والإقصاء الإعلامي الذي تواجهه المعارضة. ولذلك وعدتها بالتعاون، مع التأكيد على رغبتنا في أن لا يتعرض ما يُنقل عنا لأي تحريف.

 خلال الأعوام التالية، قامت هذه الصحفية بتغطية أخبار ذات صلة بالشأن الليبي، معظمها مستقى من الجبهة، وكانت حريصة على التأكد من الأخبار التي تحصل عليها من مصادرها وتضمينها وجهة النظر المعارضة كلما اتسعت لها. وقد نشرت عدد من الصحف الرئيسية كثيرا من تقاريرها.

 وجهت الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا دعوة لهذه الصحفية لحضور جلسات مجلسها الوطني الثالث الذي تم عقد في مدينة “دالاس” بولاية “تكساس” الأمريكية  في أبريل 1992، غير أنها اعتذرت بسبب بعض الارتباطات الأسرية، لكنها حرصت على أن تتصل يوميا وأن تجري مقابلات عن طريق الهاتف مع عدد من أعضاء المجلس، وقد اهتمت بشكل خاص بإجراء مقابلات مع بعض الأخوات عضوات المجلس، ووجدت تغطيتها صدى في الصحافة الإيطالية.

 اتصلت الصحفية بي في إحدى المرات، وأخبرتني أنها كانت في لقاء مع أحد زملائها الصحفيين الذي قال لها بأن هناك معلومات بأن القذافي “ابن سِفاح، وأن والده جندي إيطالي وأمه يهودية” .. كان التعجب واضحا في نبرات صوتها، وسألتني هل سمعت بهذا من قبل؟ .. فقلت لها نعم هناك معلومات بهذا الخصوص، فجاءني صوتها بنبرة احتجاجية لماذا لم تخبرني بهذا قبل اليوم؟ .. وأردفت قائلة هذا موضوع مدوي لا بد من متابعته، هل تعرف ما يعنيه ذلك لبلادكم؟ وهل تعرف ما يعنيه هذا الخبر لي كصحفية؟. شرحت لها أنني دائما أحرص على عدم طرح هذا الموضوع لأن كثيرين يظنون أننا نبالغ ولا يصدقون، لكن ها أنت سمعت من أحد الصحفيين، فهات ما قاله لك هذا الصحفي. قالت بأن الصحفي قال لها بأنه سمع هذه المعلومة أكثر من مرة وأن مصادره لم تعطه أية تفاصيل أخرى. قالت لي إنها تريد أن تسمع مني كل ما عندي حول الموضوع .. أخبرتها بطريقة ملخصة عما لدي من معلومات، وكنت أسمع صوتها وهي تستعجلني وتضع أسئلتها حول ما كنت أقوله، كانت نبرات صوتها تدل على إهتمام شديد وأن هذه المعلومات كانت فوق ما تتوقعه إثارة وأهمية، ونسيت نفسها في أكثر من مرة وتحدثت معي بالإيطالية.

 أخبرتها بموجز عن المعلومات التي لدي (آنذاك) حول هذا الموضوع، وهي معلومات كانت معروفة لعدد من المتابعين، غير أنه أرى أنه من الضروري وضع هذه المعلومات وكيفية وصولها إلى بطريقة مفصلة أمام القراء –خاصة الليبيين-، وكذلك فقد يستفيد من هذه المعلومات من لديه القدرة على البحث والتنقيب.

 علمت بهذا الأمر على عدة مرات:

 المرة الأولى: عندما كنت دبلوماسيا في وزارة الخارجية الليبية. كنت عائدا من عملي بالبعثة الليبية لدى الأمم المتحدة للعمل في إدارة أمريكا الشمالية بالخارجية (قبل أن يجري تحويلها إلى إدارة الأمريكتين). كنت أتجاذب أطراف الحديث مع أحد الدبلوماسيين المخضرمين وكان يحتل منصب مدير إدارة بالوزارة، وعمل سفيرا في أكثر من بلد، ففاجأني بسؤالي عما أعرفه عن القذافي بحكم عمله معي في معسكر قاريونس، وأجبته بما أعرفه عنه بصورة مقتضبة، فقال لي ألم يتردد في أوساط الجيش أي شيء يتعلق بأصل معمر القذافي .. من أبوه وأمه؟ .. وعندما استفسرت منه عما كان يعنيه بهذا السؤال، قال لي: هناك معلومات أن والد معمر جندي طلياني ووالدته يهودية، وأن أسرة القذافي قامت بتربيته ، ألم يكن ذلك معروفا في الجيش؟ .. أذكر أنني أخذت بهذا السؤال .. فاجأني وأثار في نفسي التعجب، وبالرغم من معرفتي أن مدير الإدارة من الرجال الجادين الذين يوثق فيهم وفي تقديرهم للأمور، إلا أنني ظننت لأول وهله أنه يمزح .. وقلت له لا لم أسمع بهذا إطلاقا. فقال لي إن هناك رسالة أرسلها أحد الكرادلة الطليان –بعد الانقلاب بوقت قصير-، وقد تم الاستعانة بأحد دبلوماسيي وزارة الخارجية الذين يجيدون الإيطالية لترجمة الرسالة، وأن الدبلوماسي أسرّ إلى بعض زملائه المقربين عن محتويات الرسالة، وقال بأن كل ما عرفناه آنذاك أن الكردينال كان يبارك للقذافي انقلابه، ويقول له بأنه الآن في موقع يمكنه خدمة التعايش بين ديانة والده الكاثوليكية، وديانة والدته اليهودية، والديانة الإسلامية التي هي ديانة الأسرة التي تبنته وربته، وأن الكاردينال قال في رسالته بأنه كان يعمل قسيسا في ليبيا أثناء الاحتلال الإيطالي، وكان له دور في تبني أسرة محمد بومنيار لمعمر. لم يقل لي من هو مترجم الرسالة، ولم أسأله لأنني أدركت أنه لن يبوح باسمه، لكنه أبدى تعجبه كيف لم يكن هذا الأمر معروفا في أوساط الجيش!!. قلت له وما أدراك أن معلومات الرسالة غير صحيحة؟. فقال لي بأن الرسالة من كاردينال وليست من شخص عادي، ثم ما هي المبررات التي تدعوه لفعل ذلك إن لم يكن هذا الأمر حقيقيا، يدل على صحتها أنه قد جرى التكتم عليها، وأبدى أسفه الشديد أنه لم يتمكن من الحصول على أية تفاصيل  أخرى من مترجم الرسالة الذي لم يعد يتحدث عنها بعد ذلك أبدا وقال بأنه الآن يعمل في إحدى السفارات بالخارج. قبل أن ينتهي حديثنا أكد لي مدير الإدارة بأنه لا يتحدث عن هذا الأمر مع أي أحد، ولكنه أسرّ لي بهذا الأمر لسببين أنه يريد أن يعرف ما إذا كان الأمر معروفا في أوساط الجيش، والثاني أنه يثق أنني أقدر بأن الأمر سرا ولا ينبغي تداوله.

بقي هذا الموضوع في ذهني، وانشغلت به أقلب كل جوانبه، وكان السؤال الطاغي هو إذا كان الأمر صحيحا، فكيف كان مخفيا ليس فقط على الجيش ولكن على المجتمعات التي عاش القذافي بينها… وكنت أُغلب عدم صحة هذه المعلومة.

 المرة الثانية: بعد تأسيس الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، عندما كنا في أحد الاجتماعات روى لنا الدكتور محمد المقريف قصة المقابلة الصحفية المطولة التي أجراها–بعيد الانقلاب- كل من الأستاذ إبراهيم الغويل والدكتور أحمد صدقي الدجاني[1] مع معمر القذافي، لنشرها في جريدة البلاغ، .. كان الدكتور المقريف ينقل عن الدكتور الدجاني الذي التقاه في الدار البيضاء بالمغرب عام 1980. كانت المقابلة التي أجريت مع القذافي مطولة واستطرد فيها القذافي في الحديث عن طفولته ونشأته بالطريقة نفسها التي أصبح يكررها في سرده لما يسميه “قصة الثورة”. من ضمن ما ذكره القذافي أنه كان له ابن عم أمه يهودية، وكان يشبهه تماما بحيث أصبح الناس –حتى المقربون- يخلطون بينهما. وقال بأنه كان يتضايق تماما من هذا الشبه والخلط خاصة حين كان البعض “يخطيء” ويصفه بابن اليهودية. وبحسب المصدر فقد أسهب القذافي في التعبير عن ضيقه من هذا الخلط، الذي لم ينته إلا بموت ابن عمه الذي يشبهه.

بعد أن جرى إعداد المقابلة في صورتها النهائية من قبل السيدين الغويل والدجاني، قدمت للقذافي لاعتمادها، وعندما جرى إعادة النص إلى البلاغ كانت الفقرة الخاصة بابن العم (ابن اليهودية) قد جرى شطبها بالكامل من قبل القذافي.

 التقيت شخصيا الدكتور أحمد صدقي الدجاني في الرباط عدة مرات، وكان دائم الحديث عن ذكرياته الكثيرة في ليبيا وعن معارفه وأصدقائه. كان غالبا ما يقيم في فندق الهيلتون. في إحدى المرات أثناء حديثنا عن الانقلاب وتداعياته ونتائجه، سألته عن المقابلة المذكورة، فأكد لي كل تفاصيلها كما سمعتها من الدكتور المقريف. سألته كيف كان تلقيكم لعملية الشطب، قال وقتها ربما لم نتوقف كثيرا أمامها، لكن مع مرور الوقت أصبحت أشعر بأن القصة مختلقة، ولا وجود لابن العم هذا من الأصل. ذكرت له موضوع رسالة الكاردينال الإيطالي، فهز رأسه وقال لم أسمع بهذا إلا مؤخرا عن طريق بعض الأصدقاء الليبيين، وليس لدي أية تفاصيل عنها أكثر مما هو عندكم، ويمكن أن تكون قصة ابن العم هي محاولة مبكرة من القذافي لاستباق أية معلومات حول هذا الموضوع. سألته هل ذكر القذافي في المقابلة اسم ابن العم المزعوم، فقال لي إن الموضوع قد مرت عليه سنوات ولا أذكر ذلك وإن كان في الغالب أنه لم يذكر أي اسم.

 أما المرة الثالثة: فقد كانت عندما التقيت بالسفير السيد خليفة عبد المجيد المنتصر خلال انعقاد الدورة الثانية للمجلس الوطني للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا في بغداد عام 1984 . كان السيد خليفة المنتصر قد استقال من منصبه الدبلوماسي ويقيم آنذاك مهاجرا في بغداد، وقد كان أحد الضيوف الذين جرت دعوتهم لحضور المجلس. كنت قبلها بمدة قد عرفت بأن خليفة المنتصر هو الدبلوماسي الذي استعين به لترجمة رسالة الكاردينال الإيطالي، وكان المرحوم الحاج مصطفى البركي هو من أخبرني بذلك عندما التقيته في القاهرة في عام 1984، وكان الحاج البركي أيضا ضيفا على المجلس الوطني. وقد سألت السيد خليفة مباشرة عن الرسالة المذكورة، فأكد لي كل المعلومات التي أوردتها أعلاه (تحت عنوان المرة الأولى)، وأضاف ما يلي:

  1. أن الكاردينال ذكر في رسالته أنه كان قسيسا في “ترهونه”، أثناء ولادة معمر.
  2. أن محمد بومنيار كان يعمل عنده.
  3. أن في رسالة الكاردينال ما يوحي أنه كان متأكدا من أن معمر يعرف بهذه الواقعة، ولكنه أعطاه بعض التفاصيل التي ربما لا تكون لديه ومنها دور القسيس في تسليم الطفل إلى أسرة بومنيار.
  4. أوضح السيد خليفة أنه قام بالترجمة في مقر القيادة، وأن بعض المسؤولين في “مجلس قيادة الثورة” لديهم علم بالرسالة وبالترجمة التي قام بها، وذكر منهم الرائد عمر المحيشي الذي كان يقوم بمهام أمين مجلس القيادة بالوكالة؛ نظرا لتغيب الرائد مختار القروي الذي كان يشغل المنصب آنذاك، وقال بأنه قد استدعي مرة أخرى إلى القيادة حيث طلب منه أحد المسؤولين ألا يتحدث عن هذه الرسالة مطلقا، ووصفها بأنها “كلام فارغ”.

 أكرر بأنني لم أقل للصحفية هذه المعلومات بهذا التفصيل، ومع ذلك فقد كانت مأخوذة بما استمعت إليه من معلومات ملخصة. قالت لي بأنها ستسعى إلى معرفة اسم الكاردينال صاحب الرسالة؛ فهذه نقطة البداية للاتصال المباشر معه لمعرفة فحوى الرسالة، وربما سيكون في الإمكان إجراء مقابلة صحفية معه لمحاولة فهم التفاصيل، ولهذا الغرض قالت بإنها سوف تتصل بالفاتيكان. كانت تتحدث بثقة في أنها سوف تحصل على ما ترغب من معلومات بيسر، فقط كانت تأمل أن يكون كاتب الرسالة ما يزال على قيد الحياة.

 بعد عدة أيام اتصلت بي وأخبرتني، أنها قد طلبت موعدا لمقابلة أحد المسؤولين الإعلاميين في الفاتيكان، وقالت بأن أحد زملائها من العاملين في وكالة أنباء الفاتيكان “Agenzia Fides ” قد رتب لها هذه المقابلة وساعدها على التعجيل بها، وتم بالفعل تحديد الموعد. وأوضحت بأنها لن تثير مع المسؤول أمر الرسالة ولن تتطرق إلى (كاردينال)، لكنها ستسأل عن القسيس الذي عمل في منطقة ترهونه في الفترة التي ولد فيها القذافي، وسألتني عن العام الذي ولد فيه معمر القذافي، وقد أجبتها بأن معمر يقول إنه من مواليد 1942، ولا أحد يمكنه الجزم بالدقة متى ولد، فقالت في هذه الحالة فإن من الأفضل أن تسأل عن القسيس أو القساوسة الذين عملوا بين أعوام (1939-1943) في منطقة ترهونه.

 مرة أخرى، كانت تتوقع أن الأمر سيكون سهلا لأنها –كما قالت- متأكدة أن الفاتيكان من أكثر الجهات دقة في توثيق الحركة الوظيفية للقساوسة. وأعترف أنني شاطرتها الأمل في أن يكون الأمر يسيرا بالطريقة التي ظنتها، غير أن تطور اتصالاتها مع الفاتيكان أثبت أن الأمر ليس بالبساطة التي توقعتها. كان الأمر معقدا إلى درجة الخطورة.

 أخبرتني الصحفية عن المقابلة الأولى التي أجرتها، ووصفت المقابلة بأنها كانت إيجابية ومشجعة، وأن المسؤول قد وعدها بتحويل طلبها إلى الجهة التي تعنى بالسلك الكهنوتي (لم أعد أذكر اسمها)، وذكر لها أن استخراج اسم القسيس ممكن ولكنه قد يتطلب بعض الوقت، واستفسر عن السبب وراء الرغبة في معرفة القسيس المذكور، وقالت له بأنها تريد التحدث معه لأسباب خاصة. وقالت بأن المسؤول أشار إلى أن القسيس ربما يكون قد بلغ رتبة عالية الآن نظرا لمضي الوقت، وهذا لن يجعل الالتقاء به بالسهولة المتوقعة.

 استمرت الصحفية الإيطالية في متابعة طلبها ولكن مراجعاتها واجهت مماطلة واضحة، ومزيدا من التأجيل واختلاق الأعذار. وبعد حوالي أكثر من شهر قابلت نفس المسؤول الذي سبق لها مقابلته، ووجدته متغيرا في ردوده وخاليا من الود والإيجابية اللذين لمستهما فيه خلال المقابلة الأولى، وقال لها إنهم يعتذرون عن تلبية طلبها لعدم إمكان استخراج المعلومة المطلوبة، وكان يتعلل ببعد المدة وبعدم إمكانية الرجوع إلى السجلات القديمة. وعندما أبدت له عدم اقتناعها برده وطالبت منه أن يرتب لها مقابلة مع المسؤول في الفاتيكان الذي اتخذ القرار بعدم الاستجابة لطلبها، أو أنها سوف تنشر تقريرا كاملا عن اتصالها بهم ورفضهم الطلب. قال لها بأنه سيحاول ولكنه لا يعدها.

 أخبرتني الصحفية بأنها غير مقتنعة بالأسباب التي أبداها المسؤول، وأنها قد ازدادت إصرارا على متابعة الأمر. وبعدها بمدة علمت منها أنه قد تم تحديد موعد لها في الفاتيكان.

 يوم الموعد تلقيت منها مكالمة، كان صوتها مرتعشا وأنفاسها عالية لدرجة أنني لم أكد أتبين صوتها، قالت بانها قد أنهت لتوها المقابلة، وأنها خائفة جدا كما لم تخف يوما في حياتها، وقالت لي بأنها تحادثني من تلفون عام. فهمت منها أنها قابلت “شخصية سامية” في الفاتيكان، وأنه قال لها بأنهم يعرفون تماما لماذا تبحث عن “قسيس ترهونه”، وأنه ينصحها بترك هذا الأمر. وعندما لمس منها إصرارا على متابعة الأمر، قال لها إنه من غير صالحك الاستمرار في هذا المسعى .. لن تتمكني من الوصول إلى أي شيء، ومن جهتنا لن نقدم لك أية معلومات، لكن لا تحاولي فعل أي شيء قد تندمين عليه. كانت تخبرني بكل هذا بصوت ينم عن رعب حقيقي، فحاولت من جهتي أن أهديء من روعها، لكن صوتها جاءني مكررا “إنني خائفة جدا .. لقد هددني .. أتفهم .. هذا تهديد واضح”. قلت لها ربما كانت نصيحة ولا تأخذيه على أنه تهديد، وربما لا يرغبون في أن يثار الأمر مجددا، أو أن يكون الفاتيكان طرفا فيه. قالت لي أنت لا تعرف هؤلاء “الآباء” إنهم يخفون القسوة تحت أرديتهم الكهنوتية وكلماتهم المعسولة، هذا تهديد ولذلك فأنا خائفة جدا.. أنت لا تعرف سطوة الفاتيكان .. التي لا تقترب منها سوى سطوة المافيا. وجدتني اقول لها استريحي الآن وسنتحدث بعد أن تتمالكي نفسك.

 مرت أيام لم تحدثني، وكنت لا أريد أن استعجل الاتصال بها، ولكنني كنت متحرقا لأعرف مزيدا من تفاصيل ما جرى معها. وفي النهاية كلمتها فردت علي وقالت قبل أن تقفل الهاتف سأتحدث معك في وقت لاحق. وعندما خابرتني بعدها بساعات قالت إنها تحادثني من تلفون عمومي، وطلبت مني ألا أتصل بهاتفها. أوضحت لي أنها متأكدة أن تلفونها أصبح مراقبا، وأنها منذ تلك المقابلة تحس بأن تحركاتها مراقبة، حتى زميلها الذي يعمل في وكالة أنباء الفاتيكان تجنبها حين اتصلت به واقتضب المكالمة دون أن يسمح لها بالاستطراد. ألحت علي في ألا أتصل بها على هاتفها، وأنها ستعمل على الاتصال بي من هاتف عمومي لمتابعة التعاون في مجال أخبار ليبيا، ولكن أرجو ألا نعود إلى  “قسيس ترهونه”.

 مرت فترة طويلة دون أن تتصل بي، إلى أن جاءتني مكالمتها، لم أكد أعرف صوتها للوهلة الأولى، قالت إنها بهذه المكالمة تودعني، لأنها مضطرة إلى تغيير مكان إقامتها، ولم يعد في إمكانها القيام بمتابعاتها المعهودة لأخبار ليبيا، وعندما عبرت لها عن دهشتي لهذا القرار بعدم متابعة الشأن الليبي من جانبها، قالت بأن تقاريرها ومواضيعها لم تعد تنشر في الصحف ووكالات الأنباء.. وأنها منذ مقابلتها في الفاتيكان لم ينشر لها سوى النزر اليسير، وأردفت قائلة إن الرسالة واضحة وقد فهمتها. وقالت بأن زوجها هو الآخر قد أصبح متضايقا من الشعور بأن هناك من يراقبنا. عبرت لها عن أسفي العميق وعن تمنياتي لها بأن تتجاوز هذه المحنة، قالت لي لا تنشغل بي، ولا تشعر بالأسف فلقد مارست الصحافة كما ينبغي أن تكون وحققت رواجا لنفسي، وحاولت أن أكون صحفية تبحث عن الخبر والحقيقة، كنت أظن أن الأمر لا يتعدى أن يكون عملا خيريا قام به قسيس لحل مشكلة رجل وامرأة وقعا في الخطيئة، ولحل مشكلة المولود بتأمين أسرة تتبناه، وأن الصدف وحدها قد أكملت مشوار هذه القصة، لكن يبدو أن هذا العمل الخيري قد جرى استغلاله من جهة ما وتحويله إلى وجهة أخرى، لم أكن أدري أنني كنت أحوم حول عش للدبابير .. وأي دبابير!!.

قلت لها: ما زلت أبحث عن تفسير عن السبب الذي دعى الكاردينال إلى إرسال رسالته إذا كان الأمر بهذا التعقيد والسرية، فلماذا أرسل الرسالة؟ قالت أنت تعرف الإجابة، ربما كان الكاردينال نفسه يظن بنظرية الصدفة التي كنت أظنها، وربما وقتها لم يكن الأمر بما هو عليه الآن من تعقيد.

 عندما عبرت لها مرة أخرى عن الأسف لما سببه لها هذا الموضوع، كررت لا تنشغل بي فقد وضعت إصبعي في عش الدبابير والأثر قد يبقى معي طيلة حياتي، ولكني أعمل جاهدة للوقوف من جديد وسوف أتخلص منه، أما أنتم فكان الرب في عونكم؛ فبلادكم أضحت هي العش الذي تحوم فيه وحوله الدبابير.

تغير رقم تلفونها، ولم أسمع منها بعدئذ أبدا.

 وبعد … فلم يسبق لي نشر قصة “الصحفية الإيطالية” لأنها كانت قد طلبت مني عدم نشرها، ولا إعطائها للصحافة؛ لأنها كانت تخشى أن يؤدي ذلك إلى إلحاق مزيد من الضرر بها، كما أنها حذرتني مما قد يسببه لى نشر هذه المعلومات من مصاعب. وفي حينها قمت بتدوين ما دار بيني وبينها من أحاديث حول هذا الموضوع تفاديا للنسيان وللاحتفاظ بها للتاريخ،  وقد حرِصتُ على أن لا تخرج هذه القصة عن إطار محدود جدا. لكن الآن، وقد مضت أكثر من 16 سنة على هذه الحادثة، رأيت أن من واجبي أن أنشرها وأضعها أمام إخوتي الليبيين لتحقيق مزيد من الإدراك الجماعي لأبعاد المؤامرة التي تستهدف بلادنا. أضعها أما الدارسين والبحاث فقد يأتي يوم يكون في الإمكان متابعة البحث والتقصي للوصول إلى مزيد من الحقائق المحيطة بهذا الموضوع الذي ما زالت تفاصيله تتوالى بطرق مثيرة. وقد تكون تلك الحقائق الغائبة مفتاحا لكثير من الألغاز، وإجابة للكثير الكثير من التساؤلات.

والله من وراء القصد .. وهو وحده المستعان


[1]  الدكتور أحمد صدقي الدجاني فلسطيني أقام في ليبيا فترة طويلة خلال العهد الملكي وبعده، عقد خلالها صلات وثيقة مع العديد من الليبيين من مختلف الاتجاهات والمشارب، وساهم في مجريات الحركة الثقافية والأدبية والإعلامية والسياسية في ليبيا إبان العهد الملكي، وأصهرت أسرته إلى بعض الأسر الليبية، ومعروف عنه أنه قد جمع بين التوجه الإسلامي والقومي (الناصري)، وكان من قيادات حركة التحرر الفلسطيني ومن المشاركين في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وانتخب عضوا مستقلا في لجنتها التنفيذية، وعمل في كثير من المؤسسات المنبثقة عن المنظمة، وقد ألف عددا من الكتب (حوالي 60 كتابا) منها خمسة على الأقل عن ليبيا، من أبرزها كتاب ” الحركة السنوسية … نشأتها ونموها في القرن التاسع عشر” الذي يعد بحق من أهم ما كتب عن الحركة السنوسية، وقد كان الكتاب في الأصل بحثا نال المؤلف به درجة الماجستير من جامعة القاهرة، وصدرت له عدة طبعات. ونال درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة وكانت أطروحته بعنوان “ليبيا قبل الاحتلال الإيطالي”. ساهم الدجاني مع الأستاذين علي اوريث وإبراهيم الغويل في إنشاء جريدة البلاغ.  وكان للدكتور الدجاني دور أساسي في نشوء العلاقة بين الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا ومنظمة التحرير الفلسطينية.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.