على أعتاب المرحلة الانتقالية

على أعتاب المرحلة الانتقالية يقف الشعب الليبي مثقلا بالأعباء، مثخنا بالجراح، يتطلع إلى المستقبل بالثقة والأمل والتفاؤل، مع شيئ من التوجس والخوف والقلق.

اثنان وأربعون سنة من حكم الطاغية جرّدت البلاد من كل مقومات ومؤسسات الدولة، وأرهقت المواطن لدرجة الإنهاك، وخربت البنى التحتية، وأثارت نزاعات وخلافات بين الناس، وأشاعت الجهل بأساسيات العمل السياسي الجماعي، وخلفت جراحا عميقة وأحزانا بالغة ومظالم لا تتقادم. تركت تلك السنوات العجاف ندوبا لا تمحي وممارسات لا تنسى وسجونا مورس فيها كل صنوف التعذيب والقهر النفسي والجسدي والقتل المتعمد.

إضافة إلى ذلك ثمانية أشهر من الحرب الشرسة التي شنها الطاغية ضد الشعب الليبي كان من نتائجها ما لا يقل عن خمسة وثلاثين ألف شهيد، يتركون وراءهم عشرات الآلاف من الأرامل والثكلى واليتامى. كما كان من نتائجها عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين، منهم أعداد كبيرة من الشباب الذين أصبحوا من ذوي الاحتياجات الخاصة. هذا مع الدمار الهائل الذي أصاب عديدا من المدن والمنشآت. ناهيك عن هذا الكم الهائل من الأسلحة التي أصبحت في متناول الأيادي، غير تلك التي يقال بأنها قد خزنت في مواقع غير معروفة.

وقد مرت بنا سبعة أشهر من إدارة أزمة حققت نجاحات محدودة، لكنها لم تتمكن من حلحلة كثير من القضايا والمسائل الحساسة الهامة، ولم تقترب حتى من إنجاز أساسيات توقعها المواطن؛ فلم تواكب هذه الإدارة زخم الثورة في جبهات القتال، وتغلغل في أوساطها بعض ممن كانت الثورة أساسا لإبعادهم. إدارة أزمة حرص رئيسها أن يديرها من خارج البلاد وبعيدا عن موقع الأزمة، وساهمت تصريحاته التي سبقت وتزامنت مع استقالته في إضفاء تعقيدات أخرى على المشهد السياسي، وأبانت رغبة في التفرد والإقصاء، وأثارت هواجس وتخوفات، كما بثت كما غير قليل من التشاؤم، وحكمت تلكم التصريحات مسبقا على مهمة بناء الدولة الليبية بأنها (مهمة مستحيلة).

يُقبل الشعب الليبي على المرحلة الانتقالية وهو ينوء بهذا كله؛ ما يزيد من صعوبات هذه المرحلة ويضيف استحقاقات أخرى، ويشكل أولويات لا ينبغي للعين أن تخطئها.

المرحلة الانتقالية معنية أساسا بعدة أمور:

  • طي صفحات الماضي المظلم بإجراءات عملية وبتدابير تشريعية وإجرائية وأمنية، يقع في دائرتها التحفظ على رموز الحكم المنهار وعدم التهاون معهم  إلى أن يتم تقديمهم للمحاكمة ، والشروع في إعادة الحقوق المنهوبة من المواطنين والتي استولت عليها الدولة، ومواساة كل من أصابه ضرر بالغ جراء ممارسات الحكم المنهار. ويقع في دائرتها أيضا الإسراع بفتح باب التراضي والتقاضي لتسوية القضايا والمسائل العالقة بين المواطنين درءا لاضطرارهم إلى اللجوء إلى وسائل أخرى.
  • معالجة الآثار المترتبة عن الحرب الشرسة التي شنها الطاغية ضد الشعب الليبي. يقع في هذه الدائرة الاهتمام برعاية أهالي شهداء ثورة السابع عشر من فبراير، ومد هذه الرعاية لتشمل أهالي كل الشهداء الذين استشهدوا خلال سنوات حكم الطاغية؛ فكل قدم لهذا الوطن، وكل استشهد. يقع في هذه الدائرة أيضا الاهتمام بعلاج الجرحى وبإعادة تأهيل المعاقين واستحداث قوانين وتشريعات تستجيب إلى متطلبات ذوي الاحتياجات الخاصة. كما أن إعادة النازحين إلى ديارهم أمر ينبغي أن يحظي بأسبقية عالية.
  • إدارة الشأن العام أثناء المرحلة الانتقالية، وتقرير أولويات يتم التعامل معها بطريقة متوازية، مع إعطاء أولويات قصوى لإعادة صياغة مناهج التعليم وأساليبه، ولملف الصحة والاستشفاء، ولملف إيجاد فرص عمل للشباب، وتوفير السكن للراغبين في الزواج. هذه الملفات لا تحتمل أي تأجيل.
  • عندما نتحدث عن الأمن تقفز الأذهان إلى السلاح المنتشر والذي هو حقيقة يشكل مصدر قلق، وينبغي التعامل مع ملف السلاح بكل جدية، وبأساليب تكفل السيطرة. هذا لا يتم بالاعلان أو بإصدار الأوامر، بل باتخاذ الإجراءات والتدابير التي تستقطب الثقة وتؤدي إلى إشاعة الاطمئنان بأن ثورة السابع عشر من فبراير لن تسرق أو توجه وجهة غير وجهتها، وأن دماء الشهداء لن تذهب سدى. هذه الإجراءات والتدابير من ضمنها ومن أهمها إسناد الأمور إلى شخصيات معروفة بالنزاهة وعدم التورط مع الحكم المنهار، وأيضا إتاحة الفرصة أمام الليبيين بكل توجهاتهم وشرائحهم للمشاركة في مجريات المرحلة الانتقالية تشاورا وتصورا وصنعا للقرار. لكن الأمن لا يتوقف فقط عند حد ملف السلاح، بل يتعداه إلى أمور أخرى يأتي على رأسها تأمين الحدود، والسيطرة على فلول الحكم المنهار، ومتابعة الفارين منهم دبلوماسيا وقضائيا؛ فهؤلاء يشكلون مكمنا لأخطار داهمة قد تؤدي إلى عرقلة جهود بناء الدولة أو زعزعة الاستقرار. إن أولى مهام الدبلوماسية الليبية هو العمل مع الدول لتسليمها الفارين من رموز الحكم المنهار الذين شاركوا بأي صورة من الصور في إيذاء الليبيين وإذلالهم وسرقة أموالهم.
  • ملف الأموال العامة المنهوبة والتي تقبع في حسابات في البنوك الدولية، ملف  بالغ الأهمية والحساسية كما هو بالغ التعقيد والصعوبة. هذا الملف لا ينبغي أن يوضع في أيدي من سبق لهم وأداروا الملفات المالية وساعدوا على نهبها بشتى الطرق ولو بالخنوع لتعليمات الطاغية، بل ينبغي وضعها في أيد أمينة شريفة نظيفة. ولا يكفي التوقف عند استرجاع الأموال ومتابعة اللصوص، بل ينبغي كشف وفضح الطرق والحيل التي استخدمت لنهب الأموال بما فيها العقود المبرمة للتغطية على عمليات النهب، ومحاسبة كل من ساهم في ذلك.
  • وعندما نتحدث عن المال العام فإنه ينبغي على السلطات الانتقالية مراعاة الشفافية المطلقة في إدارة المال العام، وسن التشريعات التي تكفل هذه الشفافية وتعاقب كل من يخل بها، وإنشاء آليات الرقابة والمحاسبة. لا أحد يدري متى سيبدأ مشروع إعادة الإعمار، أهو خلال المرحلة الانتقالية أم أنه سيترك للحكومة التي ستتكون بناء على الدستور الدائم؟. لكن الأحاديث كثرت عن هذه المسألة بما في ذلك تحديد أرقام فلكية وتكوين مؤسسات لهذا الشأن، وحتى تعيين (المحاسيب) لإدارة هذه المؤسسات بغية السيطرة على ميزانيات الإعمار الضخمة. هذا الملف في رأيي يجب أن يعالج بحكمة وبكل شفافية بعيدا عن الارتجالية التي شاهدناها، وأول الخطوات نحو الشفافية هو حل هذه المؤسسات التي جرى تشكيلها على عجل وبدون أية روية.
  • المصالحة الوطنية هي إحدى استحقاقات المرحلة الانتقالية. من الضروري أن ندرك الأهداف السامية للمصالحة الوطنية، وينبغي أن نتجنب تفريغها من محتواها بالظن أنها تعني الصفح عن كل ما ارتُكب بحق الشعب الليبي من جرائم. المصالحة الوطنية هي بين أبناء الشعب الليبي، أما من أجرم في حق الشعب الليبي فهو ليس طرفا في المصالحة، وإنما ينبغي أن يواجه المحاكمة أولا، فهي إما برأته أو جرمته. المصالحة الوطنية تعني التسامح والصفح عن الهنات والهفوات، وهي لا تسقط الحقوق إلا فيما نصت عليه وانعقدت من أجله. هذا الاستحقاق ينبغي أن يخطط له وان يبعد عن الارتجالية.
  • المرحلة الانتقالية هي مرحلة تجمع بين طي صفحات الماضي وإدارة الحاضر وبناء الدولة الليبية. هي مرحلة ينبغي أن تختلف بالكلية عن مرحلة التحرير. لأن استحقاقاتها مختلفة، فإن مؤسساتها مختلفة أيضا، وأساليب إدارتها ينبغي أن تختلف. هي مرحلة تخص الشعب الليبي كله ولا يقتصر القرار فيها على المؤسسات القائمة –حاليا- مهما بلغت مشروعيتها. دور المؤسسات القائمة يكمن في تفعيل الحوار الوطني وتوسيع التشاور وإتاحة المشاركة أمام الشعب الليبي في اتخاذ القرارات.
  • وبدون شك فإن أهم استحقاق في المرحلة الانتقالية يكمن في صياغة وإقرار الدستور، من خلال جمعية وطنية تأسيسية منتخبة من الشعب الليبي، ثم عبر استفتاء
  • الشعب حول مشروع الدستور المعد من الجمعية الوطنية التأسيسية. لكن هذه ليست كل آليات إقرار الدستور، بل هناك آلية هامة ينبغي أن لا تغيب وهي الحوار الوطني بين كل مكونات الشعب، هذا الحوار يجب أن يكون حاضرا في كل المراحل: مرحلة انتخاب الجمعية التأسيسية، وأثناء مداولاتها، وأثناء الاستعداد للاستفتاء العام لإقرار الدستور.

وبعد … مع هذه الاستحقاقات، لا بد من التذكير بأهمية إعمال الوحدة الوطنية وتجسيدها، والتغليب المطلق للمصلحة الوطنية العليا، وتجاوز المصالح الشخصية أو الحزبية أو القبلية. إن إشاعة الثقة بين مكونات الشعب الليبي من أهم العوامل المساعدة على اجتياز المرحلة الانتقالية بنجاح يحقق مقاصدها وأهدافها  واستحقاقاتها. والثقة تتعزز بتبني سياسات متوازنة من استيعاب كل الأطراف. ويبقى التفاؤل عنصرا هاما في التغلب على الصعاب.

إن المرحلة الانتقالية هي وعاء بناء الدولة الليبية؛ الكيان الذي سيجمعنا نحن الليبيين شعبا واحدا فوق التراب الوطني الذي نستمد منه هويتنا. ومن هنا تكتسب المرحلة أهميتها، ما يستوجب العناية المطلقة بكل استحقاقاتها ومفرداتها.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.