رؤوس أقلام في المصالحة الوطنية

المصالحة الوطنية هي أحد أهم استحقاقات المرحلة الانتقالية، بل يمكن القول أنه لا غنى عنها لبناء الدولة الليبية؛ فالمصالحة الوطنية هي الركن الأساس لصياغة  العقد الاجتماعي الليبي الجديد، والانطلاق منه لصياغة الدستور الليبي. فلا دستور بدون عقد اجتماعي متين الأركان والبنيان، ولا عقد اجتماعي إذا ما استمرت في النفوس جوائح الشعور بالغبن والظلم وباستلاب الحقوق، ولا يمكن للشعب الليبي الذي تعرض للظلم والقهر والقمع أن يشعر بالسلام الاجتماعي وبالطمأنينة والأمن دون انجاز المصالحة الوطنية.

من الضروري أن نحدد بكل دقة الأهداف السامية للمصالحة الوطنية، وكذلك معناها ومغزاها ومفرداتها. فهي تهدف إلى التجاوز والتسامح عن الهنات والهفوات التي يمكن ان تكون قد ارتكبت من الليبيين بحق بعضهم البعض، يدخل في ذلك ما كان نتاج الأجواء القمعية والقوانين التعسفية التي أخضع الحكم المنهار لها كامل الشعب الليبي، والتي أجازت كثيرا من الممارسات المعيبة الخاطئة. لكن لا يدخل فيها جرائم الدم والعرض، ولا جرائم المال العام، كما لا يدخل فيها جرائم إذلال الليبيين وترويعهم وتمكين الطاغية من رقابهم.

ينبغي أن نتوخى من المصالحة الوطنية أن تحقق هدفين:

أولهما: طي صفحات الماضي، وهو أمر لا يتم بخطوات ارتجالية متعجلة، ولا يتم بالتفريط في الحقوق، والتجاوز المفرط عن الجرائم. وإنما بالتخطيط، وتقديم الحقوق على التجاوز والعفو.

وثانيهما: أن ينتج عن المصالحة الوطنية روادع تحول دون تكرار ما تعرض له الشعب الليبي من مآسي وجرائم وكوارث. وهذا يعيدنا من جديد إلى ضرورة تقديم الحقوق على التجاوز والعفو، وأيضا إلى ضرورة أن تتم المساءلة والمحاسبة والتعزير قبل أي تنازل أو عفو. وهنا لا بد من التأكيد على تجنب القول بأن ما حدث لن يتكرر؛ فقد قالها الليبيون من قبل عندما انجلى عهد الاستعمار الإيطالي وبدت تباشير الاستقلال، ووضعنا تحت أقدامنا ظلم أولى القربى دون مساءلة ولا محاسبة، وقال آباؤنا حينذاك .. إنه لن يتكرر .. وها هو تكرر على مدار 42 سنة بطرق أبشع من سابقاتها.

ومن البداية  ينبغي التحذير من تفريغ المصالحة الوطنية من محتواها بالظن أو القول أنها تعني الصفح عن كل ما ارتُكب بحق الشعب الليبي من جرائم، أو أنها تُسقط الحقوق وتحول دون أصحابها من المطالبة بها. فهناك ما لا يملك المجتمع أن يتنازل عنه أو يُسقطه، فهو حق مطلق ومقدس لمن لحق بهم الضرر؛ هم أصحاب القول فيه، وينبغي التسليم لهم بذلك. إن تفريغ المصالحة الوطنية من محتواها سيعني ببساطة الحيلولة دون إتمامها، أو إلغاء كل ما يمكن أن يترتب عليها من إيجابيات وتركها هيكلا خاويا قد يستخدم ضد من يطالب بحق أو يسعى إلى إقامة عدل.

المصالحة الوطنية تُعني بمرحلتين مختلفتين، لكل مفرداتها؛ وبالتالي تختلف أساليب التعامل مع هذه المفردات:

المرحلة الأولى: مرحلة حكم الطاغية التي امتدت اثنين واربعين سنة وما تمخض عنها من نزاعات وخلافات بين الناس، وما خلفته من جراح عميقة وأحزان بالغة ومظالم لا تتقادم، وما ترتب عنها من ندوب لا تمَّحي وممارسات لا تُنسى وسجون مورس فيها كل صنوف التعذيب والقهر النفسي والجسدي والقتل المتعمد.

المرحلة الثانية: هي مرحلة الحرب الشرسة التي شنها الطاغية ضد الشعب الليبي، واستخدم فيها مواطنين ليبيين لمحاربة إخوانهم، والتي كان من نتائجها ما لا يقل عن خمسة وثلاثين ألف شهيد، يتركون وراءهم عشرات الآلاف من الأرامل والثكلى واليتامى، وكان من نتائجها عشرات الآلاف من الجرحى والمصابين، علاوة على فواجع اغتصاب أعداد مأهولة من حرائرنا ونسائنا العفيفات، بالإضافة إلى العداوات والضغائن التي ترتبت عن هذه الحرب والتي وضعت مدنا كاملة في مواجهة أخرى. عداوات وضغائن –إن لم تعالج بسرعة- سيكون لها أبعادا خطيرة للغاية، وقد تبقى آثارها في الأذهان لعقود قادمة.

كلنا ندرك جسامة وفظاعة ما ارتكب خلال هاتين المرحلتين، ولذلك يسوء الليبيين أن يروا أقواما -من بينهم- يحاولون التهوين من هذه الجرائم ومن أهمية التعامل الحازم معها ومع مرتكبيها تحت ذرائع التسامح والعفو، بل إن البعض يجعل من ذلك متطلبا لا تتحقق المصالحة إلا به. إن مثل هذه المحاولات –بغض النظر عن دوافعها- هي مهينة ومستفزة للمشاعر، علاوة على أنها تُشهر سيف الحياء في وجوه المظلومين أصحاب الحقوق، وتضعهم بين سندان ظلم تعرضوا له ومطرقة ظلم جديد يُفرض عليهم …  بين غصائص تجرعوها وآلام عانوها وغصة جديدة وتهمة جاهزة بأنهم إن لم يتخلوا عن مظالمهم فهم يعرقلون المصالحة الوطنية.

أمر آخر نأمل أن يكون حاضرا في الأذهان، وهو أن المصالحة الوطنية لا تُعني فقط أن يُدعى الليبيون إلى يوم للمصالحة، وإلى احتفالات وولائم بالمناسبة. ولا تتوقف عند مطالبة المظلومين بالتنازل عن مظلماتهم وحقوقهم،  لكنها ينبغي أن تشمل إجراءات وتدابير عملية، وسن تشريعات يتوافق حولها الجميع تضمن تحقيق ما يلي:

أولا:  التحفظ على رموز الحكم المنهار وعدم التهاون معهم إلى أن يتم تقديمهم للمحاكمة.

ثانيا:  عدم جواز التسامح في جرائم الدم والعرض والمال العام. إن أي تنازل أو تسامح في هذا الشأن لا بد أن يخضع لمعيارين:

  1. لا يكون إلا بعد تحقيق العدالة وقول القضاء كلمته في مثل هذه الجرائم ومرتكبيها، عندها يمكن لمن أراد من أصحاب الحقوق أن يتنازل؛ فيكون تنازله عفو قادر.
  2.   ولا يتم إلا بالموافقة الحرة لأصحاب الدم أو المتضررين من جرائم العرض أو بإعادة المال العام المنهوب إلى خزينة الدولة.

ثالثا: تقديم المواساة المادية والمعنوية لكل من أصابه ضرر بالغ جراء ممارسات الحكم المنهار.

رابعا: إعادة الحقوق المنهوبة من المواطنين والتي استولت عليها الدولة.

خامسا : فتح باب التراضي والتقاضي أمام المواطنين لتسوية القضايا والمسائل التي قد تكون عالقة بينهم، على أن تكون الدولة طرفا ضامنا لأية تسويات مادية أو غيرها من التسويات.

وفي الختام، لا بد من القول بأن المصالحة الوطنية هي بين أبناء الشعب الليبي، أما من أجرم في حق الشعب الليبي فهو ليس طرفا في هذه المصالحة، وإنما ينبغي أن يواجه المحاكمة أولا، فهي إما برأته أو جرمته.

المصالحة الوطنية لا تسقط الحقوق إلا فيما نصت عليه وانعقدت من أجله.

المصالحة الوطنية هي طي للماضي مع تثيت للحقوق، وإنصاف للمظلومين، وتعزير لمن ارتكب جرما في حق الليبيين.

هذه هي المصالحة الوطنية التي نريد، والتي ينبغي أن تكون.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.