حول تحريض القذافي على تقسيم السودان

تصريحات القذافي الأخيرة بخصوص جنوب السودان ما هي إلا متابعة لسياساته القديمة-الجديدة تجاه السودان ووحدتها واستقرارها. هذه التصريحات التي أعلن فيها القذافي تأييده ودعمه لانفصال الجنوب عن السودان؛ في عملية تحريض واضحة للجنوبيين على الانفصال بالتلويح لهم بتأييد الدولة الانفصالية ودعمها. هذا التلويح بدعم الدولة الانفصالية كرره القذافي من قبل حين قدم وعدا بذلك إلى سلفاكير نائب الرئيس السوداني ورئيس حكومة الجنوب.

وبالعودة إلى تاريخ العلاقات بين حكم القذافي والسودان نجد أن تدخلات القذافي في الشؤون الداخلية للسودان لم تتوقف عند التصريحات والمناوشات الكلامية، ولكنها امتدت لتشمل دعم وتأييد القذافي لحركات الانفصال في السودان سواء كانت في الجنوب أو في دارفور وإمداد هذه الحركات بالمال والسلاح. كما أن علاقات حكم القذافي مع السودان شهدت توترا مستمرا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي منشؤه المحاولات المتكررة للقذافي للإطاحة بالحكومة السودانية عن طريق تدبير انقلابات عسكرية وعن طريق محاولات غزو السودان من الأراضي الليبية، وقيام السلاح الجوي الليبي بقصف قرى ومدن حدودية سودانية، علاوة على الغارة الجوية على مدينة أم درمان. كما أنه ليس سرا قيام القذافي بإمداد حركة “غارانغ” بكل ما تحتاجه من مال وأسلحة كان يتم تهريبها عبر الحدود السودانية المترامية؛ الأمر الذي مكن هذه الحركة من تشكيل تهديد خطير فرض على الحكومة المركزية القبول بعقد اتفاقية تحتوي على إجراء استفتاء لتقرير المصير. وليس سرا أيضا قيام القذافي بإغراق إقليم دارفور بالسلاح الذي زودت به حركات التمرد عبر الحدود الليبية السودانية وتحت غطاء عدد من المشاريع منها “مشروع ساق النعام”.

أمام هذا التاريخ الأسود، وأمام رعاية القذافي المستمرة لحركات الانفصال في جنوب السودان وفي دارفور، أمام ذلك كله فإن تصريحات القذافي تبدو متماشية مع سياساته ومواقفه تجاه السودان. لم تتغير هذه السياسات بتغير الزمن وبتبدل الحكومات السودانية، ومن الواضح أيضا أن ترؤس القذافي للاتحاد الإفريقي لم يغير من مواقفه وسياساته تجاه السعي الدؤوب لتفكيك السودان وتحويله إلى دويلات قزمية، وهو مخطط لم يعد سرا أن بعض الأطراف الدولية –على رأسها إسرائيل- تسعى إلى فرضه.

وقد جاء تعبير المسؤولين في السودان عن استغرابهم لتصريحات القذافي المذكورة، ووصفهم لها بأنها تصريحات “خطيرة وغير موفقة وغير مقبولة”، جاء ليبين أن الخرطوم قد تكون حقيقة غير واعية بمخططات القذافي ورغباته الدفينة في تفتيت السودان. كما تدل ردة الفعل الضعيفة للحكومة السودانية تجاه هذه التصريحات “الخطيرة” على أنها ما زالت تتعلق بأوهام قيام القذافي بدور  إيجابي في حل مشكلة دارفور.

لكن الحقيقة تبقى أن الحكومة السودانية -في مضمار سعيها لحل المشاكل والمصاعب التي تواجهها في الجنوب وفي دارفور- قد اضطرت إلى أن تستعين على إطفاء هذه الحرائق بمشعلها ومؤججها معمر القذافي فأتاحت له بذلك مواطئ أقدام أخرى، وسلمته ملفات كثيرة لينفذ مخططاته مستغلا الظروف الصعبة التي تواجهها الحكومة السودانية.

هذه التصريحات لا يمكن تفسيرها إلا أنها تشجيع وتحريض واضح ومعلن على اجتثاث الجنوب من التراب السوداني وانفصالها؛ كونها تأتي قبل الاستفتاء المزمع إجراؤه بعد أشهر قليلة، وكونها تعطي لدعاة الانفصال في الجنوب مزيدا من الوقود في خلافاتهم مع الحكومة المركزية في الخرطوم. كما أنها تحريض وتشجيع لحركات التمرد في دارفور على حذو الأسلوب الذي اتبعته حركة تحرير جنوب السودان؛ خاصة وأن هذه التصريحات قد أطلقت خلال اجتماع ضم عددا من حركات التمرد في دارفور.

إن هذه التصريحات تكشف أن سياسات القذافي وممارساته العابثة لا تتغير ولا تتبدل لأنها متأصلة في نفسه كونها جزءا من صفقة استمراره في حكم ليبيا، وهي أيضا تفضح زيف ادعاءاته وتباكيه على وحدة إفريقيا، علاوة على أنها تكشف نواياه تجاه السودان الدولة الجارة والشقيقة. إن تجاهل هذه الحقيقة خطيئة فادحة ارتكبتها الحكومة السودانية، أما إذا كانت تجهل هذه الحقيقة فهذا يعد كارثة.

أما فيما يخصنا نحن الليبيين فقد بتنا ندرك أن سياسات القذافي مجلبة للمصائب على بلادنا؛ فسواء كانت هذه السياسات تنفذ تحت غطاء الوساطة التي يراد بها إبراز مكانة القذافي، أو أنها تدخلا في الشؤون الداخلية للغير، أو أنها مساهمة في نزاعات خارجية، فإن هذا يتم على حساب ليبيا وشعبها: على حساب إمكانات ليبيا وسمعتها وحاضرها ومستقبلها، أما إذا ما ورط القذافي بلادنا في نزاعات مسلحة فسيكون الثمن أرواحا غالية ودماء تسفح كما جرى في تشاد وأوغندا.

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.