الإقصاء حين يُقنن

يدور الحديث في هذه الأيام في مختلف الأوساط حول مسودة قانون الانتخابات. وكما كان متوقعا فقد كانت المسودة مثيرة للجدل بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ومنذ البداية لا بد من القول أن تنظيم انتخابات في بلاد لم يمارس أهلها الانتخاب طيلة أربعة عقود هو أمر غاية في الصعوبة، ما يعني الحاجة إلى البداية من الصفر أو العودة إلى ما قبل العقود العجاف الأربع، وكلا الأمرين لا يتجاوز نقطة الصفر.

الانتخابات تتطلب جملة من المعطيات والأدوات والضمانات التي تكفل الحرية للناخب والمرشح، وتضمن عدالة توزيع المقاعد، وتحقق كفاءة المؤسسات والآليات التي تدير العملية الانتخابية وحيدتها. وفي الواقع فنحن نجد –على وجه التحديد- غياب الأمور التالية:

1-  إحصائية حديثة ودقيقة لعدد السكان، خاصة بعدما رأيناه من هجرات كثيفة إلى بعض المدن، خاصة مدينة بنغازي التي استقبلت كل سكان تاورغا ومعظم سكان سرت علاوة على أعداد كبيرة من سكان البريقة واجدابيا.

2-  تقسيما إداريا للبلاد يتناسب مع المعطيات الراهنة، ويسمح بتحديد الدوائر الانتخابية بطريقة تكفل العدالة والشفافية، وتحول دون استمرار الجدل حول الطريقة التي يتم بها توزيع مقاعد المؤتمر الوطني. غياب التقسيم الإداري والدوائر الانتخابية المتوافق عليها سيكون –بدون شك- تهديدا يخل بمعايير النزاهة والعدل، خاصة بعد أن قامت اللجنة العليا للانتخاب بحذف عدد من الخيارات المطروحة في هذا الشان بجرة قلم وبدون توضيح المبررات التي أدت إلى هذا الحذف.

3- ليس هناك دستور يحكم قانون الانتخاب ويحدد صلاحيات الفرقاء العاملين في إطار إعداده وإقراره، لا سيما أن الإعلان الدستوري المؤقت الصادر عن المجلس الوطني الانتقالي كان هو الآخر مثار جدل لم ينتهي، وتركز هذا الجدل حول النصوص التي تعنى بالمرحلة الانتقالية، وغيرها من النصوص. بل يمكن القول أنه فيما عدا تلك المواد المنقولة من دستور 1951، فإن بقية مواد الإعلان الدستوري تفتقر إلى الدقة في الصياغة الدستورية، كما تفتقر إلى الترابط والمنطق.

4- المؤسسات التي تستطيع أن تقنع أطراف العملية الانتخابية بالحيدة والكفاءة، خاصة مع اهتزاز الثقة في المؤسسات الانتقالية، وعلى وجه أخص بعدما تبين أن السلطات الانتقالية تنحو إلى اعتماد الارتجالية والفردية في كثير من قراراتها وممارساتها، كما أن رغبات الإقصاء لم تغب خلال الأشهر الماضية عن اختيارات هذه السلطات.

5-  نجد أيضا أن هناك قصورا في فهم طبيعة المؤتمر الوطني التأسيسية، وعدم وضوح اختصاصاته في الإعلان الدستوري.

مع غياب هذه الأساسيات يكون إصدار قانون ينظم العملية الانتخابية، وإجراء الانتخابات محفوف بكثير من المخاطر التي قد تقود إلى عملية انتخاب ونتائج لا تتوافق مع إرادة الشعب الليبي، ولا تمكنه من الاختيار والمفاضلة. هذه المخاطر كانت تملي على مصدري القانون توخي الحذر الشديد، والشفافية البالغة، والحيدة الكاملة، بدلا من تغليب رؤاهم ومحاولة فرضها. كما تملي أيضا أن تكون نصوص القانون واضحة وخالية من مثيرات الجدل، بدلا من الزج ببعض عناصر الغموض، وباستدعاء نصوص تؤجج الجدل.

الصدمة الأولى التي تلقيناها بخصوص هذا القانون، ما سمعناه من عدد من أطراف اللجنة القانونية وشخصيات من المطلعين على ما يجري في أروقة السلطات الانتقالية، بأن المسودة التي عرضت على الشعب الليبي ليست هي تلك التي أقرتها اللجنة القانونية، الأمر الذي أثار تساؤلات حول الآليات التي اعتمدت لصياغة واعتماد هذه المسودة، ومن ثم قرار عرضها على الشعب الليبي، كما يثير تساؤلات حول الاختصاصات المناطة بالهئات واللجان المكلفة بصياغة القانون.

وكانت الصدمة الثانية استناد كاتبوا المسودة على (القانون 24 لسنة 2010) الذي أصدره  الحكم المنهار والذي يتعلق بأحكام الجنسية الليبية. هذا القانون المشار إليه يعرف القاصي والداني أنه يحتوي نصوصا لتمرير سياسات الحكم المنهار الانتقامية من كل من عارضه، وتقنين سعيه –الذي لم يتوقف- بسحب الجنسية الليبية من المواطنين الليبيين الذين اختاروا معارضته من الخارج. وفي هذا الصدد نقول بأنه يحز في النفس أن هؤلاء “المشرعون” لم يجدوا سوى قانونا إقصائيا وانتقاميا يتبنونه لتحديد من ينتخب، ثم يشرعنوا من خلاله من يحق له الترشيح لعضوية المؤتمر الوطني. يحز في النفس أن القذافي مازال يحكمنا حتى بعد أن تم قبره.

كذلك فإن قيام اللجنة العليا بمنح مهلة أسبوعين أمام الشعب الليبي لتقديم الملاحظات على مسودة القانون يعتبر بمثابة مهلة تعجيزية؛ إذ أن الليبيين قد حرموا من الانتخاب والاقتراع لمدة أربعة عقود، الأمر الذي يتطلب من الشريحة الكبرى منهم مهلة اكبر لفهم النصوص وإدراك مراميها، ومن ثم للتعامل مع مسألة المشاركة في حوارات حول مثل هذا القانون الذي غابت مثيلاته –نصا وروحا- عن المشهد الليبي فترة طويلة.

بالرغم من ان مادة المسودة هو الانتخاب الذي يعتمد أساسا على تحديد المقاعد وتوزيعها على دوائر انتخابية، إلا أن المسودة المذكورة خلت كلية من تحديد هذه الدوائر التي ينبغي أن تقسم إليها البلاد وتوزع عليها المقاعد، كما لم تحتوي المسودة على أية ملاحق تحدد ىالدوائر الانتخابية التي ستتوزع عليها المقاعد. غياب هذا التحديد من المسودة يخل إخلالا كبيرا بمسألة الوضوح والشفافية، ويترك هذه المسألة برمتها إلى لجنة الانتخابات التي قد تفاجؤنا بطرح الدوائر وتحديدها بعيدا عن التشاور، وقد يأتي ذلك في وقت ضيق لا يسمح حتى بإبداء الرأي، مما يعني فرض أمر واقع. الأمر غاية في الأهمية إذا ما أخذنا في الاعتبار عدم وجود تقسيمات إدارية معتمدة، وبالتالي عدم وجود دوائر انتخابية متعارف عليها. قد يفاجؤنا المجلس الانتقالي بتقرير دوائر انتخابية تكون مثارا للجدل ولعدم التوافق، وقد لا نجد لا الوقت ولا الأدوات الفعالة لتقويم الأمر وتصحيحه فيكون الاعتراض بمثابة صراخ في وادي فارغ، تماما كما حدث للاعتراضات حول الإعلان الدستوري.

أما أكثر الأمور إثارة للجدل فهو النص المتعلق بحرمان المواطنين الذين يحملون جنسية أخرى إلى جانب الجنسية الليبية من الترشح لعضوية المؤتمر الوطني. نص لم يعتمد على أية حيثيات وطنية ولا منطقية. لا يمكن القياس بحالات دول أخرى لأنه ليس هناك دولة أخرى مرت بما مرت به ليبيا خلال الأربعين سنة الماضية، ولم ي‘ضطر أعداد كبيرة من مواطنيها إلى الهجرة. ربما لم يتوقف كاتبوا النص لا طويلا ولا قليلا أمام جملة من المعطيات مثل الظروف والأسباب التي قادت مواطنين ليبيين إلى الحصول على جنسية ثانية، ولم يتوقفوا عند التعداد الكبير لهؤلاء الذي يبلغ عشرات الآلاف، لم يتوقفوا أمام التواريخ التي فاصل فيها هؤلاء المواطنين الحكم المنهار وأنها تسبق بكثير تواريخ من يروج لهم ممن فاصلوا النظام في وقت كانت فيه طرابلس تتحرر، ولم يتوقفوا أمام الكفاءات التي يمكن لهؤلاء أن يقدمونها خدمة لبلادنهم، ولم يتوقفوا أمام المجهودات والتضحيات التي قام بها هؤلاء خلال كل مراحل مغالبة الشعب الليبي للحكم المنهار حتى قبل تفجر ثورة فبراير المجيدة، بل ربما لم يتوقفوا أمام المجهودات الرائعة التي قام بها هؤلاء دعما لثورة فبراير، بعض هذه المجهودات ما كان لها أن تتم وتؤتي ثمارها دون توافر الجنسية التي أجازت لهم التحرك القوي الفاعل في أوساط الأجهزة التنفيذية والتشريعية والذي أثمر دعما دوليا للثورة وللثوار بل وحتى للمجلس الانتقالي. أية مفارقة تلك التي يراد لنا مشاهدتها تتجسد ثم تنفذ، أن يحرم أصحاب هذه المجهودات، وأن يوضعوا في دائرة الشك، وأن عليهم إثبات ولائهم لوطنهم مرة أخرى بعدما قدموا وضحوا من أجله بالكثير.

موضوع الجنسية الثانية أثير عدة مرات في مداولات السلطات الانتقالية، وفي كل مرة سقطت المحاولة، كما أننا لا نستطيع أن نغفل حقيقة أن عددا من أعضاء المجلس والحكومة الانتقاليين يحوزن على جنسيات ثانية دون أن يطلب منهم الاختيار. فلماذا تكرار المحاولة مرة تلو الأخرى لوضع عراقيل أمام أعداد كبيرة من الليبيين لخدمة بلادهم؟. هل المقصود هو وضع هؤلاء في موضع المدافع حتى تمرر أمور أخرى؟ أم أن المقصود هو أن تكرار المحاولة قد يؤدي يوما إلى تمرير النص حتي يمكن سحبه على تولي كل المواقع الأخرى؟. ومن يدري فقد نجد أنفسنا أمام نصوص أخرى تتجاوز حتى مسألة تولي المهام.

خلال المرحلة الماضية كان التغول للسيطرة على مفاصل الدولة سمة بارزة واكبتها سمة أخرى ملازمة لها وهي إقصاء الغالبية العظمى من أولئك الذي قاوموا وعاندو وحاربوا الحكم المنهار. لن نتوقف لنسأل لماذا؟ ولكننا نقول بأن الإقصاء كان يمارس بطريقة مستترة، لكنه يمارس الآن –ومن خلال هذه المسودة- بطريقة معلنة ويراد لها أن تكون مقننة.

فهل تنجح محاولة الإقصاء هذه؟

اكتب تعليقا عن المقالة

مطلوب.

مطلوب. لن يتم نشره.

إذا كان لديك موقع.